الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كان مؤذن عامي يؤذن ويقول ما لفظه كلفظ (الله وَكْبر) وهذا هو لفظ العامة الذين لا يفهمون شيئًا بحيث يفهم بعضهم أن اللفظ هو الله وأكبر، لا يعرف أن الحركة التي على الهاء هي ضمة.
فنهاه فهد العبيد عن ذلك، وبين له أن ذلك لا يجوز لأنه يخل بالمعنى، ولكنه لم ينتبه واعتذر بأنه لا يعرف الأذان إلَّا هكذا.
وكان الرجل صاحب دكان يبيع أشياء بالكيل وكان عنده مكاييل من النَصيف والربيع والثمين فأخذ فهد أحد المكاييل الصغيرة وقال: بكم ملؤ هذا؟ قال: بكذا ثم أخذ الأكبر منه فسأله: بكم هذا؟ فقال: بكذا بثمن أكثر من الأول، فسأله فهد العبيد: لماذا؟ فقال: لأن هذا أكبر من هذا؟
فقال له فهد العبيد أراك عرفت نطق أكبر في الدكان فالفظ بها في الأذان: (أكبر) ولا تقل (وكبر).
زهد فهد العبيد وتقشفه:
الشيخ فهد العبيد زاهد عن قدرة، ومتقشف عن سعة، فمن زهده أنه لا يركب السيارة أصلًا، ولا يركب إلى الأماكن القريبة من بريدة ولا الحمير وإنما مركوبه رجلاه.
وحكي عنه أنه قال: لم أركب السيارة إلَّا مرة واحدة جعلتني لا أركبها بعدها.
والواقع أن كثيرًا من الناس محتاجون لمثل ذلك، إذ نرى أكثرهم يركبون السيارات الغير حاجة، ويبالغون بالسرعة فيها إلى حد يخيف فتكون النتيجة حوادث أليمة.
وفهد العبيد زاهد حتى في لبس النعال، وليس ذلك عن بخل بثمنها، لأنني رأيت عددا من النعال الجديدة في أقصى دكانه، أهديت إليه فتركها في مكانها ولم يستعملها.
ومع ذلك إذا رأيت هيئته ومنظره الخارجي حتى بعد أن أسن وطال لم تر منه شيئًا يدل على ذلك، فلونه صاف، وصحته جيدة وأعضاؤه
سليمة، بل بنيته قوية ومتعته هي في مطالعة الكتب، والجلوس مع نوع معين من الرجال الذين يختارهم يرى أنهم يفهمون ما يقول ويتجاوبون معه، وأنهم على درجة معينة من السلوك الديني النظيف ومن زهده أنه لا يستجيب للدعوات على الطعام أو القهوة إلَّا نادرا ولمن كان من أصحابه الخلصاء، يمنعه ترفعه وعزة نفسه عن ذلك.
وقد بقي عزيز النفس معروفًا بذلك عند العامة والخاصة.
بعد خمسين سنة:
لم تكن الرابطة التي تربط بيني وبين الشيخ فهد بن عبيد أكثر من رابطة سلوكية علمية زهدية فهي تعتمد على مراقبة السلوك وأن يكون ذلك كله وبدقة وفق ما أمر به الله ورسوله مع الابتعاد عن الشبهات والزهد في الكماليات، والنفور من الأشياء العصرية المحدثة - سوء أكانت آلات أو أدوات تعبيرات أو حتى كلمات.
وكان من ذلك البعد عن أسباب العيش الرغد، فالشيخ فهد له إرث قليل من والده، ويصلح الساعات فيكسب منها قليلًا.
أما أنا فإن والدي له دكان، ويقوم في وقت القيظ بإصلاح ملح البارود، وذلك كله كاف للمعيشة الطيبة.
غير أنه أصاب عيني والدي الماء الأبيض الذي يصيب كبار السن في العادة فصار يخرج لدكانه، ولكن عمله قل، وأنا كبير الذكور من الأسرة، وكان والدي يعقد علي آمالا عراضا في أن أكفيه شئون البيت وضمان نفقاته في هرمه.
