الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقال صاحب بن أحمد: كان ابن حزم أجمع أهل الأندلس قاطبة لعلوم الإسلام، وأوسعهم معرفة. ومع هذا، فقد أخطأ رحمه الله في غير ما مسألة في العقيدة حتى قال ابن عبد الهادي: ولكن تبين لي منه أنه جهمي جلد، لا يثبت معاني أسماء الله الحسنى إلا القليل، كالخالق والحق، وسائر الأسماء عنده لا يدل على معنى أصلا كالرحيم والعليم والقدير، بل العلم عنده هو القدرة، والقدرة هي العلم، وهما عين الذات. وقال ابن كثير: وكان مع هذا من أشد الناس تأويلا في باب الأصول وآيات الصفات وأحاديث الصفات.
وقال الذهبي رحمه الله: ولي أنا ميل إلى أبي محمد لمحبته في الحديث الصحيح، ومعرفته به، وإن كنت لا أوافقه في كثير مما يقوله في الرجال والعلل، والمسائل البشعة في الأصول والفروع، وأقطع بخطئه في غير ما مسألة، ولكن لا أكفره، ولا أضلله، وأرجو له العفو والمسامحة وللمسلمين.
قال أبو الخطاب بن دحية: كان ابن حزم قد برص من أكل اللبان وأصابه زمانة وعاش اثنتين وسبعين سنة إلا شهرا.
توفي ليومين بقيا من شعبان سنة ست وخمسين وأربعمائة.
موقفه من المبتدعة:
- قال ابن حزم: والواجب إذا اختلف الناس أو نازع واحد في مسألة ما أن يرجع إلى القرآن وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا إلى شيء غيرهما ولا يجوز الرجوع إلى عمل أهل المدينة ولا غيرهم.
برهان ذلك قول الله عزوجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ
وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ} (1) فصح أنه لا يحل الرد عند التنازع إلى شيء غير كلام الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وفي هذا تحريم الرجوع إلى قول أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن من رجع إلى قول إنسان دونه عليه السلام فقد خالف أمر الله تعالى بالرد إليه وإلى رسوله لا سيما مع تعليقه تعالى ذلك بقوله: {إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ} ولم يأمر الله تعالى بالرجوع إلى قول بعض المؤمنين دون جميعهم، وقد كان الخلفاء رضي الله عنهم كأبي بكر وعمر وعثمان بالمدينة وعمالهم باليمن ومكة وسائر البلاد وعمال عمر بالبصرة والكوفة ومصر والشام.
ومن الباطل المتيقن الممتنع الذي لا يمكن أن يكونوا رضي الله عنهم طووا علم الواجب والحلال والحرام عن سائر الأمصار واختصوا به أهل المدينة فهذه صفة سوء قد أعاذهم الله تعالى منها وقد عمل ملوك بني أمية بإسقاط بعض التكبير من الصلاة وبتقديم الخطبة على الصلاة في العيدين حتى فشا ذلك في الأرض فصح أنه لا حجة في عمل أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم. (2)
- وقال رحمه الله: ولا يحل لأحد أن يقلد أحدا لا حيا ولا ميتا وعلى كل أحد من الاجتهاد حسب طاقته، فمن سأل عن دينه فإنما يريد معرفة ما ألزمه الله عزوجل في هذا الدين، ففرض عليه إن كان أجهل البرية أن يسأل
(1) النساء الآية (59).
(2)
المحلى (1/ 55/99).
عن أعلم أهل موضعه بالدين الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا دل عليه سأله، فإذا أفتاه قال له: هكذا قال الله عزوجل ورسوله؟ فإن قال له نعم أخذ بذلك وعمل به أبدا، وإن قال له هذا رأيي أو هذا قياس أو هذا قول فلان وذكر له صاحبا (1) أو تابعا أو فقيها قديما أو حديثا أو سكت أو انتهره أو قال له لا أدري، فلا يحل له أن يأخذ بقوله ولكنه يسأل غيره.
برهان ذلك قول الله عزوجل: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (2) فلم يأمرنا عزوجل قط بطاعة بعض أولي الأمر، فمن قلد عالما أو جماعة علماء فلم يطع الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم ولا أولي الأمر، وإذا لم يرد إلى من ذكرنا فقد خالف أمر الله عزوجل ولم يأمر الله عزوجل قط بطاعة بعض أولي الأمر دون بعض.
فإن قيل: فإن الله عزوجل قال: {فسألوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43)} (3) وقال تعالى: {لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ} (4). قلنا: نعم ولم يأمر الله عزوجل أن يقبل من النافر للتفقه في الدين رأيه، ولا أن يطاع أهل الذكر في رأيهم ولا في دين يشرعونه لم يأذن به الله عزوجل وإنما أمر تعالى أن يسأل أهل الذكر عما يعلمونه في الذكر الوارد من عند الله تعالى فقط لا
(1) هذا مذهب ابن حزم في رد قول الصحابي، والراجح أن قول الصحابي حجة ما لم يخالف. انظر إعلام الموقعين (4/ 118 فما بعدها).
(2)
النساء الآية (59).
(3)
النحل الآية (43).
(4)
التوبة الآية (122).
