المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

تِلْكَ الْأَشْعَار الْكَثِيرَة قَلِيلا مِمَّا يتَعَلَّق بالقصص وَشرح الْحَال وَمَا - الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية - جـ ١

[أبو شامة المقدسي]

فهرس الكتاب

- ‌بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم

- ‌وَمَا توفيقي إِلَّا بِاللَّه رب الْعَالمين

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌ذكر أَخْبَار زنكي

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل فِي ولَايَة زنكي الْموصل وَغَيرهَا من الْبِلَاد الَّتِي كَانَت بيد البرسقي

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل فِي فتح شهرزور وبعلبك وحصار دمشق

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل فِي وَفَاة زنكي رحمه الله

- ‌فصل فِي ذكر بعض سيرة الشَّهِيد أتابك زنكي

- ‌فصل فِيمَا جرى بعد زنكي من تفرق أَصْحَابه وتملك ولديه غَازِي ومحمود

- ‌فصل فِيمَا جرى بعد وَفَاة زنكي من صَاحب دمشق والإفرنج المخذولين

- ‌فصل

- ‌وَدخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وَخمْس مئة

- ‌فصل فِي نزُول الفرنج على دمشق ورجوعهم وَقد خذلهم الله تَعَالَى عَنْهَا

- ‌وَدخلت سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌وَدخلت سنة أَربع وَأَرْبَعين وَخمْس مئة)

- ‌فصل

- ‌فصل فِي وَفَاة معِين الدّين أنر بِدِمَشْق وَمَا كَانَ من الرئيس ابْن الصُّوفِي فِي هَذِه السّنة

- ‌فصل فِي وَفَاة سيف الدّين غَازِي بن زنكي صَاحب الْموصل وَهُوَ أَخُو نور الدّين الْأَكْبَر

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌وَدخلت سنة خمس وَأَرْبَعين وَخمْس مئة

- ‌فصل فِي فتح عزاز

- ‌فصل فِي صفة أسر جوسلين

- ‌فصل

- ‌وَدخلت سنة سِتّ وَأَرْبَعين وَخمْس مئة

- ‌فصل فِي بَاقِي حوادث هَذِه السّنة

- ‌ثمَّ دخلت سنة سبع وَأَرْبَعين وَخمْس مئة

- ‌فصل

- ‌ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَخمْس مئة

- ‌ثمَّ دخلت سنة تسع وَأَرْبَعين وَخمْس مئة

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌ثمَّ دخلت سنة خمسين وَخمْس مئة

- ‌ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى وَخمسين وَخمْس مئة

- ‌فصل

- ‌ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وَخمْس مئة

- ‌فصل

- ‌فصل فِي ذكر حصن شيزر وَولَايَة بني منقذ

- ‌فصل فِي بواقي حوادث سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين

- ‌ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَخمسين وَخمْس مئة

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌ثمَّ دخلت سنة أَربع وَخمسين وَخمْس مئة

- ‌فصل

- ‌ثمَّ دخلت سنة خمس وَخمسين وَخمْس مئة

- ‌ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَخمسين وَخمْس مئة

- ‌ثمَّ دخلت سنة سبع وَخمسين وَخمْس مئة

- ‌ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَخمسين وَخمْس مئة

- ‌ثمَّ دخلت سنة تسع وَخمسين وَخمْس مئة

- ‌فصل فِي فتح حارم

- ‌فصل

- ‌ثمَّ دخلت سنة سِتِّينَ وَخمْس مئة

الفصل: تِلْكَ الْأَشْعَار الْكَثِيرَة قَلِيلا مِمَّا يتَعَلَّق بالقصص وَشرح الْحَال وَمَا

تِلْكَ الْأَشْعَار الْكَثِيرَة قَلِيلا مِمَّا يتَعَلَّق بالقصص وَشرح الْحَال وَمَا فِيهِ نُكْتَة غَرِيبَة وَفَائِدَة لَطِيفَة

ووقفت على مجلدات من الرسائل الْفَاضِلِيَّةِ وعَلى جملَة من الْأَشْعَار الْعمادِيَّة مِمَّا ذكره فِي ديوانه دون برقه وعَلى كتب أخر من دواوين وَغَيرهَا فالتقطت مِنْهَا أَشْيَاء مِمَّا يتَعَلَّق بالدولتين أَو بِإِحْدَاهُمَا وَبَعضه سمعته من أَفْوَاه الرِّجَال الثِّقَات وَمن المدركين لتِلْك الْأَوْقَات فاختصرت جَمِيع مَا فِي ذَلِك من أَخْبَار الدولتين وَمَا حدث فِي مدتهما من وَفَاة خَليفَة أَو وَزِير أَو أَمِير كَبِير أَو ذى قدر خطير وَغير ذَلِك فجَاء مجموعا لطيفا وكتابا ظريفا يصلح لمطالعة الْمُلُوك والأكابر من ذَوي المآثر والمفاخر

وسميته ((كتاب الروضتين فِي أَخْبَار الدولتين)) وَللَّه در حبيب بن أَوْس حَيْثُ يَقُول

(ثمَّ انْقَضتْ تِلْكَ السنون وَأَهْلهَا

فَكَأَنَّهَا وَكَأَنَّهُم أَحْلَام)

‌فصل

أما الدولة النورية فسلطانها الْملك الْعَادِل نور الدّين أَبُو الْقَاسِم مَحْمُود بن عماد الدّين أتابك وَهُوَ أَبُو سعيد زنكى بن قسيم الدولة آق سنقر

ص: 31

التركي ويلقب زنكي أَيْضا بلقب وَالِده قسيم الدولة وَيُقَال لنُور الدّين ابْن القسيم وسنتكلم على أَخْبَار أسلافه عِنْد بسط أَوْصَافه وقدمت من إِجْمَال أَحْوَاله مَا يسْتَدلّ بِهِ على أَفعاله

ذكر الْحَافِظ أَبُو الْقَاسِم فِي تَارِيخه أَنه ولد سنة إِحْدَى عشرَة وَخمْس مئة وَأَن جده آق سنقر ولي حلب وَغَيرهَا من بِلَاد الشَّام وَنَشَأ أَبوهُ زنكي بالعراق ثمَّ ولي ديار الْموصل والبلاد الشامية وَظَهَرت كِفَايَته فِي مُقَابلَة الْعَدو عِنْد نُزُوله على شيزر حَتَّى رَجَعَ خائبا وَفتح الرها والمعرة وكفرطاب وَغَيرهَا من الْحُصُون الشامية واستنقذها من أيدى الْكفَّار فَلَمَّا انْقَضى أَجله قَامَ ابْنه نور الدّين مقَامه وَذَلِكَ سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَخمْس ومئة ثمَّ قصد نور الدّين حلب فملكها وَخرج غازيا فِي أَعمال تل بَاشر فَافْتتحَ حصونا كَثِيرَة من جُمْلَتهَا قلعة عزاز ومرعش وتل خَالِد وَكسر إبرنس أنطاكية وَقَتله وَثَلَاثَة آلَاف فرنجي مَعَه وَأظْهر بحلب السّنة وَغير الْبِدْعَة الَّتِي كَانَت لَهُم فِي التأذين وقمع بهَا الرافضة وَبنى بهَا الْمدَارِس ووقف الْأَوْقَاف وَأظْهر الْعدْل وحاصر دمشق مرَّتَيْنِ وَفتحهَا فِي الثَّالِثَة فضبط أمورها وحصن سورها وَبنى بهَا الْمدَارِس والمساجد وَأصْلح طرقها ووسع أسواقها وَمنع من أَخذ مَا كَانَ يُؤْخَذ مِنْهُم من المغارم المغارم بدار الْبِطِّيخ وسوق الْغنم والكيالة وَغَيرهَا وعاقب على شرب الْخمر واستنقذ من الْعَدو ثغر بانياس والمنيطرة وَغَيرهمَا وَكَانَ فِي الْحَرْب ثَابت الْقدَم حسن الرمى صَلِيب الضَّرْب يقدم أَصْحَابه ويتعرض للشَّهَادَة وَكَانَ يسال الله تَعَالَى أَن يحشره من بطُون السبَاع وحواصل الطير ووقف رَحمَه الله تَعَالَى وقوفا على المرضى ومعلمي الْخط وَالْقُرْآن وساكني الْحَرَمَيْنِ وأقطع

ص: 32

أُمَرَاء الْعَرَب لِئَلَّا يتَعَرَّضُوا للحجاج وَأمر بأكمال سور الْمَدِينَة واستخراج الْعين الَّتِي بِأحد وَبنى الرَّبْط والجسور والخانات وجدد كثيرا من قني السَّبِيل وَكَذَا صنع فِي غير دمشق من الْبِلَاد الَّتِي ملكهَا ووقف كتبا كَثِيرَة وَحصل فِي أسره جمَاعَة من أُمَرَاء الفرنج وَكسر الرّوم والأرمن والفرنج على حارم وَكَانَ عدتهمْ ثَلَاثِينَ ألفا ثمَّ فتح حارم وَأخذ أَكثر قرى أنطاكية ثمَّ فتح الديار المصرية وَكَانَ الْعَدو قد اشرف على أَخذهَا ثمَّ أظهر بهَا السّنة وانقمعت الْبِدْعَة وَكَانَ حسن الْخط كثير المطالعة للكتب الدِّينِيَّة مُتبعا للآثار النَّبَوِيَّة مواظبا على الصَّلَوَات فِي الْجَمَاعَات عاكفاً على تِلَاوَة الْقُرْآن حَرِيصًا على فعل الْخَيْر عفيف الْبَطن والفرج مقتصدا فِي الْإِنْفَاق متحريا فِي المطاعم والملابس لم تسمع مِنْهُ كلمة فحش فِي رِضَاهُ وَلَا فِي ضجره وأشهى مَا إِلَيْهِ كلمة حق يسْمعهَا أَو إرشاد إِلَى سنة يتبعهَا

