الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مقدمة التحقيق والدراسة العلمية
الحمد للَّه الذى هدانا لهذا، وما كنا لنهتدى لولا أن هدانا اللَّه. . .
وبعد. .
فإن معالم الإسلام ومآثره الخالدة، كادت أن تنطمس فى أعين كثير من الناس، وتختلط عليهم وجوه الحق نتيجة لرواسب الجهالات التى كانت قد رانت على عقول أسلافهم، ولأنهم أصاخوا بآذانهم إلى حضارة الغرب، وافتتنوا بمدنيته الزاهرة، وأعجبوا بأنظمته وقوانينه السائدة، ونسو االتراث التشريعى الأصيل الذى خلده الإسلام، والذى مازالت حيويته تنطق بجدته وبتميزه وصلاحيته.
فقد فهم علماؤنا السابقون، وفقهاؤنا المتقدمون، ما فى شريعتهم من السعة والمرونة، والحيوية، فبذلوا كل ما يستطيعون فى التخريج والاستنباط، حتى أحاطوا بكثير من الفروع والجزئيات، وكادت هذه الفروع لا تترك صغيرة ولا كبيرة إلا أحصتها.
وهذا ما يصور لنا الفكر التشريعى الإسلامى فكرًا موحد الهدف، متعدد النوع والموضوع، مختلف الأثر؛ لأنه قد استهدف مصلحة الأمة، أو مصلحة المجتمع، وذلك بمراعاته كل ما يحفظ عليه وحدته وتماسكه، ويحقق له أهدافه ويصون علاقات أفراده من الوهن والتفكك، ويوفر لهم الاستقرار والسلام، ويهيئ لهم بالأمن فرص العمل والرخاء، فما كان فيه المصلحة له فهو محل طلبه، وما كان فيه المضرة له فهو محل نهيه. وإن هذا أمر أجمع عليه فقهاء المسلمين وأثبته استقراء الأحكام، فلم يلاحظ فيه حكم ضار بالأمة، أو يزيد ضرره على نفعه، وما من حكم جاء به إلا كان نفعه أكبر من ضرره.
فقد مزج بين المصالح الدينية والدنيوية مزجا محوره سعادة الناس ومبناه الفضيلة بأتم معانيها، وليس لهذا من نظير حتى فى أرقى القوانين الوضعية. فهو إذن تام الأصول والأحكام، لم يدع شاردة ولا واردة إلا بينها، كل ذلك لينتظم أمر الحياة ويعيش المرء عيشة منتظمة يتفرغ منها لإعداد الزاد ليوم الميعاد.
ولقد دونت فى ذلك كله كتب نافعة، ومصنفات جامعة، تحتوى آراء أصحاب المذاهب وأقوال متبعيهم، وترجيحات مرجحيهم، حتى أصبحت المكتبة الفقهية الإسلامية غنية بهذه الثمرات الطيبة من آثار السلف التى تعد من أعظم مفاخر المسلمين، والتى شهد لها العالم كله، واقتبس منها واضعوا قوانينه فى الشرق والغرب، حتى أننا لنستطيع أن نقول إنه ما من تشريع وضعى عادل عرفه العالم إلا وهو مستمد من مذهب من مذاهب الفقهاء المسلمين، أو مندرج تحت قاعدة كلية، أو نص عام، أو خاص من نصوص الشريعة.
فالفقه الإسلامى إذن بأصوله وقواعده ومذاهبه هو المصدر الأعظم للتقنين والتشريع فى مختلف العصور، وكتبه ومصنفاته هى المراجع الأصلية لكل من أراد أن يستقى المنابع الصافية الشافية.
ومن الأدلة على ذلك، ما أقره مؤتمر القانون الذف عقد فى "لاهاى" سنة 1938 م، فقد تقرر فيه اعتبار الشريعة الإسلامية مصدرًا مهمًا من مصادر التشريع وذلك بعد أن أشاد الأعضاء الأجانب -على اختلاف مللهم- بأحكام تلك الشريعة.
