الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
موقفه من المرجئة:
- قال رحمه الله: مذهب جماعة أهل السنة من سلف الأمة وخلفها أن الإيمان قول وعمل، ويزيد وينقص، والحجة على زيادته ونقصانه ما أورده البخاري من كتاب الله من ذكر الزيادة في الإيمان وبيان ذلك أنه من لم تحصل له بذلك الزيادة، فإيمانه أنقص من إيمان من حصلت له.
فإن قيل: إن الإيمان في اللغة التصديق وبذلك نطق القرآن، قال الله تعالى:{وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17)} (1) أي: ما أنت بمصدق يعني: في إخبارهم عن أكل الذئب ليوسف فلا ينقص التصديق.
قال المهلب: فالجواب في ذلك أن التصديق وإن كان يسمى إيماناً في اللغة، فإن التصديق يكمل بالطاعات كلها، فما ازداد المؤمن من أعمال البر كان من كمال إيمانه، وبهذه الجملة يزيد الإيمان وبنقصانها ينقص.
ألا ترى قول عمر بن عبد العزيز أن للإيمان فرائض وشرائع وحدوداً وسنناً، فمن استكملها استكمل الإيمان، ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان، فمتى نقصت أعمال البر نقص كمال الإيمان، ومتى زادت زاد الإيمان كمالاً، هذا توسط القول في الإيمان.
وأما التصديق بالله وبرسله فلا ينقص؛ ولذلك توقف مالك في بعض الروايات عنه عن القول بالنقصان فيه، إذ لا يجوز نقصان التصديق؛ لأنه إن نقص صار شكا، وانتقل عن اسم الإيمان.
(1) يوسف الآية (17).
وقال بعض العلماء: إنما توقف مالك عن القول بنقصان الإيمان خشية أن يتأول عليه موافقة الخوارج الذين يكفرون أهل المعاصي من المؤمنين بالذنوب. وقد قال مالك بنقصان الإيمان مثل قول جماعة أهل السنة، ذكر أحمد بن خالد قال: حدثنا عبيد بن محمد بصنعاء قال: حدثنا مسلمة بن شبيب ومحمد بن يزيد قالا: سمعت عبد الرزاق يقول: سمعت من أدركت من شيوخنا وأصحابنا سفيان الثوري، ومالك بن أنس، وعبد الله بن عمر، والأوزاعي، ومعمر بن راشد، وابن جريج، وسفيان بن عيينة يقولون: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص. ومن غير رواية عبد الرزاق وهو قول ابن مسعود وحذيفة والنخعي.
وحكى الطبري: أنه قول الحسن البصري، وعطاء، وطاوس، ومجاهد، وعبد الله بن المبارك.
فإن قيل: قد تقدم من قولكم أن الإيمان في اللغة التصديق، وأنه لا ينقص، فكيف يكون الإيمان قولا وعملا؟
قيل: كذلك نقول: التصديق في نفسه لا ينقص إلا أنه لا يتم بغير عمل، إلا لرجل أسلم ثم مات في حين إسلامه قبل أن يدرك العمل فهذا معذور؛ لأنه لم يتوجه إليه فرض الأمر والنهي ولا لزمه. وأما من لزمه فرض الأمر والنهي فلا يتم تصديقه لقوله إلا بفعله.
قال الطبري: ألا ترى أن من وعد عدة ثم أنجز وعده وحقق بالفعل قوله، أنه يقال: صدق فلان قوله بفعله، فالتصديق يكون بالقلب وباللسان وبالجوارح، والمعنى الذي يستحق به العبد المدح والولاية من المؤمنين هو
إتيانه بهذه المعاني الثلاثة، وذلك أنه لا خلاف بين الجميع أنه لو أقر وعمل على غير علم منه ومعرفة بربه أنه لا يستحق اسم مؤمن، ولو عرفه وعمل وجحد بلسانه وكذب ما عرف من توحيد ربه أنه غير مستحق اسم مؤمن، وكذلك لو أقر بالله وبرسله ولم يعمل الفرائض لا يسمى مؤمنا بالإطلاق، وإن كان في كلام العرب قد يجوز أن يسمى بالتصديق مؤمنا فغير مستحق ذلك في حكم الله؛ لقوله تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} (1)، فأخبر تعالى أن المؤمن على الحقيقة من كانت هذه صفته، دون من قال ولم يعمل وضيع ما أمر به وفرط. (2)
- وقال أيضا: تفاضل المؤمنين في أعمالهم لا شك فيه، وأن الذي خرج من النار بما في قلبه من مقدار حبة من خردل من إيمان معلوم أنه كان ممن انتهك المحارم وارتكب الكبائر، ولم تفِ طاعته لله عند الموازنة بمعاصيه.
ومَن أطاع الله وقام بما وجب عليه وبرئ من مظالم العباد: فلا شك أن عمله أفضل من عمل الرجل المنتهك.
وقد مثَّل ذلك عليه السلام بالقمص التي كانت تبلغ الثدي، وبقميص
(1) الأنفال الآيات (2 - 4).
(2)
شرح صحيح البخاري لابن بطال (1/ 56 - 58).
عمر الذي كان يجرُّه (1). ومعلوم أن عمل عمر في إيمانه أفضل من عمل من بلغ قميصه ثدييه.
فإيمانه أفضل من إيمانه بما زاد عليه من العمل. وتأويله عليه السلام ذلك بالدين يدل أن الإيمان الواقع على العمل يُسمى ديناً، كالإيمان الواقع على القول.
وهذا يرد قول أهل البدع الذين يزعمون أن إيمان المذنبين كإيمان جبريل، وأنه لا تفاضل في الإيمان، وقولهم غلط لا يخفى؛ لأن الملائكة يسبحون الليل والنهار لا يفترون، وسائر الخلق يملُّون ويفترون.
فكيف يبلغ أحد منهم منزلتهم في العمل. وفي كتاب الله حجة لتفاضل المؤمنين في الإيمان؛ وذلك أن إبراهيم سأل ربه تعالى أن يريه كيف يحيي الموتى، فطلب المعاينة التي هي أعلى منازل العلم التي تسكن النفوس إليها، وتقع الطمأنينة بها، ولا يجوز أن نظن بإبراهيم خليل الله ونبيه أنه حين سأل المعاينة لم يكن مؤمناً، أو أنه اعترضه شك في إيمانه.
والدليل على صحة هذا قوله لربه حين قال له: {قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} (2)، فأوجب لنفسه الإيمان قبل أن يعاين ما طلب معاينته، وعَذَرَه الله تعالى في طلب ذلك؛ لأن المعاينة أشفى ويهجم على النفوس منها ما لا يهجم من الخبر.
ألا ترى أن موسى حين كلمه ربه لم يشك أن الله هو المتكلم له،
(1) أخرجه: أحمد (3/ 86) والبخاري (1/ 100/23) ومسلم (4/ 1859/2390) والترمذي (4/ 467 - 468/ 2268) والنسائي (8/ 467/5026) كلهم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(2)
البقرة الآية (260).