الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتاب المفلس
يجوز لأهل الدين أن يأخذوا جميع ما يجدونه معه إلا ما كان لا يستغني عنه وهو المنزل وستر العورة وما يقيه البرد ويسد رمقه ومن يعول ومن وجد ماله عنده بعينه فهو أحق به وإذا نقص مال المفلس عن الوفاء بجميع دينه كان الموجود أسوة الغرماء وإذا تبين إفلاسه فلا يجوز حبسه وليُّ الواجد ظلم يحل عرضه وعقوبته ويجوز للحاكم أن يحجره عن التصرف في ماله ويبيعه لقضاء دينه وكذا يجوز له الحجر على المبذر ومن لا يحسن التصرف ولا يمكن اليتيم من التصرف في ماله حتى يؤنس منه الرشد ويجوز لوليه أن يأكل من ماله بالمعروف.
أقول: أما كونه يجوز لأهل الدين أن يأخذوا جميع ما يجدونه مع مفلس فلحديث أبي سعيد عند مسلم رحمه الله وغيره قال: أصيب رجل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثمار ابتاعها فكثر دينه فقال: "تصدقوا عليه" فلم يبلغ ذلك وفاء دينه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لغرمائه: "خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك" وأخرج الدارقطني والبيهقي والحاكم وصححه من حديث كعب بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم حجر على معاذ ماله وباعه في دين كان عليه وأخرج سعيد ابن منصور وأبو داود وعبد الرزاق من حديث عبد الرحمن بن كعب بن مالك مرسلا قال: كان معاذ بن جبل شابا سخيا وكان لا يمسك شيئا فلم يزل يدان حتى أغرق ماله كله في الدين فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فكلمه ليكلم غرماءه فلو تركوا لأحد لتركوا لمعاذ لأجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فباع رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم ماله حتى قام معاذ بغير شيء" قال عبد الحق: المرسل أصح وقال ابن الطلاع في الأحكام هو حديث ثابت فأفاد ما ذكرناه أن أهل الدين يأخذون جميع ما يجدونه مع المفلس لكنه لم يثبت أنهم أخذوا ثيابه التي عليه أو أخرجوه من منزله أو تركوه هو ومن يعول لا يجدون ما لا بد لهم منه ولهذا ذكرنا أنه يستثنى له ذلك.
وأما كون من وجد ماله عند مفلس فهو أحق به فلحديث الحسن عن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من وجد متاعه عند مفلس بعينه فهو أحق به وأخرجه أحمد وأبو داود وقال: ابن حجر في الفتح إسناده حسن ولكن سماع الحسن عن سمرة فيه مقال معروف وقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أدرك ماله بعينه عند رجل أفلس أو إنسان قد أفلس فهو أحق به من غيره" وفي لفظ لمسلم رحمه الله أنه صلى الله عليه وسلم قال: في الرجل الذي يعدم إذا وجد عنده المتاع ولم يفرقه أنه لصاحبه الذي باعه وفي لفظ لأحمد "أيما رجل أفلس فوجد رجل عنده ماله ولم يكن اقتضى من ماله شيئا فهو له" وأخرج الشافعي وأبو داود وابن ماجه والحاكم وصححه عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: في مفلس أتوه به لأقضين فيكم بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم من أفلس أو مات فوجد الرجل متاعه بعينه فهو أحق به وأخرج مالك في الموطأ وأبو داود من حديث أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام مرسلا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أيما رجل باع متاعا فأفلس الذي ابتاعه ولم يقبض الذي باع من ثمنه شيئا فوجد متاعه بعينه فهو أحق به وإن مات المشتري فصاحب المتاع أسوة الغرماء" وقد وصله أبو داود فقال: عن أبي هرير ة وفي إسناده إسماعيل بن عياش ولكنه ههنا روى عن الحديث الزبيدي وهو شامي وهو قوى في الشاميين وقد ذهب إلى أن البائع أولى بعين ماله الموجود عند المفلس الجمهور وخالفت في ذلك الحنفية فقالوا: لا يكون أولى به والحديث يرد عليهم وقد ذهب الجمهور أيضا إلى أن المشترى إذا كان قد قضى بعض الثمن لم يكن البائع أولى بما لم يسلم المشتري ثمنه بل يكون أسوة الغرماء كما أفاده ما تقدم في الرواية من قوله: ولم يكن اقتضى من ماله شيئا وقال: الشافعي والهدوية أن البائع أولى به وهكذا إذا مات المشترى والسلعة قائمة فذهب مالك وأحمد إلى أنها تكون أسوة الغرماء وقال: الشافعي: البائع أولى بها.