عمن قاله من لا سمع له ولا طاعة، وإنما أمر الله تعالى بقبول نذارة النافر للتفقه في الدين فيما تفقه فيه من دين الله تعالى الذي أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم لا في دين لم يشرعه الله عزوجل، ومن ادعى وجود تقليد العامي للمفتي فقد ادعى الباطل وقال قولا لم يأت به قط نص قرآن ولا سنة ولا إجماع ولا قياس، وما كان هكذا فهو باطل لأنه قول بلا دليل، بل البرهان قد جاء بإبطاله، قال تعالى ذاما لقوم قالوا:{إنا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67)} (1) والاجتهاد إنما معناه بلوغ الجهد في طلب دين الله عزوجل الذي أوجبه على عباده، وبالضرورة يدري كل ذي حس سليم أن المسلم لا يكون مسلما إلا حتى يقر بأن الله تعالى إلهه لا إله غيره وأن محمدا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الدين إليه وإلى غيره، فإذ لا شك في هذا فكل سائل في الأرض عن نازلة في دينه فإنما يسأل عما حكم الله تعالى به في هذه النازلة، فإذ لا شك في هذا ففرض عليه أن يسأل إذا سمع فتيا: أهذا حكم الله وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم؟ وهذا لا يعجز عنه من يدري ما الاسلام ولو أنه كما جلب من قوقوا وبالله تعالى التوفيق. (2)
- وقال رحمه الله: والمجتهد المخطئ أفضل عند الله تعالى من المقلد المصيب، هذا في أهل الإسلام خاصة، وأما غير أهل الإسلام فلا عذر للمجتهد المستدل ولا للمقلد، وكلاهما هالك.
برهان هذا ما ذكرناه آنفا باسناده من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا اجتهد
(1) الأحزاب الآية (67).
(2)
المحلى (1/ 66 - 67/ 103).
الحاكم فأخطأ فله أجر» (1) وذم الله التقليد جملة، فالمقلد عاص والمجتهد مأجور، وليس من اتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم مقلدا لأنه فعل ما أمره الله تعالى به، وإنما المقلد من اتبع من دون رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه فعل ما لم يأمره الله تعالى به، وأما غير أهل الإسلام فإن الله تعالى يقول:{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)} (2).اهـ (3)
- وقال رحمه الله: والحق من الأقوال في واحد منها وسائرها خطأ. وبالله تعالى التوفيق.
قال الله تعالى: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ} (4)، وقال تعالى:{ولو كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)} (5) وذم الله الاختلاف فقال: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا} (6) وقال تعالى: {ولا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا} (7) وقال تعالى: {تبياناً لِكُلِّ شَيْءٍ} (8) فصح أن الحق
(1) أخرجه: أحمد (4/ 204 - 205) والبخاري (13/ 393/7352) ومسلم (3/ 1342/1716) وأبو داود (4/ 6 - 7/ 3574) والترمذي (3/ 615/1326) وابن ماجه (2/ 772/2314).
(2)
آل عمران الآية (85).
(3)
المحلى (1/ 69 - 70/ 108).
(4)
يونس الآية (32).
(5)
النساء الآية (82).
(6)
آل عمران الآية (105).
(7)
الأنفال الآية (46).
(8)
النحل الآية (89).
في الأقوال ما حكم الله تعالى به فيه، وهو واحد لا يختلف، وأن الخطأ ما لم يكن من عند الله عزوجل. ومن ادعى أن الأقوال كلها حق وأن كل مجتهد مصيب فقد قال قولا لم يأت به قرآن ولا سنة ولا اجماع ولا معقول، وما كان هكذا فهو باطل، ويبطله أيضا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر» فنص عليه الصلاة والسلام أن المجتهد قد يخطئ، ومن قال: إن الناس لم يكلفوا إلا اجتهادهم فقد أخطأ، بل ما كلفوا إلا إصابة ما أمر الله به قال الله عزوجل:{اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} (1) فافترض عزوجل اتباع ما أنزل الينا وأن لا نتبع غيره وأن لا نتعدى حدوده، وإنما أجر المجتهد المخطئ أجرا واحدا على نيته في طلب الحق فقط، ولم يأثم إذا حرم الإصابة، فلو أصاب الحق أجر أجرا آخر كما قال عليه السلام:«إنه إذا أصاب أجر أجرا ثانيا» .
حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد أخبرنا ابراهيم بن أحمد الفربري حدثنا البخاري حدثنا عبد الله بن يزيد المقرئ حدثنا حيوة بن شريح حدثنا يزيد بن عبد الله بن الهاد عن محمد بن ابراهيم بن الحرث عن بسر بن سعيد عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص عن عمرو بن العاص انه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم فأصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر» . ولا يحل الحكم بالظن أصلا لقول الله تعالى: {إِنْ
(1) الأعراف الآية (3).
يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28)} (1) ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث» (2) وبالله تعالى التوفيق. (3)
- ومن شعره يصف ما أحرق له من كتبه ابن عباد قوله:
فإن تَحْرِقوا القِرْطَاس لا تحرقوا الذي
…
تضمنه القرطاس بل هو في صدري
يسير معي حيث استقلت ركائبي
…
وينزل إن أنزل ويدفن في قبري
دعوني من إحراق رَقّ وكاغد
…
وقولوا بعلم كي يرى الناس من يدري
وإلا فعودوا في المكاتب بدأة
…
فكم دون ما تبغون لله من ستر
كذاك النصارى يحرقون إذا علت
…
أكفهم القرآن في مدن الثغر (4)
- وقال:
أشهد الله والملائكة أني
…
لا أرى الرأي والمقاييس دينا
حاش لله أن أقول سوى ما
…
جاء في النص والهدى مستبينا
كيف يخفى على البصائر هذا
…
وهو كالشمس شهرة ويقينا (5)
فقال الذهبي مجيبا له:
(1) النجم الآية (28).
(2)
أخرجه من حديث أبي هريرة: أحمد (4/ 312) والبخاري (9/ 248/5143) ومسلم (4/ 1985/2563) وأبو داود (5/ 216 - 217/ 4917) والترمذي (4/ 313/1988).
(3)
المحلى (1/ 70 - 71/ 109).
(4)
السير (18/ 205).
(5)
السير (18/ 205 - 206).