الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتاب القضاء
إنما يصح قضاء من كان مجتهدا متورعا من أموال الناس عادلا في القضية حاكما بالسوية ويحرم عليه الحرص على القضاء وطلبه ولا يحل للإمام تولية من كان كذلك ومن كان متأهلا للقضاء فهو على خطر عظيم وله مع الإصابة أجران ومع الخطأ أجر إن لم يأل جهدا في البحث وتحرم عليه الرشوة والهدية التي أهديت إليه لأجل كونه قاضيا ولا يجوز له الحكم حال الغضب وعليه التسوية بين الخصمين إلا إذا كان أحدهما كافرا والسماع منهما قبل القضاء وتسهيل الحجاب بحسب الإمكان ويجوز له اتخاذ الأعوان مع الحاجة والشفاعة والاستيضاع والإرشاد إلى الصلح وحكمه ينفذ ظاهرا فقط، فمن قضي له بشيء فلا يحل له إلا إذا كان الحكم مطابقا للواقع.
أقول: أما كون إنما يصح قضاء من كان مجتهدا فلما في الكتاب العزيز من الأمر بالقضاء بالعدل والقسط وبما أراه الله ولا يعرف العدل إلا من كان عارفا بما في الكتاب والسنة من الأحكام ولا يعرف ذلك إلا المجتهد لأن المقلد إنما يعرف قول إمامه دون حجته وهكذا لا يحكم بما أراه الله إلا من كان مجتهدا لا من كان مقلدا فما أراه الله شيئا بل أراه إمامه ما يختاره لنفسه وممايدل على اعتبار الإجتهاد حديث بريدة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "القضاة ثلاثة واحد في الجنة واثنان في النار فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به ورجل عرف الحق وجار في الحكم فهو في النار ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار" أخرجه ابن ماجه وأبو داود والنسائي والترمذي والحاكم وصححه وقد جمع ابن حجر طرقة في جزء مفرد وجه الدلالة منه أنه لا يعرف الحق إلا من كان مجتهدا وأما المقلد فهو يحكم بما قال: إمامه ولا يدري أحق هو أم باطل فهو القاضي الذي قضى للناس على جهل وهو أحد قاضيي النار ومن الأدلة على اشتراط الاجتهاد قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ
هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] و {الظَّالِمُونَ} و {الْفَاسِقُونَ} ولا يحكم بما أنزل الله إلا من يعرف التنزيل والتأويل ومما يدل على ذلك حديث معاذ لما بعثه صلى الله عليه وسلم إلى اليمن فقال: له بم تقضي؟ قال: بكتاب الله قال: "فإن لم تجد" قال: فبسنة رسول الله قال: "فإن لم تجد"؟ قال: فبرأيي وهو حديث مشهور قد بينت طرقه ومن أخرجه في بحث مستقل ومعلوم أن المقلد لا يعرف كتابا ولا سنة ولا رأى له بل لا يدري بأن لحكم موجود في الكتاب أو السنة فيقضي به أو ليس بموجود فيجتهد رأيه فإذا ادعى المقلد أنه حكم برأيه فهو يعلم أنه يكذب على نفسه لاعترافه بأنه لا يعرف كتابا ولا سنة فإذا زعم أنه حكم برأيه فقد أقر على نفسه أنه حكم بالطاغوت.
وأما اعتبار كونه متورعا عن أموال الناس عادلا في القضية حاكما بالسوية فلكون من لم يتورع عن أموال الناس لا يتورع عن الرشوة وهي تحول بينه وبين الحق كما سيأتى وهكذا من لم يكن عادلا لجرأة فيه أو مداهنة أو محاباة فهو يترك الحق وهو يعلم به فهو أحد قضاة النار لأنه عرف الحق وجار في الحكم.
وأما كونه يحرم عليه الحرص على القضاء وطلبه فلحديث عبد الرحمن ابن سمرة في الصحيحين وغيرهما قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم يا عبد الرحمن ابن سمرة: "لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها وإن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها".
