الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 17
- بتاريخ: 01 - 11 - 1912
نبذة من عادات العراقيين المسلمين
1 -
كلمة في عاداتهم
العراقيون من أسرع الناس إلى التقليد، وأكثرهم انهماكاً بكل شيء جديد، وأشدهم استمساكاً بعاداتهم وآدابهم وأخلاقهم ولا أبالغ إذا قلت أن ليس من قوة موجودة فوق الأرض (غير الله) قادرة على تغييرها أو إبدالها بأحسن منها. سرح طائر نظرك في أرجاء العراق وانعم النظر في أحوال قطانه وعاداتهم وتفقد شؤونهم وحركاتهم وسكناتهم، وراقب احتفالاتهم ومجتمعاتهم، وتدبر مسامراتهم ومحادثاتهم، وانقدها نقد الصيرفي الماهر للدرهم والدينار تجدها لأول وهلة لا تختلف كثيراً عما كان عليه آبائهم في سالف القرون، بل لتجدن أطوارهم وعاداتهم التي هم عليها الآن تنطبق تمام الانطباق على وصف الباحثين والأَثريين والسياح لسكان هذه البلاد قبل مئات من السنين، وأنك لا ترى فرقاً كبيراً بينهم وبين أسلافهم سواء كان في العادات أو الآداب أو الأخلاق إذ أن هذه البلاد قد
استعمرتها أمم عديدة واحتلتها دول كبيرة فلم تؤثر فيهم كثرة اختلاطهم بالأمم والشعوب، لا بل لم تغير شيئاً من عاداتهم اللهم ألا بعض أمور طفيفة لا يعتد بها لعدم شمولها جميع قطان القطر العراقي وهو أمر يدلك على شدة تمسكهم بها ويثبت لك ذلك.
بيد أنك بينما تراهم شديدي التمسك بتلك العادات ضارة كانت أم نافعة؟ مخالفة لآداب الديانات أم موافقة لها، تجدهم أسرع الناس تبدلاً وتقليداً للأمم في كل شيء غريب في أزيائهم وقيامهم وقعودهم وأكلهم وشربهم.
ويظهر ذلك لكل من جاءَ بغداد قبل عشر سنوات ولاحظ ما كان عليه أهلوها من السذاجة والبداوة ثم غادرها وقدمها ثانيةً رآها اليوم قد لبست حلة من حلل التمدن، وعلى قطانها من الأزياء الغريبة والأطوار العجيبة ما لم يكن العراقيون يعرفونه سابقاً وكثيراً ما كانوا يستهجنونها ويقبحون من جرى عليها أو استحسنها ولا ريب أنك لو حولت الوجه نحو هذه البلدة قبل إعلان الدستور وتدبرت أزياء العراقيين لوجدت فيهم مميزات فارقة بين اليهودي والمسيحي والمسلم إذ كان لكل علامات أو خصائص تدل عليه. ولو نظرت نظرة في أسواقها الطويلة العريضة وشوارعها وأزقتها لما رأَيت نصرانياً لابساً البرنيطة ألا
المستخدمين في الوكالات والمحلات التجارية الكبرى ممن جابوا بلاد أوربا ونشئُوا في أحضان أساتذة كلياتها وتغذوا بلبان علومها ومعارفها. ولما رأَيت يهودياً لابساً الملابس الإفرنجية على ما هو عليه الآن ألا ما قل وندر، ولما رأيت مسلماً لابساً الطربوش ومتزيياً بالزيّ التركيّ أو الإفرنجي ألا الموظفين في خدمة
الحكومة بل لرأيت أكثرهم ولا أقول كلهم على ما كان عليه آباؤهم متمسكين بالملابس العربية وهي لبس العباءَة والعمامة والعقال، فكنت إذا دخلت أسواق بغداد في هاتيك الأزمنة تصورت انك في القرون الوسطى وتجلت لك البداوة والسذاجة بأَجلى مظاهرها وأبهى مناظرها. فلما أعلن الدستور واحتكت الأمة العراقية بالنزالة الأوربية سرعان ما قلدوهم في ملبسهم ومأَكلهم ومشربهم حتى انك اليوم لتعجب كل العجب من هذا التقليد الغير المنتظر وظهر لك الفرق بين الزمانين، ولكن هل ظهر الفرق في عاداتهم وأخلاقهم كما ظهر في أزيائهم وملابسهم؟ كلا، ثم كلا، فأن هاتيك العادات قد استحكمت عراها بمرور الزمن وقوة الاستمرار فتوطدت أركانها، وازداد القوم تمسكاً بها مع وجود طبقة من النابتة الحديثة تحاربها بكل قواها وتنشر الفضيلة بين السكان وتبين لهم أضرار هذه العادات المستهجنة التي ربما قضت على البقية الباقية من أخلاقهم النبيلة، وصفاتهم الجليلة فتقذف بهم من حالق إلى مهاوي الهلاك والدمار.
