الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الرابع فى بيان موقف العلماء والفقهاء من وجوب النية فى الوضوء والغسل والتيمم
يتبين موقف الجميع من هذا الموضوع على النحو التالى:
1 -
موقف الجمهور: لا تصح طهارة إلا بنية، سواء كانت الطهارة عن حدث أصغر، أو حدث أكبر.
وعلى ذلك فلا بد من وجوبها فى الوضوء والغسل، والتيمم عنهما، وهذا مذهب الشافعية والمالكية والحنابلة والشيعة (الإمامية (1) والزيدية (2)، والإباضية) (3)، والزهرى، وربيعة شيخ مالك، وإسحاق، وأبى ثور، وداود، وهو قول جمهور أهل الحجاز، ويروى ذلك عن على بن أبى طالب -رضى اللَّه عنه- (4).
2 -
مذهب الأوزاعى ومن وافقه: يصح الوضوء والغسل والتيمم بلا نية، إلى ذلك ذهب الأوزاعى والحسن بن صالح، وزفر (5).
3 -
مذهب الثورى وأصحاب الرأى: تجب النية فى التيمم دون الوضوء والغسل، وهو مذهب الثورى وأصحاب الرأى، ورواية عن الأوزاعى (6).
(1) انظر: جواهر الكلام: 1/ 3.
(2)
انظر: الروض النضر 1/ 146.
(3)
انظر: الإيضاح: 1/ 48.
(4)
انظر: المجموع شرح المهذب للنووى: 1/ 311.
(5)
المرجع السابق.
(6)
المرجع السابق.
4 -
أدلة الفريق الثانى والثالث: استدل الفريق الثانى، والفريق الثالث -وهم الذين قالوا بعدم الوجوب- بما يأتى:
أولًا: يقول اللَّه تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} (1) الآية.
ثانيًا: بقوله صلى الله عليه وسلم لأم سلمة -رضى اللَّه عنها-: "إنما يكفيك أن تحثى على رأسك ثلاث حثيات من ماء ثم تفيضى عليك الماء فإذا أنت قد طهرت"(2) وغير ذلك من الأحاديث الكثيرة التى وردت فى الأمر بالغسل من غير ذكر للنية.
5 -
أدلة الجمهور: استدل القائلون بوجوب النية بالأدلة الآتية:
أولًا: يقول اللَّه تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (3).
ثانيًا: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} الآية.
ثالثًا: يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى"(4) متفق عليه وقوله صلى الله عليه وسلم: "الوضوء شطر الإيمان"(5).
رابعًا: بقياس الشافعى -رضى اللَّه عنه- "إنها طهارة من حدث تستباح بها الصلاة فلم تصح بلا نية كالتيمم".
خامسًا: بقياس آخر "الطهارة عبادة ذات أركان، فوجبت فيها النية كالصلاة".
(1) سورة المائدة الآية 6.
(2)
خرجه النسائى فى سننه باب الطهارة: 1/ 158.
(3)
سورة البينة: آية 5.
(4)
خرجه النسائى فى سننه 2/ 101 فى كتاب الطلاق عن علقمة عن عمر بن الخطاب -رضى اللَّه عنه- عن النبى صلى الله عليه وسلم.
(5)
وعند ابن ماجه فى سننه 1/ 102 من كتاب الطهارة عن أبى مالك الأشعرى أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "إسباغ الوضوء شطر الإيمان، والحمد للَّه ملء الميزان، والتسبيح والتكبير ملء السموات والأرض، والصلاة نور، والزكاة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك. كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها".
6 -
توجيه الأدلة: وقد وجه الفريق القائل بعدم الوجوب أدلته على النحو التالى:
أولًا: فى قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} الآية.
أمر بالغسل والمسح مطلقًا عن شرط النية، ولا يجوز تقييد المطلق إلا بدليل (1).
ثانيًا: فى قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِى سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} (2) الآية.
نهى الجنب عن قربان الصلاة إذا لم يكن عابر سبيل إلى غاية الاغتسال مطلقًا عن شرط النية، فيقتضى انتهاء حكم النهى عند الاغتسال المطلق، وشرط الغسل مقترنًا بالنية - فيه مخالفة للكتاب (3).