إضافة إلى ما أحتاجه أنا من نفقات ومصروفات شخصية ضرورية لذلك قبلت أن ألتحق بالتدريس على وظيفة مدرس، وكنت مارست مهنة التدريس في آخر عام 1363 هـ ولم أكن تجاوزت آنذاك الثامنة عشرة.
أما في عام 1366 هـ فقد بلغت الحادية والعشرين وصار التطلع إلى الزواج وما يحتاج إليه من نفقة يطرأ على خاطري أحيانًا، إضافة إلى الاضطلاع بنفقات البيت أو جزء منها.
وعندما التحقت بالتدريس في مديرية المعارف العامة قبل أن تصبح وزارة لم أذهب إلى الشيخ فهد العبيد لأنني أعرف نكيره على من يعمل في مثل هذه الوظيفة الحكومية، ويطالع الجرائد، ويجالس الذين لا يوفرون لحاهم.
فانقطعت عنه كلية وبدون مقدمات
وقال لي خالي صالح بن موسى العضيب وهو طالب علم مجيد: إن فهد العبيد سألني عنك، فقلت له: إنك بخير.
فقال: ما رأيته منذ مدة طويلة، ربما كان يظن أنني سأبحث معه في أن يترك المدرسة، وأنا لو رحت أنا وإياه إلى المريدسية مشيًا على رجلينا ما كلمته عن المدرسة ولا كلمة.
ومضت السنون تتلوها السنون وأنا لم أره، فضلًا عن أن أجلس إليه، وذلك الانشغالي بالوظائف، ثم بالعمل في خارج بريدة في المدينة المنورة أولًا ثم في الرياض بعدها مكة المكرمة حتى أتي على ذلك ما زاد على خمسين سنة.
فرأيت زيارته قيامًا بواجب الزيارة له.
فزرت فهد بن عبيد صباح يوم الأحد 27/ 5/ 1421 هـ وكان لا يزال ساكنًا في بيت من الطين، وذلك مع طلوع الشمس لأنه الوقت الذي لا يكون عنده كثير من الناس، فرأيته مكبًا على تلاوة القرآن من المصحف، ورأيته كما عهدته منذ آخر مرة رأيته فيها، واجتمعت به قبل 50 سنة، إلَّا أنه كان جالسًا مطاطئًا رأسه ولم يقم، وقد هده الكبر، ومع ذلك تبدو بشرته ونظرات عينيه كما لو كان ابن ستين سنة مع أنه ناهز المائة، والذي أعرفه من قبل أنه ولد في عام 1322 هـ غير أن
شخصًا من آل جردان هو أقرب المقربين إليه ذكر لي أنه سمع الشيخ فهد العبيد يقول: إنه أصغر من الشيخ صالح بن عبد العزيز العثيمين بسنة واحدة.
وقد ولد الشيخ ابن عثيمين ضبطًا في عام 1320 هـ وتوفي عام 1411 هـ بعد أن عاش 91 سنة فإذا كان هذا صحيحًا وهو ما يعتقده كثير من الناس فإن الشيخ فهد يكون الآن أكمل مائة سنة من عمره على التمام.
قال لي ابن جردان مثلما قال لي غيره: إن الشيخ فهد كان يذكرك ويقول: لي مدة طويلة ما شفته، قلت له: نعم، إن تلك المدة تبلغ 50 سنة.
كنت متهيأ لأتكلم معه بأشياء كثيرة من الكتب التي كتبتها له والرسائل التي تبادلناها وأخبار المشايخ التي كان يذكرها، وخصوصا ما كان بين آل سليم ومن معهم من طلبة العلم وبين الشيخ ابن جاسر وابن عمرو، ومن معهما من طلبة العلم ومن العامة، ولكنني وجدته عازفًا عن ذلك وربما كان وصولي إليه في وقت غير مناسب، مع العلم بأنه لا يزال يتمتع بكامل عقله، وذاكرته، ولا يشكو إلَّا من ضعف في رجليه رغم بلوغه المائة سنة أو نحوها.
