الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الرابع فى الترجيح والاختيار
وفى مجال الترجيح فإننى أرجح مذهب الجمهور لقوة أدلتهم، ولأن القول بالرأى الآخر فيه تعارض مع ما قرره التشريع الإسلامى السامى فى نصوصه القاطعة وقواعده العامة من قول اللَّه تعالى:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِى الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (1)، ومن قوله صلى الله عليه وسلم:"لا ضرر ولا ضرار" وفى تقييد إزالة الرائحة الكريهة عن المرء بوقت دون آخر حرج عليه وضرر به، بل وعلى الغير أيضًا، وذلك لتضررهم من هذه الرائحة الكريهة التى تخرج من فمه وقت اللقاء به أو الاجتماع معه فى مجتمع ما، مما لا غنى للناس عنه بالضرورة: كالمساجد، والمركبات العامة، والخاصة، ودور العلم، والأماكن العامة، وغير ذلك. ولا شبهة لمن يعترض بأن ذلك يمكن تجنبه بالبعد عن الناس والاعتزال، فإن ذلك ضرر أكثر، والإنسان اجتماعى ومدنى بطبعه ولا غنى له عن الناس ولا للناس عنه، والإسلام يدعو إلى التجمع ويبغض العزلة.
فإذا ما أضفنا إلى ذلك أن الإسلام يعتنى بصحة الإنسان ونظافته، بل قد جعل هذه النظافة من جملة الإيمان، كما أنه يحافظ على مظهره الخارجى أمام الناس، وطلب منه أن يكون حسنًا وحثّه على ذلك كثيرًا.
وإذا ربطنا هذا التقرير الشرعى بما أكده الطب الحديث من أن أكثر الأمراض التى تصيب المرء قد يرجع سببها إلى إهمال الإنسان لصحته، وعدم المحافظة على نظافته ونظافة ما بداخله من أسنان ولثة، مما قد يترتب عن ذلك إصابتها بالأمراض التى قد تنتشر منها إلى باقى الجسم، وخصوصًا الباطنية منها - علمنا حكمة عدم التقييد فى استعمال السواك بوقت دون آخر، ولا بوصف دون وصف.
(1) سورة الحج الآية: 78.
على أننى أرى أنه لا دلالة أيضًا فى الأحاديث المطلقة، بل والمقيدة منها، فى استحباب ترك إزالة الرائحة الكريهة التى نشأت عن الصيام أيضًا.
وإنما كل ما تدل عليه هذه الأحاديث أن الصيام فضله عظيم على ما ينال فيه المرء من مشقة حتى مشقة الخلوف على النفس، والتى قد تنشأ عادة من أثر الصيام، ويكون ذلك من داخل الجوف نفسه. وقد لا ينفع المرء معها حتى السواك الذى يمنع الأثر الخارجى فقط، والذى قد لا يفيد فى التغلب على إزالة هذه الرائحة الكريهة التى فيها مشقة على النفس. فبين اللَّه سبحانه وتعالى أن مغالبة ذلك له فضل عظيم، وهو وإن كان أثره مكروهًا عندنا إلا أنه أطيب عند اللَّه من ريح المسك، وهذا فضل منه ورحمة على عباده.
ثم إن استدلال الشافعى بالحديث على كراهيته الاستياك بعد الزوال للصائم لأنه يزيل الخلوف الذى هو أطيب عند اللَّه من ريح المسك - لا ينهض ولا يقوى على تخصيص الأحاديث القاضية باستحباب السواك على العموم، ولا على معارضة تلك الخصوصات.
قال ابن دقيق العيد: "السر فيه -أى فى السواك عند الصلاة- أننا مأمورون به فى كل حال من أحوال التقرب إلى اللَّه -تعالى- بأن نكون فى حالة كمال ونظافة؛ إظهارًا لشرف العبادة (1).
(1) انظر: سبل السلام: 1/ 300.