الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
دفع توهم
هذا ولا بد من بيان ناحية هامة تتعلق بهذا الموضوع، وهي أننا حينما ننفي التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم، وجاه غيره من الأنبياء والصالحين فليس ذلك لأننا ننكر أن يكون لهم جاه، أو قدر أو مكانة عند الله، كما أنه ليس ذلك لأننا نبغضهم، وننكر قدرهم، ومنزلتهم عند الله، ولا تشعر أفئدتنا بمحبتهم، كما افترى علينا الدكتور البوطي في كتابه.
(فقه السيرة ص 354) فقال ما نصه: "فقد ضل أقوام لم تشعر أفئدتهم بمحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وراحوا يستنكرون التوسل بذاته صلى الله عليه وسلم بعد وفاته .. ".
كلا ثم كلا، فنحن ولله الحمد من أشد الناس تقديرًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكثرهم حُبًا له، واعترافًا بفضله صلى الله عليه وسلم، وإن دلَّ هذا الكلام على شيء فإنما يدل على الحقد الأعمى الذي يملأ قلوب أعداء الدعوة السلفية على هذه الدعوة وعلى أصحابها، حتى يحملهم على أن يركبوا هذا المركب الخطر الصعب، ويقترفوا هذه الجريمة البشعة النكراء، ويأكلوا لحوم إخوانهم المسلمين، ويكفرونهم دونما دليل، اللهم إلا الظن الذي هو أكذب الحديث، كما قال النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم:(إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث). "متفق عليه"
ولا أدري كيف سمح هذا المؤلف الظالم لنفسه أن يصدر مثل هذا الحكم الذي لا يستطيع إصداره إلا الله عز وجل، المطلع وحده على خفايا القلوب ومكنونات الصدور، ولا تخفى عليه خافية.
أتراه لا يعلم جزاء من يفعل ذلك، أم أنه يعلم، ولكنه أعماه الحقد الأسود والتحامل الدفين على دعاة السنة؟ أي الأمرين كان فإننا نذكره بهذين الحديثين الشريفين لعله ينزجر عن غَيِّه، ويفيق من غفلته، ويتوب من فعلته.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"أيما رجل أكفرَ رجلاً مسلمًا فإن كان كافر وإلا كان هو الكافر". "متفق عليه"
وقال - عليه أفضل الصلاة والسلام -:
(إن من أربى الربى الإستطالة في عرض المسلم بغير حق)"رواه أحمد وأبو داود وإسناده صحيح" كما نقول له أخيرًا: ترى هل دريت يا هذا بأنك حينما تقول ذاك الكلام فإنك ترد على سلف هذه الأُمة الصالح، وتُكفر أئمتها المجتهدين ممن لا يجيز التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم وغيره بعد وفاتهم كالإِمام أبي حنيفة وأصحابه -رحمهم الله تعالى-، وقد قال أبو حنيفة:
"أكره أن يُتوسل إلى الله إلا بالله" كما تقدم.
فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة
…
وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم
ونعود لنقول: إن كل مخلص منصف ليعلم علم اليقين بأننا والحمد لله من أشد الناس حُبًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن أعرفهم بقدره وحقه وفضله صلى الله عليه وسلم، وبأنه أفضل النبيين، وسيد المرسلين، وخاتمهم وخيرهم، وصاحب اللواء المحمود، والحوض المورود، والشفاعة العظمى، والوسيلة والفضيلة، والمعجزات الباهرات، وبأن الله تعالى نسخ بدينه كل دين، وأنزل عليه سبعًا من المثاني والقرآن العظيم، وجعل أُمته خير أُمة أخرجت للناس. إلى آخر ما هنالك من فضائله صلى الله عليه وسلم ومناقبه التي تبين قدره العظيم، وجاهه المنيف صلى الله عليه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أقول: إننا -والحمد لله- من أول الناس اعترافًا بذلك كله، وإن منزلته صلى الله عليه وسلم عندنا محفوظة أكثر بكثير مما هي محفوظة لدى الآخرين، الذين يدعون محبته، ويتظاهرون بمعرفة قدره، لأن العبرة في ذلك كله إنما هي في الِإتباع له صلى الله عليه وسلم، وامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، كما قال سبحانه وتعالى:
{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} "سورة آل عمران: آية 31"
ونحن بفضل من الله من أحرص الناس على طاعة الله عز وجل، واتباع نبيه صلى الله عليه وسلم وهما أصدق الأدلة على المودة والمحبة الخالصة بخلاف الغلو في التعظيم، والإِفراط في الوصف اللذين نهى الله عنهما، فقال سبحانه:
{يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ} . "سورة النساء: آية 17"
كما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنهما فقال: (لا تُطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبد، فقولوا عبد الله ورسوله). "رواه البخاري، والترمذي في الشمائل"
ومن الجدير بالذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل من الغلُو في الدين أن يختار الحاج إذا أراد رمي الجمرات بمنى الحصوات الكبيرة وأمر أن تكون مثل حصى الخذف.
فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة العقبة:
"هاتِ ألْقط لي. قال فلقطت له نحو حصى الخذف، فلما وضعتهن في يده قال: مثل هؤلاء -ثلاث مرات- وإياكم والغلُو في الدين، فإنما هلك مَن كان قبلكم بالغلُو في الدين""صحيح رواه أحمد وغيره"
ذلك لأنه يعدُّ مسألة رمي الجمار مسألة رمزية الغرض منها نبذ الشيطان ومحاربته، وليس
حقيقة يراد بها قتله وإماتته، فعلى المسلم تحقيق الأمر، ومنابذة الشيطان عدو الإِنسان اللدود بالعداء ليس غير، ومع هذا التحذير الشديد من الغلو في الدين، وقع المسلمون فيه مع الأسف، واتبعوا سنن أهل الكتاب، فقال قائلهم:
دَعْ ما ادعَتْه النصارى في نبيهمِ
…
واحكم بما شئت مدحًا فيه واحتكِم
فهذا الشاعر الذي يعظمه كثير من المسلمين، ويترنمون بقصيدته هذه المشهورة بالبردة. ويتبركون بها، وينشدونها في الموالد وبعض مجالس الوعظ والعلم، ويعُدون ذلك قربة إلى الله تبارك وتعالى، ودليلًا على محبتهم نبيهم صلى الله عليه وسلم.
أقول: هذا الشاعر قد ظن أن النهي الوارد في (حديث الإِطراء) منصبًا فقط على الإدعاء بأن محمدًا صلى الله عليه وسلم ابن الله، فنهى عن هذه القولة، ودعا إلى القول بأي شيء آخر مهما كان.
وهذا غلط بالغ وضلال مبين، وذلك لأن للإِطراء المنهي عنه في الحديث معنيين اثنين أولهما مطلق المدح، وثانيهما المدح المجاوز للحد. وعلى هذا فيمكن أن يكون المراد من الحديث النهي عن مدحه صلى الله عليه وسلم مطلقًا، من باب سد الذريعة، والإكتفاء باصطفاء الله تعالى له نبيًا ورسولًا، وحبيبًا وخليلًا، وبما أثنى سبحانه عليه في قوله:
{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} . "سورة القلم آية 4"
إذ ماذا يمكن للبشر أن يقولوا فيه بعد قول الله تبارك وتعالى هذا؟ وما قيمة أي كلام يقولونه أمام شهادة الله تعالى هذه؟ وإن أعظم مدح له صلى الله عليه وسلم أن نقول فيه ما قال لربنا عز وجل: إنه عبدُ له ورسول، فتلك أكبر تزكية له صلى الله عليه وسلم، وليس فيها إفراط ولا تفريط، ولا غلُو ولا تقصير، وقد وصفه ربنا سبحانه وهو في أعلى درجاته، وأرفع تكريم من الله تعالى له، وذلك حينما أسرى وعرج به إلى السموات العُلى، حيث أراه من آيات ربه الكبرى، وصفه حينذاك بالعبودية فقال:{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} . "سورة الإسراء آية 1" ويمكن أن يكون المراد: لا تبالغوا في مدحي، فتصفوني بأكثر مما استحقه، وتصبغوا عليَّ بعض خصائص الله تبارك وتعالى.
ولعل الأرجح في الحديث المعنى الأول لأمرين اثنين: أولهما تمام الحديث، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:(فقولوا عبد الله ورسوله) أي اكتفوا بما وصفني به الله عز وجل من اختياري عبدًا له ورسولًا، وثانيهما ما عقد بعض أئمة الحديث له من الترجمة، فأورده الإِمام الترمذي
مثلًا تحت عنوان: "باب تواضع النبي صلى الله عليه وسلم "، فحملُ الحديث على النهي عن المدح المطلق هو الذي ينسجم مع معنى التواضع ويأتلف معه.
"انظر كتاب التوسل أنواعه وأحكامه لفضيلة الشيخ الألباني"
أقول: لعل الذي رجحه فضيلة الشيخ ناصر من عدم مدحه صلى الله عليه وسلم مطلقًا هو المرجوح لأسباب، منها:
1 -
أن الرسول صلى الله عليه وسلم سمع من أصحابه، كحسان شاعر النبي صلى الله عليه وسلم وغيره مدحًا فأقره، ولم ينكر المديح من أصحابه.
2 -
أن فضيلة الشيخ ذكر في كتابه "التوسل" أوصافًا كثيرة فيها مدح للرسول صلى الله عليه وسلم -كما في الصفحة 86 من الكتاب المذكور، وكذلك في الصفحة 88، وقد مرت قبل قليل حيث قال فيها:
" .. إلى آخر ما هنالك من فضائله صلى الله عليه وسلم، ومناقبه، وجاهه المنيف
…
"
3 -
أن المراد بالإِطراء الوارد في قوله صلى الله عليه وسلم:
"لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم".
أي لا تبالغوا في مدحي، كما بالغت النصارى في مدح عيسى عليه السلام حينما قالوا: هو ابن الله!، بل قولوا: عبد الله ورسوله.