الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أولًا: النزعة الدينية:
لقد كان للنزعة الدينية أثر حساس وملموس فى ازدهار الحياة العقلية والحركة العلمية لهذا القرن، واتجاهها وجهة القائمين عليها. فمنذ قامت الدولة الإسلامية وهى تصدر أعمالها عن روح دينية، وقد اتضح ذلك فى مصر فى عصور مختلفة.
ففى عهد الفاطميين الذين أسسوا مذهبهم على أساس من الدين، قد اتخذوا الشعار الدينى المذهب الشيعى.
واتضح كذلك فى عهد الأيوبيين الذين كانوا من أهل السنة والجماعة وتعصبوا فى عقيدتهم لمذهب الأشعرى، وفى فقههم لمذهب الشافعى، وأنشئوا فى مصر جملة من المدارس عنوا فيها بنشر الحديث وفقه الأئمة الأربعة ولا سيما فقه الشافعية، وزاد فى تعصبهم للدين قيام الصليبيين بحروبهم الطاحنة المتكررة، وتأسيسهم المستعمرات على البحر المتوسط فى بلاد الشام (1).
وقد ورث مماليك مصر هذه النزعة من أساتذتهم الأيوبيين؛ فقد نشئوا فى كنفهم، وشاركوهم بعض حروبهم الصليبية، كما كان للتربية التى نشأ عليها هؤلاء المماليك فى كنف أسيادهم الأيوبيين أثر كبير فى تعزيز هذه النزعة الدينية.
فلقد خصص لهم الملك الناصر محمد بن قلاوون طباقًا بساحة الإيوان وأسكنها لهم وعمر حارة تختص بهم. واهتمت الملوك والسلاطين بهؤلاء المماليك غاية العناية فى مجال التربية، وقد كانت للمماليك بتلك الطباق التى خصصت لهم، عادات جميلة: أولها أنه إذا قدم بالمملوك تاجره عرضه على السلطان وأنزله فى طبقة حسنة وسلمه الطوشى، فأول ما يبدأ به تعليمه ما يحتاج إليه من القرآن الكريم، وكانت كل طائفة لها فقيه يحضر إليها كل يوم ويأخذ فى تعليمها كتاب اللَّه تعالى، ومعرفة الخط، والتمرن بآداب الشريعة وملازمة الصلوات والأذكار، وكان الرسم إذا ذاك ألّا يجلب التجار إلا المماليك الصغار، فإذا شب الواحد من المماليك علمه الفقيه، شيئًا من الفقه وأقرأه منه مقدمة، فإذا صار إلى سن البلوغ أخذ فى تعليمه فنون الحرب، ثم ينتقل إلى الخدمة العامة بعد ذلك، ينتقل فى أطوارها رتبة
(1) انظر: القاهرة ص 6، 7.
بعد رتبة إلى أن يصير من الأمراء، فلا يبلغ هذه الرتبة إلا وقد تهذبت أخلاقه، وكثرت آدابه وامتزج تعظيم الإسلام وأهله بقلبه، ومنهم من يصير فى رتبة فقيه عارف أو أديب شاعر، أو حاسب ماهر (1).
ولهذا، فقد خصص لهم خدام وأكابر من النواب يراقبونهم على كل تصرفاتهم، وبلغ من شدة تأديبهم أنه كان إذا أجنب الواحد منهم يبحث عن سبب جنابته: إن كان من احتلام؛ فينظر فى سراويله هل فيه جنابة أم لا؟ فإن لم يوجد جنابة جاءه الموت من كل مكان.
فلذلك كانوا سادة يدبرون الممالك، وقادة يجاهدون فى سبيل اللَّه، وأهل سياسة يبالغون فى إظهار الجميل (2)، ويحبون العلم والعلماء.
فكان الحسين بن محمد بن قلاوون الصالحى آخر أولاد المالك الناصر محمد المتوفى سنة 764 هـ (1362 م) يحب العلماء ويجمعهم عنده ويكرمهم (3)، وكان المماليك من أكابر الدولة الناصرية يعظمون على بن عبد الكافى السبكى ويقضون بشفاعته الأشغال (4).
وكان قطلو بك المنصورى من مماليك المنصور الذى ولى الحجوبية سنة 698 هـ (1298 م) يشارك فى العربية والفقه والحديث والسير (5). . . وكان الملك الناصر محمد بن قلاوون الذى تولى السلطنة بعد مقتل أخيه الأشرف يحب العلم والعلماء، فقد حدث، وسمع من ست الوزراء، وابن الشحنة، ووجدت له إجازة بخط البرزالى محمد بن مشرف وعيسى المغازى وجماعة، وخرج له بعض المحدثين جزءًا (6).
وقد دفعتهم هذه النزعة الدينية إلى حب العلم والعلماء، والتقرب إليهم وبناء
(1) انظر: الخطط للمقريزى 2/ 213.
(2)
المرجع السابق: 214.
(3)
انظر: الطالع السعيد: 157.
(4)
انظر: الدرر الكامنة 3/ 135.
(5)
المرجع السابق 337.
(6)
المرجع السابق 4/ 261 - 264.