ثالثًا: إن الأمر بالوضوء فى الآية: إنما هو الحصول للطهارة كما فى آخر آية الوضوء {وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} وحصول الطهارة لا يقف على النية، بل على استعمال المطهر فى عمل قابك للطهارة، والماء مطهر لما روى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إن الماء لا ينجسه شئ، إلا ما غلب على ريحه وطعمه ولونه"(4).
وقال اللَّه تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} (5) والطهور اسما للطاهر فى نفسه المطهر لغيره، والمحل قابل. وبه تبين أن الطهارة عمل الماء خلقة. ونية الإنسان فضل فى الباب حتى لو انهال عليه المطر أجزأه عن الوضوء والغسل، فلا يشترط لها النية إذ اشتراطها لاعتبار الفعل الاختيارى. وبه تبين أن اللازم للوضوء معنى الطهارة دون معنى العبادة؛ لأن معنى العبادة فيه من الزوائد فإن اتصلت به النية يقع
(1) بدائع الصنائع 1/ 19.
(2)
سورة النساء آية: 43.
(3)
بدائع الصنائع: 1/ 19.
(4)
أخرجه ابن ماجه فى باب الطهارة من حديث أبى أمامة. وفى الزوائد: إسناده ضعيف، قال السندى: الحديث بدون الاستثناء رواه النسائى وأبو داود والترمذى من حديث أبى سعيد الخدرى.
(5)
سورة الفرقان الآية: 48.
عبادة، وإن لم تتصل به لا يقع عبادة لكنه يقع وسيلة إلى إقامة الصلاة لحصول الطهارة بالسعى إلى الجمعة (1).
رابعًا فى الحديث: "الوضوء شطر الإيمان" إن المقصود بالإيمان الصلاة، فتأويله بأنه شطر الصلاة بإجماعنا على أنه ليس يشترط للإيمان، لصحة الإيمان بدونه؛ لأن الإيمان هو التصديق، والوضوء ليس من التصديق فى شئ. فكان المراد منه أنه شطر الصلاة لأن الإيمان يذكر على إرادة الصلاة؛ لأن قبولها من لوازم الإيمان. قال اللَّه تعالى:{كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} (2) أى صلاتكم إلى بيت المقدس.
يقول أصحاب الرأى: وهكذا نقول فى التيمم إنه ليس بعبادة، إلا أنه إذا لم تتصل به النية لا يجوز أداء الصلاة به، لا لأنه عبادة، بل لانعدام حصول الطهارة؛ لأنه طهارة ضرورية جعلت طهارة عند مباشرة فعل لا صحة له بدون الطهارة، فإذا عرى عن النية لم يقع طهارة، بخلاف الوضوء لأنه طهارة حقيقية فلا يقف على النية (3).
وقد وجه الجمهور أدلتهم على النحو التالى:
أولًا: فى قول اللَّه تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} . إن الإخلاص هو عمل القلب، وهو النية، والأمر به يقتضى الوجوب (4).
ثانيًا: فى قول اللَّه تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} الآية، إن معناه: فاغسلوا وجوهكم للصلاة، كما يقال: إذا لقيت الأمير فترجل، أى: له، وإذا رأيت الأسد فاحذر، أى: منه. وهذا معنى النية (5).
ثالثًا: فى حديث: "إنما الأعمال بالنيات" قالوا: إن لفظ إنما للحصر، وليس المراد صورة العمل، فإنها توجد بلا نية، وإنما المراد أن حكم العمل لا يثبت إلا
(1) بدائع الصنائع: 1/ 20.
(2)
البقرة: الآية 143.
(3)
بدائع الصنائع: 1/ 20.
(4)
شرح المهذب: 1/ 313.
(5)
المغنى: 1/ 113.
بالنية، فنفى أن يكون له عمل شرعى إلا بالنية. فمعنى الحديث: أن الأعمال لا أساس لها ولا تقويم ولا اعتبار ولا تحسب ولا يترتب عليها ثواب أو عقاب - إلا بالنية. وهذا أحسن ما قرر به الحديث، فوجب الحمل إليه. وهو يتناول جميع الأعمال لإفادة الألف واللام العموم (1). ويقوى ذلك آخر الحديث "وإنما لكل امرئ ما نوى" وهذا لم ينو الوضوء فلا يكون له (2).
