الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وابن ماكولا، وغيرهم كثير. وحدث عنه أبو بكر البرقاني وأبو الفضل بن خيرون والحميدي وخلق يطول ذكرهم. قال السلفي: سألت شجاعا الذهلي عن الخطيب، فقال: إمام مصنف حافظ، لم ندرك مثله. قال الذهبي: طلب هذا الشأن ورحل فيه إلى الأقاليم وبرع، وصنف وجمع وسارت بتصانيفه الركبان وتقدم في عامة فنون الحديث. وقال ابن السمعاني: كان إمام عصره بلا مدافعة، وحافظ وقته بلا منازعة، صنف قريبا من مائة مصنف، صارت عمدة لأهل الحديث. وقال: كان الخطيب مهيبا وقورا، ثقة متحريا، حجة حسن الخط، كثير الضبط، فصيحا، ختم به الحفاظ. وقال ابن ماكولا: كان أبو بكر الخطيب آخر الأعيان ممن شاهدناه معرفة وحفظا واتقانا وضبطا لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال أبو إسحاق الشيرازي الفقيه: أبو بكر الخطيب يشبه بالدارقطني ونظرائه في معرفة الحديث وحفظه. وقال مؤتمن الساجي: ما أخرجت بغداد بعد الدارقطني مثل الخطيب. توفي سنة ثلاث وستين وأربعمائة.
موقفه من المبتدعة:
- قال في مطلع كتابه 'شرف أصحاب الحديث': أما بعد، وفقكم الله لعمل الخيرات، وعصمنا وإياكم من اقتحام البدع والشبهات، فقد وقفنا على ما ذكرتم من عيب المبتدعة لأهل السنن والآثار، وطعنهم على من شغل نفسه بسماع الأحاديث وحفظ الأخبار، وتكذيبهم بصحيح ما نقله إلى الأمة الأئمة الصادقون، واستهزائهم بأهل الحق فيما وضعه عليهم الملحدون؛
{اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بهم وَيَمُدُّهُمْ في طغيانهم يَعْمَهُونَ (15)} (1). وليس ذلك عجيبا من متبعي الهوى ومن أضلهم الله عن سلوك سبيل الهدى.
ومن واضح شأنهم الدال على خذلانهم: صدوفهم عن النظر في أحكام القرآن، وتركهم الحجاج بآياته الواضحة البرهان، واطراحهم السنن من ورائهم، وتحكمهم في الدين بآرائهم. فالحدث منهوم بالغزل، وذو السن مفتون بالكلام والجدل، قد جعل دينه غرضا للخصومات، وأرسل نفسه في مراتع الهلكات، ومناه الشيطان دفع الحق بالشبهات، إن عرض عليه بعض كتب الأحكام المتعلقة بآثار نبينا عليه أفضل السلام، نبذها جانبا، وولى ذاهبا عن النظر فيها، يسخر من حاملها وراويها، معاندة منه للدين وطعنا على أئمة المسلمين. ثم هو يفتخر على العوام بذهاب عمره في درس الكلام، ويرى جميعهم ضالين سواه، ويعتقد أن ليس ينجو إلا إياه؛ لخروجه زعم عن حد التقليد وانتسابه إلى القول بالعدل والتوحيد؛ وتوحيده إذا اعتبر كان شركا وإلحادا؛ لأنه يجعل لله من خلقه شركاء وأندادا، وعدله عدول عن نهج الصواب الى خلاف محكم السنة والكتاب. وكم يرى البائس المسكين إذا ابتلي بحادثة في الدين يسعى إلى الفقيه يستفتيه ويعمل على ما يقوله ويرويه راجعا إلى التقليد بعد فراره منه، وملتزما حكمه بعد صدوفه عنه، وعسى أن يكون في حكم حادثته من الخلاف ما يحتاج إلى إنعام النظر فيه والاستكشاف، فكيف استحل التقليد بعد تحريمه، وهون الإثم فيه بعد
(1) البقرة الآية (15).
تعظيمه، ولقد كان رفضه ما لا ينفعه في الآخرة والأولى واشتغاله بأحكام الشريعة أحرى وأولى. (1)
التعليق:
انظر رحمك الله إلى هذا الإمام كيف صور حالة المبتدع الأخلاقية والنفسية، وما ثمن العلم الذي يحمله وما ثمن العلم الذي يجهله. علم يقود إلى الشرك والعياذ بالله، وجهل بالضروريات من أمور الدين. ومع هذه الفضائح، صاحبه يفتخر به على الأقران وكان الأولى به الخجل والتحسر والندم. وعلم لو مضى فيه قليلا من العمر لنور الله بصيرته فعرف به ربه ودينه والله المستعان.
- قال أبو بكر: ولو أن صاحب الرأي المذموم شغل نفسه بما ينفعه من العلوم، وطلب سنن رسول رب العالمين، واقتفى آثار الفقهاء والمحدثين، لوجد في ذلك ما يغنيه عما سواه، واكتفى بالأثر عن رأيه الذي رآه؛ لأن الحديث يشتمل على معرفة أصول التوحيد، وبيان ما جاء من وجوه الوعد والوعيد، وصفات رب العالمين، تعالى عن مقالات الملحدين، والإخبار عن صفات الجنة والنار، وما أعد الله تعالى فيهما للمتقين والفجار، وما خلق الله في الأرضين والسموات من صنوف العجائب وعظيم الآيات، وذكر الملائكة المقربين، ونعت الصافين والمسبحين. وفي الحديث قصص الأنبياء، وأخبار الزهاد والأولياء، ومواعظ البلغاء، وكلام الفقهاء، وسير ملوك العرب
(1) شرف أصحاب الحديث (3 - 5).
