الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إنه لما كان إناء الذهب يصح بيعه قطعًا مع ما فيه من النص على حرمة استعماله للمرء - وذلك بالنظر إلى المنفعة المقصودة منه بتصنيعه حليًا، أو نقودًا أو ما شابه ذلك، أو بالنظر إلى أنه يمكن الإستغناء عنه بدون استعمال فلا تحصل الحرمة فكذلك إذا كانت الآلة من الجوهر النفيس كان الإنتفاع بها ممكنًا بعد كسرها؛ لأن الجوهر النفيس لا تقل قيمته كثيرًا برضه، بخلاف غير الجوهر النفيس، فإنه تقل قيمته عند الرض وقد يتلف (1).
4 - الترجيح والاختيار:
بعد أن استعرضنا موقف العلماء وأدلتهم فى هذا الموضوع، بقى علينا أن نبين المذهب الراجح، والذى يمكن أن يؤخذ به ويعتمد عليه فى الإفتاء والقضاء.
وحتى يكون الترجيح والاختيار على أساس علمى، فيحسن بنا أن نبين موقف العلماء من سماع الغناء وآلاته؛ لأن هذا هو المعول عليه فى الأدلة السابقة، فإننا قد لاحظنا أن الأدلة التى اعتمد عليها كل فريق لتعضيد مذهبه إنما تعتمد فى عمومها أو فى أغلب أحوالها على إباحة الغناء وسماعه، أو عدم إباحته، فنقول:
لقد تكلم العلماء فى الغناء من جهة التحريم والإباحة، واختلفت أقوالهم، وتباعدت مذاهبهم، وتباينت استدلالاتهم.
فمنهم من رأى كراهته وأنكر استماعه وحرمه.
ومنهم من رأى خلاف ذلك مطلقًا، فأباحه وصمم على إباحته، ومنهم من فرّق بين أن يكون الغناء مجردًا أو أضيف إليه آلة كالعود والطنبور وغيرها من الآلات ذوات الأوتار، والدفوف والمعازف والقضيب، فأباحه على انفراد، وكرهه إذا انضاف إلى غيره، وحرم سماع الآلات مطلقًا (2).
(1) انظر: مطالع الدقائق، باب البيع، والروضة: 3/ 352.
(2)
السماع: نقلا عن النويرى صاحب نهاية الأرب: ص 16.
وأما مذاهب الأئمة الأربعة فإنا نلخصها مما ذكره الإمام القرطبى فى تفسيره (1)، والغزالى فى "الإحياء" نقلًا عن أبى الطيب الطبرى فنقول:
1 -
وأما مالك بن أنس: فإنه نهى عن الغناء وعن استماعه، فإذا اشترى جارية ووجدها مغنية كان له ردها، وهو مذهب سائر أهل المدينة إلا إبراهيم بن سعيد، فإنه كان لا يرى به بأسًا.
وقال ابن خوير منداد: فأمّا مالك فيقال عنه إنه كان عالمًا بالصناعة، وكان مذهبه تحريمها، روى عنه أنه قال: تعلمت هذه الصناعة وأنا غلام شاب، فقالت لى أمى: أى بنى إن هذه الصناعة يصلح لها من كان صبيح الوجه ولست كذلك، فاطلب العلوم الدينية، فصحبت ربيعة، فجعل اللَّه ذلك خيرًا (2).
2 -
وأما الشافعى: فالغناء عنده مكروه يشبه الباطل، فقد روى عنه أنه قال:"الغناء مكروه يشبه الباطل، ومن استكثر منه فهو سفيه ترد به شهادته"(3).
3 -
وأما مذهب أحمد بن حنبل، فقد ذكرت عنه ثلاث روايات (4).
4 -
وأما مذهب أبى حنيفة فإنه كان يكره الغناء مع إباحته شرب النبيذ غير المسكر، ويجعل سماع الغناء من الذنوب. وكذلك مذهب سائر أهل الكوفة، ولا يعرف بين أهل البصرة خلاف فى كراهية ذلك، إلا ما روى عن عبد اللَّه بن الحسن العنبرى أنه كان لا يرى به بأسًا (5).
هذا هو موقف العلماء والفقهاء من سماع الغناء وآلاته.
ولكن يلاحظ من تتبع الأدلة والآثار التى وردت فى هذا الموضوع أن الراجح هو إباحة الغناء وسماعه، بل وسماع آلاته، وأن المتقدمين كانوا أكثر الناس تسامحًا وأبعد عن التزمت فى سماع الغناء، وكذلك كان الصوفية. وقد صح أن بعض
(1) 14/ 55، 56.
(2)
المرجع السابق: 19، والإحياء للغزالى: 6/ 1121 طبعة الشعب.
(3)
المرجع السابق.
