الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حربهم كحرب النبي كفرا. قالوا: "وهذا يوجب أن سائر البغاة ومن يحارب المؤمنين أن يكون كافرا"، قالوا:"وهو مذهبنا".
والجواب: أن حرب النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان كفرا لا لأنه ذنب ومعصية، لكن لأنه استخفاف به والاستخفاف بالرسول كفر، وحرب المؤمن استخفاف به والاستخفاف بالمؤمن لا يجب أن يكون كفرا، فلهذا فرقنا فيهما. (1)
موقفه من المرجئة:
قال في مسائل الإيمان: إن حقيقة الإيمان في اللغة وأصل الوضع: تصديق القلب المتضمن للعلم بالمصدق به. وقد ذكر أبو عبد الله بن بطة في كتاب الإبانة الصغير فقال: الإيمان اسم ومعناه التصديق، قال تعالى:{وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17)} (2)، يريد بمصدق لنا.
وأما حده في الشرع فهو جميع الطاعات الباطنة والظاهرة، فالباطنة أعمال القلب وهو تصديق القلب، والظاهرة هي أفعال البدن الواجبات والمندوبات، وقد نص أحمد على هذا في مواضع:
فقال في رواية أبي الحارث: السنة أن تقول الإيمان قول وعمل يزيد وينقص.
وكذلك قال في رواية محمد بن موسى: الإيمان قول وعمل يزيد
(1) مسائل الإيمان (323 - 353).
(2)
يوسف الآية (17).
وينقص، وإذا عملت الحسن زاد وإذا ضيعت نقص، والإيمان لا يكون إلا بعمل.
وكذلك قال في رواية المروذي: قال تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} (1)، وقال سبحانه:{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ} (2)، وهذا من الإيمان، فالإيمان قول وعمل والزيادة في العمل والنقصان في الزنا وإذا زنا وسرق.
وكذلك قال في كتابه إلى أبي عبد الرحيم محمد بن أحمد بن الجواح الجوزجاني رواية أبي بكر المروزي ومحمد بن حاتم المروزي: من زعم أن الإيمان الإقرار، فما يقول في المعرفة؟ هل يحتاج إلى المعرفة مع الإقرار؟ وهل يحتاج أن يكون مصدقا بما عرف؟ فإن زعم أنه يحتاج إلى المعرفة مع الإقرار فقد زعم أنه من شيئين. وإن زعم أنه يحتاج أن يكون مقرا مصدقا بما عرف فهو من ثلاثة أشياء فإن جحد وقال لا يحتاج إلى المعرفة والتصديق فقد قال عظيما ولا أحسب أحدا يدفع المعرفة والتصديق كذلك العمل مع هذه الأشياء، وقد سأل وفد عبد القيس رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإيمان فقال:«شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وأن تعطوا الخمس من المغنم» (3)، فجعل ذلك كله من الإيمان. وقال
(1) التوبة الآية (11).
(2)
البقرة الآية (43).
(3)
سيأتي تخريجه ضمن مواقف ابن الصلاح سنة (643هـ).
النبي صلى الله عليه وسلم: «الحياء من الإيمان» (1)، وقال:«أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا» (2)، وقال:«البذاذة من الإيمان» (3)، وقال:«الإيمان بضع وسبعون بابا فأدناه إماطة الأذى عن الطريق وأرفعها قول لا إله إلا الله» (4) مع أشياء كثيرة. وذكر الكلام بطوله. وهذا ظاهر من كلام أحمد.
وإن الإيمان الشرعي جميع الطاعات الباطنة والظاهرة، الواجبة والمندوبة، وهذا قول أكثر المعتزلة.
وقال منهم أبو هاشم والجبائي: إن ذلك مختص بالواجبات دون التطوع.
وقال ابن قتيبة في غريب القرآن: من صفاته المؤمن إلى أن قال: وأما إيمان العبد بالله فتصديقه به قولا وعقدا وعملا. قال: وقد سمى الله الصلاة إيمانا، فقال:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} (5) يعنى صلاتكم إلى بيت المقدس.
وقالت الأشعرية: "الإيمان هو التصديق في اللغة والشريعة جميعا وأن الأفعال والأعمال من شرائع الإيمان لا من نفس الإيمان".