وَقَالَ أَبُو الْحسن ابْن الْأَثِير قد طالعت تواريخ الْمُلُوك الْمُتَقَدِّمين قبل الْإِسْلَام وَفِيه إِلَى يَوْمنَا هَذَا فَلم أر فِيهَا بعد الْخُلَفَاء الرَّاشِدين وَعمر بن عبد الْعَزِيز ملكا أحسن سيرة من الْملك الْعَادِل نور الدّين وَلَا أَكثر تحريا للعدل والإنصاف مِنْهُ قد قصر ليله ونهاره على عدل ينشره وَجِهَاد يتجهز لَهُ ومظلمة يزيلها وَعبادَة يقوم بهَا وإحسان يوليه وإنعام يسديه وَنحن نذْكر مَا نعلم بِهِ مَحَله فِي أَمر دُنْيَاهُ وأخراه فَلَو كَانَ فِي أمة لافتخرت بِهِ فَكيف بَيت وَاحِد

أما زهده وعبادته وَعلمه فَإِنَّهُ كَانَ مَعَ سَعَة ملكه وَكَثْرَة ذخائر بِلَاده وأموالها لَا يَأْكُل وَلَا يلبس وَلَا يتَصَرَّف فِيمَا يَخُصُّهُ إِلَّا من ملك كَانَ لَهُ قد اشْتَرَاهُ

ص: 33

من سَهْمه من الْغَنِيمَة وَمن الْأَمْوَال المرصدة لمصَالح الْمُسلمين أحضر الْفُقَهَاء واستفتاهم فِي أَخذ مَا يحل لَهُ من ذَلِك فَأخذ مَا أفتوه بحله وَلم يتعده إِلَى غَيره الْبَتَّةَ وَلم يلبس قطّ مَا حرمه الشَّرْع من حَرِير أَو ذهب أَو فضَّة وَمنع من شرب الْخمر وَبَيْعهَا فِي جَمِيع بِلَاده وَمن إدخالها إِلَى بلد مَا وَكَانَ يحد شاربها الْحَد الشَّرْعِيّ كل النَّاس عِنْده فِيهِ سَوَاء

حَدثنِي صديق لنا بِدِمَشْق كَانَ رَضِيع الخاتون ابْنة معِين الدّين زَوْجَة نور الدّين ووزيرها قَالَ كَانَ نور الدّين إِذا جَاءَ إِلَيْهَا يجلس فِي الْمَكَان الْمُخْتَص بِهِ وَتقوم فِي خدمته لَا تتقدم إِلَيْهِ إِلَّا أَن يَأْذَن فِي أَخذ ثِيَابه عَنهُ ثمَّ تَعْتَزِل عَنهُ إِلَى الْمَكَان الَّذِي يخْتَص بهَا ويتفرد هُوَ تَارَة يطالع رقاع أَصْحَاب الأشغال أَو فِي مطالعة كتاب أَتَاهُ ويجيب عَنْهُمَا وَكَانَ يُصَلِّي فيطيل الصَّلَاة وَله أوراد فِي النَّهَار فَإِذا جَاءَ اللَّيْل وَصلى الْعشَاء ونام يَسْتَيْقِظ نصف اللَّيْل وَيقوم إِلَى الْوضُوء وَالصَّلَاة إِلَى بكرَة فَيظْهر للرُّكُوب ويشتغل بمهام الدولة قَالَ وَإِنَّهَا قلت عَلَيْهَا النَّفَقَة وَلم يكفها مَا كَانَ قَرَّرَهُ لَهَا فأرسلتني إِلَيْهِ أطلب مِنْهُ زِيَادَة فِي وظيفتها فَلَمَّا قلت لَهُ ذَلِك تنكر وأحمر وَجهه ثمَّ قَالَ من ايْنَ أعطيها أما يكفيها مَالهَا وَالله لَا أخوض نَار جَهَنَّم فِي هَواهَا إِن كَانَت تظن أَن الَّذِي بيدى من الْأَمْوَال هِيَ لي فبئس الظَّن إِنَّمَا هِيَ أَمْوَال الْمُسلمين مرصدة لمصالحهم ومعدة لفتق إِن كَانَ

ص: 34

من عَدو الْإِسْلَام وَأَنا خازنهم عَلَيْهَا فَلَا أخونهم فِيهَا ثمَّ قَالَ لي بِمَدِينَة حمص ثَلَاثَة دكاكين ملكا وَقد وهبتها إِيَّاهَا فلتأخذها قَالَ وَكَانَ يحصل مِنْهَا قدر قَلِيل

قَالَ ابْن الْأَثِير وَكَانَ رحمه الله لَا يفعل فعلا إِلَّا بنية حَسَنَة كَانَ بالجزيرة رجل من الصَّالِحين كثير الْعِبَادَة والورع شَدِيد الِانْقِطَاع عَن النَّاس وَكَانَ نور الدّين يكاتبه ويراسله وَيرجع إِلَى قَوْله ويعتقد فِيهِ اعتقادا حسنا فَبَلغهُ أَن نور الدّين يدمن اللّعب بالكرة فَكتب إِلَيْهِ يَقُول مَا كنت أَظُنك تلهو وتلعب وتعذب الْخَيل لغير فَائِدَة دينية فَكتب إِلَيْهِ نور الدّين بِخَط يَده يَقُول وَالله مَا يحملني على اللّعب بالكرة اللَّهْو والبطر إِنَّمَا نَحن فِي ثغر الْعَدو قريب منا وبينما نَحن جُلُوس إِذْ يَقع صَوت فنركب فِي الطّلب

وَلَا يمكننا أَيْضا مُلَازمَة الْجِهَاد لَيْلًا وَنَهَارًا شتاء وصيفا إِذْ لابد من الرَّاحَة للجند وَمَتى تركنَا الْخَيل على مرابطها صَارَت جماما لَا قدرَة لَهَا على إدمان السّير فِي الطّلب وَلَا معرفَة لَهَا أَيْضا بِسُرْعَة الانعطاف فِي الْكر والفر فِي المعركة فَنحْن نركبها ونروضها بِهَذَا اللّعب فَيذْهب جمامها وتتعود سرعَة الانعطاف وَالطَّاعَة لراكبها فِي الْحَرْب فَهَذَا وَالله الَّذِي بَعَثَنِي على اللّعب بالكرة

ص: 35

قَالَ ابْن الْأَثِير فَانْظُر إِلَى هَذَا الْملك الْمَعْدُوم النظير الَّذِي يقل فِي أَصْحَاب الزوايا المنقطعين إِلَى الْعِبَادَة مثله فَإِن من يجئ إِلَى اللّعب يَفْعَله بنية صَالِحَة حَتَّى يصير من أعظم الْعِبَادَات وأكبر القربات يقل فِي الْعَالم مثله وَفِيه دَلِيل على أَنه كَانَ لَا يفعل شَيْئا إِلَّا بنية صَالِحَة وَهَذِه أَفعَال الْعلمَاء الصَّالِحين العاملين

قَالَ وَحكي لي عَنهُ أَنه حمل إِلَيْهِ من مصر عِمَامَة من الْقصب الرفيع مذهبَة فَلم يحضرها عِنْده فوصفت لَهُ فَلم يلْتَفت إِلَيْهَا وَبينا هم مَعَه فِي حَدِيثهَا وَإِذا قد جَاءَهُ رجل صوفي فامر بهَا لَهُ فَقيل لَهُ إِنَّهَا لَا تصلح لهَذَا الرجل وَلَو أعطي غَيرهَا كَانَ أَنْفَع لَهُ فَقَالَ أعطوها لَهُ فَإِنِّي أَرْجُو أَن أعوض عَنْهَا فِي الْآخِرَة فَسلمت إِلَيْهِ فَسَار بهَا إِلَى بَغْدَاد فَبَاعَهَا بست مئة دِينَار أَمِيري أَو سبع مئة دِينَار

قلت قَرَأت فِي حَاشِيَة هَذَا الْمَكَان من = كتاب ابْن الْأَثِير = بِخَط ابْن الْمُعْطِي إِيَّاهَا قَالَ أَعْطَاهَا لشيخ الصُّوفِيَّة عماد الدّين أَبى الْفَتْح بن حمويه بِغَيْر طلب وَلَا رَغْبَة فبعثها إِلَى همذان فبيعت بِأَلف دِينَار

قَالَ ابْن الْأَثِير وَحكى لنا الْأَمِير بهاء الدّين على بن السكرى وَكَانَ خصيصا بِخِدْمَة نور الدّين قد صَحبه من الصِّبَا وَأنس بِهِ وَله مَعَه انبساط

ص: 36

قَالَ كنت مَعَه يَوْمًا فِي الميدان بالرها وَالشَّمْس فِي ظُهُورنَا فَكلما سرنا تقدمنا الظل فَلَمَّا عدنا صَار الظل وَرَاء ظُهُورنَا فاجرى فرسه وَهُوَ يلْتَفت وَرَاءه وَقَالَ لي أَتَدْرِي لأي شَيْء أجري فرسي وألتفت ورائي قلت لَا قَالَ قد شبهت مَا نَحن فِيهِ بالدنيا تهرب مِمَّن يطْلبهَا وتطلب من يهرب مِنْهَا

قلت رضى الله عَن ملك يفكر فِي مثل هَذَا وَقد أنشدت بَيْتَيْنِ فِي هَذَا الْمَعْنى

(مثل الرزق الَّذِي تطلبه

مثل الظل الَّذِي يمشي مَعَك)

(أَنْت لَا تُدْرِكهُ متَّبِعاً

فَإِذا ولّيت عَنهُ تبعك)

قَالَ ابْن الْأَثِير وَكَانَ يعْنى نور الدّين رحمه الله يصلى كثيرا من اللَّيْل وَيَدْعُو ويستغفر وَيقْرَأ وَلَا يزَال كَذَلِك إِلَى أَن يركب

(جمع الشجَاعَة والخشوع لرَبه

مَا أحسن الْمِحْرَاب فِي الْمِحْرَاب)

