الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتاب الخصومة
على المدعى البينة وعلى المنكر اليمين ويحكم الحاكم بالإقرار وبشهادة رجلين أو رجل وامرأتين أو رجل ويمين المدعي وبيمين المنكر وبيمين الرد وبعلمه ولا يقبل شهادة من ليس بعدل ولا الخائن ولا ذي العداوة والمتهم والقانع لأهل البيت والقاذف ولا بدوى على صاحب قرية وتجوز شهادة من يشهد على تقرير فعله أو قوله: إذا انتفت التهمة وشهادة الزور من أكبر الكبائر وإذا تعارض البينتان ولم يوجد وجه ترجيح قسم المدعى وإذا لم يكن للمدعي بينة فليس له إلا يمين صاحبه ولو كان فاجرا ولا تقبل البينة بعد اليمين ومن أقر بشيء عاقلا بالغا غير هازل ولا بمحال عقلا أو عادة لزمه ما أقر به كائنا ما كان ويكفى مرة واحدة من غير فرق بين موجبات الحدود وغيرهما كما سيأتي.
أقول: أما كون على المدعى البينة فلقوله صلى الله عليه وسلم: " شاهداك أو يمينه" كما في الصحيحين من حديث الأشعث بن قيس وأخرج مسلم رحمه الله تعالى من حديث وائل بن حجر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: للكندي "ألك بينة"؟ قال: لا قال: "فلك يمينه".
وأما كون على المنكر اليمين فلحديث ابن عباس في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى باليمين على المدعى عليه وأخرجه البيهقي بإسناد صحيح بلفظ البينة على المدعى واليمين على من أنكر وأخرج ابن حبان من حديث ابن عمر نحوه وأخرج الترمذي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده نحوه وقد ذهب إلى ذلك الجمهور وروى عن مالك أنها لا تتوجه اليمين إلا على من بينه وبين المدعي اختلاط لئلا يبتذل أهل السفه الفضل وهو رد للرواية بمحض الرأي.
وأما كونه يحكم الحاكم بالإقرار فليس في ذلك خلاف وهو أقوى مستندات
الحكم إذا لم يكن معلوم البطلان ولزوم المقر لما أقر به وجواز الحكم للحاكم بإقراره لا يحتاج إلى إيراد الأدلة عليه فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يسفك به الدماء ويقيم الحدود ويقطع الأموال بل اكتفى به في أعظم الأمور وهو الرجم كما وقع من المقر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في حديث "واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها" وهو في الصحيح كما سيأتي فكيف بالإقرار فيما هو أخف من الرجم.
وأما الحكم بشهادة رجلين أو رجل وامرأتين فهو نص القرآن الكريم وليس في ذلك خلاف إذا كان الشهود مرضيين كما قال: تعالى {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة:282] .
وأما الحكم بشهادة رجل ويمين المدعى فلحديث ابن عباس عند مسلم رحمه الله وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بيمين وشهادة وأخرج أحمد وابن ماجه والترمذي والبيهقي من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى باليمين مع الشاهد وهو من حديث جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر وقد روى من حديث جعفر بن محمد عن أبيه عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بشهادة شاهد واحد ويمين صاحب الحق أخرجه أحمد والدارقطني وقد صحح حديث جابر أبو عوانة وابن خزيمة وأخرج أبو داود وابن ماجه والترمذي من حديث أبي هريرة قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم باليمين مع الشاهد الواحد ورجال إسناده ثقات وصححه أبو حاتم وأبو زرعه وأخرج ابن ماجه وأحمد من حديث سرق ورجاله رجال الصحيح إلا الراوي عن سرق فإنه مجهول وقد ذكر ابن الجوزي في التحقيق عدد من روى هذا الحديث أعني حكمه صلى الله عليه وسلم بالشاهد واليمين من الصحابة فزاد على عشرين صحابيا وإليه ذهب الجمهور من الصحابة فمن بعدهم ويروى عن زيد ابن علي والزهري والنخعي وابن شبرمة والحنفية أنه لا يجوز الحكم بشاهد ويمين وأحاديث الباب ترد عليهم.
وأما كونه يجوز الحكم بيمين المنكر فلما قدمناه من أن اليمين على المنكر،
وقد ثبت في مسلم من حديث وائل ابن حجر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: للكندي "ألك بينة" قال: لا قال: "فلك يمينه" فقال: يا رسول الله الرجل فاجر لا يبالي على ما حلف عليه وليس يتورع من شيء فقال: "ليس لك منه إلا ذلك".