وقال المرجئة والكرامية: "الإيمان هو التصديق باللسان، وهو الإقرار
(1) تقدم تخريجه ضمن مواقف أبي إسحاق الفزاري سنة (186هـ).
(2)
أحمد (509) وأبو داود (5/ 60/4689) والترمذي (3/ 466/1162) وقال: "حسن صحيح" والحاكم (1/ 3) وابن حبان (الإحسان 2/ 227/479) من حديث أبي هريرة وفي الباب عن عائشة وابن عباس.
(3)
أبو داود (4/ 393 - 394/ 41619) ابن ماجه (2/ 1379/4118) والحاكم (1/ 9) من حديث أبي أمامة.
(4)
تقدم تخريجه ضمن مواقف أبي إسحاق الفزاري سنة (186هـ).
(5)
البقرة الآية (143).
بالشهادتين دون طمأنينة القلب".
ويفيد هذا أن الأفعال ليست من الإيمان ولا من شرائعه وأنه إذا أتى بالشهادتين فهو كامل الإيمان وإن لم يأت بالأفعال.
وقال الجهمية: "الإيمان هو المعرفة بالله فحسب".
والأدلة على أن الطاعات إيمان قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} (1) فبين أن جميع ما تقدم مما به يصير المؤمن مؤمنا. وقول تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} (2) إلى آخر الآيات، وقوله تعالى:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} وإنما عنى به الصلاة التي استقبلوا بها بيت المقدس، وقوله تعالى:{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71)} (3) فدل
(1) الأنفال الآيتان (2و3).
(2)
المؤمنون الآيتان (1و2).
(3)
التوبة الآية (71).
على أن كل ذلك مما يصير المؤمن مؤمنا.
فإن قيل: ذكر الصلاة والزكاة والأمر بالمعروف من شرائع الإيمان يعني من أحكامه الواجب فعلها فيه لا أنها من نفس الإيمان أو نحمل ذلك على أنه سماه إيمانا على طريق المجاز أو نحمل ذلك على أنها من الإيمان يعني دالة عليه لأنه يستدل بها على تصديقه.
قيل: أما قولك إنها من شرائعه فإن أردت به أنها من واجباته فهو معنى قولنا إنها من الإيمان وأنه بوجودها يكمل إيمانه وبعدمها ينقص، فيحصل الخلاف بيننا في عبارة يبين هذا أن شرائع الشيء منه ولهذا يقال شريعة محمد صلى الله عليه وسلم وشريعة موسى عليه السلام وذلك عبارة عن جميع أوامره ونواهيه.
وأما قولهم إنا نحمله على أنه دال على الإيمان فلا يصح لأن هذه الأفعال توجد من الكافر ولا تدل على إيمانه.
وأما حمله على المجاز فالأصل في كلام الله تعالى الحقيقة والمجاز يحتاج إلى دليل ولأنه قال في بعضها: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} ، وهذا تأكيد بوصفه الإيمان بذلك.
ويدل عليه أيضا ما روي بالأسانيد الصحاح ما يدل على ذلك فروى أحمد بإسناده في كتاب الإيمان عن النعمان بن مرة أن رجلا ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم بحياء فقال: «إن الإيمان ذو شعب وإن الحياء شعبة من الإيمان» . (1)
وروى أيضا بإسناده عن ابن عباس قال: إن وفد عبد القيس لما قدموا
(1) تقدم تخريجه ضمن مواقف أبي إسحاق الفزاري سنة (186هـ).
على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم بالإيمان بالله عز وجل قال: «أتدرون ما الإيمان بالله؟» قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وأن تعطوا الخمس من المغنم» (1)
…
فإن قيل: هذه الأخبار كلها تدل على أن الخصال المذكورة من شرائع الإيمان لا أنها من نفس الإيمان أو على أنها دالة عليه. أو نقول سماها إيمانا على طريق المجاز، أو نحمل ذلك على أنها من الإيمان يعنى دالة عليه لأنه يستدل بها على تصديقه. قيل: قد أجبنا عن هذا فيما تقدم.
فإن قيل: نحمل قوله: «الإيمان بضع وسبعون خصلة» أراد به الإسلام فعبر عن الإسلام بالإيمان وأحدهما غير الآخر.