قَالَ وَكَانَ عَارِفًا بالفقه على مَذْهَب الإِمَام أبي حنيفَة رضي الله عنه لَيْسَ عِنْده تعصب بل الْإِنْصَاف سجيته فِي كل شَيْء وَسمع الحَدِيث وأسمعه طلبا لِلْأجرِ وعَلى الْحَقِيقَة فَهُوَ الَّذِي جدد للملوك اتِّبَاع سنة الْعدْل والإنصاف وَترك الْمُحرمَات من المأكل وَالْمشْرَب والملبس وَغير ذَلِك فَإِنَّهُم كَانُوا قبله كالجاهلية هم أحدهم بَطْنه وفرجه لَا يعرف مَعْرُوفا وَلَا يُنكر مُنْكرا حَتَّى جَاءَ الله بدولته فَوقف مَعَ أوَامِر الشَّرْع ونواهيه وألزم بذلك أَتْبَاعه وَذَوِيهِ فاقتدى بِهِ غَيره مِنْهُم واستحيوا أَن يظْهر عَنْهُم مَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ (وَمن سنّ سنة حَسَنَة كَانَ لَهُ أجرهَا وَأجر من عمل بهَا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة)

ص: 37

قَالَ فَإِن قَالَ قَائِل كَيفَ يُوصف بالزهد من لَهُ الممالك الفسيحة وتجبى إِلَيْهِ الْأَمْوَال الْكَثِيرَة فليذكر نَبِي الله سُلَيْمَان بن دَاوُد عليهما السلام مَعَ ملكه وَهُوَ سد الزاهدين فِي زَمَانه وَنَبِينَا صلى الله عليه وسلم قد حكم على حَضرمَوْت واليمن والحجاز وَجَمِيع جَزِيرَة الْعَرَب من حُدُود الشَّام إِلَى الْعرَاق وَهُوَ على الْحَقِيقَة سيد الزاهدين قَالَ وَإِنَّمَا الزّهْد خلو الْقلب من محبَّة الدُّنْيَا لَا خلو الْيَد عَنْهَا

قَالَ وَأما عدله فَإِنَّهُ كَانَ أحسن الْمُلُوك سيرة وأعدلهم حكما فَمن عدله أَنه لم يتْرك فِي بلد من بِلَاده ضريبة وَلَا مكسا وَلَا عشرا بل أطلقها رَحْمَة الله جَمِيعهَا فِي بِلَاد الشَّام والجزيرة جَمِيعهَا والموصل وأعمالها وديار مصر وَغَيرهَا مِمَّا حكم عَلَيْهِ وَكَانَ المكس فِي مصر يُؤْخَذ من كل مئة دِينَار خَمْسَة وَأَرْبَعُونَ دِينَارا فأطلقها وَهَذَا لم تتسع لَهُ نفس غَيره

وَكَانَ يتحَرَّى الْعدْل وينصف الْمَظْلُوم من الظَّالِم كَائِنا من كَانَ القوى والضعيف عِنْده فِي الْحق سَوَاء وَكَانَ يسمع شكوى الْمَظْلُوم ويتولى كشف حَاله بِنَفسِهِ وَلَا يكل ذَلِك إِلَى حَاجِب وَلَا أَمِير فَلَا جَرَمَ سَار ذكره فِي شَرق الأَرْض وغربها

قَالَ وَمن عدله أَنه كَانَ يعظم الشَّرِيعَة المطهرة وَيقف عِنْد أَحْكَامهَا وَيَقُول نَحن شحن لما نُمضي أوامرها فَمن اتِّبَاعه أَحْكَامهَا أَنه كَانَ يلْعَب بِدِمَشْق بالكرة فَرَأى إنْسَانا يحدث آخر ويومئ بِيَدِهِ إِلَيْهِ فارسل إِلَيْهِ يساله عَن حَاله فَقَالَ لي مَعَ الْملك الْعَادِل حُكُومَة وَهَذَا غُلَام القَاضِي

ص: 38

ليحضره إِلَى مجْلِس الحكم يحاكمني على الْملك الْفُلَانِيّ فَعَاد إِلَيْهِ وَلم يتجاسر يعرفهُ مَا قَالَ ذَلِك الرجل وَعَاد يَكْتُمهُ فَلم يقبل مِنْهُ غير الْحق فَذكر لَهُ قَوْله فَألْقى الجوكان من يَده وَخرج من الميدان وَسَار إِلَى القَاضِي وَهُوَ حِينَئِذٍ كَمَال الدّين بن الشهرزوري وَأرْسل إِلَى القَاضِي يَقُول لَهُ إِنَّنِي قد جِئْت محاكما فاسلك معي مثل مَا تسلكه مَعَ غَيْرِي فَلَمَّا حضر سَاوَى خَصمه وخاصمه وحاكمه فَلم يثبت عَلَيْهِ حق وَثَبت الْملك لنُور الدّين فَقَالَ نور الدّين حِينَئِذٍ للْقَاضِي وَلمن حضر هَل ثبَت لَهُ عِنْدِي حق قَالُوا لَا فَقَالَ اشْهَدُوا أنني قد وهبت لَهُ هَذَا الْملك الَّذِي قد حاكمني عَلَيْهِ وهُوَ لَهُ دوني وَقد كنت أعلم أَن لَا حق لَهُ عِنْدِي وَإِنَّمَا حضرت مَعَه لِئَلَّا يظنّ بِي أَنِّي ظلمته فَحَيْثُ ظهر أَن الْحق لي وهبته لَهُ

قَالَ ابْن الْأَثِير وَهَذَا غَايَة الْعدْل والإنصاف بل غَايَة الْإِحْسَان وَهِي دَرَجَة وَرَاء الْعدْل فرحم الله هَذِه النَّفس الزكية الطاهرة المنقادة إِلَى الْحق الواقفة مَعَه

قلت وَهَذَا مستكثر من ملك مُتَأَخّر بعد فَسَاد الْأَزْمِنَة وتفرق الْكَلِمَة وَإِلَّا فقد انْقَادَ إِلَى الْمُضِيّ إِلَى مجْلِس الحكم جمَاعَة من الْمُتَقَدِّمين مثل عمر وَعلي وَمُعَاوِيَة رضي الله عنهم ثمَّ حكى نَحْو ذَلِك عَن أبي جَعْفَر الْمَنْصُور

وَقد نقلنا ذَلِك كُله فِي التَّارِيخ الْكَبِير وَفِيه عَن عبد الله بن

ص: 39

طَاهِر قريب من هَذَا لكنه أحضر الْحَاكِم عِنْده وَلم يمض إِلَيْهِ وَقد بَلغنِي أَن نور الدّين رَحمَه الله تَعَالَى استُدعى مرّة أُخْرَى بحلب إِلَى مجْلِس الحكم بِنَفسِهِ أَو نَائِبه فَدخل حَاجِبه عَلَيْهِ مُتَعَجِّبا وأعلمه أَن رَسُول الْحَاكِم بِالْبَابِ فَأنْكر عَلَيْهِ تعجبه وَقَامَ رحمه الله مسرعا وَوجد فِي أثْنَاء طَرِيقه مَا مَنعه من العبور من حفر جب بعض الحشوش واستخراج مَا فِيهِ فَوكل من ثمَّ وَكيلا واشهد عَلَيْهِ شَاهِدين بِالتَّوْكِيلِ وَرجع

قَالَ ابْن الْأَثِير وَمن عدله انه لم يكن يُعَاقب الْعقُوبَة الَّتِي يُعَاقب بهَا الْمُلُوك فِي هَذِه الْأَعْصَار على الظنة والتهمة بل يطْلب الشُّهُود على الْمُتَّهم فَإِن قَامَت الْبَيِّنَة الشَّرْعِيَّة عاقبه الْعقُوبَة الشَّرْعِيَّة من غير تعد فَدفع الله بِهَذَا الْفِعْل عَن النَّاس من الشَّرّ مَا يُوجد فِي غير ولَايَته مَعَ شدَّة السياسة وَالْمُبَالغَة فِي الْعقُوبَة وَالْأَخْذ بالظنة وَأمنت بِلَاده مَعَ سعتها وَقل المفسدون ببركة الْعدْل وَاتِّبَاع الشَّرْع المطهر

قَالَ وَحكى لي من أَثِق بِهِ أَنه دخل يَوْمًا إِلَى خزانَة المَال فَرَأى فِيهَا مَالا أنكرهُ فَسَأَلَ عَنهُ فَقيل إِن القَاضِي كَمَال الدّين أرْسلهُ وَهُوَ من جِهَة كَذَا فَقَالَ إِن هَذَا المَال لَيْسَ لنا وَلَا لبيت المَال فِي هَذِه الْجِهَة شَيْء

وَأمر برده وإعادته إِلَى كَمَال الدّين ليَرُدهُ على صَاحبه فَأرْسلهُ مُتَوَلِّي الخزانة إِلَى كَمَال الدّين فَرده إِلَى الخزانة وَقَالَ إِذا سَالَ الْملك الْعَادِل عَنهُ فَقولُوا لَهُ

ص: 40

عني إِنَّه لَهُ فَدخل نور الدّين الخزانة مرّة أُخْرَى فَرَآهُ فَأنْكر على النواب وَقَالَ ألم أقل لكم يُعَاد هَذَا المَال على أَصْحَابه فَذكرُوا لَهُ قَول كَمَال الدّين فَرده إِلَيْهِ وَقَالَ للرسول قل لكَمَال الدّين أَنْت تقدر على حمل هَذَا وَأما أَنا فرقبتي دقيقة لَا أُطِيق حمله والمخاصمة عَلَيْهِ بَين يَدي الله تَعَالَى يُعاد قولا وَاحِدًا