والعجم، وأقاصيص المتقدمين من الأمم، وشرح مغازي الرسول صلى الله عليه وسلم وسراياه وجمل أحكامه وقضاياه، وخطبه وعظاته، وأعلامه ومعجزاته، وعدة أزواجه وأولاده وأصهاره وأصحابه، وذكر فضائلهم ومآثرهم، وشرح أخبارهم ومناقبهم، ومبلغ أعمارهم، وبيان أنسابهم. وفيه تفسير القرآن العظيم، وما فيه من النبأ والذكر الحكيم، وأقاويل الصحابة في الأحكام المحفوظة عنهم، وتسمية من ذهب إلى قول كل واحد منهم من الأئمة الخالفين والفقهاء المجتهدين. وقد جعل الله تعالى أهله أركان الشريعة، وهدم بهم كل بدعة شنيعة، فهم أمناء الله من خليقته، والواسطة بين النبي صلى الله عليه وسلم وأمته، والمجتهدون في حفظ ملته، أنوارهم زاهرة، وفضائلهم سائرة، وآياتهم باهرة، ومذاهبهم ظاهرة، وحججهم قاهرة؛ وكل فئة تتحيز إلى هوى ترجع إليه، أو تستحسن رأيا تعكف عليه، سوى أصحاب الحديث، فإن الكتاب عدتهم، والسنة حجتهم، والرسول فئتهم، وإليه نسبتهم لا يعرجون على الأهواء، ولا يلتفتون إلى الآراء، يقبل منهم ما رووا عن الرسول، وهم المأمونون عليه والعدول، حفظة الدين وخزنته، وأوعية العلم وحملته.
إذا اختلف في حديث كان إليهم الرجوع، فما حكموا به، فهو المقبول المسموع. ومنهم كل عالم فقيه، وإمام رفيع نبيه، وزاهد في قبيلة، ومخصوص بفضيلة، وقارئ متقن، وخطيب محسن. وهم الجمهور العظيم، وسبيلهم السبيل المستقيم. وكل مبتدع باعتقادهم يتظاهر، وعلى الإفصاح بغير مذاهبهم لا يتجاسر. من كادهم قصمه الله، ومن عاندهم خذلهم الله. لا يضرهم من خذلهم، ولا يفلح من اعتزلهم. المحتاط لدينه إلى إرشادهم فقير، وبصر الناظر بالسوء إليهم
حسير {وإن اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39)} (1).اهـ (2)
- وقال: ولعمري إن السنن ووجوه الحق لتأتي كثيرا على خلاف الرأي، ومجانبته خلافا بعيدا، فما يجد المسلمون بدا من اتباعها والانقياد لها، ولمثل ذلك ورع أهل العلم والدين فكفهم عن الرأي، ودلهم على غوره وغورته،
…
ولكن السنن من الإسلام، بحيث جعلها الله، هي ملاك الدين وقيامه الذي بني عليه الإسلام، وأي قول أجسم وأعظم خطرا مما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع حين خطب الناس فقال:«وقد تركت فيكم أيها الناس ما إن اعتصتم به فلن تضلوا أبدا أمرا بينا: كتاب الله وسنة نبيه» (3). فقرن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما، وأيم الله إن كنا لنلتقط السنن من أهل الفقه والثقة، ونتعلمها شبيها بتعليمنا آي القرآن، وما برح من أدركنا من أهل الفضل والفقه من خيار الناس يعيبون أهل الجدل والتنقيب ومن (4) - أخذ بالرأي أشد العيب، وينهوننا عن لقائهم ومجالستهم، ويحذروننا مقاربتهم أشد التحذير، ويخبروننا أنهم أهل ضلال وتحريف، بتأويل كتاب الله وسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى كره المسائل وناحية التنقيب والبحث عن الأمور وزجر عن ذلك وحذره المسلمين في غير موطن حتى كان من قوله صلى الله عليه وسلم كراهية ذلك أن قال: «ذروني ما تركتكم، فإنما أهلك الذين من
(1) الحج الآية (39).
(2)
الشرف (7 - 9).
(3)
تقدم تخريجه ضمن مواقف أبي الزناد عبد الله بن ذكوان سنة (130هـ).
(4)
زيادة اقتضاها المعنى.
قبلكم سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم» (1). فأي أمر أكف لمن يعقل عن التنقيب من هذا؟.
ولم يبلغ الناس يوم قيل لهم هذا القول من الكشف عن الأمور جزءا من مائة جزء مما بلغوا اليوم، وهل هلك أهل الأهواء وخالفوا الحق إلا بأخذهم بالجدل، والتفكير في دينهم، فهم كل يوم على دين ضلال وشبهة جديدة لا يقيمون على دين، وإن أعجبهم إلا نقلهم الجدل والتفكير إلى دين سواه، ولو لزموا السنن وأمر المسلمين وتركوا الجدل لقطعوا عنهم الشك، وأخذوا بالأمر الذي حضهم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورضيه لهم، ولكنهم تكلفوا ما قد كفوا مؤنته وحملوا على عقولهم من النظر في أمر الله ما قصرت عنه عقولهم، وحق لها أن تقصر عنه وتحسر دونه، فهنالك تورطوا وأين ما أعطى الله العباد من العلم في قلته وزهادته مما تناولوا، قال الله تعالى:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)} (2)، وقد قص الله تعالى ما عير -أو غير هذه الكلمة- به موسى عليه السلام، من أمر الرجل الذي لقيه فقال:{فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آَتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65)} (3)،
فكان منه في خرقه السفينة، وقتله الغلام، وبنائه الجدار، ما قد قال الله تعالى
(1) تقدم تخريجه ضمن مواقف أبي الزناد سنة (130هـ).
(2)
الإسراء الآية (85).
(3)
الكهف الآية (65) ..