الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سبحانه وتعالى دعاءه.
4 -
لو كان توسل عمر رضي الله عنه إنما هو بذات العباس أو جاهه عند الله تعالى، لما ترك التوسل به صلى الله عليه وسلم بهذا المعنى، لأن هذا ممكن لو كان مشروعًا، فعدول عمر عن هذا إلى التوسل بدعاء العباس رضي الله عنه أكبر دليل أن عمر والصحابة الذين كانوا معه كانوا لا يرون التوسل بذاته صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا جرى عمل السلف من بعدهم، كما جرى في توسل معاوية بن أبي سفيان، والضحاك بن قيس، ويزيد بن الأسود الجرشي، وفيهما بيان دعائه بصراحة وجلاء.
الشبهة الثانية
بحديث عثمان بن حنيف أن رجلاً ضرير البصر أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أُدعُ الله أن يعافيني. قال: "إن شئتَ دعوتُ لك، وإن شئتَ أخرتُ ذاك، فهو خير.
"وفي رواية: وإن شئت صبرت فهو خيرٌ لك"، فقال: ادعه. فأمره أن يتوضأ، فيُحسِن وضوءه، فيصلي ركعتين، ويدعو بهذا الدعاء.
اللهم إني أسألك، وأتوجَّه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد إني توجهتُ بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقْضى لي، اللهم فشَفعه فيَّ [وشَفعني فيه]). قال ففعل الرجل فبرأ.
"أخرجه في المسند (4/ 138)، ورواه الترمذي انظر التوسل وأنواعه وأحكامه ص 75""وهو حديث صحيح"
يرى المخالفون أن هذا الحديث يدل على جواز التوسل في الدعاء بجاه النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره من الصالحين، إذ فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم -علَّم الأعمى أن يتوسل به في دعائه، وقد فعل الأعمى ذلك فعاد بصيرًا. والجواب:
1 -
أن الأعمى إنما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليدعو له، وذلك قوله: أُدعُ الله أن يعافيني، فهو قد توسل إلى الله بدعائه صلى الله عليه وسلم، لأنه يعلم أن دعاءه صلى الله عليه وسلم أرجى للقبول عند الله بخلاف دعاء غيره، ولو قصد الأعمى التوسل بذات النبي صلى الله عليه وسلم، أوجاهه أوحقه لما كان ثمة حاجة إلى أن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم، ويطلب منه الدعاء له، بل كان يقعد في بيته، ويدعو ربه بأن يقول مثلًا:
"اللهم إني أسألك بجاه نبيك ومنزلته عندك أن تشفيني، وتجعلني بصيرًا) ولكنه لم يفعل لماذا؟ لأنه عربي يفهم معنى التوسل في لغة العرب حق الفهم، ويعرف أنه ليس كلمة يقولها صاحب الحاجة، ويذكر فيه اسم المتوسَّل به، بل لا بد أن يشتمل على المجيء إلى مَن يعتقد فيه الصلاح والعلم بالكتاب والسنة وطلب الدعاء منه.
2 -
أن النبي صلى الله عليه وسلم وعده بالدعاء مع نصحه ببيان ما هو الأفضل له، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:
"إن شئتَ دعوتُ، وإن شئت صبرتَ فهو خيرٌ لك".
وهذا الأمر الثاني هو ما أشار إليه صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه عن ربه تبارك وتعالى أنه قال: "إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه -أي عينيه- فصبر عوضته منهما الجنة". "رواه البخاري"
3 -
إصرار الأعمى على الدعاء وهو قوله: (اُدعه) فهذا يقتضي أن الرسول صلى الله عليه وسلم دعا له، لأنه صلى الله عليه وسلم خيرٌ مَن وفى بما وعد، وقد وعده بالدعاء له إن شاء كما سبق، فقد شاء الدعاء، وأصرَّ عليه، فإذن لابُدَّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا له فثبت المراد.