قَالَ وَمن عدله أَيْضا بعد مَوته وَهُوَ من أعجب مَا يحْكى أَن إنْسَانا كَانَ بِدِمَشْق غَرِيبا استوطنها وَأقَام بهَا لما رأى من عدل نور الدّين رحمه الله فَلَمَّا توفى تعدى بعض الأجناد على هَذَا الرجل فَشَكَاهُ فَلم ينصف فَنزل من القلعة وَهُوَ يستغيث ويبكي وَقد شقّ ثَوْبه وَيَقُول يَا نور الدّين لَو رَأَيْتنَا وَمَا نَحن فِيهِ من الظُّلم لرحمتنا أَيْن عدلك وَقصد تربة نور الدّين وَمَعَهُ من الْخلق مَا لَا يُحْصى وَكلهمْ يبكي ويصيح فوصل الْخَبَر إِلَى صَلَاح الدّين وَقيل لَهُ احفظ الْبَلَد والرعية وَإِلَّا خرج عَن يدك فَأرْسل إِلَى ذَلِك الرجل وَهُوَ عِنْد تربة نور الدّين يبكي وَالنَّاس مَعَه فطيب قلبه ووهبه شَيْئا وأنصفه فَبكى أَشد من الأول فَقَالَ لَهُ صَلَاح الدّين لم تبْكي قَالَ أبكى على سُلْطَان عدل فِينَا بعد مَوته فَقَالَ صَلَاح الدّين هَذَا هُوَ الْحق وكل مَا ترى فِينَا من عدل فَمِنْهُ تعلمناه

قلت وَمن عدله أَن بنى دَار الْعدْل قَالَ ابْن الْأَثِير كَانَ نور الدّين رحمه الله أول من بنى دَارا للكشف وسماها دَار الْعدْل وَكَانَ سَبَب بنائها أَنه لما طَال مقَامه بِدِمَشْق وَأقَام بهَا أمراؤه وَفِيهِمْ أَسد الدّين شيركوه وَهُوَ أكبر أَمِير مَعَه وَقد عظم شَأْنه وَعلا مَكَانَهُ حَتَّى صَار كَأَنَّهُ شريك فِي

ص: 41

الْملك واقتنوا الْأَمْلَاك وَأَكْثرُوا وتعدى كل وَاحِد مِنْهُم على من يجاوره فِي قَرْيَة أَو غَيرهَا فكثرت الشكاوى إِلَى كَمَال الدّين فأنصف بَعضهم من بعض وَلم يقدم على الْإِنْصَاف من أَسد الدّين شيركوه فأنهى الْحَال إِلَى نور الدّين فَأمر حِينَئِذٍ ببَناء دَار الْعدْل فَلَمَّا سمع أَسد الدّين بذلك أحضر نوابه جَمِيعهم وَقَالَ لَهُم اعلموا أَن نور الدّين مَا أَمر بِبِنَاء هَذِه الدَّار إِلَّا بسببي وحدي وَإِلَّا فَمن هُوَ الَّذِي يتمنع على كَمَال الدّين وَوَاللَّه لَئِن أحضرت إِلَى دَار الْعدْل بِسَبَب أحدكُم لأصلبنه فامضوا إِلَى كل من بَيْنكُم وَبَينه مُنَازعَة فِي ملك فَافْصِلُوا الْحَال مَعَه وأرضوه بِأَيّ طَرِيق أمكن وَلَو أَتَى ذَلِك على جَمِيع مَا بيَدي فَقَالُوا لَهُ إِن النَّاس إِذا علمُوا هَذَا اشتطوا فِي الطّلب

فَقَالَ خُرُوج أملاكي عَن يَدي أسهل على من أَن يراني نور الدّين بِعَين أَنِّي ظَالِم أَو يساوى بيني وَبَين آحَاد الْعَامَّة فِي الْحُكُومَة

فَخرج أَصْحَابه من عِنْده وفعلوا مَا أَمرهم وأرضوا خصماءهم وَأشْهدُوا عَلَيْهِم فَلَمَّا فرغت دَار الْعدْل جلس نور الدّين فِيهَا لفصل الحكومات وَكَانَ يجلس فِي الْأُسْبُوع يَوْمَيْنِ وَعِنْده القَاضِي وَالْفُقَهَاء وبقى كَذَلِك مُدَّة فَلم يحضر عِنْده أحد يشكو من أَسد الدّين فَقَالَ نور الدّين لكَمَال الدّين مَا أرى أحدا يشكو من شيركوه

فَعرفهُ الْحَال فَسجدَ شكرا لله تَعَالَى وَقَالَ الْحَمد لله الَّذِي أَصْحَابنَا ينصفون من أنفسهم قبل حضورهم عندنَا

قَالَ ابْن الْأَثِير فَانْظُر إِلَى هَذِه المعدلة مَا أحْسنهَا وَإِلَى هَذِه الهيبة مَا أعظمها وَإِلَى هَذِه السياسة مَا أسدها هَذَا مَعَ أَنه كَانَ لَا يريق دَمًا وَلَا يُبَالغ فِي عُقُوبَة وَإِنَّمَا كَانَ يفعل هَذَا صدقه فِي عدله وَحسن نِيَّته

قَالَ وَأما شجاعته وَحسن رَأْيه فقد كَانَت النِّهَايَة إِلَيْهِ فيهمَا فَإِنَّهُ أَصْبِر

ص: 42

النَّاس فِي الْحَرْب وَأَحْسَنهمْ مكيدة ورأيا وأجودهم معرفَة بِأُمُور الأجناد وأحوالهم وَبِه كَانَ يضْرب الْمثل فِي ذَلِك سَمِعت جمعا كثيرا من النَّاس لَا أحصيهم أَنهم لم يرَوا على ظهر الْفرس أحسن مِنْهُ كَأَنَّهُ خلق عَلَيْهِ لَا يَتَحَرَّك وَلَا يتزلزل

وَكَانَ من أحسن النَّاس لعبا بالكرة وأقدرهم عَلَيْهَا لم ير جوكانه يَعْلُو على رَأسه

وَكَانَ رُبمَا ضرب الكرة وَيجْرِي الْفرس ويتناولها بِيَدِهِ من الْهَوَاء ويرميها إِلَى آخر الميدان

وَكَانَت يَده لَا ترى والجوكان فِيهَا بل تكون فِي كم قبائه استهانة باللعب

وَكَانَ إِذا حضر الْحَرْب أَخذ قوسين وتركشين وباشر الْقِتَال بِنَفسِهِ وَكَانَ يَقُول طالما تعرضت للشَّهَادَة فَلم أدْركهَا

سَمعه يَوْمًا الإِمَام قطب الدّين النيسابورى الْفَقِيه الشَّافِعِي وَهُوَ يَقُول ذَلِك فَقَالَ لَهُ بِاللَّه لَا تخاطر بِنَفْسِك وَبِالْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمين فَإنَّك عمادهم وَلَئِن أصبت وَالْعِيَاذ بِاللَّه فِي معركة لَا يبْقى من الْمُسلمين أحد إِلَّا أَخذه السَّيْف وَأخذت الْبِلَاد فَقَالَ يَا قطب الدّين وَمن مَحْمُود حَتَّى يُقَال لَهُ هَذَا قبلى من حفظ الْبِلَاد وَالْإِسْلَام ذَلِك الله الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ

قَالَ وَكَانَ رحمه الله يكثر إِعْمَال الْحِيَل وَالْمَكْر وَالْخداع مَعَ الفرنج خذلهم الله تَعَالَى وَأكْثر مَا ملكه من بِلَادهمْ بِهِ وَمن جيد الرَّأْي مَا سلكه مَعَ مليح بن ليون ملك الأرمن صَاحب الدروب فَإِنَّهُ مَا زَالَ يخدعه ويستميله حَتَّى جعله فِي خدمته سفرا وحضرا وَكَانَ يُقَاتل بِهِ الإفرنج وَكَانَ يَقُول إِنَّمَا حَملَنِي على استمالته أَن بِلَاده حَصِينَة وعسرة المسلك

ص: 43

وقلاعه منيعة وَلَيْسَ لنا إِلَيْهَا طَرِيق وَهُوَ يخرج مِنْهَا إِذا أَرَادَ فينال من بِلَاد الْإِسْلَام فَإِذا طلب انحجر فِيهَا فَلَا يقدر عَلَيْهِ فَلَمَّا رَأَيْت الْحَال هَكَذَا بذلت لَهُ شَيْئا من الإقطاع على سَبِيل التَّالِف حَتَّى أجَاب إِلَى طاعتنا وخدمتنا وساعدنا على الفرنج

قَالَ وَحَيْثُ توفّي نور الدّين رحمه الله وسلك غَيره غير هَذَا الطَّرِيق ملك الْمُتَوَلِي الأرمن بعد مليح كثيرا من بِلَاد الْإِسْلَام وحصونهم وَصَارَ مِنْهُ ضَرَر عَظِيم وخرق وَاسع لَا يُمكن رقعه

قَالَ وَمن أحسن الآراء مَا كَانَ يَفْعَله مَعَ أجناده فَإِنَّهُ كَانَ إِذا توفّي أحدهم وَخلف ولدا أقرّ الإقطاع عَلَيْهِ فَإِن كَانَ الْوَلَد كَبِيرا استبد بِنَفسِهِ وَإِن كَانَ صَغِيرا رتب مَعَه رجلا عَاقِلا يَثِق إِلَيْهِ فيتولى أمره إِلَى أَن يكبر

فَكَانَ الأجناد يَقُولُونَ هَذِه أملاكناً يَرِثهَا الْوَلَد عَن الْوَالِد فَنحْن نُقَاتِل عَلَيْهَا وَكَانَ ذَلِك سبَباً عَظِيما من الْأَسْبَاب الْمُوجبَة للصبر فِي الْمشَاهد والحروب

وَكَانَ أَيْضا يثبت أَسمَاء أجناد كل أَمِير فِي ديوانه وسلاحهم خوفًا من حرص بعض الْأُمَرَاء وشحه أَن يحملهُ على أَن يقْتَصر على بعض مَا هُوَ مُقَرر عَلَيْهِ من الْعدَد وَيَقُول نَحن كل وَقت فِي النفير فَإِذا لم يكن أجناد كَافَّة الْأُمَرَاء كاملي الْعدَد وَالْعدَد دخل الوهن على الْإِسْلَام