أنا لا أريد بمقالتي هذه أن أحارب عادات العراقيين وأندد بالمتمسكين بها إذ أن ذلك يحتاج إلى وقت غير هذا الوقت، وقت يعرف فيه الشعب حقيقة الحياة ووظائفه في هذا المعترك ويعي بل ويتدبر ما يقال له. ومن العبث أن يريد رجل عاجز مثلي القضاء على عادات أمة كبيرة، كأُمة العراق بمقالة أو مقالتين أو ثلاث وهي قد استحكمت فيهم منذ عدة قرون
وقويت شوكتها وغرست في قلوبهم واستفحل شأنها بينهم حتى عدا أكثرها في عداد العادات الدينية ولا أغالي إذا قلت انهم يهتمون بها اكثر من اهتمامهم بأَمر الدين ولا ريب أن ذلك عبء ثقيل لا أطيق حمله. بل ادع ذلك لعظماء الرجال الذين يعرفون كيف يهذبون أخلاق الشعوب ويجعلونها خالصة نقية من كل شائبةٍ خرافيةٍ من حيث لا تدري ولا تشعر بيد أن الذي أريد أن اسطره على صفحات هذه المجلة الغراء هو ما وقفت على نبذ من عادات العراقيين في أفراحهم وأحزانهم واحتفالاتهم العمومية والخصوصية وطربهم وانسهم وحدسهم وتخمينهم ليظهر لدى القارئ النبيه ما وصلت إليه حالة سكان العراق من التأَخر
والانحطاط في تمسكهم بعادات خرافية ومعتقدات ما انزل الله بها من سلطان حتى انهم يضاهون بها برابرة أفريقيا وقطان منغوليا في خرافاتهم التي قتلت كل شعور وأماتت كل إحساس وأدراك.
2 -
عادات اعتقادية
1 -
(جنبر سوري) هذه الكلمة محرفة عن جهار شنبه سوري، ومعناها عيد نهار الأربعاء إذ أن الفرس يزعمون بوجود أربعاء واحد نحس
وسائر الأربعاوات أربعاوات سعد ولهذا يطربون يتنزهون فيه طرداً للنحس والشؤم. وهو اجتماع عام يستحضر فيه آلات الأنس والطرب ويختلط فيه الرجال والنساء، ويكون ذلك عصر آخر يوم الأربعاء من صفر في كل سنة فيخرج فيه الأهالي من رجال ونساء وبنات وبنين بالزينة الكاملة إلى موقع خارج البلدة محفوف بالأزهار والأوراد حيث يكون العشب قد زاد الأرض رونقاً ونضارة وكساها حلة خضراء من حلل الطبيعة البهجة، فلا تسمع في ذلك الوقت ألا نغمة عود وغناء مغنٍ وطرب مطرب وهكذا يبقون حتى غروب الشمس فيعودون إلى منازلهم فرحين جذلين مستبشرين وقد علمت أن السبب لهذا الاحتفال الذي جعله العراقيون عادة من عاداتهم المفروض إجراؤها هو اعتقادهم بأَن شهر صفر شهر نحوس وويلات تكثر فيه النوائب وتزداد فيه الكوارث والمصائب وكذلك اعتقادهم بأَن يوم الأربعاء من انحس الأيام وهو عادة من عادات العرب الأقدمين أخذوها عن الفرس أو المجوس فكأَنهم بهذا الأنس والطرب وهذا الاحتفال الذي يقيمونه كل عام ينزعون من أنفسهم رداء الشرور تفاؤلاً. وقد بلغت السخافة ببعض الناس انهم في يوم الأربعاء لا يذهبون إلى حمام ولا يحلقون رؤوسهم ولا يغسلون ملابسهم لنحسه ويستدلون على ذلك بأن اليوم الذي أخذت فيه الريح الصرصر قوم عاد هو يوم الأربعاء وهو اعتقاد اكثر المنجمين بيد أننا لو حسبنا أن كل يوم تحدث فيه نائبة أو كارثة
نحس لكانت كل الأيام منحوسة لأنه لا يخلو يوم من كارثة وقعت أو تقع فيه.