وكنت حددت وقت زيارتي له بناء على مفاهمة مع ابنه الوحيد عبد الرحمن وسألته عن موعد جلوسه فذكر أنه بعد صلاة الفجر إلَّا أن الناس يأتون إليه بعد السادسة والنصف صباحًا، أما في الساعة السادسة فإنه لا يكون لديه أحد، ولم نجد عنده أحدًا بالفعل إلَّا ابن جردان الذي فرغ نفسه ووقته لخدمته احتسابًا للأجر من الله تعالى كما يقول ابن جردان.
مات فهد العبيد يوم الخميس 25/ 6 / 1422 هـ بعد أن عمر مائة عام.
وكان أوصى ألا يؤخر دفنه، لأنه يعرف أنه قد يؤخر دفنه لكي يصلي عليه جمع عظيم، هذا ما يعتقده كثير من الناس الذين يجلونه ويحترمونه، بل وبعضهم يحبونه محبة قلبية لله وبالله.
ولم يؤخر دفنه طبقًا لما أوصى به ومع ذلك خرج في جنازته خلق عظيم.
قال ابن أخيه الأستاذ يوسف بن محمد بن إبراهيم يذكر الساعات الأخيرة من حياة الشيخ فهد العبيد:
وفي مغرب ليلة كل جمعة يحضر عنده طلابه ومحبوه لحضور الدرس فيقدم لهم العشاء بعد المغرب لأن الأغلب عليهم أن يكونوا قد صاموا يوم الخميس، وربما زاد الحضور في الدرس الواحد يوم الخميس عن المائة شخص ويتصدق على الفقراء من طلابه ومحبيه ويتفقد أحوالهم ويسأل الشاب منهم هل تزوج؟ فإن لم يكن قد تزوج أوصاه بالزواج فإن أحس أنه منعه الفقر قال له توكل على الله، وإذا تم العقد فتعال، فالمهر عندي ثم يدفع إليه المهر وزوج عددًا منهم على هذه الطريقة، بل ربما أوصاه أن يذهب إلى شخص آخر ليخطب ابنته ثم يشير على والد البنت بتزويج الشاب لأنه رجل خير، وبذلك أحبه أهله وإخوته وزواره ناهيك عن طلابه.
وفي آخر عمره رحمه الله لم يستطع الذهاب إلى المسجد لكبره ومرضه فاستمر على ذلك سنوات كثيرة لا يخرج من بيته.
صبره على المصيبة:
أصيب بوفاة ابنه الشيخ عبد المحسن وهو طالب علم وإمام مسجد، وقد توفي في حادث سيارة في 5 صفر عام 1410 هـ.
ولم يكن له ابن غيره إلَّا الكبير عبد الرحمن وقد صبر الشيخ فهد العبيد على هذه المصيبة التي أصابته على كبر، وفي ابنه الذي يوده، ويسره منه تدينه وطلبة العلم، وإمامته للناس في المسجد.
وقد وصف الأستاذ عبد الكريم بن صالح الطويان ذلك، فقال:
وقبل أيام، كنت أنزل من درج إدارة التعليم بمنطقة القصيم، فقابلني الأخ
الأستاذ عبد المحسن بن فهد العبيد، المدرس بمدرسة تحفيظ القرآن الكريم ببريدة، وإمام وخطيب جامع الحميدان، ولم تغرب شمس ذلك اليوم، حتى كان في عداد الموتى، حيث توفي رحمه الله في حادث مروري على طريق القصيم الرياض وهو لم يتجاوز الأربعين من العمر، وله مؤلف ضمنه خطبه الأسبوعية ومواعظه العامة، فكم للموت من بغتات لا يجدي معها الحذر، ولا ينفع معها التقدير "لقد فضح الموت الدنيا".
قال لي الشيخ عبد الله العثيم: زرت الشيخ فهد العبيد، لأعزيه في وفاة ولده، فوجدته صابرًا محتسبًا، وكان مما سمعته منه:(يا عبد الله، لو أعرت عصا، ثم جاءك المعير بعد مدة، يطالب برده، أكنت تجزع من ذلك؟ إن ولدي عارية استردها الله، فله ما أعطى وله ما أخذ).
