الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأكبر، فكانوا أمام تلك الإشاعات الظالمة الكاذبة المدبرة المغرضة التي أغرقت المدينة، لا يحيرون جوابًا. وماذا عساهم أن يقولوا، والشك في ابنتهم قد تسرب إلى قلب زوجها النبي صلى الله عليه وسلم نفسه، ولقد انطوى أهل البيت الطيب الوادع الكريم على أنفسهم، يهد منهم الألم بعنف وضراوة وهم لا يدرون ما يصنعون أو يقولون، أمام هذه النازلة التي امتحنهم الله بها، ولقد فاض الألم المدمر على لسان ذلك الرجل الوقور الصابر المؤمن، الذي استفزته ضراوة ألم تلك الإشاعات القاتلة مرة فقال: والله ما رمينا بهذا في جاهلية، أفنرضى به في الإسلام؟ .
وعندما قالت له ابنته البرئية المعذبة المظلومة (والألم يطحن قلبها الأبيض الطاهر): أجب عنى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال- في ألم وإشفاق: والله ما أدرى ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
حقًّا لقد كان حادث الإفك معركة آلام عنيفة طاحنة خاضها البيت النبوى الكريم، وأضنت جروحها الثخينة قلوبًا كبيرة طاهرة نقية، وكادت تودى بنفوس بريئة كمدًا وغمًا.
عائشة تروي القصة المؤلمة
ولما في هذا الحادث الخطير من عبر وعظات وتربيات يمكن أن يستفيد منها الذين يتسرعون في رمى الأبرياء، فإنا سندع أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تروى لنا قصة هذا الألم القاتل الذي عاشته طيلة شهر كامل.
فقد روى الزهري عن عروة وغيره عن عائشة رضي الله عنها قالت:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذار أراد سفرًا أقرع بين نسائه، فأيتهن خرج سهمها، خرج بها معه، وإنه أقرع بيننا في غزوة (وهي غزوة بنى المصطلق) فخرج سهمى، فخرجت معه بعد ما أُنزل الحجاب وأنا أُحمل في الهودج، وأنزل فيه.
فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوته تلك وقفل، ودنونا من المدينة آذن ليلة بالرحيل، فقمت حين آذنوا بالرحيل حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت من شأنى أقبلت إلى الرحل فلمست صدرى فإذا (عقد) لي من جزع أظفار قد انقطع.
فرجعت فالتمسته فحبسنى ابتغاؤه، وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلوننى، فاحتملوا هودجى، فرحلوه على بعيرى، وهم يحسبون أنى فيه، وكان النساءُ، إذا ذاك خفافًا لم يثقلهن اللحم، وإنما نأكل العلقة (1) من الطعام.
فلم يستنكر القوم حين رفعوه خفة الهودج، فحملوه وكنت جارية حديثة السن فبعثوا الجمل وساروا، فوجدت عقدى بعد ما استمر الجيش، فجئت منزلهم، وليس فيه منهم، فتيممت منزلى الذي كنت فيه وظننت أنهم سيفقدوننى فيرجعون إليّ.
فبينما أنا جالسة غلبتنى عيناى فنمت، وكان صفوان بن المعطل (2) السُلمى، ثم الذكوانى، قد عرَّس (3) وراء الجيش، فأدلج فأصبح عند
(1) العلق (بضم ففتح): جمع علقة، وهي ما فيه بلغة من الطعام إلى وقت الغذاء.
(2)
هو صفوان بن المعطل بن ربيعة (بالتصغير) بن خزاعى بن محارب السلمي ثم الذكوانى، من السابقين في الإسلام، شهد الخندق والمشاهد كلها (في قول الواقدي) كان في غزوة بنى المصطلق أميرًا على ساقة الجيش، ولذلك كان آخر من يرتحل من رجال الجيش، في تلك الغزوة، وقد عاش إلى أيام الخليفة الفاروق، فغزا مع المسلمين حتى استشهد في معركة بأرمينية سنة تسع عشرة.
(3)
قال في (اللسان): والتعريس نزول القوم في السفر من أخر الليل- يقعون فيه وقعة للاستراحة ثم ينيخون وينامون نومة خفيفة ثم يثورون مع انفجار الصبح سائرين.
منزلى، فرأى سواد إنسان نائم، فأتانى فعرفنى حين رآني، وكان يرانى قبل الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه (1) حين عرفنى، فخمرت وجهى بجلبابى، والله ما كلمنى بكلمة، ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه، وهوى حتى أناخ راحلته فوطئ على يديها فركبتها.
فانطلق يقود بي الراحلة، حتى أتينا الجيش بعد ما نزلوا معرسين (2) قالت: فهلك في شأنى من هلك، وكان الذي تولى كبر الإثم عبد الله بن أبي بن سلول.
فقدمنا المدينة، فاشتكيت (3) بها شهرًا، والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك، ولا أشعر، وهو يريبنى في وجعى أنى لا أرى من النبي صلى الله عليه وسلم اللطف الذي كنت أرى منه حين اشتكى، وإنما يدخل فيسلم ثم يقول: كيف تيكم؟ ثم ينصرف، فذلك الذي يريبنى منه، ولا أشعر بالشر حتى نقهت (4).
فخرجت أنا وأم مسطح قبل المناصع وهو متبررنا، وكنا لا نخرج إلا ليلًا إلى ليل، وذلك قبل أن تتخذ الكُنُف، وأمرنا أمر العرب الأول في التبرز قبل الغائط.
(1) الاسترجاع هو قوله (إنا لله وإنا إليه راجعون).
(2)
سبق تفسير التعريس.
(3)
كناية عن المرض، فإذا مرض الإنسان قالوا:(اشتكى).
(4)
يعبر بالنقاهة عن قرب العهد بالمرض.
فأقبلت أنا وأم مسطح - وهي ابنة أبي رهم بن المطلب بن عبد مناف، وأُمها بنت صخر بن عامر خالة أبي بكر الصديق، وابنها مسطح بن أثاثة بن عباد بن عبد المطلب - حين فرغنا من شأننا نمشى، فعثرت أم مسطح في مرطها (1) فقالت: تعس مسطح! فقلت لها: بئس ما قلت. أتسبين رجلًا شهد بدرًا؟ فقالت: ياهنتاه ألم تسمعى ما قال: فقلت: وما قال؟ .
فأخبرتنى بقول أهل الإفك، فازددت مرضًا إلى مرضى، فلما رجعت إلى بيتي دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال: كيف تيكم؟ فقلت: ائذن لي أن آتى أبويَّ وأنا حينئذ أُريد أن أستيقن الخبر من قبلهما، فأذن لي.
فأتيت أبويَّ فقلت لأمى: يا أمتاه ماذا يتحدث الناس به؟ .
فقالت: يا بنية هونى على نفسك الشأن، فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا أكثرن عليها.
فقلت: سبحان الله! ولقد تحدث الناس بهذا؟ قالت: فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، حتى أصبحت أبكى.
فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد، حين استلبث الوحى يستشيرهما في فراق أهله، قالت: فأما أسامة فأشار عليه بما يعلم من براءة أهله، والذي يعلم في نفسه من الود لهم، فقال أسامة: هم أهلك يا رسول الله، ولا نعلم والله إلا خيرًا.
(1) المرط (بكسر الميم) الكساد.