قَالَ وَلَقَد صدق رضي الله عنه فِيمَا قَالَ وَأصَاب فِيمَا فعل فَلَقَد رَأينَا مَا خافه عيَانًا

قَالَ وَأما مَا فعله فِي بِلَاد الْإِسْلَام من الْمصَالح مِمَّا يعود إِلَى حفظهَا وَحفظ الْمُسلمين فكثير عَظِيم من ذَلِك أَنه بنى أسوار مدن الشَّام جَمِيعهَا

ص: 44

وقلاعها فَمِنْهَا حلب وحماة وحمص ودمشق وبارين وشيزر ومنبج وَغَيرهَا من القلاع والحصون وحصنها وَأحكم بناءها وَأخرج عَلَيْهَا من الْأَمْوَال مَا لَا تسمح بِهِ النُّفُوس

وَبنى أَيْضا الْمدَارِس بحلب وحماة ودمشق وَغَيرهَا للشَّافِعِيَّة وَالْحَنَفِيَّة

وَبنى الْجَوَامِع فِي جَمِيع الْبِلَاد فجامعه فِي الْموصل إِلَيْهِ النِّهَايَة فِي الْحسن والإتقان وَمن أحسن مَا عمل فِيهِ أَنه فوض أَمر عِمَارَته والخرج عَلَيْهِ إِلَى الشَّيْخ عمر الملاء رحمه الله وَهُوَ رجل من الصَّالِحين فَقيل لَهُ إِن هَذَا لَا يصلح لمثل هَذَا الْعَمَل فَقَالَ إِذا وليت الْعَمَل بعض أَصْحَابِي من الأجناد وَالْكتاب أعلم أَنه يظلم فِي بعض الْأَوْقَات وَلَا يَفِي الْجَامِع بظُلْم رجل مُسلم وَإِذا وليت هَذَا الشَّيْخ غلب على ظَنِّي أَنه لَا يظلم فَإِذا ظلم كَانَ الْإِثْم عَلَيْهِ لَا على قَالَ وَهَذَا هُوَ الْفِقْه فِي الْخَلَاص من الظُّلم

وَبنى أَيْضا بِمَدِينَة حماة جَامعا على نهر العَاصِي من أحسن الْجَوَامِع وأنزهها وجدد فِي غَيرهَا من عمَارَة الْجَوَامِع مَا كَانَ قد تهدم إِمَّا بزلزلة أَو غَيرهَا وَبنى البيمارستانات فِي الْبِلَاد وَمن أعظمها البيمارستان الَّذِي بناه بِدِمَشْق فَإِنَّهُ عَظِيم كثير الخرج جدا بَلغنِي أَنه لم يَجعله وَقفا على الْفُقَرَاء حسب بل على كَافَّة الْمُسلمين من غَنِي وفقير

قلت وَقد وقفت على كتاب وَقفه فَلم أره مشعرا بذلك وَإِنَّمَا هَذَا كَلَام شاع على أَلْسِنَة الْعَامَّة ليَقَع مَا قدره الله تَعَالَى من مزاحمة الْأَغْنِيَاء للْفُقَرَاء فِيهِ وَالله الْمُسْتَعَان

وَإِنَّمَا صرح بِأَن مَا يعز وجوده من الْأَدْوِيَة الْكِبَار

ص: 45

وَغَيرهَا لَا يمْنَع مِنْهُ من احْتَاجَ إِلَيْهِ من الْأَغْنِيَاء والفقراء

فَخص ذَلِك بذلك فَلَا يَنْبَغِي أَن يتَعَدَّى إِلَى غَيره لَا سِيمَا وَقد صرح قبل ذَلِك بِأَنَّهُ وقف على الْفُقَرَاء والمنقطعين وَقَالَ بعد ذَلِك من جَاءَ إِلَيْهِ مستوصفا لمرضه أعطي

وَرُوِيَ أَن نور الدّين رحمه الله شرب من شراب البيمارستان فِيهِ وَذَلِكَ مُوَافق لقَوْله فِي كتاب الْوَقْف من جَاءَ إِلَيْهِ مستوصفا لمرضه أعطي وَالله أعلم

وَبَلغنِي فِي أصل بنائِهِ نادرة وَهِي أَن نور الدّين رحمه الله وَقع فِي أسره بعض أكَابِر الْمُلُوك من الفرنج خذلهم الله تَعَالَى فَقطع على نَفسه فِي فدائه مَالا عَظِيما فَشَاور نور الدّين أمراءه فَكل أَشَارَ بِعَدَمِ إِطْلَاقه لما كَانَ فِيهِ من الضَّرَر على الْمُسلمين وَمَال نور الدّين إِلَى الْفِدَاء بَعْدَمَا استخار الله تَعَالَى فَأَطْلقهُ لَيْلًا لِئَلَّا يعلم أَصْحَابه وتسلم المَال فَلَمَّا بلغ الفرنجي مأمنه مَاتَ وَبلغ نور الدّين خَبره فَأعْلم أَصْحَابه فتعجبوا من لطف الله تَعَالَى بِالْمُسْلِمين حَيْثُ جمع لَهُم الحُسْنَيَين وهما الْفِدَاء وَمَوْت ذَلِك اللعين فَبنى نور الدّين رحمه الله بذلك المَال هَذَا البيمارستان وَمنع المَال الْأُمَرَاء لِأَنَّهُ لم يكن عَن إرادتهم كَانَ

وَقَالَ ابْن الْأَثِير وَبنى أَيْضا الْخَانَات فِي الطّرق فأمن النَّاس وحفظت أَمْوَالهم وَبَاتُوا فِي الشتَاء فِي كن من الْبرد والمطر

وَبنى أَيْضا الأبراج على الطّرق بَين الْمُسلمين والفرنج وَجعل فِيهَا من يحفظها وَمَعَهُمْ الطُّيُور الهوادى فَإِذا رَأَوْا من الْعَدو أحدا أرْسلُوا الطُّيُور فَأخذ النَّاس حذرهم واحتاطوا لأَنْفُسِهِمْ فَلم يبلغ الْعَدو مِنْهُم غَرضا وَكَانَ هَذَا من ألطف الْفِكر وأكثرها نفعا

ص: 46

قَالَ وَبنى الرَّبْط والخانقاهات فِي جَمِيع الْبِلَاد للصوفية ووقف عَلَيْهَا الْوُقُوف الْكَثِيرَة وأدر عَلَيْهِم الإدرارات الصَّالِحَة وَكَانَ يحضر مشايخهم عِنْده ويقربهم ويدنيهم ويبسطهم ويتواضع لَهُم وَإِذا أقبل أحدهم إِلَيْهِ يقوم لَهُ مذ تقع عينه عَلَيْهِ ويعتنقه ويجلسه مَعَه على سجادته وَيقبل عَلَيْهِ بحَديثه

وَكَذَلِكَ كَانَ أَيْضا يفعل بالعلماء من التَّعْظِيم والتوقير والاحترام ويجمعهم عِنْد الْبَحْث وَالنَّظَر فقصدوه من الْبِلَاد الشاسعة من خُرَاسَان وَغَيرهَا

وَبِالْجُمْلَةِ كَانَ أهل الدّين عِنْده فِي أَعلَى مَحل وأعظمه وَكَانَ أمراؤه يحسدونهم على ذَلِك وَكَانُوا يقعون عِنْده فيهم فينهاهم وَإِذا نقلوا عَن إِنْسَان عَيْبا يَقُول وَمن الْمَعْصُوم وَإِنَّمَا الْكَامِل من تعد ذنُوبه

قَالَ وَبَلغنِي أَن بعض أكَابِر الْأُمَرَاء حسد قطب الدّين النَّيْسَابُورِي الْفَقِيه الشَّافِعِي وَكَانَ قد استقدمه من خُرَاسَان وَبَالغ فِي إكرامه وَالْإِحْسَان إِلَيْهِ فحسده ذَلِك الْأَمِير فنال مِنْهُ يَوْمًا عِنْد نور الدّين فَقَالَ لَهُ يَا هَذَا إِن صَحَّ مَا تَقول فَلهُ حَسَنَة تغْفر كل زلَّة تذكرها وَهِي الْعلم وَالدّين

وَأما أَنْت وَأَصْحَابك ففيكم أَضْعَاف مَا ذكرت وَلَيْسَت لكم حَسَنَة تغفرها وَلَو عقلت لشغلك عيبك عَن غَيْرك وَأَنا أحتمل سَيِّئَاتكُمْ مَعَ عدم حسناتكم أَفلا أحمل سَيِّئَة هَذَا إِن صحت مَعَ وجود حسنته على أنني وَالله لَا أصدقك فِيمَا تَقول وَإِن عدت ذكرته أَو غَيره بِسوء لأؤدبنك فَكف عَنهُ

قَالَ ابْن الْأَثِير هَذَا وَالله هُوَ الْإِحْسَان وَالْفِعْل الَّذِي يَنْبَغِي أَن يكْتب على الْعُيُون بِمَاء الذَّهَب

وَبنى بِدِمَشْق أَيْضا دَار الحَدِيث ووقف عَلَيْهَا وعَلى من بهَا من المشتغلين بِعلم الحَدِيث وقوفا كَثِيرَة وَهُوَ أول من بنى دَارا للْحَدِيث فِيمَا

ص: 47

علمنَا

وَبنى أَيْضا فِي كثير من بِلَاده مكَاتب للأيتام وأجرى عَلَيْهِم وعَلى معلميهم الجرايات الوافرة

