الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المؤدية إلى تحقيق الأمنية ولذا ذهبت الأموال سدى على يده: وفي الآخر انقطع الماء. وكأنه لم يكتف بذلك فحاول أن يغير اسم النهر المسمى باسم جلالة السلطان ويسميه (نهر الخيري) باسم أبيه خيري بك لكونه فتح في زمانه. فإذا كان ما زعمه صحيحاً فلماذا لم يسع بتعميره وتتبع منشآت أبيه.
ولما عزل وتعين في موطنه قيم المقام العسكري عبد الله صبري بك للوكالة ورأى هذا ما آل إليه أمر النهر وتلف الزرع وحاجة الأهالي إلى ماء الشرب وزع الأشغال للمحال على العشائر التابعة لمركز اللواء وسافر بنفسه إلى قضاء الشامية وأشغل الجميع بالحفر والكري وممن ساعده على ذلك مفتي اللواء إسماعيل أفندي آل الواعظ ومدير ناحية (شوفة مليحة) سليم ثابت أفندي الزهاوي. وبعد أيام قلائل تم العمل وجرى الماء في النهر بكفاية وقد وصل إلى الديوانية في أول ذي الحجة (10 ت 2 سنة 1912) بعد أن أشرف الأهلون على الهلاك من فقد الماء. وقد تليت الخطب والأدعية وأرسلت رسائل التشكر إلى الآستانة والولاية. والذي يجب اليوم أن نوجه إليه الأنظار هو سد منفذ (أم الهايتة) الواقعة في نهاية
بحيرة ابن نجم وبذل العناية بتحكيمه حتى يدوم جري الماء بل يتضاعف وبذلك تعم الفائدة الجميع.
الديوانية:
فؤاد زاده عبد المجيد
عاشوراء في النجف وكربلاء
حبذا لو كان ينتهي تدين الشيعة المفرط إلى هذه الوسيلة تقليلاً لواردات الدولة العثمانية، لكنه يتعدى هذا الحد كما ستراه بعيد هذا حتى يصل إلى
ما يقارب الشطط. لأنه يتجدد في كربلاء في الشهر المحرم من كل سنة وفي الوطن الذي قتل فيه الحسين وأصحابه مشاهد تتفطر لها المرائر ويذوب لها الفؤاد حزناً وكآبة.
والتحمس في الدين يبلغ أوجه في عاشوراء ومحاولة وصف ما يجري في تلك الأيام من العبث. هذا فضلاً عن أن الكاتب لا يستطيع أن يجري قلمه في هذا الميدان بدون أن يشعر بقشعريرة تدب في جسمه كله لهول ما يرى. وإذا تذكرت بجانب هذا المشهد ما سمعت أو رأيت من أعمال بعض الدراويش وتهاويلهم المدهشة لما تصورت شيئاً يذكر.
الشهداء الذين يكونون موضوع هذه الحفلة الهائلة هم أصحاب
الحسين المقربون الميمونو الطالع. وقد آلوا على أنفسهم أن يضحوا أنفسهم ضحية للإمام ليحصلوا منه على نعمة أو بركة أو حسنة إذا حاماهم أو دافع عنهم وفي أغلب الأحايين يضطر بعض الحاضرين إلى أن يمسكوهم لكي لا يقوموا بمواعيدهم فينجزوها بالحرف الواحد وكثيرون منهم يموتون فدى للحسين لكثرة ما يقاسونه من الأعذبة المبرحة في مثل تلك الأهوال.
وأول شيء يأتونه في مثل تلك الأيام أنهم يحلقون رؤوسهم من الوسط في عرض نحو 10 سنتيمترات وهذا الحلق يتجه من الجبهة إلى القفا. فيكون قحف الرأس أجرد ليس عليه ما يدفع أو يخفف غائلة الآلة الجارحة. ثم أنهم يلتحفون بثوب أبيض يميزهم عن سواهم من بين الجمع. إلا أنه لا يبقى مدة طويلة ببياضه الناصع إذ لا يعتم أن يتضرج بالدماء الحمراء القانئة. هذا فضلاً عن أن هذا الثوب هو الكفن الذي يسحبون به إذا ماتوا في أثناء هذه الحفلة الرائعة. ويجعلون بأيديهم سيفاً مشهوراً. وبهذا الزي وهذا السلاح يأخذونهم إلى الصحن
فترى الصحن على رحبه قد غص بمن فيه من تكاتف الجمع وازدحامه هناك. وفي مثل هذا المقام لا في غيره يحق أن يقال: (ضاق الفناء بمن فيه) وبعضهم يحاول أن يرى الواقعة المحزنة أحسن روية فيصعدون إلى الطارمات والمماشي والمشارف والسطوح
وأطورة الدور ليشارفوا المشهد أتم المشارفة. وعدد الزوار المتجمعين في تلك المواطن بين ذكور وإناث لا يقل عن 20 أو 25 ألفاً. وهم في حالة التحمس والتهيج التي ليس وراءها حالة. وفي هذا الصحن يمثل كل ما وقع سابقاً في يوم عاشوراء.