2 -
(الصوم الخرساني) من العادات التي فشت بين العراقيين فشواً كبيراً الصوم الخراساني. وهو صوم من شروق الشمس حتى نصف النهار تصومه كل أنثى بلغت الحلم صوماً عن التكلم في هذه المدة وإذا احتاجت إلى التكلم تكلمت بإشارات تدل على مطلوبها
ومرادها ويكون ذلك في أول يوم الأحد من شهر شعبان في كل سنة، وقد جاء ذكر هذا الصوم في سورة مريم على لسان السيدة مريم عليها السلام وهو (وقولي أني نذرت للرحمن صوماً فلن اكلم اليوم انسياً) ألا أن الدين الإسلامي لم يأمر المتدينين به بوجوب صيامه فهو إذا بدعة منكرة.
3 -
(صوم زكريا) هو صوم خاص بنساء العراق المسلمات وذلك بأن تمسك المرأَة نفسها عن الأكل والشرب وكل ما يفسد الصوم من شروق الشمس إلى الغروب. وعند الغروب يجري احتفال شائق في كل بيت من بيوت المسلمين يجتمع فيه أهل البيت فيمدون الموائد وعليها صنوف الأطعمة والأشربة وكل ما تشتهيه النفس وتلذ لمرآه العين. ويضعون بجانب مائدة الطعام مائدة أخرى في وسطها صحن مملوء (حناء) محاط بإبريق وتُنك (جمع تُنكة وهي الكوز بلسان أهل العراق والكلمة فارسية الأصل بمعناها) على عدد ما في البيت من الأنفس فيخصصون بكل ذكر إبريقاً وبكل أنثى تُنكة ويحيطونها بشموع ويضعون في أفواه الابارقة والتنك باقات الزهور ويكللونها بورق الليمون والبرتقال والياسمين، وعندما تغرب
الشمس ويجيء وقت الإفطار تجتمع العشيرة على المائدة المشحونة بكل أنواع الطعام، وعندها يقرا أحد العارفين بأصول القراءة سورة من سور القرآن وتكون على الأغلب سورة مريم برمتها وبعد ذلك يفطرون أولاً على خبز من الشعير وماء البئر وباقات من الكراث والكرفس وبعدها يتناولون ما يشتهون وتجري العامة على هذه العادة في الأحد الأول من شهر شعبان من كل سنة.
4 -
(صوم البنات) وهو صوم تصومه كل أنثى مسلمة بلغت سن الرشد وذلك في اليوم السابع والعشرين من شهر رجب في كل سنة، وهذه العادة على ما كنت أظن خاصة ببنات الكرخ لأني لم أر لذلك أثراً في جانب الرصافة ألا أني قد سمعت من بعض الأصدقاء أنها شاملة لجميع صبيات بغداد. وهن يستعددن لهذا الأمر قبل شهر أو شهرين من شراء الألبسة الفاخرة وأدوات الزينة وفي 27 رجب من كل سنة تذهب بنات الكرخ بزينتهن إلى مسجد إمام بجانب الكرخ يعرف (بإمام حبيب العجمي) فيفتحن المسجد ويدخلن الضريح ويطفن حوله من جهاته الأربع وبأيديهن الشموع ويترنمن بهذه العبارة (جئنا نزوك يا حبيب العجمي
شمعة بطولك يا حبيب العجمي). وأما بنات الرصافة فيذهبن على ما بلغني
من أحدهم إلى الشيخ الخلاني بالقرب من تربة الشيخ عبد القادر الحبيلي. وبعضهن يخرجن إلى خارج البلدة إلى مسجد الشيخ عمر السهروردي ولم احفظ ترنماتهن لكثرتها واختلاف بعضها عن بعض.
