الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
د- مقارنة بين فروق الأسنوى وفروق القرافى:
وبعد ذلك بقى علينا أن نعقد مقارنة خاصة بين الأسنوى ومن سبقه فى فن الفروق، وقد اخترت من السابقين عليه الإمام "القرافى" المالكى. ولعل ذلك يرجع إلى اشتهار القرافى بمعالجته لهذا الفن دون غيره. كما أن هناك فرقًا كبيرًا بينهما من جهة الموضوع.
وإذا عرفنا فيما سبق موضوع "فروق الأسنوى" وأنها بين المسائل الفرعية الفقهية؛ نعرف أن فروق القرافى موضوعها: قواعد الفقه الكلية أصلًا. ولكنها كثيرًا ما تكون بين مسألتين فرعيتين من مسائل الفقه.
يقول القرافى (1): "وجعلت مبادئ المباحث فى القواعد -بذكر الفروق والسؤال عنها- فرعين أو قاعدتين، فإن وقع فى السؤال عن الفرق بين الفرعين فبيانه بذكر قاعدة أو قاعدتين يحصل بهما الفرق، وهما المقصودتان، وذكر الفرق وسيلة لتحصيلهما.
وإن وقع السؤال عن الفرق بين القاعدتين -فالمقصود تحقيقهما، ويكون تحقيقهما بالسؤال عن الفرق بينهما أولى؛ لأن الضد يظهر حسنه الضد، وبضدها تتميز الأشياء".
وعلى هذا فالمقصود الأساسى لمؤلف القرافى هو ذكر الفرق بين القواعد لا ذكر الفرق بين الفروع، وإنما يقع ذلك فيه استطرادًا عند ضرورة توضيح القاعدة وإظهارها.
وفروق القرافى تقع فى 548 ثمانية وأربعين وخمسمائة قاعدة، وكلامه فيها مفصل. فهو يذكر القاعدتين ثم يذكر جميع الآراء التى تكلمت عن الفرق بينهما ويناقش ذلك، ثم يأتى بالفرق الذى يرتضيه مع الدليل.
ففى كلامه عن الفرق الأول وهو بين الشهادة والرواية يقول (2):
". . ابتدأت الفرق بين هاتين القاعدتين لأنى أطلبه نحو ثمانى سنوات فلم أظفر
(1) انظر: كتابه: أنوار البروق فى أنواع الفروق ص 3.
(2)
المرجع السابق ص 3.
به، وأسأل الفضلاء عن الفرق بينهما، وتحقيق ماهية كل واحدة منهما، فإن كل واحدة منهما خبر -فيقولون: الفرق بينهما أن الشهادة يشترط فيها العدد والذكورية والحرية، بخلاف الرواية، فإنها تصح من الواحد والمرأة والعبد.
فأقول لهم: اشتراط ذلك فيها فرع تصورها وتمييزها عن الرواية، فلو عرفت بأحكامها وآثارها -التى لا تعرف إلا بعد معرفتها- لزم الدور، وإذا وقعت لنا حادثة غير منصوصة من أين لنا أنها شهادة حتى يشترط فيها ذلك، فلعلها من باب الرواية التى لا يشترط فيها ذلك، فالضرورة داعية لتميزها. ولا يشترط فى بعض المسائل الأخرى.
ثم ذكر أن الفرق بينهما بمعرفة حقيقة كلّ منهما على حدة، فيقول (1):"مهما لم تتصور حقيقة الشهادة والرواية وتمييز كل واحدة منهما عن الأخرى لا يعلم اجتماع المتشابهتين منهما فى هذه الفروع، ولا يعلم أى الشبهين أقوى، حتى يرجح مذهب القائل بترجيحها. ولعل أحد القائلين ليس مصيبًا".
وليس فى الفروع إلا إحدى المتشابهتين أو أحد الشبهين، والآخر منفى، أو الشبهان معا منفيان، والقول بتردد هذه الفروع بينهما ليس صوابًا، بل يكون الفرع مخرجًا على قاعدة أخرى غيرها.
وهذا جميعه إنما يتلخص إذا علمت حقيقة كل واحدة منها من حيث هى. ونذكر فيما يأتى نموذخا آخر من فروقه:
الفرق الثالث والثمانون (2): بين قاعدة الماء المطلق وبين قاعدة الماء المستعمل لا يجوز استعماله أو يكره على الخلاف.
اعلم أن الماء المطلق هو الباقى على أصل خلقته، أو تغير بما هو ضرورى له، كالجارى على الكبريت وغيره مما يلازم الماء فى مقره.
وكان الأصل فى هذا القسم ألا يسمى مطلقًا؛ لأنه تقيد بإضافة عين أخرى إليه، لكنه استغنى للضرورة، فجعل مطلقًا؛ توسعة على المكلف. واختير هذا اللفظ
(1) المرجع السابق ص 6.
(2)
2/ 117.