وبينما أنت تنظر إلى هذا الجمع المزدحم ترى في وسطه فرساناً عليهم ثياب بيضاء وتحتهم جياد بيضاء يزيدون الحفلة رونقاً وترتيباً وغايتهم مرافقة أولئك المستشهدين إلى حيثما يذهبون.
فيطوف هؤلاء الناس جميعهم في أنحاء المدينة، ثم يتألبون في
مكان محصور ترى فيه نساء، لعلهن نساء بعض المستشهدين - وقد تحجبن أشد الحجاب ورافقنهم إلى ذلك الموطن وقد تجمع على جدرانه وأطورته طوائف من المتطلعين كأنهم عناقيد من الآدميين - وبعد هذا يبتدئ الاستشهاد.
اصطف المستشهدون على هيئة نصف دائرة، وهم ينتظرون أدنى علامة أي سماع أول آية من الآيات التي ينطق بها الإمام ليضربوا أنفسهم الضربة الأولى. ثم يزداد هياجهم وتحمسهم بما يسمعون من الألحان الدينية ونغمات الأدعية وما يتلفظ به الجمع الحاضر من كلم الحث على الاستشهاد والتشويق إليه. هذا فضلاً عن أنه يحدث ساعتئذ نوع من الجلبة تخيل لهم أنهم سكارى وما هم بسكارى فيضربون إذ ذاك أنفسهم ضرباً أليماً. ثم يتحرك الطواف ثانية تحت رعاية أو مراقبة الفرسان ليجولوا حول المدينة ويروا أنفسهم لأغلب من هناك في البلدة حملاً لهم على رؤية ما فيه إصلاح النفس أو صلاحها.
ها أن الدم يتصبب عبيطاً من جباههم ويتحدر قائناً على وجوههم، فيصبغ ثيابهم البيضاء الناصعة بالأحمر الأرجواني وقد أصبحت رؤوسهم عبارة عن جروح دامية عديدة. ومع ذلك ترى أيديهم المرتجفة المرتعدة تصك الرأس بالسيف صكاً عنيفاً بدون رحمة أو شفقة.
ومن وقت إلى وقت ترى عضلات الساعد قد وهنت فلا تطاوع
الإرادة بل تعصيها فتقف عن الحركة ريثما تجم قواها فترجع إلى الصك أو القرع أو الطرق.
ثم يقف الطواف في إحدى الطرق وعيون المؤمنين ترعى هؤلاء المستشهدين حتى إذا عادت إليهم قواهم، عادوا إلى إعمال تقاهم، وأخذ الناس بالأدعية والصلوات والتشهد واستأنف محبو الحسين بتعذيب أجسادهم بدون أن يشفق بهم أحد أو يحن قلبه عليهم، فينهي
هذه الفاجعة التي يتصدع لها الجلمود، بل بالعكس تراهم جميعهم يحثونهم على طعن أنفسهم طعناً عنيفاً، بل أعنف فأعنف. وروية الدم العبيط يزيدهم إلحاحاً وتنشيطاً ولهذا يتبعونهم ويلازمونهم ملازمة الظل لصاحبه إلى أن يتم الاستشهاد
وبينما يسير الجمع وراء الذين يجودون بأنفسهم تراهم لا يغادرون طريقاً إلا ويسيرون فيه ومثل هذه الفاجعة يقع خارجاً عن المدينة وفي أوانها. وبعد ذلك ترى أعراباً قد سلوا سيوفهم وشرعوا أسنتهم ونشروا ألوية بيضاء رمزاً إلى الصلح يرقصون ويهوسون ويصرخون ويعطعطون ويطلقون طلقات نارية في الهواء. فلما يسمع المستشهدون بذلك الضوضاء يزداد تحمسهم وتهيجهم زيادة لا يصفها يراع واصف فيقرعون رؤوسهم بالسيوف وهم يلهثون لشدة ما وصلوا إليه من إنهاك القوى.
وقد يتفق بعض الأحيان أن يقع واحد منهم خائراً واهناً (كجلمود
صخر حطه السيل من عل). وللحال تمد إليه ألف يد لتنعشه. وقد يكون المغشي عليه قد سقط لضعف حركة في قلبه لا لوهن في عزمه، أو قد وقع لكثرة الجروح التي استنزفت دمه. وقد يتفق أن يموت المستشهد فتكون وفاته من أعظم الحسنات لنفسه ولأصحابه ولأهل بيته ولسكان المدينة كلها جمعاء، لأنه مات في حب الحسين.