ولقد آمن بذلك فى أيامنا كثير ممن كانوا لا يؤمنون به من قبل، واتجهت الأنظار إلى هذا الفقه الإسلامى رغبة فى الإفادة منه، والتعويل عليه، والاقتباس من أحكامه فى مختلف مذاهبه.
ولئن طغى فى عصرنا سيل الأفكار الأجنبية حينًا من الزمان، لاسيما فيما يمس تعاليم الإسلام، فإنه سرعان ما برزت إلى الوجود نهضة علمية وثَّابة، وهمة جبارة ترد الحق إلى نصابه، وتبين متاهات الضلال.
غير أننا قد وجدنا البعض يردد: "قد يحول دون الانتفاع بهذا التشريع الفقهى. . صعوبة الكتب التى احتوته من ناحية الترتيب، والتبويب، بل وصعوبة الحصول على مراجعه الأصيلة؛ فإن أغلبها -بل وأثمنها مادة- ما زال مخطوطًا
ومبعثرًا فى مكتبات العالم. . حتى الكتاب الواحد قد وجدنا أجزاءه متفرقة فى هذه المكتبات".
فكان ولا بد من عمل يعيد إلى هذه الكتب وإلى الفقه الإسلامى، عصره الذهبى، ويقربه من ميدان البحث حتى يستقى الباحثون ويشفوا ظمأهم منه.
وحينما أتيحت لى الأسباب، قاسيت هذه التجربة بنفسى -تجربة البحث فى بحور الفقه الزاخرة، ومحيطاته الشاسعة- ولولا ما وجدت من كنوز نادرة وثمار يانعة، لأثنانى الجهد عن الغوص فيها، أو البحث عنها.
وفى هذا -ولا شك- تدريب على العمل الشاق الذى ينتظرنا جميعًا. . لخدمة العلم والدين، وتقديمه سهلًا يسيرًا فى ثوب يليق وسماحة الإسلام.
ويرجع ذلك إلى الزمن الذى هيأنى اللَّه فيه لتحمل عبء هذه التجربة الجديدة على كل باحث مثلى، والتى كان لا يقدر عليها إلا الأساتذة الكبار والعلماء الأجلاء الذين أمضوا حياتهم فى ميدان البحث والتقصى.
لقد تخرجت من كلية الشريعة والقانون فى سنة 1385 هـ (1965 م)، ثم حصلت على درجة التخصص (الماجستير) شعبة الفقه المقارن فى سنة 1388 هـ (1967 م). فكان ولا بد أن أهيئ نفسى لمرحلة ثالثة وأخيرة من مراحل التعليم المنتظم - ألا وهى مرحلة التخصص (الدكتوراه) فى الفقه المقارن، حيث هى الدراسة الميدانية والتطبيق العملى لجميع المراحل التى مرت قبلها.
ولقد أحسست فعلًا بمدى الصعوبات التى ستقابلنى، والجهد الذى يجب أن يبذل -من أولى وهلة- حينما فكرت فى السير على هذا الطريق.
وكانت أولى هذه الصعوبات هو اختيارى موضوع "البحث والدراسة"، وقضيت فى ذلك وقتًا ليس بالقصير فى تفكير عميق حول الموضوع الذى يمكن أن أقدم ثمرته لقارئه. . وطالت بى الحيرة، وظللت أكثر من عام أقرأ وأنقب عن الموضوع الذى يمكن أن أقدم فيه الجديد فى خدمة البحث والعلم. . وأخيرًا كان هناك أكثر من موضوع وقع عليه اختيارى. . وعرض على بساط البحث.
ولقد حاولت فعلًا أن أستقر على أحد الموضوعات التى عالجها الفقه الإسلامى اتباعًا للمنهج الذى سبقنى إليه من سار فى هذا الميدان.
وفجأة، وحينما كنت أتردد على المكتبات العامة لاستكمال خطة البحث بالتزويد من أمهات الكتب الفقهية - أوقفنى واستلفت نظرى ما وجدته مخطوطًا من تراثنا الإسلامى العظيم، ليس فى مجال الفقه وحده بل فى جميع المجالات المختلفة.