رابعًا: فى توجيه قياس: "أنها طهارة من حدث استباح بها الصلاة، فلم تصح بلا نية كالتيمم" قالوا: التعبير بالحدث احتراز عن غسل الذمية من الحيض (3). فإن قالوا بأن التيمم لا يسمى طهارة -فالجواب أنه ثبت فى الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم: "جعلت لى الأرض مسجدًا وطهورًا"(4). وفى رواية لمسلم "وتربتها طهورًا".
وثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال: "الصعيد الطيب وضوء المسلم"(5). وما كان وضوءًا كان طهورًا، وحصلت به الطهارة.
فإن قيل: التيمم فرع للوضوء، ولا يجوز أن يؤخذ حكم الأصل من الفرع - فالجواب: أنه ليس مأخوذًا من الوضوء، بل بدل عنه، فلا يمنع أخذ حكم المبدل من حكم بدله. ولأنه إذا افتقر التيمم إلى النية مع أنه ضعيف -إذ هو فى بعض أعضاء الوضوء- فالوضوء أولى (6).
فإن قيل: التيمم يكون تارة بسبب الحدث وتارة بسبب الجنابة، فوجبت فيه النية ليتميز - فالجواب من وجهين.
(1) النية فى الشريعة الإسلامية: ص 9.
(2)
شرح المهذب: 1/ 313.
(3)
المرجع السابق.
(4)
وهو جزء من حديث رواه البخارى، عن جابر بن عبد اللَّه، عن النبى صلى الله عليه وسلم وأوله:"أعطيت خمسًا لم يعطهن أحد قبلى: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لى الأرض مسجدًا وطهورًا" وانظر: البخارى 3/ 214.
(5)
البخارى: 3/ 22 باب التيمم عن عمران بن حسين، كما خرجه النووى فى شرح المهذب: 1/ 313.
(6)
شرح المهذب: 1/ 313.
أحدهما: أن التمييز غير معتبر ولا يؤثر، بدليل أنه لو كان جنبًا فقط وظن أنه محدث فتيمم عن الحدث، أو كان محدثًا فظن أنه جنب فتيمم للجنابة - صحّ.
والثانى: أن الوضوء أيضًا تارة يكون عن البول، وتارة عن النوم، فإن قالوا: وإن اختلفت أسبابه فالواجب شئ واحد - قلنا: وكذا التيمم وإن اختلفت أسبابه الواجب مسح الوجه واليدين. فإن قيل: التيمم بدل، وشأن البدل أن يكون أضعف من المبدل فافتقر إلى نيه، ككنايات الطلاق - فالجواب: أن ما ذكروه منتقض بمسح الخف فإنه بدل ولا يفتقر عندهم إلى النية، وإنما افتقرت كناية الطلاق إلى النية؛ لأنها تحتمل الطلاق وغيره احتمالًا واحدًا، والصريح ظاهر فى الطلاق.
وأما الوضوء والتيمم فإنهما عبادة، بل التيمم أظهر فى إرادة القربة لا يكون عادة، بخلاف صورة الوضوء، فإذا افتقر التيمم المختص بالعبادة إلى النية فالوضوء المشترك بينهما وبين العادة أولى، فإن قيل: التيمم نص على القصد -وهو النية- بخلاف الوضوء فالجواب: أن المراد قصد الصعيد وذلك غير النية (1).
خامسًا: فى قياس: "الوضوء عبادة ذات أركان فوجبت فيها النية كالصلاة" أن العبادة هى الطاعة أو ما ورد التعبد به قربة إلى اللَّه تعالى، وهذا موجود فى الوضوء (2).
ثم إن الأحاديث الكثيرة التى تدل على فضل الوضوء وسقوط الخطايا به مشهورة فى الصحيح، والتى جمعها النووى فى جامع النية. كل هذا مصرح بأن الوضوء عبادة، ولا حجة لمن ادعى أن ذلك خاص بمن فيه نية، ولا يلزم من ذلك أن ما لا نية فيه ليس بوضوء؛ لأن الوضوء فى هذه الأحاديث هو المراد بقوله صلى الله عليه وسلم:"لا يقبل اللَّه صلاة بغير طهور"(3).
هذا هو مذهب الفريقين وأدلتهم وتقريراتها.
(1) المرجع السابق: 314.
(2)
المرجع السابق.
(3)
المرجع السابق: 315.