وَبنى أَيْضا مَسَاجِد كَثِيرَة ووقف عَلَيْهَا وعَلى من يقْرَأ بهَا الْقُرْآن

قَالَ وَهَذَا فعل لم يسْبق إِلَيْهِ بَلغنِي من عَارِف بإعمال الشَّام أَن وقُوف نور الدّين فِي وقتنا هَذَا وَهُوَ سنة ثَمَان وست مئة كل شهر تِسْعَة آلَاف دِينَار صوريه لَيْسَ فِيهَا ملك غير صَحِيح شَرْعِي ظَاهرا وَبَاطنا فَإِنَّهُ وقف مَا انْتقل إِلَيْهِ وَوزن ثمنه أَو مَا غلب عَلَيْهِ من بِلَاد الفرنج وَصَارَ سَهْمه

قَالَ وَأما هيبته ووقاره فإليه النِّهَايَة فيهمَا

وَلَقَد كَانَ كَمَا قيل شَدِيد فِي غير عنف رَقِيق فِي غير ضعف

وَاجْتمعَ لَهُ مَا لم يجْتَمع لغيره فَإِنَّهُ ضبط ناموس الْملك مَعَ أجناده وَأَصْحَابه إِلَى غَايَة لَا مزِيد عَلَيْهَا وَكَانَ يلْزمهُم بوظائف الْخدمَة الصَّغِير مِنْهُم وَالْكَبِير وَلم يجلس عِنْده أَمِير من غير أَن يَأْمُرهُ بِالْجُلُوسِ إِلَّا نجم الدّين أَيُّوب وَالِد صَلَاح الدّين يُوسُف وَأما من عداهُ كأسد الدّين شيركوه ومجد الدّين بن الداية وَغَيرهمَا فَإِنَّهُم كَانُوا إِذا حَضَرُوا عِنْده يقفون قيَاما إِلَى أَن يَأْمُرهُم بالقعود

وَكَانَ مَعَ هَذِه العظمة وَهَذَا الناموس الْقَائِم إِذا دخل عَلَيْهِ الْفَقِيه أَو الصُّوفِي أَو الْفَقِير يقوم لَهُ وَيَمْشي بَين يَدَيْهِ ويجلسه إِلَى جَانِبه كَأَنَّهُ اقْربْ النَّاس إِلَيْهِ

وَكَانَ إِذا أعْطى أحدهم شَيْئا يَقُول إِن هَؤُلَاءِ لَهُم فِي بَيت المَال حق فَإِذا قنعوا منا بِبَعْضِه فَلهم الْمِنَّة علينا

وَكَانَ مَجْلِسه كَمَا روى فِي صفة مجْلِس رَسُول الله صلى الله عليه وسلم مجْلِس حلم وحياء لَا تؤبن فِيهِ الْحرم

وَهَكَذَا كَانَ مَجْلِسه لَا يذكر فِيهِ إِلَّا

ص: 48

الْعلم وَالدّين وأحوال الصَّالِحين والمشاورة فِي أَمر الْجِهَاد وَقصد بِلَاد الْعَدو وَلَا يتَعَدَّى هَذَا

بَلغنِي أَن الْحَافِظ ابْن عَسَاكِر الدِّمَشْقِي رضي الله عنه حضر مجْلِس صَلَاح الدّين يُوسُف لما ملك دمشق فَرَأى فِيهِ من اللَّغط وَسُوء الْأَدَب من الْجُلُوس فِيهِ مَا لَا حد عَلَيْهِ فشرع يحدث صَلَاح الدّين كَمَا كَانَ يحدث نور الدّين فَلم يتَمَكَّن من القَوْل لِكَثْرَة الِاخْتِلَاف من المتحدثين وَقلة استماعهم فَقَامَ وبقى مُدَّة لَا يحضر الْمجْلس الصلاحي وتكرر من صَلَاح الدّين الطّلب لَهُ فَحَضَرَ فَعَاتَبَهُ صَلَاح الدّين يُوسُف على انْقِطَاعه فَقَالَ نزهت نَفسِي عَن مجلسك فإنني رَأَيْته كبعض مجَالِس السُّوقة لَا يستمع إِلَى قَائِل وَلَا يرد جَوَاب مُتَكَلم وَقد كُنَّا بالْأَمْس نحضر مجْلِس نور الدّين فَكُنَّا كَمَا قيل كَأَنَّمَا على رؤوسنا الطير تعلونا الهيبة وَالْوَقار فَإِذا تكلم أنصتنا وَإِذا تكلمنا اسْتمع لنا فَتقدم صَلَاح الدّين إِلَى أَصْحَابه أَنه لَا يكون مِنْهُم مَا جرت بِهِ عَادَتهم إِذا حضر الْحَافِظ

قَالَ ابْن الْأَثِير فَهَكَذَا كَانَت أَحْوَاله جَمِيعهَا رحمه الله مضبوطة مَحْفُوظَة

وَأما حفظ أصُول الديانَات فَإِنَّهُ كَانَ مراعياً لَهَا لَا يهملها وَلَا يُمكن أحدا من النَّاس من إِظْهَار مَا يُخَالف الْحق وَمَتى أقدم مقدم على ذَلِك أدبه بِمَا يُنَاسب بدعته

وَكَانَ يُبَالغ فِي ذَلِك وَيَقُول نَحن نَحْفَظ الطّرق من لص وقاطع طَرِيق والأذى الْحَاصِل مِنْهُمَا قريب أَفلا نَحْفَظ الدّين ونمنع عَنهُ مَا يناقضه وَهُوَ الأَصْل

قَالَ وَحكي أَن إنْسَانا بِدِمَشْق يعرف بِيُوسُف بن آدم كَانَ يظْهر

ص: 49

الزّهْد والنسك وَقد كثر أَتْبَاعه أظهر شَيْئا من التَّشْبِيه فَبلغ خَبره نور الدّين فَأحْضرهُ وأركبه حمارا وَأمر بصفعه فطيف بِهِ فِي الْبِلَاد جَمِيعه وَنُودِيَ عَلَيْهِ هَذَا جَزَاء من أظهر فِي الدّين الْبدع

ثمَّ نَفَاهُ من دمشق فقصد حران وَأقَام بهَا إِلَى أَن مَاتَ

قَالَ ويسوق الله الْقصار الْأَعْمَار إِلَى الْبِلَاد الوخمة

قلت وَذكر الْعِمَاد الْكَاتِب فِي أَوله كِتَابه الْبَرْق الشَّامي أَنه قدم دمشق فِي شعْبَان سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَخمسين مئة فِي دولة الْملك نور الدّين مَحْمُود بن زنكي وَأخذ فِي وَصفه بِكَلَامِهِ المسجوع فَقَالَ كَانَ ملك بِلَاد الشَّام ومالكها وَالَّذِي بِيَدِهِ ممالكها الْملك الْعَادِل نور الدّين أعف الْمُلُوك وأتقاهم وأثقبهم رَأيا وأنقاهم وأعدلهم وأعبدهم وأزهدهم وأجهدهم وأظهرهم وأطهرهم وَأَقْوَاهُمْ وأقدرهم وأصلحهم عملا وأنجحهم أملا وأرجحهم رَأيا وأوضحهم آيا وأصدقهم قولا وأقصدهم طولا وَكَانَ عصره فَاضلا وَنَصره واصلا وَحكمه عادلا وفضله شَامِلًا وزمانه طيبا وإحسانه صيبا والقلوب بمهابته ومحبته ممتلية والنفوس بعاطفته وعارفته متملية وأموره مقتبلة وأوامره ممتثلة وجده منزه عَن الْهزْل ونوابه فِي أَمن من الْعَزْل ودولته مأمولة مَأْمُونَة وروضته مصوبة مصونة والرياسة كَامِلَة والسياسة شَامِلَة وَالزِّيَادَة زَائِدَة والسعادة مساعدة والعيشة ناضرة والشيعة ناصرة والإنصاف صَاف والإسعاف عاف وأزر الدّين قوي وظمأ الْإِسْلَام رُوِيَ وزند النجح وري وَالشَّرْع مَشْرُوع وَالْحكم مسموع وَالْعدْل مولى وَالظُّلم مَعْزُول والتوحيد مَنْصُور والشرك مخذول وللتقى شروق وَمَا للفسوق سوق وَهُوَ الَّذِي أعَاد رونق الْإِسْلَام إِلَى بِلَاد الشَّام وَقد غلب

ص: 50

الْكفْر وَبلغ الضّر فَاسْتَفْتَحَ معاقلها واستخلص عقائلها وأشاع بهَا شعار الشَّرْع فِي جَمِيع الْحل وَالْعقد والإبرام والنقض والبسط وَالْقَبْض والوضع وَالرَّفْع وَكَانَت للفرنج فِي أَيَّام غَيره على بِلَاد الْإِسْلَام بِالشَّام قطائع فقطعها وَعفى رسومها ومنعها وَنَصره الله عَلَيْهِم مرَارًا حَتَّى أسر مُلُوكهمْ وبدد سلوكهم وصان الثغور مِنْهُم وحماها عَنْهُم وَأَحْيَا معالم الدّين الدوارس وَبنى للأئمة الْمدَارِس وَأَنْشَأَ الخانقاهات للصوفية وكثرها فِي كل بلد وَكثر وقوفها وَقرر معروفها وَأدنى للوافدين من جنان جنابه قطوفها وَأَجد الأسوار والخنادق وأنمى الْمرَافِق وَحمى الْحَقَائِق وَأمر فِي الطرقات بِبِنَاء الرَّبْط والخانات وضافت ضيوف الْفَضَائِل وفاضت فيوض الْفَاضِل وَهُوَ الَّذِي فتح مصر وأعمالها وَأَنْشَأَ دولتها ورجالها