وأما كونه إذ نقص مال المفلس كان الموجود أسوة الغرماء فذلك هو
العدل لأن الديون اللا زمة مستوية في استحقاق قضائها من مال المفلس وليس بعضها بأولى به من بعض إلا لمخصص ولا مخصص هنا وقد أشار إلى هذا ما تقدم في الرواية من قوله: "فصاحب المتاع أسوة الغرماء".
وأما كونه لا يجوز حبس المفلس إذا تبين إفلاسه فلأنه خلاف حكم الله سبحانه قال الله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة:280] ولمفهوم قوله: صلى الله عليه وسلم: "لي الواجد ظلم" وهو حديث صحيح قد تقدم في الباب الذي قبل هذا والمفلس ليس بواجد فلا يحل عرضه ولا عقوبته وأما إذا لم يتبين إفلاسه ولا كونه واجدا فهذا هو محل اللبس والواجب البحث عن حاله بحسب الإمكان حتى يتبين كونه واجدا فيعاقب بالحبس ونحوه كما دل عليه حديث "مطل الغني ظلم يحل عرضه وعقوبته" وفي لفظ "ليُّ الواجد ظلم" والكل في الصحيح أو يتبين كونه غير واجد فينظر إلى ميسرة وأما حبس من تبين إفلاسه فلا يجوز بوجه فإنه ظلم بحت.
وأما كونه يجوز للحاكم أن يحجر المفلس عن التصرف في ماله فلحجره صلى الله عليه وسلم على معاذ كما تقدم وكذا بيع الحاكم مال المفلس لقضاء دينه كما فعله صلى الله عليه وسلم في مال ومعاذ.
وأما جواز الحجر على المبذر ومن لا يحسن التصرف فلقوله تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء:5] قال: في الكشاف السفاء المبذرون أموالهم الذين ينفقونها فيما لا ينبغي ولا لهم بإصلاحها وتثميرها والتصرف فيها والخطاب للأولياء وأضاف الأموال إليهم لأنها من جنس ما يقوم به الناس معايشهم كما قال: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء:29]{فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء:25] والدليل على أنه خطاب للأولياء في أموال اليتامى قوله: {وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ} [النساء:5] ومما يدل على عدم إنكاره صلى الله عليه وسلم على قرابة حسان لما سألوه أن يحجر عليه إن صح ذلك ويدل ذلك رده صلى الله عليه وسلم لبيضة التي تصدق بها من لا مال له كما أخرجه أبو داود وصححه ابن خزيمة من حديث جابر وكذلك رده صلى الله عليه وسلم.
صدقة الرجل الذي تصدق بأحد ثوبيه كما أخرجه أهل السنن وصححه الترمذي وابن حبان من حديث أبي سعيد وكذلك رده صلى الله عليه وسلم عتق من أعتق عبدا له عن دبر ولا مال له غيره كما أشار إلى ذلك البخاري وترجم عليه باب من رد أمر السفيه والضعيف العقل وإن لم يكن حجر عليه الإمام وأخرج الشافعي في مسنده والبيهقي عن عروة بن الزبير قال: ابتاع عبد الله بن جعفر بيعا فقال: علي رضي الله عنه لآتين عثمان فلأحجرن عليه فأعلم ذلك ابن جعفر الزبير فقال: أنا شريكك في بيعك فأتى عثمان رضي الله عنه فقال: احجر على هذا فقال: الزبير أنا شريكه فقال: عثمان أأحجر على رجل شريكه الزبير ففي هذه القصة دليل على أن الحجر كان عندهم أمرا معروفا ثابتا في الشريعة ولولا ذلك لأنكره بعض من اطلع على هذه القصة ولكان الجواب من عثمان على علي بان هذا غير جائز وكذلك الزبير وعبد الله بن جعفر لو كان مثل هذا الأمر غير جائز لكان لهما عن تلك الشركة مندوحة وقد ذهب إلى جواز الحجر على السفيه الجمهور.
وأما كونه لا يمكن اليتيم من ماله حتى يؤنس منه الرشد فلقوله تعالى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً} [النساء:6] الآية.
وأما كونه يجوز لولي أن يأكل من مال اليتيم بالمعروف فلقوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:6] ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف وقد ثبت في الصحيحين عن عائشة أنها قالت: نزلت هذه الآية في ولي اليتيم إذا كان فقيرا أنه يأكل منه بالمعروف وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث عمرو ابن شعيب عن أبي عن جده أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني فقير وليس لي شيء ولي يتيم فقال: "كل من مال يتيمك غير مسرف ولا مبادر ولا متأثل" والمراد بقوله: "ولا مبادر" ما في قوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَنْ يَكْبَرُوا} [النساء:6] أي مسرفين ومبادرين كبر الأيتام فهذه الآية والحديث مخصصان لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} [النساء:10] .