ولقد سبق فكرهم بوقوع مثل هذا الحادث قبل جريانه ولهذا ترى مع الجمع المزدحم أناساً من باعة الأكفان يتتبعون القوم أينما ذهبوا حتى إذا اقتضت الحاجة ذلك أظهروا من فورهم. وكل شهيد يسقط في مثل هذه الواقعة يسجى للحال بكفنه المضرج بالدماء ويضجع في تابوت وينقله للحال بعض من حضر بأوجه باشة هاشة وهم يظنون في أنفسهم أنهم من أسعد خلق الله لكونهم شهدوا بأنفسهم وقوع هذا الشهيد الكريم واقتربوا منه، وربما مسوه مساً لطيفاً تبركاً به.
وهانحن أولاء قد قربنا من نهاية الطواف المتهيج، وقد ازداد عدداً بما انضم إليه من كل بيت ودار وشارع وطريق، وقد ازدحموا ازدحاماً عظيماً حتى أن الواحد ليطأ الآخر أو يسحقه بدون أن يشعر بما أتى. وكل ذلك حباً لما يجري بمن جرحوا أنفسهم في هذه الفاجعة العظمى.
ترى هذا البحر المتموج بالخلق يتجه نحو الصحن وقد غص فناؤه بمن فيه من الزوار
والمتحمسين. ولقد ترى في هذا الصحن زهاء 50 ألفاً من النفوس وقد ازدحموا ازدحاماً بل قد رصوا رصاً. دع عنك ذكر من تسلق الجدران وتعلق بالحيطان ونظر من أعلى السطوح وتطلع من أعالي المشارف والأبنية فأنهم لا يحصون.
هنا ترى المستشهدين قد صاروا إلى حالة تمكننا من أن نشبههم بآلات متحركة لا تعمل عن فكر وروية بل عن حركة عصبية اضطرارية أو عن نوبة صرعية وهم يظلون دائبين في عملهم هذا إلى آخر رمق من حياتهم بدون أن يشعروا بشيء أو يروا شيئاً، ويسمعوا شيئاً سوى القعقعة والجلبة التي تصدم آذانهم أو تغويهم فتنميهم عن هذه الدنيا. وهنا لا ترى ربع عدد أولئك الفرسان البيض الذين كنت رأيتهم قبل بضع ساعات. أما الآخرون فأنهم بقوا في الطريق مغشياً عليهم أو مائتين. وأما الحاضرون فإنهم قد صاروا إلى حالة تقشعر لها الأبدان وترتعد لها الفرائص.
وبينما أنت تنظر إلى حواليك إذ براية خضراء تبدو لك في الفضاء
على رمح طويل يهزه هزاً عنيفاً فارس قوي البنية. وهذه العلامة هي إشارة إلى نهاية هذا الاستشهاد والمنظر الفاجع الرائع. وحينئذ يأخذ الجمع بالانقضاض، وما يمضي شيء من الزمن إلا وقد أصبح الصحن أفرغ من فؤاد أم موسى. على أن الحق يلزمنا بأن نقول: إنه يظل في فناء الصحن بعض الصعاليك الذين كانوا يقرعون صدورهم بأيديهم طول مدة الطواف وكان القرع موقعاً على سقطات السيف وهم يفعلون ذلك تأسفاً وتوجعاً على موت الحسين ولا ينقطعون عن إتمام ما شرعوا به عادين كفهم عنه أو وقوفهم في كآبتهم من رابع المستحيلات وهذه الحركة الاضطرارية لا تضرهم ضرراً يذكر.
لم يعرف الشيعة سابقاً الحرية التي يتمتعون بها اليوم في كربلاء فأن التاريخ يشهد على أن العباسيين كانوا قد ضيقوا عليهم أشد التضييق حتى فزع أغلبهم إلى التقية، تخلصاً من البلية. ولولا تشديد العباسيين على العلويين لأصبحت كربلاء محجاً لهم لا مزاراً، بل محجاً يناوئ مكة مناوأة صادقة.
ومع كل ما فعل بهم أعداؤهم لم يحد أبناء الحسين عن محبوبهم ولو قيد ذرة بل أظهر ثباتهم لخصومهم أنهم أرسى من الرصاص بل أرسى من الرواسي. ولقد شاهد الناس ملوكاً وسلاطين لم يكونوا على مذهب الشيعة ومع ذلك زاروا كربلاء كما فعل الشاه اسمعيل
والسلطان سليمان (حليف