(4)
انظر: القرطبى: 14/ 56.
(5)
المرجع السابق، والسماع: 15 والإحياء: 6/ 1123.
الصحابة والتابعين سمعوا الغناء وحضروا مجالسه، بل صح أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أباحه، والأحاديث الصحيحة فى ذلك كثيرة:
منها: ما سبق ذكره عند استدلال الفريق الثانى لمذهبه بصحة بيع آلات اللهو المباح والغناء (1).
ومنها: ما جاء عند ابن ماجه (2)، عن عائشة، قالت: دخل على أبو بكر وعندى جاريتان من جوارى الأنصار تغنيان بما تقاولت به الأنصار فى يوم بعاث قالت: وليستا بمغنيتين. فقال أبو بكر: أمزمورة الشيطان فى بيت النبى صلى الله عليه وسلم؟ وذلك فى يوم عيد الفطر. فقال النبى صلى الله عليه وسلم: إن لكل قوم عيدًا وهذا عيدنا.
ومنها: ما رواه الطبرانى فى الصغير والأوسط عن عائشة (3) أن النبى صلى الله عليه وسلم مر بنساء الأنصار فى عرس لهن وهن يغنين:
وأهداها لها كبشا
…
يذبح فى الغد
وروحك فى البارى
…
وتعلم ما فى غد
فقال صلى الله عليه وسلم: ما يعلم ما فى غد إلا اللَّه.
وهذا الحديث قد رواه الحاكم أيضًا بلفظه عن عائشة وصححه.
ومنها ما ورد عند ابن ماجه عن الربيع بنت معوذ قالت: دخل على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صبيحة عرسى وعندى جاريتان تغنيان وتندبان آبائى الذين قتلوا يوم بدر، وتقولان ما تقولان:"وفينا نبى يعلم ما فى غد".
فقال: أما هذا فلا تقولوه، ما يعلم ما فى غد إلا اللَّه.
ومنها: ما رواه البخارى وأبو داود كما عند ابن ماجه، إلا أن فيه: فقال: "دعى هذا وقولى بالتى كنت تقولين".
(1) راجع أيضًا الإحياء: 6/ 1124.
(2)
سنن ابن ماجة: 1/ 612.
(3)
مجمع الزوائد: 4/ 289.
ومنها ما جاء عند النسائى (1) عن عامر بن سعد قال: "دخلت على قريظة بن كعب، وأبى مسعود الأنصارى فى عرس وإذا جوار يغنين، فقلت: أنتما صاحبا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ومن أهل بدر يفعل هذا عندكم؟ فقالا: اجلس إن شئت فاسمع معنا، وإن شئت اذهب، فقد رُخِّص لنا فى اللهو عند العرس.
وأما الأحاديث التى تدل على إباحة اللهو مطلقا فمنها:
ما ورد عند البخارى (2) عن عائشة -رضى اللَّه عنها- قالت: "زُفَّت امرأة إلى رجل من الأنصار، فقال لى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "يا عائشة أما كان معكم لهو؟ فإن الأنصار يعجبهم اللهو".
ومنها ما جاء عند البخارى (3) أيضًا من رواية جابر -رضى اللَّه عنه- قال: نكح بعص الأنصار بعض أهل عائشة، فأهدتها إلى قباء، فقال لها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: أهديت عروسك؟ فقالت: نعم، قال: فأرسلت معها بغناء، فإن الأنصار يحبونه؟ قالت: لا. قال: فأدركيها يا زينب - امرأة كانت تغنى بالمدينة" (4).
وقد صح أن بعض الصحابة والتابعين سمعوا الغناء وحضروا مجالسه فقد نقل أبو طالب المكى إباحة السماع عن جماعة من الصحابة، فقال: سمع من الصحابة عبد اللَّه بن جعفر، وعبد اللَّه بن الزبير، والمغيرة بن شعبة، وغيرهم. وقال: قد فعل ذلك كثير من السلف الصالح: صحابى، وتابعى بإحسان، وقال: لم يزل الحجازيون عندنا بمكة يسمعون السماع أفضل أيام السنة، وهى الأيام المعدودات التى أمر اللَّه عباده فيها بذكره كأيام التشريق، ولم يزل أهل المدينة مواظبين كأهل مكة على السماع إلى زماننا هذا، فأدركنا أبا مروان القاضى وله جوار يسمعن الناس اللحن. وكان لعطاء جاريتان تلحنان فكان أخواته يستمعون إليهما (5).
(1) سنن النسائى: 2/ 136.
(2)
البخارى مع شرحه عمدة القارى: 20/ 140.
(3)
المرجع السابق.
(4)
هذه الزيادة الأخيرة: من الراوى.
(5)
المهمات نقلًا عن الغزالى: ص 17.