5 -
(حادثة الكسوف)
عندما تكسف الشمس أو يخسف القمر يصعد اكثر عامة المسلمين إلى سطوح دورهم فيطلقون الرصاص في الفضاء ويضربون على الطوس وعلى كل شيء له رنة عالية ودوي مخيف وينشدون في خلال ذلك الموقف هذه الكلمات:
يا حوتة يا المنحوتة طلعي قمرنا العالي (وإن كان ما طلعتيه) نضربك بالجاقوجه
وهم يعتقدون أن منشأ هذا الخسوف والكسوف التقام الحوت للشمس أو للقمر فهم بهذا الصراخ والصياح وهذا الدوي يريدون إرهابه لتخليصهما منه وذلك لاعتقادهم بأَن في السماء بحراً يسمى (بحر القدرة) وفيه مثل هذا الحوت الكبير الذي يبتلع الشمس والقمر برمتهما، يا للسخافة والحماقة!
6 -
(إطلاق الرصاص في الفضاء) قد اعتاد العراقيون عادة من اقبح العادات وأظنها من عادات الجاهلية التي بقي العراقيون عاكفين عليها كما عكفوا على غيرها من العادات الذميمة المنافية لروح المدنية، والمشوهة لصفات الإنسانية، وهي أنهم يطلقون الرصاص في الهواء بعد غروب الشمس عند
رؤيتهم هلال صفر. وربما يكسرون الأكواز وكل شيء له دوي ويعللون ذلك بأن شهر صفر شهر مشؤوم تتوالى فيه الرزايا على العباد فيطلقون بنادقهم لإرهابه ولطرد الشرور. ولهم غير ذلك من السخافات كلها من هذا القبيل وكذلك يفعلون في آخر ليلة منه.
7 -
(كربة عليها شمعة) ومن عادات العراقيين المتمسكين بها تمسكاً شديداً والتي توارثها الأبناء عن الآباء وهؤلاء عن الأجداد هو أن المريض إذا ثقل عليه مرضه وأراد أهله معرفة نتيجة المرض من ثقيلة أو خفيفة يأتون بكربة عليها شمعة مشعولة يسيرونها على دجلة فإذا توارت عن الأنظار ولم يصادفها شيء يعيقها عن سيرها أو يذهب بضيائها علم أن شفاء المريض محقق لا محالة! وتباشر أهله بذلك أما إذا صادفها عارض قبل تواريها عن الأبصار أو انطفأ ضياؤها علم أهل المريض إنه ميت لا محالة! وعندئذٍ يعلو الصراخ
ويزداد العويل والنحيب وربما مات المريض لساعته من كثرة الصراخ ومن يأسه من الشفاء. وهذه التجربة لا تكون إلا في ليلة الجمعة.
8 -
(القعود في الطرق) قد اعتادت نسوة العراق المسلمات القعود في الطرق ليلة الجمعة قرب الساعة الواحدة والنصف شرقية وذلك أن المرأة
إذا كان زوجها غائباً وانقطعت عنها أخباره وأرادت معرفة ما إذا كان مجيئه قريباً أو بعيداً أو ما هو عليه من صحة وسقم أو خير وشراً وإذا لم يكن زوجها غائباً ولها مريض وأرادت معرفة ما إذا كان شفاؤه مرجواً أم لا، وغير ذلك من معرفة المجهولات تقعد على مفرق ثلاث طرق وتقبض بيدها على ثلاثة أحجار فترمي واحداً منها على الطريق الذي عن يمينها والثاني على الذي عن يسارها والثالث على الجهة القبلية وتقول هذه الكلمات (يا خيرة الدرب علميني ما في القلب زينة تبينين شينة تبينين) وبعده تقعد صامتةً تراقب ما يقوله الآتون والذاهبون فإذا سمعت كلاماً منهم تعتقد فيه الخير استبشرت وفرحت وإذا كان شراً حزنت واكتأبت وكذلك شأن الجاهلين.
9 -
(خيط الحمى) قد اعتاد العراقيون عادة تضحك الثكلى وتدل على سخافة في العقول وسذاجة في الأفكار وهي أن كل من تعتريه الحمى يأخذ أهلوه خيطاً من القطن ويذهبون به إلى باب أحد الجوامع في ليلة الجمعة قبل صلاة العشاء فيقبض أحدهم على طرف منه والآخر على الطرف الثاني ويمدونه على الباب ليكون بمنزلة مانع للداخل ويبقون كذلك إلى أن يخرج المصلون من الصلوة وعند ذلك يقطعه أو الخارجين من الجامع فيعتقد إذ ذاك أهل المريض أن الحمى قد انقطعت عن مريضهم وانتقلت إلى قاطع ذلك الخيط! إلى هذا الحد بلغت الخفة والسخافة بالعراقيين وكانوا