ثمَّ ذكر الْعِمَاد فِي أثْنَاء حوادث سنة تسع وَسِتِّينَ وَهِي السّنة الَّتِي توفى فِيهَا نور الدّين قَالَ وَفِي هَذِه السّنة أَكثر نور الدّين من الْأَوْقَاف وَالصَّدقَات وَعمارَة الْمَسَاجِد المهجورة وتعفيه آثَار الآثام وَإِسْقَاط كل مَا يدْخل فِي شُبْهَة الْحَرَام فَمَا أبقى سوى الْجِزْيَة وَالْخَرَاج وَمَا تحصل من قسْمَة الغلات على قويم الْمِنْهَاج قَالَ وَأَمرَنِي بكتبة مناشير لجَمِيع أهل الْبِلَاد فَكتبت أَكثر من ألف منشور وحسبنا مَا تصدق بِهِ على الْفُقَرَاء فِي تِلْكَ الْأَشْهر فَزَاد على ثَلَاثِينَ ألف دِينَار

وَكَانَت عَادَته فِي الصَّدَقَة أَن يحضر جمَاعَة من أماثل الْبَلَد من كل مَحَله ويسألهم عَمَّن يعْرفُونَ فِي جوارهم

ص: 51

من أهل الْحَاجة ثمَّ يصرف إِلَيْهِم صَدَقَاتهمْ وَكَانَ برسم نَفَقَة الْخَاص فِي كل شهر من جِزْيَة أهل الذِّمَّة مبلغ ألفي قرطيس يصرفهُ فِي كسوته وَنَفَقَته وحوائجه المهمة حَتَّى أُجْرَة خياطه وجامكية طباخة ويستفضل مِنْهُ مَا يتَصَدَّق بِهِ فِي آخر الشَّهْر

وَأما مَا كَانَ يهدي إِلَيْهِ من هَدَايَا الْمُلُوك وَغَيرهم فَإِنَّهُ كَانَ لَا يتَصَرَّف فِي شَيْء مِنْهُ لَا قَلِيل وَلَا كثير بل إِذا اجْتمع يُخرجهُ إِلَى مجْلِس القَاضِي يحصل ثمنه وَيصرف فِي عمَارَة الْمَسَاجِد المهجورة

وَتقدم بإحصاء مَا فِي محَال دمشق فاناف على مئة مَسْجِد فَأمر بعمارة ذَلِك كُله وَعين لَهُ وقوفاً

قَالَ وَلَو اشتغلت بِذكر وُقُوفه وصدقاته فِي كل بلد لطال الْكتاب وَلم يبلغ إِلَى أمد ومشاهدة أبنيته الدَّالَّة على خلوص نِيَّته تغنى عَن خَبَرهَا بالعيان وَيَكْفِي أسوار الْبلدَانِ فضلا عَن الرَّبْط والمدارس على اخْتِلَاف الْمذَاهب وَاخْتِلَاف الْمَوَاهِب وَفِي شرح طوله طول وَعَمله لله ذَلِك مبرور مَقْبُول

وواظب على عقد مجَالِس الوعاظ وَنصب الْكُرْسِيّ لَهُم فِي القلعة فلإنذار والاتعاظ وأكبرهم الْفَقِيه قطب الدّين النَّيْسَابُورِي وَهُوَ مشغوف ببركة أنفاسه واغتنام كَلَامه واقتباسه

ووفد من بَغْدَاد ابْن الشَّيْخ أبي النجيب الْأَكْبَر وَبسط لَهُ فِي كل أُسْبُوع الْمِنْبَر وشاقه وعظه وراقه مَعْنَاهُ وَلَفظه

وَكَذَلِكَ وَفد إِلَيْهِ من أَصْبَهَان الْفَقِيه شرف الدّين عبد الْمُؤمن بن

ص: 52

شوروه وَمَا أَيمن تِلْكَ الْأَيَّام وأبرك تِلْكَ الشتوة

قَالَ وَلما أسقط نور الدّين الْجِهَات المحظورة والشبه المحذورة عزل الشحن وَصرف عَن الرّعية بصرفهم المحن وَقَالَ للْقَاضِي كَمَال الدّين بن الشهرزوري انْظُر أَنْت فِي ذَلِك واحمل أُمُور النَّاس على الشَّرِيعَة

قَالَ وَلم يكن لمَال الْمَوَارِيث الحشرية حَاصِل وَلَا لديوانه طائل فَجعل نور الدّين ثلث مَا يحصل فِيهِ لكَمَال لكَمَال الدّين الْحَاكِم فوفره نوابه

ص: 53

وكثروه وَمَا كَانَ نور الدّين يُحَاسب القَاضِي على شَيْء من الْوُقُوف وَيَقُول انا قلدته على أَن يتَصَرَّف بِالْمَعْرُوفِ

وَمَا فضل من مصارفها وشروط واقفها يَأْمُرهُ بصرفه فِي بِنَاء الأسوار وَحفظ الثغور وَكَانَت دولته نَافِذَة الْأَوَامِر منتظمة الْأُمُور

قلت وَحكى الشَّيْخ أَبُو البركات الْحسن بن مُحَمَّد بن الْحسن بن هبة الله أَنه حضر مَعَ عَمه الْحَافِظ أبي الْقَاسِم رحمه الله مجْلِس نور الدّين لسَمَاع شَيْء من الحَدِيث فَمر فِي أثْنَاء الحَدِيث أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم خرج مُتَقَلِّدًا سَيْفا فاستفاد نور الدّين أمرا لم يكن يعرفهُ وَقَالَ كَانَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يتقلد السَّيْف يُشِير إِلَى التَّعَجُّب من عَادَة الْجند إِذْ هم على خلاف ذَلِك يربطونه بأوساطهم

قَالَ فَلَمَّا كَانَ من الْغَد مَرَرْنَا تَحت القلعة وَالنَّاس مجتمعون ينتظرون ركُوب السُّلْطَان فوقفنا نَنْظُر إِلَيْهِ مَعَهم فَخرج نور الدّين رحمه الله من القلعة وَهُوَ متقلد السَّيْف وَجَمِيع عسكره كَذَلِك

فرحمة الله على هَذَا الْملك الَّذِي لم يفرط فِي الِاقْتِدَاء بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمثل هَذِه الْحَالة بل لما بلغته رَجَعَ بِنَفسِهِ ورد جنده عَن عوائدهم اتبَاعا لما بلغه عَن نبيه صلى الله عليه وسلم فَمَا الظَّن بِغَيْر ذَلِك من السّنَن

وَلَقَد بَلغنِي أَنه أَمر بِإِسْقَاط ألقابه فِي الدُّعَاء على المنابر وَرَأى لَهُ وزيره موفق الدّين خَالِد بن القيسراني الشَّاعِر فِي مَنَامه أَنه يغسل ثِيَابه وقص ذَلِك عَلَيْهِ

ففكر سَاعَة ثمَّ أمره بكتابه إِسْقَاط المكوس وَقَالَ هَذَا تَفْسِير مَنَامك

وَكَانَ فِي تَهَجُّده يَقُول ارْحَمْ العشار المكاس

وَبعد أَن أبطل ذَلِك استعجل من النَّاس فِي حل وَقَالَ وَالله مَا أخرجناها إِلَّا فِي جِهَاد عَدو الْإِسْلَام

يعْتَذر بذلك إِلَيْهِم عَن أَخذهَا مِنْهُم

ص: 54

وعَلى الْجُمْلَة كَانَ نور الدّين رَحمَه الله تَعَالَى فَردا فِي زَمَانه من بَين سَائِر الْمُلُوك وَلَو لم يكن إِلَّا استماعه للموعظة وانقياده لَهَا وَإِن اشْتَمَلت على أَلْفَاظ قد أغْلظ لَهُ فِيهَا

قَرَأت فِي تَارِيخ إربل لشرف الدّين بن المستوفي رحمه الله قَالَ المنتجب الْوَاعِظ هُوَ أَبُو عُثْمَان المنتجب بن أبي مُحَمَّد البحتري الوَاسِطِيّ ورد إربل وَوعظ بهَا وَكَانَ لَهُ قبُول عَظِيم وسافر إِلَى نور الدّين مَحْمُود بن زنكي بن آق سنقر إِلَى الشَّام بِسَبَب الْغُزَاة وأنفذ لَهُ نور الدّين جملَة من مَال فَلم يقبلهَا وردهَا عَلَيْهِ

أَنْشدني لَهُ يحيى بن مُحَمَّد بن صَدَقَة قصيدة عَملهَا فِي نور الدّين وَحلف أَنه سَمعهَا من لَفظه

(مثل وقوفك أَيهَا الْمَغْرُور

يَوْم الْقِيَامَة وَالسَّمَاء تمور)

(إِن قيل نور الدّين رحت مُسلما

فاحذر بِأَن تبقى وَمَالك نور)

(أنهيت عَن شرب الْخُمُور وَأَنت من

كأس الْمَظَالِم طافح مخمور)

(عطلت كاسات المدام تعففا

وَعَلَيْك كاسات الْحَرَام تَدور)

(مَاذَا تَقول إِذا نقلت إِلَى البلى

فَردا وجاءك مُنكر وَنَكِير)

(وتعلقت فِيك الْخُصُوم وَأَنت فِي

يَوْم الْحساب مسحب مجرور)

(وَتَفَرَّقَتْ عَنْك الْجنُود وَأَنت فِي

ضيق اللَّحود مُوَسَّدٌ مقبور)

ص: 55

(ووددت أَنَّك مَا وليت ولَايَة

يَوْمًا وَلَا قَالَ الْأَنَام أَمِير)

(وَبقيت بعد العزّ رَهْن حُفيرة

فِي عَالم الْمَوْتَى وَأَنت حقير)

(وحشرت عُريَانا حَزينًا باكيا

قلقا وَمَالك فِي الْأَنَام مجير)

(أرضيت أَن تحيا وقلبك دارس

عافي الخراب وجسمك الْمَعْمُور)

(أرضيت أَن يحظى سواك بِقُرْبِهِ

أبدا وَأَنت مبعد مهجور)

(مهد لنَفسك حجَّة تنجو بهَا

يَوْم الْمعَاد لَعَلَّك الْمَعْذُور)