ألا ترى إلى قوله تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا} أَسْلَمْنَا (2) وفي حديث جبريل: ما الإيمان؟ ما الإسلام؟ فنحمل الخبر على الإسلام الذي لم يحصل معه طمأنينة القلب.
ويحتمل أن يكون قوله: «بضع وسبعون خصلة» يرجع إلى التصديق بمخبراته بالعلم به وبصفاته الأزلية وما يجوز عليه والاقرار بنبوة رسوله والعلم به وقد يبلغ ذلك بضع وسبعون خصلة، وعلى أن قوله:«أعلاها قول لا إله إلا الله» ليس فيه قول باللسان فنحن نحمله على الشهادة بالقلب والاعتراف
(1) سيأتي تخريجه ضمن مواقف ابن الصلاح سنة (643هـ).
(2)
الحجرات الآية (14).
بالقلب.
قيل: أما حمله على الإسلام الذي لم يحصل معه طمأنينة القلب لا يصح لأن ذلك ليس بإسلام لأن الإسلام لا يحصل بعدم التصديق.
أما قوله تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} معناه استسلمنا لتسلم أموالنا. وليس المراد به الإسلام يدل على ذلك أن هذه الآية نزلت في جهينة ومزينة وأسلم وغفار وأشجع كانت منازلهم بين مكة والمدينة فكانوا إذا مرت بهم سرية من سرايا النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: آمنا ليأمنوا على دمائهم وأموالهم. فلما سار النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحديبية مر بهم فاستنفرهم معه فلم يسيروا معه فنزلت فيهم الآية.
وعلى أن الإسلام في الشرع عبارة عن الشهادتين ولهذا لو حلف لا أسلمت فشهد الشهادتين حنث. وإذا كان عبارة عن ذلك لم يصح حمل الخبر عليه.
أما قوله: إنني أحمله على الإيمان الذي هو التصديق دون القول باللسان والفعل بالبدن فلا يصح أيضا لأنه قال: «أعلاها قول لا إله إلا الله» ، وإطلاق الأمر بالشهادتين في الشرع ينصرف إلى القول باللسان فلهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:«أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله» . (1)
وقوله: «إذا لقيتم عدوكم من المشركين فادعوهم إلى شهادة أن لا إله
(1) البخاري (13/ 311/7284و7285) ومسلم (1/ 51 - 52/ 20) وأبو داود (2/ 198/1556) والترمذي (5/ 5 - 6/ 2607) والنسائي (7/ 88/3980) من حديث أبي هريرة.
إلا الله» (1)، وغير ذلك، فإنه ينصرف إلى القول باللسان، كذلك ها هنا وعلى أن التصديق لا يتنوع والخبر يقتضي أقوالا وأفعالا متنوعة.
فإن قيل: فاختلاف العدد في هذه الأخبار يدل على أنها متناقضة.
قيل: أجاب أبو عبيد عن هذا في كتاب الإيمان فقال: نزول الفرائض بالإيمان متفرقا فكلما نزلت واحدة ألحق رسول الله عددها بالإيمان حتى جاوز ذلك سبعين خلة وليست هذه الزيادة بخلاف ما قبله إنما تلك دعائم وأصول، وهذه فروعها وزيادات في شعب الإيمان، فنرى -والله أعلم- إن هذا القول هو آخر ما وصف به رسول الله صلى الله عليه وسلم الإيمان لأن العدد تناها إليه وبه كملت خصاله والمصدق له قول الله تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (2) فروى طارق بن شهاب أن اليهود قالوا لعمر بن الخطاب رحمة الله عليه: إنكم لتقرؤون آية لو نزلت فينا لاتخذنا ذلك اليوم عيدا، فذكر هذه الآية فقال عمر: إني لأعلم حيث أنزلت وأي يوم أنزلت، أنزلت بعرفة ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف بعرفة (3).اهـ (4)
(1) أحمد (352) ومسلم (3/ 1356 - 1358/ 1731) وأبو داود (3/ 83 - 85/ 2613) والترمذي (4/ 138 - 139/ 1617) وابن ماجه (2/ 953 - 954/ 2858).
(2)
المائدة الآية (3).
(3)
البخاري (1/ 141/45) ومسلم (4/ 2312/3017) والترمذي (5/ 233/3043) وقال: "حسن صحيح". النسائي (5/ 277/3002).
(4)
(ص.151 - 184).