وأما كونه يجوز الحكم بيمين الرد فلأن من عليه الحق قد رضي بها سواء قلنا أنها تجب على المدعي عند ردها من المنكر أم لا وقد استدل من لم يجعلها مستندا بمفهوم الحصر في قوله صلى الله عليه وسلم: "ولكن اليمين على المدعى عليه" كما في بعض ألفاظ حديث ابن عباس عند مسلم وغيره ولقوله في حديث وائل: "ليس لك منه إلا ذلك" ولكن هذا إنما يفيد أنها لا تجب على المدعي إذا ردها المنكر وأما أنه يفيد عدم جواز الحكم بيمين الرد إذا طلبها المنكر ورضي بها وقبل ذلك المدعي فحلف فلا. وأما ما رواه الدارقطني والحاكم والبيهقي من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم رد اليمين على طالب الحق فلو صح لكان صالحا لتخصيص ما تقدم ولكن في إسناده محمد ابن مسروق وهو غير معروف وفي إسناده إسحاق بن الفرات وفيه مقال: وقد أشار القرآن الكريم إلى رد اليمين في قوله تعالى: {أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ} [المائدة:108] ولكن فيه احتمال إذ يمكن أن يكون المراد برد اليمين عدم قبولها.
وأما النكول فلا يجوز الحكم به لأن غاية ما فيه أن من عليه اليمين بحكم الشرع لم يقبلها ويفعلها وعدم فعله لها ليس بإقرار بالحق بل ترك لما جعله الشارع عليه بقوله: ولكن اليمين على المدعى عليه فعلى القاضي أن يلزمه بعد النكول عن اليمين بأحد أمرين إما اليمين التي نكل عنها أو الإقرار بما ادعا المدعي وأيهما وقع كان صالحا للحكم به كما مر.
وأما كونه يجوز له الحكم بعلمه فلأن ذلك من العدل والحق اللذين أمره الله بالحكم بهما وليس في الأدلة ما يدل على المنع من ذلك وحديث "شاهداك أو يمينه" لا حصر فيه ومما يؤيد جواز الحكم بعلم الحاكم ما ثبت من قوله صلى الله عليه وسلم للمدعي "ألك بينة"؟ فإن البينة ما يتبين به الأمر وليس بعد العلم بيان بل هو أعلى أنواع البيان فإنه لا يحصل من سائر المستندات للحكم إلا مجرد الظن بأن
المقر صادق في إقراره والحالف بار في يمينه والشاهد صادق في شهادته وإذا جاز الحكم بمستند لا يفيد إلا الظن فكيف لا يجوز الحكم بالعلم واليقين وفي هذه المسألة مذاهب مختلفة وقد احتج أهل كل مذهب بحجج لا تصلح ولا تنطبق على محل النزاع وأقربها ما أخرجه أحمد والنسائي والحاكم من حديث أبي هريرة قال: جاء رجلان يختصمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: للمدعي أقم البينة فلم يقمها فقال: للآخر احلف فحلف بالله الذي لا إله إلا هو ما له عنده شيء فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد فعلت ولكن قد غفر لك بإخلاص لا إله إلا الله" وفي رواية الحاكم بل هو عندك ادفع إليه حقه وأما أقوال الصحابة فلا تقوم بها الحجة إلا إذا أجمعوا على ذلك عند من يقول بحجية الإجماع.
وأما كونها لا تقبل شهادة من ليس بعدل فلقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق:2] وقوله: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة:282] وقوله: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ} [الحجرات:6] الآية وقد حكى في البحر الإجماع على أنها لا تصح شهادة فاسق التصريح.
وأما كونها لا تقبل شهادة الخائن وذي العداوة والمتهم فلحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عند أحمد وأبي داود والبيهقي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا ذي غمر على أخيه ولا يجوز شهادة القانع لأهل البيت وا لقانع الذي ينفق عليه أهل البيت" ولأبي داود في رواية "ولا زان ولا زانية". قال: ابن حجر في التلخيص وسنده قوي والغمر بكسر المعجمة وسكون الميم بعدها راء مهملة الحقد أي لا تقبل شهادة العدو على العدو وأخرج الترمذي والدارقطني والبيهقي من حديث عائشة مرفوعا بلفظ "لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا ذي غمر لأخيه ولا ظنين ولا قرابة" وفي إسناده يزيد ابن زياد الشامي وهو ضعيف وقد أخرج الطبراني والبيهقي من حديث ابن عمر نحوه وفي إسناده عبد الأعلى أو شيخه يحيى بن سعيد الفارسي وهما ضعيفان وأخرج أبو داود في المراسيل من حديث طلحة بن عبد اللهبن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث مناديا أنها لا تجوز شهادة خصم
ولا ظنين" ورواه البيهقي من طريق الأعرج مرسلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تجوز شهادة ذي الظنة والحنة" يعني الذي بينك وبينه عداوة" ورواه الحاكم من حديث العلاء عن أبيه عن أبي هريرة يرفعه مثله قال: ابن حجر وفي إسناده نظر والمراد بالمتهم هو من يظن به أنه يشهد زورا لمن يحابيه كالقانع والعبد لسيده وقد حكى في البحر الإجماع على عدم قبول شهادة العبد لسيده.
وأما القاذف فلقوله تعالى: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً} [النور:4] بعد قوله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور:4] وقد وقع الخلاف في كتب التفسير والأصول في حكم التوبة المذكورة في آخر الآية.