4 -
وقد وجه النبي صلى الله عليه وسلم الأعمى إلى النوع الثاني من التوسل المشروع، وهو التوسل بالعمل الصالح، ليجمع له الخير من أطرافه، فأمره أن يتوضأ ويصلي ركعتين، ثم يدعو لنفسه.
5 -
أن في الدعاء الذي علمه الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقول: (اللهم فشفِّعْه فيَّ) وهذا يستحيل حمله على التوسل بذاته، أوجاهه، إذ المعنى: اللهم اقبل شفاعته صلى الله عليه وسلم فيَّ، أي اقبل دعاءه في أن ترد بصري عليَّ. والشفاعة لغة الدعاء، وهو المراد بالشفاَعة الثابتة له صلى الله عليه وسلم ولغيره من الأنبياء والصالحين يوم القيامة، وهذا يبين أن الشفاعة أخص منِ الدعاء، إذ لا تكون إلا إذا كان هناك اثنان يطلبان أمرًا، فيكون أحدهما شفيعًا للآخر، بخلاف الطالب الواحد الذي لم يشفع غيره.
فثبت بهذا الوجه أن توسل الأعمى، إنما كان بدعائه صلى الله عليه وسلم لا بذاته.
6 -
إن مما علَّم النبي صلى الله عليه وسلم الأعمى أن يقوله: (وشفِّعني فيه)(1) أي اقبل شفاعتي، أي دعائي في أن تقبل شفاعته صلى الله عليه وسلم أي دعاءه في أن تَرُدَّ عليَّ بصري. هذا لا يمكن أن يُفهم سواه.
ولهذا ترى المخالفين يتجاهلونها، ولا يتعرضون لها من قريب ولا من بعيد، لأنها تنسف بنيانهم من القواعد، وتجتثه من الجذور، ذلك أن شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم في الأعمى مفهومة، ولكن شفاعة الأعمى في الرسول صلى الله عليه وسلم كيف تكون؟
(1) هذه الجملة صحت في الحديث، أخرجها أحمد والحاكم وصححه ووافقه الذهبي، وهي وحدها حجة قاطعة على أن حمل الحديث على التوسل بالذات باطل، كما ذهب إليه بعض المؤلفين حديثًا، والظاهر أنهم علموا ذلك، ولهذا لم يوردوا هذه الجملة مطلقًا، الأمر الذي يدل على مبلغ أمانتهم في النقل، وقريب من هذا أنهم أوردوا الجملة. التي قبلها:(اللهم فشفعه في) من الأدلة على التوسل بالذات، وأما توضيح دلالتها فمما لم يتفضلوا به على القراء، ذلك لأن فاقد الشيء لا يعطيه.
لا جواب ذلك عندهم البتة. ومما يدل على شعورهم بأن هذه الجملة تبطل تأويلاتهم أنك لا ترى واحدًا منهم يستعملها، فيقول في دعائه مثلًا:
اللهم شفِّع فيَّ نبيك، وشَفِّعني فيه.
7 -
إن هذا الحديث ذكره العلماء في معجزات النبي صلى الله عليه وسلم ودعائه المستجاب، وما أظهره الله ببركة دعائه من الخوارق والإِبراء من العاهات، فإنه بدعائه صلى الله عليه وسلم لهذا الأعمى أعاد الله عليه بصره، ولذلك رواه المصنفون في دلائل النبوة كالبيهقي وغيره، فهذا يدل على
أن السرَّ في شفاء الأعمى إنما هو في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم.
ويؤيده أنَّه ليس كل من دعا به من العميان قد عُوفي، بل على الأقل لعوفي واحد منهم، هذا ما لم يكن، ولعله لا يكون أبدًا.
كما أنه لو كان السر في شفاء الأعمى أنه توسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم، وقدره، وحقه، كما يفهم عامة المتأخرين، لكان من المفروض أن يحصل هذا الشفاء لغيره من العميان الذين يتوسلون بجاهه صلى الله عليه وسلم، بل ويضمون إليه أحيانًا جاه جميع الأنبياء والمرسلين والأولياء والصالحين. "انظر كتاب (التوسل) للشيخ الألباني"