وحين أتم الشيخ العثيم روايته هذه، أضاء في ذهني، بيت للشاعر كعب بن زهير، قاله ضمن قصيدة طويلة يرثى فيها أخاه:
(وما المال والأهلون إلَّا ودائع
…
ولا بد يومًا أن ترد الودائع)
وقال لي آخر: ذهبت أنا وعدد من الإخوة، لمواساة الشيخ فهد في ولده، فألفيناه في صدر مجلسه، وهو يعظ الناس بالصبر، ويوصيهم بالاستسلام لقدر الله والرضى بقضائه، وكأنه المعزي لا المعزي! (1).
وممن كان يجلس إليه الشيخ عبد الله القرعاوي إمام الجامع الكبير ببريدة والشيخ الفاضل محمد الفهد الرشودي وغيرهم كثير.
واشتد به المرض حتى ألزمه الفراش أشهرا، فلما كان يوم الخميس السادس والعشرون من شهر جمادى الآخرة كنت ممن حضر مجلسه وكعادته رحمه الله كان مضطجعًا على السرير من شدة المرض والضيوف يأكلون من المائدة عنده، فلما فرغوا
(1) من أفواه الرواة، ص 190.
بدأ القارئ يقرأ في أحد كتب الوعظ حتى أذن العشاء، فقام الناس فسلموا على الشيخ فهد ثم خرجوا، وكنت وأخي خالد من آخر من خرج من بيته.
وقد رأيته رحمه الله اشتد به المرض على بهاء وجهه ونور الإيمان قد كساه ولم يستطع أن يصافح الزوار تلك الليلة، فقبلت جبينه وأمسكت بيمينه فشد يمينه رحمه الله، وقد عجز عن الكلام، فما هو إلَّا أن خرجنا من صلاة العشاء حتى بلغنا نبأ وفاته رحمه الله، فرجعت إليه فإذا هو مسجي وحوله ابنه عبد الرحمن وحفيده عبد الله بن عبد المحسن الفهد في جلسة حزينة ثم حضر أخوه محمد وجلس عنده ساعات من تلك الليلة ثم غسلناه وكنت شاركتهم في تكفينه رحمه الله وانتظرنا تلك الليلة عنده في بيته حتى كان قريبًا من آذان الفجر حيث نقلناه على الأكتاف إلى مسجد الخريصي وإمامه وقتها الشيخ عبد الله بن الشيخ صالح الخريصي فاجتمع حوله الناس حتى امتلأ المسجد والطرقات حوله وصلى عليه أخوه محمد، وكنت بجوار جدي الشيخ إبراهيم في الصف الأول ثم حمل إلى المقبرة على الأكتاف سيرًا على الأقدام ودفن في مقبرة الموطأ في بريدة بعد صلاة الفجر يوم الجمعة 27/ 6 / 1422 هـ وبكاه الناس وفقده أهله ومحبوه.
مات أبو عبد الرحمن فهد العبيد ولم يركب سيارة طول عمره، فقد كان يكرهها كراهة في نفسه لا كراهة دينية ولم يسمح لأحد أن يلقبه بالشيخ فهد، بل الكنية التي أحبها أبو عبد الرحمن أو الأخ فهد، وقد رثاه طلابه ومن تلك المراثي ما رثاه به الشيخ عبد العزيز بن عبد الرحمن اليحيى.
رحم الله أبا عبد الرحمن وأسكنه فسيح جناته.
ومن أولاده ابنه الشيخ الواعظ عبد المحسن بن فهد ولد سنة 1368 هـ ودرس في الكتاتيب وأخذ عن الشيخ محمد بن صالح المطوع رحمه الله، وأكثر من الأخذ عنه وأخذ عن الشيخ صالح بن أحمد الخريصي رحمه الله.
ووثق به الشيخ صالح الخريصي رحمه الله فطلب منه أن يكون إمامًا