وأخرج أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي وحسنة من حديث أنس رضي الله عن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سأل القضاء وكل إلى نفسه ومن جبر عليه ينزل ملك عليه يسدده"
وأخرج البخاري وغيره من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنكم ستحرصون على الإمارة وستكون ندامة يوم القيامة فنعم المرضعة وبئست الفاطمة" ولا ينافي هذه الأحاديث ما أخرجه أبو داود بإسناد لا مطعن فيه من
حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من طلب قضاء المسلمين حتى يناله ثم غلب عدله جوره فله الجنة ومن غلب جوره عدله فله النار" لأن إثم الطلب قد لزمه بالطلب وحصل له الثواب بعد ذلك بالعدل الغالب على الجور
وأما كونه لا يحل للإمام تولى من كان حريصا على القضاء أو طالبا له فلحديث أبي موسى في الصحيحين قال: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم أنا ورجلان من بني عمي فقال: أحدهما يا رسول الله أمرنا على بعض ما ولاك الله عز وجل وقال: الآخر مثل ذلك فقال: "إنا والله لا نولي هذا العمل أحدا يسأله أو أحدا يحرص عليه"
وأما كون من كان متأهلا للقضاء فهو على خطر عظيم فلحديث أبي هريرة عند أحمد وابن ماجه والترمذي والحاكم والبيهقي والدارقطني وحسنه الترمذي وصححه ابن خزيمة وابن حبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من جعل قاضيا بين الناس فقد ذبح بغير سكين" وأخرج أحمد وابن ماجه والبيهقي من حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من حاكم يحكم بين الناس إلا حبس يوم القيامة وملك آخذ بقفاه حتى يقف به على جهنم ثم يرفع رأسه إلى الله عز وجل فإن قال: ألقه ألقاه في مهوى فهوى أربعين خريفا" وفي إسناده عثمان بن محمد الأخنس وفيه مقال: وأخرج ابن ماجه والترمذي وحسنة الحاكم في المستدرك والبيهقي وابن حبان من حديث عبد الله بن أبي أوفى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله مع القاضي ما لم يجر فإذا جار وكله إلى نفسه" وفي لفظ للترمذي "تخلى عنه ولزمه الشيطان" وفي الباب أحاديث مشتملة على الترغيب وقد استوفيت ذلك في شرح المنتقى.
وأما كون له مع الإصابة أجران ومع الخطأ أجر إن لم يأل جهدا في البحث فلحديث عمرو بن العاص الثابت في الصحيحين وغيرهما عنه صلى الله عليه وسلم: "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإن اجتهد فأخطأ فله أجر" وقد ورد في روايات أنه إذا أصاب فله عشرة أجور.
وأما كونه يخرم عليه الرشوة والهدية التي أهديت إليه لأجل كونه قاضيا.
فلحديث أبي هريرة عند أحمد والترمذي وحسنه وابن حبان وصححه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لعنة الله على الراشي والمرتشي في الحكم" وأخرج أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي وصححه وابن حبان والطبراني والدارقطني من حديث عبد الله ابن عمرو كحديث أبي هريرة وأخرج أحمد والحاكم من حديث ثوبان قال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي والرائش يعنى الذي يمشي بينهما" وفي إسنادهما ليث بن أبي سليم قال: البزار إنه تفرد به وفي إسناده أيضا أبو الخطاب قيل وهو مجهول وفي الباب عن عبد الرحمن بن عوف عند الحاكم وعن عائشة وأم سلمة أشار إليها الترمذي وقد أجمع أهل العلم على تحريم الرشوة وقد استدل على تحريم الرشوة بقوله تعالى: {أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} [المائدة:42] كما روى عن الحسن وسعيد بن جبير أنهما فسرا الآية بذلك وحكي عن مسروق عن ابن مسعود أنه لما سئل عن السحت أهو الرشوة؟ فقال: لا ومن لا يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون والظالمون والفاسقون ولكن السحت أن يستعينك الرجل على مظلمة فيهدي لك فإن أهدي لك فلا تقبل وقد سبق حديث في هذا المعنى في كتاب الهدايا ويدل على تحريم الهدية التي أهديت للقاضي لأجل كونه قاضيا حديث "هدايا الأمراء غلول" أخرجه البيهقي وابن عدى من حديث ابن أبي حميد قال ابن حجر: وإسناده ضعيف ولعل وجه الضعف أنه من رواية إسماعيل بن عياش عن أهل الحجاز وأخرجه الطبراني في الأوسط من حديث أبي هريرة قال: ابن حجر وإسناده أشد ضعفا وأخرجه سنيد بن داود في تفسيره من حديث جابر وفي إسناده إسماعيل ابن مسلم وهو ضعيف أيضا وأخرجه الخطيب في تلخيص التشابه من حديث أنس بلفظ "هدايا العمال سحت" وأخرج أبو داود من حديث بريدة عن النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ "من استعلمناه على عمل فرزقناه رزقا فما أخذه بعد ذلك فهو غلول" وقد بوب البخاري من أبواب القضاء باب هدايا العمال وذكر حديث ابن اللتبية المشهور ومما يؤيد ذلك أن الهدية للقاضي لأجل كونه قاضيا نوع من الرشوة عاجلا أو آجلا.
وأما كونه لا يجوز له الحكم في حال الغضب فلحديث أبي بكرة في الصحيحين وغيرهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يقضين حاكم بين اثنين وهو غضبان" ولا يعارض هذا حديث عبد الله بن الزبير عن أبيه في الصحيحين وغيرهما أنه اختصم هو وأنصاري فقال: النبي صلى الله عليه وسلم للزبير اسق يا زبير ثم ارسل الماء إلى أخيك فغضب الأنصاري ثم قال: يا رسول الله أن كان ابن عمتك فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر لأن النبي صلى الله عليه وسلم معصوم في غضبه ورضاه بخلاف غيره فإن الغضب يحول بينه وبين الحق وظاهر النهي التحريم وقد ذهب الجمهور إلى أنه يصح حكم الغضبان إن وافق الحق.