ولقد تبين لى أن ما ظهر لنا فى مجال الفقه من كتب مطبوعة إنما هو قليل من كثير، وأن هناك ثمارًا يانعة حلوة المذاق، هى فى أشد الحاجة إلى من يقطفها ويتغذى هو وغيره عليها.
وعلى الفور قمت بعرض فكرة تسجيل الرسالة فى تحقيق أحد المخطوطات الفقهية على أستاذ التحقيق بالكلية، ورئيس قسم الأصول بها (الأستاذ عبد الغنى محمد عبد الخالق) فلقيت منه العناية والتشجيع، ووجدته صاحب هذه الفكرة، وأستاذ جامعتها، وسجلت فى تحقيق كتاب "مطالع الدقائق فى تحرير الجوامع والفوارق" للإمام جمال الدين عبد الرحيم الأسنوى المتوفى سنة 772 هـ.
ولقد كانت رغبتى فى تحقيق إحدى المخطوطات عامة ترجع إلى العوامل الآتية:
أولًا: الإسهام بقدر الإمكان فى تحقيق التراث الإسلامى والمحافظة عليه وإبرازه فى ثوب جديد يشجع على النظر والبحث، والأخذ منه لجميع التشريعات المحلية والعالمية، ولدفع ما يتعلل به المحجمون عن الأخذ منه.
فقد ذكر فى مؤتمر "لاهاى" -بعد أن تقرر فيه أن الشريعة الإسلامية مصدر من مصادر التشريع- أن من العقبات دون هذا الغرض الكريم، عسر فهم الشريعة من مصادرها الحالية لكثرتها وتشعبها، ونأيها عن الطرق المذللة التى جرت عليها دراسة القانون.
وهذا ما تعلل به بعض الكاتبين (1) المصريين عندما أثيرت "قضية الشريعة الإسلامية فى الدستور الدائم الجديد لجمهورية مصر" باعتبارها المصدر الرئيسى
(1) جماد الدين العطيفى (الأهرام) فى 21 جمادى الأولى سنة 1391 هـ 14 يوليه سنة 1971 م، فى مقال له بعنوان "قضية الشريعة الإسلامية والدستور الدائم" ص:5.
للتشريع -فقد دعا إلى أن يكون النص هو "مبادئ الشريعة" بدلًا من "الشريعة" متعللًا بما تعلل به فى مؤتمر "لاهاى"- السابق الإشارة إليه. وللأسف فقد أخذ بقوله، وهو الذى أصبح مستقرًا ومعمولًا به فى الدستور الجديد.
ومما جاء فى هذا المقال: ". . ومن هذا يتبين أن الدعوة إلى النص على أن تكون الشريعة الإسلامية هى "المصدر الرئيسى" للتشريع يجب أن يلاحظ فيها أن الفقه الإسلامى لم يدون فى معظمه، ولا يزال مدفونًا فى بطون الكتب موزعًا بين مذاهب أربعة، ومدارس مختلفة، ويجب أن يلاحظ فيها أن مجتمع القرن العشرين بمشكلاته الحديثة، وتقدمه العلمى المذهل فى الذرة، وغزو الفضاء، وفى ارتباط أجزاء العالم ببعضها، والتزاماته الدولية - أصبح يحتاج إلى مزيد من الاجتهاد واستحداث أحكام توائم هذه الظروف المتغيرة".
ومما قاله أيضًا تحت عنوان "المعاناة فى البحث":
"وإن الاقتراح الذى يرى أن ينص دستورنا الجديد على أن تكون "الشريعة الإسلامية" المصدر الوحيد للتشريع - اقتراح يخشى لو أخذ به أن يصرف مجتمع قوى الشعب العامل عن الاجتهاد فى إيجاد حلول لمشكلاته، ويزكى نزعة الجمود والتقليد. كما يخشى معه أن يصبح باب البحث والتعرف على المصادر الشرعية مقصورًا على نفر قليل تمرس على الرجوع إلى كتب الفقه الإسلامى، ومعظمها ليس مفهرسًا، ولا يسير على نهج واحد فى عرض المسائل" ا. هـ.