لهذا الماء وهو قولنا مطلق- لأن اللفظ يفرد فيه إذا عبر عنه، فيقال: ماء، وشربت ماء، وهذا ماء، وخلق اللَّه الماء رحمة للعالمين. . ونحو ذلك من العبارات. فأما غيره فلا يفرد اللفظ فيه، بل يقال: ماء الورد، ماء الرياحين، ماء البطيخ. . ونحو ذلك. فلا يذكر اللفظ إلا مقيدًا بإضافة أو معنى آخر. وأما فى هذا الماء فيقتصر على لفظ مفرد مطلق غير مقيد وإن وقعت الإضافة فيه بقولنا: ماء البحر، ماء البئر، ونحوها، فهى غير محتاجة إليها. بخلاف ماء الورد ونحوه - لابد من ذلك القيد وتلك الإضافة، فمن ههنا حصل الفرق من جهة اليقين واللزوم.
وأما الماء المستعمل فهو الذى أديت به طهارة وانفصل من الأعضاء، لأن الماء مادام فى الأعضاء فلا خلاف أنه طهور مطلق مادام مترددًا، فإذا انفصل عن العضو اختلف فيه: هل هو صالح للتطهر؟ وهل هو نجس أم لا؟ وهل هو ينجس الثوب إذا لاقاه أم لا؟ هذه أقوال للحنفية ولغيرها. واختلف القائلون بخروجه عن صلاحيته للتطهر: هل ذلك معللًا بإزالة المانع أو بأنه أديت به لمحربة؟ ويتخرج على القولين مسائل.
فإن قولنا: إن العلة إزالة المانع - لم يندرج فى الماء المستعمل فى الغسل فى المرة الثانية والثالثة فى الوضوء إذا نوى فى الأولى الوجوب، ولا الماء المستعمل فى تجديد الوضوء، ونحو ذلك مما لا يزيل المانع. ويندرج فيه الماء المستعمل فى غسل الذمية، لأنه أزال المانع من الوطء.
وإن قلنا: إن سبب ذلك كونه أديت به قربة - اندرج فيه الماء المستعمل فى المرة الثانية والثالثة فى تجديد الوضوء.
ولا يندرج الماء المستعمل فى غسل الذمية؛ لأنه لم تحصل به قربة - عكس ما تقدم وللقائلين بالمنع وخروجه عن كونه صالحًا للتطهر مدارك، أحسنها أن قوله تعالى:{وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} ، وقوله تعالى:{لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} - مطلق فى التطهر لا عام فيه، بل عام فى المكلفين، فإذا قال السيد لعبيده: أخرجت هذا الثوب لأغطيكم به - لا يدل ذلك على أنه يغطيهم به مرات ولا مرتين، بل يدل على أصل التغطية فى جميعهم، فإذا غطاهم به مرة حصل موجب اللفظ، وكذلك هههنا؛ إذا تطهرنا
بالماء حصل موجب اللفظ، فبقيت المرة الثانية فيه غير منطوق بها، فتبقى على الأصل غير مقيدة، فإن الأصل فى الأشياء عدم الاعتبار فى التطهر وغيره، إلا ما وردت الشريعة به، وهذا وجه قوى حسن، ومدرك جميل.
واحتج مع هذا الوجه بقوله: إنه ماء أديت به عبادة فلا تؤدى به عبادة أخرى كالرقبة فى العنق، وبقولهم: إنه ماء الذنوب؛ لما ورد فى الحديث عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنه قال (1): "إذا توضأ المؤمن فغسل يديه خرجت الخطايا من بين أنامله، وإذا مسح برأسه خرجت الخطايا من بين أطراف أذنيه. . " الحديث.
فدل ذلك على أن هذا الماء تخرج معه الذنوب. وإنما قلنا إنه إذا كان ماء الذنوب يكون نجسًا، لأن الذنوب ممنوع من ملامستها شرعًا. والنجاسة هى منع شرعى، فإذا حصل المنع حصلت النجاسة. والجواب عن الأول: أنكم تجوزون عتق الرقبة الكافرة فى الكفارات الواجبات، ولو أعتق عبدًا كافرًا ذميًا ثم خرج إلى أهل الحرب ناقضًا للعهد، ثم غنمناه - عاد رقيقًا، وجاز عتقه فى الواجب مره أخرى عندع؛ فما قستم عليه لا يتم على أصولكم. سلمنا صحة القياس لكنه معارض بأنه عين أديت به عبادة، فيجوز أن تؤدى به عبادة أخرى، كالثوب فى ستر الصلاة واستقبال الكعبة، وكذلك المال فى الزكاة لو اشتراه، فمن انتقل إليه من الفقراء جاز أن يخرجه فى الزكاة مرة أخرى.
وبهذا نأتى إلى ختام المبحث الأول.
* * *
(1) فى كنز العمال 2/ 425: خرجه أحمد والطبرانى عن أبى أمامة.