وأما كونها لا تقبل شهادة بدوي على صاحب قرية فلحديث أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تجوز شهادة بدوي على قرية" أخرجه أبو داود وابن ماجه والبيهقي قال: المنذري رجال إسناده احتج بهم مسلم رحمه الله تعالى في صحيحه قال في النهاية: إنما ذكر شهادة البدوي لما فيه من الجفاء في الدين والجهالة بأحكام الشرع ولأنهم في الغالب لا يضبطون الشهادة على وجهها وبنحو هذا قال: الخطابي وروى نحوه عن أحمد بن حنبل وذهب إلى ذلك جماعة من أصحاب أحمد وبه قال مالك وأبو عبيد: وذهب الأكثر إلى القبول قال ابن رسلان: وحملوا هذا الحديث على من لم تعرف عدالته من أهل البدو والغالب أنهم لا تعرف عدالتهم انتهى وهذا توجيه قوي ومحمل سوي.
وأما كونها تجوز شهادة من شهد على تقرير فعله أو قوله: إذا انتفت التهمة فلأنه لم يرد ما يمنع من ذلك حتى نخصصه من عموم الأدلة وأيضا حديث قبول خبر المرضعة وقوله صلى الله عليه وسلم بعد خبرها: "كيف وقد قيل"؟ ورتب على خبرها التحريم وقد تقدم في الرضاع وهي شهدت على تقرير فعلها كما لا يخفى ولم يستدل المانع إلا على أن الشاهد إذا شهد على تقرير قوله أو فعله لم يخل من تهمة وقد قيدنا ذلك بانتفاء التهمة.
وأما كون شهادة الزور من أكبر الكبائر فلحديث أنس في الصحيحين
وغيرهما قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الكبائر أو سئل عن الكبائر فقال: "الشرك بالله وقتل النفس وعقوق الوالدين وقال: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر"؟ قول الزور أو قال شهادة الزور" وفي الصحيحين أيضا من حديث أبي بكرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر قلنا بلى يا رسول الله قال: "الإشراك بالله وعقوق الوالدين وكان متكئا فجلس وقال: ألا وقول الزور فما يزال يكررها حتى قلنا ليته سكت".
وأما كونه إذا تعارض البينتان ولم يوجد وجه ترجيح قسم المدعى فلحديث أبي موسى عند أبي داود والحاكم والبيهقي أن رجلين ادعيا بعيرا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعث كل واحد منهما بشاهدين فقسمه النبي صلى الله عليه وسلم بينهما نصفين وقد أخرج نحوه ابن حبان من حديث أبي هريرة وصححه وأخرجه ابن أبي شيبة من حديث تميم بن طرفة ووصله الطبراني عن جابر بن سمرة وثبتت قسمة المدعى عنه صلى الله عليه وسلم في حديث أبي موسى المذكور أولا بزيادة ذكرها النسائي فقال: ادعيا دابة وجداها عند رجل فأقام كل منهما شاهدين فلما أقام كل واحد منهما شاهدين نزعت من يد الثالث ودفعت إليهما.
وأما كونه إذا لم يكن للمدعي بينه فليس له إلا يمين صاحبه ولو كان فاجرا فلحديث الأشعث بن قيس في الصحيحين وغيرهما قال: كان بينى وبين رجل خصومة في بئر فاختصمنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "شاهداك أو يمينه" فقلت إنه إذا يحلف ولا يبالى فقال: "من حلف على يمين يقتطع بها مال امرىء مسلم لقي الله وهو عليه غضبان" وأخرج مسلم رحمه الله وغيره من حديث وائل ابن حجر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للكندي: "ألك بينة"؟ قال: لا قال: "فلك يمينه" فقال: يا رسول الله الرجل فاجر لا يبالي على ما حلف وليس يتورع من شيء فقال: "ليس لك منه إلا ذلك".
وأما كونها لا تقبل البينة بعد اليمين فلما يفيده قوله صلى الله عليه وسلم: "شاهداك أو يمينه" فاليمين إذا كانت تطلب من المدعي فهي مستند للحكم صحيح ولا يقبل المستند المخالف لها بعد فعلها أنه لا يحصل لكل منهما إلا مجرد ظن ولا ينقض الظن بالظن وقد ذهب إلى هذا بعض أهل العلم والخلاف معروف.
وأما كون من أقر بشيء لزمه فلما تقدم وأما تقييده بكون المقر عاقلا بالغا فلأن المجنون والصبي ليسا بمكلفين فلا حكم لإقرارهما.
وأما تقييده بكونه غير هازل فلكون إقرار الهازل ليس هو الإقرار الذي يجوز أخذه به وهكذا إذا أقر بما يحيله العقل أو العادة لأن كذبه معلوم ولا يجوز الحكم بالكذب.
وأما كونه يكفي الإقرار مرة واحدة في الحدود وغيرها فلكون المقر بالشيء على نفسه قد لزمه إقراره واعتبار التكرار في الحدود سيأتى أنه لم يثبت عليه دليل يوجب المصير إليه.