ومع أن الكلام السابق مبنى فى أغلبه على المغالطة، أو القصور فى استيعاب معنى الشريعة، أو البحث فى مراجعها الكثيرة. إلا أنه على جانب من الصحة.
ولذلك كان لزامًا علينا تنقية الفقه الإسلامى مما أصابه من جمود أو غموض قد يعترض الباحث فى العصر الحديث، فيثنيه عن الأخذ منه أو العزوف عنه وعن نشره على صورة تشجع أصحاب الثقافات القانونية المختلفة على الأخذ منه، والعمل به والنهضة بالمجتمعات على يديه.
ثانيًا: مقاومة الغزو الاستعمارى الهدام، والمحافظة على تراثنا الإسلامى من أن تمتد إليه يد العابث الماجن، الحاقد على الإسلام -بالإهلاك، أو بالتبديل تحقيقًا لبغيته الخبيثة- وهى القضاء على دولة الإسلام -وما لقيه التراث الإسلامى على يد
المستعمرين الأوائل من إهلاك وتدمير فى عصر التتار والحروب الصليبية- ليس بعيدًا ولا يخفى على أحد، وقد تكلمنا عن هذا الموضوع فى محله بتفصيل، وذلك فى الباب الأول للرسالة (1).
وإن التاريخ الآن يعيد نفسه، ونحن أمام تجربة قاسية لامتحان إرادتنا، وقوة إسلامنا وتماسكنا، بعد أن بدأ الغزو الاستعمارى الصليبى يهددنا من جديد، ممثلًا فى أداة الصهيونية العالمية (إسرائيل) التى تحتل جزءًا ليس بالقليل من أرض الإسلام والسلام، ومقدساته الغالية الطاهرة فى القدس الشريف وفلسطين وغيرها.
والصليبية الغربية دائمًا بالمرصاد، وهى نهّازة للفرص، فإذا وجدت ثغرة تنفذ منها إلى النيل من الإسلام وإصابة مقاتله، فهى تهتبلها لا محالة.
ثالثًا: مقاومة الغزوين الثقافى والتشريعى الأجنبيين. وذلك، بتشجيع الباحثين الذين احتوتهم ثقافة الغزو القانونى الغربى على قطع هذه التبعية، والأخذ من الشريعة الإسلامية، وإعادة الثقة إليهم فى تراثنا الفقهى العظيم -وخاصة أنه قد استقر فى دستور "جمهورية مصر" الجديد على أن:"مبادئ الشريعة الإسلامية ستكون المصدر الرئيسى للتقنين" كما استقر فى دستور دولة اتحاد الجمهوريات العربية على أن الشريعة الإسلامية "مصدر رئيسى للتشريع".
وأمام هؤلاء الآن مجال رحب لإعادة البناء الاجتماعى على أسس إسلامية سليمة، والخلاص إلى الأبد من آثار الثقافة الغربية الهدامة فى أفكارنا وتقاليدنا ومعاملاتنا.
ففى الغزوين الثقافى والاجتماعى اللذين رمتنا بهما الصليبية كان حرصها باديًا على ضرورة إقصاء التشريع الإسلامى وإحلال القوانين الغربية محله.
وقد بدأ ذلك فى مصر من عهد "محمد على باشا" رأس الأسرة المالكة التى قضت عليها الثورة المصرية. وهكذا أصيب التشريع الإسلامى بضربة موجعة منذ زمن بعيد، إلى أن تحركت أمتنا تسترد حريتها، وتستعيد مكانتها، وتعتز بتراثها.
(1) سيأتى ذلك عند الكلام عن العوامل التى ساعدت على ازدهار الفقه فى القرن الثامن الهجرى. فى الفصل الرابع.