وأما كونها تجب عليه التسوية إلا إذا كان أحدهما كافرا فلحديث علي عند أبي أحمد الحاكم في الكنى أنه جلس بجنب شريح في خصومة له مع يهودي فقال: لو كان خصمي مسلما جلست معه بين يديك ولكنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تساووهم في المجالس" وقد قال: أبو أحمد الحاكم بعد إخراجه أنه منكر وأورده ابن الجوزي في العلل من هذا الوجه وقال: لا يصح ورواه البيهقي من وجه آخر من طرق جابر الجعفي عن الشعبي قال: خرج على السوق فإذا هو بنصراني يبيع درعا فعرف علي الدرع وذكر الحديث وفي إسناده عمرو بن سمرة عن جابر الجعفي وهما ضعيفان وأخرج أحمد وأبو داود والبيهقي والحاكم وصححه من حديث عبد الله بن الزبير قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الخصمين يقعدان بين يدي الحاكم وفي إسناده مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير وهو ضعيف.
وأما كونه يجب السماع منهما قبل القضاء فلحديث علي عند أحمد وأبي داود والترمذي وحسنة وابن حبان وصححه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يا علي إذا جلس إليك الخصمان فلا تقض بينهما حتى تسمع من الآخر كما سمعت من الأول فإنك إذا فعلت ذلك تبين لك القضاء" وللحديث طرق.
وأما كونه يجب عليه تسهيل الحجاب بحسب الإمكان فلحديث عمرو بن مرة عند أحمد والترمذي والحاكم والبزار قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من إمام أو وال يغلق بابه دون ذوي الحاجة والخلة والمسكنة إلا أغلق الله باب السماء دون خلته وحاجته ومسكنته" وأخرج أبو داود والترمذي من حديث ابن مريم الأزدي مرفوعا بلفظ "من تولى شيئا من أمر المسلمين فاحتجب عن حاجتهم وفقرهم احتجب الله عنه دون حاجته" قال: ابن حجر في الفتح أن إسناده جيد وأخرج الطبراني من حديث ابن عباس بلفظ "أيما أمير احتجب عن الناس فأهملهم احتجب الله عنه يوم القيامة" قال ابن أبي حاتم: وهو حديث منكر وإنما قلنا بحسب الإمكان لأن لنفسه عليه حقا ولأهله عليه حقا فلا يلزمه استيعاب كل أوقاته فإن ذلك يكدر ذهنه ويشوش فهمه ولا يحتجب كل أوقاته فإن ذلك ظلم لأهل الخصومات وقد ثبت في الصحيح من حديث أبي موسى أنه كان بوابا للنبي صلى الله عليه وسلم لما جلس على قف البئر وثبت في الصحيح أيضا في قصة حلفه أن لا يدخل على نسائه شهرا أن عمر استأذن له الأسود لما قال: يا رباح استأذن لي وقد ثبت في الصحيح أيضا أنه كان لعمر حاجب يقال: له يرفا-.
وأما كونه يجوز له اتخاذ الأعوان مع الحاجة فلما ثبت في البخاري من حديث أنس أن قيس بن سعد كان يكون بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنزلة صاحب الشرطة من الأمير وقد يجب عليه ذلك إذا كان لا يمكنه إنفاذ الحق ودفع الباطل إلا بهم.
وأما كونه يجوز للحاكم الشفاعة والاستيضاع والإرشاد إلى الصلح فلحديث كعب بن مالك في الصحيحين وغيرهما أنه تقاضى ابن أبي حدرد دينا كان عليه في المسجد فارتفعت أصواتهما حتى سمعهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيته فخرج إليهما حتى كشف سجف حجرته فنادى " يا كعب قال: لبيك يا رسول الله قال: ضع من دينك هذا وأومأ إليه أي الشطر قال: قد فعلت يا رسول الله قال: قم فاقضه" وهذا الحديث فيه دليل على ما ذكرناه من الشفاعة والإستيضاع
والإرشاد إلى الصلح أيضا وقد سبق في كتاب الصلح ما يدل على مشروعيته من الكتاب والسنه والقاضي داخل في عموم الأدلة.
وأما كون حكمه ينفذ ظاهرا فقط إلخ فلحديث أم سلمة في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إنما أنا بشر وأنتم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي بنحو ما أسمع فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار وقد حكى الشافعي الإجماع على أن حكم الحاكم لا يحلل الحرام قال: النووي والقول بأن حكم الحاكم لا يحلل ظاهرا وباطنا مخالف لهذا الحديث الصحيح وللإجماع المذكور وبالجملة فلا وجه لما ذهبت إليه الحنفية من أن حكم الحاكم ينفذ ظاهرا وباطنا ويحلل الحرام وقد جاء في هذا المقام بما لا ينفق على من في العلم قدم.