قلت وَلَعَلَّ هَذِه الأبيات كَانَت من أقوى الْأَسْبَاب المحركة إِلَى إبِْطَال تِلْكَ الْمَظَالِم والخلاص من تِلْكَ المآثم رَضِي الله عَن الْوَاعِظ والمتعظ بِسَبَبِهِ ووفق من رام الِاقْتِدَاء بِهِ

ونقلت من خطّ الصاحب الْعَالم كَمَال الدّين أبي الْقَاسِم عمر بن أَحْمد بن هبة الله ابْن أبي جَرَادَة فِي = كتاب تَارِيخ حلب = الَّذِي صنفه

ص: 56

وَسمعت من لَفظه أَن نور الدّين رحمه الله كَانَ مَعَ أَبِيه بحلب فَلَمَّا حاصر أَبوهُ قلعة جعبر وَقتل عَلَيْهَا قصد حلب وَصعد قلعتها وملكها فِي شهر ربيع الأول سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَخمْس مئة وَأحسن إِلَى الرّعية وَبث الْعدْل وَرفع الْجور وأبطل الْبدع واشتغل بالغزو وَفتح قلاعا كَثِيرَة من عمل حلب كَانَت بيد الفرنج وَحدث بحلب ودمشق عَن جمَاعَة من الْعلمَاء أَجَازُوا لَهُ مِنْهُم أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن رِفَاعَة بن غَدِير السَّعْدِيّ الْمصْرِيّ

روى عَنهُ جمَاعَة من شُيُوخنَا مثل أبي الْفضل أَحْمد وَأبي البركات الْحسن وَأبي مَنْصُور عبد الرَّحْمَن بن أَبى عبد الله مُحَمَّد بن الْحسن بن هبه الله الشَّافِعِي

قَالَ ووقفت على رقْعَة بِخَط الْوَزير خَالِد بن مُحَمَّد بن نصر بن القيسراني كتبهَا إِلَى نور الدّين وجوابها من نور الدّين على رَأس الورقة وَبَين السطور فنقلت جَمِيع مَا فِيهَا من خطيهما

قَالَ وَكَانَ رحمه الله كتب رقْعَة يطْلب من ابْن القيسراني أَن يكْتب لَهُ صُورَة مَا يدعى لَهُ بِهِ على المنابر حَتَّى لَا يَقُول الْخَطِيب مَا لَيْسَ فِيهِ ويصونه عَن الْكَذِب وَعَما هُوَ مُخَالف لحاله

ونسخة الورقة بِخَط خَالِد أَعلَى الله قدر الْمولى فِي الدَّاريْنِ وبلغه آماله فِي نَفسه وَذريته وَختم لَهُ بِخَير فِي العاجلة والآجلة بمنه وجوده وفضله وحمده

وقف الْمَمْلُوك على الرقعة وتضاعف دعاؤه

ص: 57

وابتهاله إِلَى الله تَعَالَى بِأَن يرضى عَنهُ وَعَن وَالِديهِ وَأَن يسهل لَهُ السلوك إِلَى رِضَاهُ والقرب مِنْهُ والفوز عِنْده إِنَّه على كل شَيْء قدير

وَقد رأى الْمَمْلُوك مَا يعرضه على الْعلم الْأَشْرَف زَاده الله شرفا وَهُوَ أَن يذكر الْخَطِيب على الْمِنْبَر إِذا أَرَادَ الدُّعَاء للْمولى اللَّهُمَّ أصلح عَبدك الْفَقِير إِلَى رحمتك الخاضع لهيبتك المعتصم بقوتك الْمُجَاهِد فِي سَبِيلك المرابط لأعداء دينك أَبَا الْقَاسِم مَحْمُود بن زنكي بن آق سنقر نَاصِر أَمِير الْمُؤمنِينَ

فَإِن هَذَا جَمِيعه لَا يدْخلهُ كذب وَلَا تزيد والرأي أَعلَى وأسمى إِن شَاءَ الله تَعَالَى

فَكتب نور الدّين على رَأس الرقعة بِخَطِّهِ مَا هَذَا صورته مقصودى أَلا يكذب على الْمِنْبَر أَنا بِخِلَاف كل مَا يُقَال أفرح بِمَا لَا أعمل قله عقل عَظِيم الَّذِي كتبت جيد هُوَ اكْتُبْ بِهِ نسخ حَتَّى نسيره إِلَى جَمِيع الْبِلَاد

وَكتب فِي آخر الرقعة ثمَّ يبدؤوا بِالدُّعَاءِ اللَّهُمَّ أره الْحق حَقًا اللَّهُمَّ أسعده اللَّهُمَّ انصره اللَّهُمَّ وَفقه من هَذَا الْجِنْس

قَالَ وحَدثني وَالِدي قَالَ استدعانا نور الدّين أَنا وعمك أَبُو غَانِم وَشرف الدّين بن أبي عصرون إِلَى الميدان الْأَخْضَر وأشهدنا عَلَيْهِ بوقف حوانيت على سور حمص

فَلَمَّا شَهِدنَا عَلَيْهِ الْتفت إِلَيْنَا وَقَالَ بِاللَّه انْظُرُوا أَي شَيْء علمتموه من أَبْوَاب الْبر وَالْخَيْر دلونا عَلَيْهِ وأشركونا فِي الثَّوَاب فَقَالَ

ص: 58

شرف الدّين بن أبي عصرون وَالله مَا ترك الْمولى شَيْئا من أَبْوَاب الْبر إِلَّا وَقد فعله وَلم يتْرك لأحد بعده فعل خير إِلَّا وَقد سبقه إِلَيْهِ

وَقَالَ قَالَ لي وَالِدي دخل فِي أَيَّام نور الدّين إِلَى حلب تَاجر مُوسر فَمَاتَ بهَا وَخلف بهَا ولدا صَغِيرا ومالا كثيرا فَكتب بعض من بحلب إِلَى نور الدّين يذكر لَهُ أَن قد مَاتَ هَا هُنَا رجل تَاجر مُوسر وَخلف عشْرين ألف دِينَار أَو فَوْقهَا وَله ولد عمره عشر سِنِين

وَحسن لَهُ أَن يرفع المَال إِلَى الخزانة إِلَى أَن يكبر الصَّغِير ويرضى مِنْهُ بِشَيْء ويمسك الْبَاقِي للخزانة

فَكتب على رقعته أما الْمَيِّت فرحمه الله وَأما الْوَلَد فأنشأه الله وَأما المَال فثمره الله وَأما السَّاعِي فلعنه الله

وبلغتني هَذِه الْحِكَايَة عَن غير نور الدّين أَيْضا

وحَدثني الْحَاج عمر بن سنقر عَتيق شاذبجت النوري قَالَ سَمِعت الطواشي شاذبخت الْخَادِم يحْكى لنا قَالَ كنت يَوْمًا أَنا وسنقرجا واقفين على رَأس نور الدّين وَقد صلى الْمغرب وَجلسَ وَهُوَ مفكر فكرا عَظِيما وَجعل ينْكث بِأُصْبُعِهِ فِي الأَرْض

فتعجبنا من فكره وَقُلْنَا ترى فِي أَي شَيْء يفكر فِي عائلته أَو فِي وَفَاء دينه فَكَأَنَّهُ فطن بِنَا فَرفع رَأسه فَقَالَ مَا تقولان فَقُلْنَا مَا قُلْنَا شَيْئا فَقَالَ بحياتي قولا لي

فَقُلْنَا عجبنا من إفراط مَوْلَانَا فِي الْفِكر وَقُلْنَا يفكر فِي عائلته أَو فِي نَفسه

فَقَالَ وَالله إِنَّنِي أفكر فِي وَال وليته أمرا من أُمُور الْمُسلمين فَلم يعدل فيهم أَو فِيمَن يظلم الْمُسلمين من أَصْحَابِي وأعواني وأخاف الْمُطَالبَة بذلك فبالله عَلَيْكُم وَإِلَّا فخبزي عَلَيْكُم حرَام لَا تريان قصَّة ترفع إِلَى أَو تعلمان مظْلمَة إِلَّا وأعلماني بهَا وارفعاها إِلَيّ

وَسمعت قَاضِي الْقُضَاة بهاء الدّين أَبَا المحاسن يُوسُف بن رَافع بن

ص: 59

تَمِيم قَالَ كَانَ نور الدّين ينفذ كل سنة فِي شهر رَمَضَان يطْلب من الشَّيْخ عمر الملاء شَيْئا يفْطر عَلَيْهِ فَكَانَ ينفذ إِلَيْهِ الأكياس فِيهَا الفتيت والرقاق وَغير ذَلِك فَكَانَ نور الدّين يفْطر عَلَيْهِ

وَكَانَ إِذا قدم الْموصل لَا يَأْكُل إِلَّا من طَعَام الشَّيْخ عمر الملاء

قَالَ وَكَانَ نور الدّين لما صَارَت لَهُ الْموصل قد أَمر كمشتكين شحنة الْموصل أَلا يعْمل شَيْئا إِلَّا بِالشَّرْعِ إِذا أمره القَاضِي بِهِ وَألا يعْمل القَاضِي والنواب كلهم شَيْئا إِلَّا بِأَمْر الشَّيْخ عمر الملاء

قَالَ فَكَانَ لَا يعْمل بالسياسة وَبَطلَت الشحنكية

فجَاء أكَابِر الدولة وَقَالُوا لكمشتكين قد كثر الدعار وأرباب الْفساد وَلَا يَجِيء من هَذَا شَيْء إِلَّا بِالْقَتْلِ والصلب فَلَو كتبت إِلَى نور الدّين وَقلت لَهُ فِي ذَلِك

فَقَالَ لَهُم أَنا لَا أكتب إِلَيْهِ فِي هَذَا الْمَعْنى وَلَا أجسر على ذَلِك فَقولُوا للشَّيْخ عمر يكْتب إِلَيْهِ

فحضورا عِنْده وَذكروا لَهُ ذَلِك فَكتب إِلَى نور الدّين وَقَالَ لَهُ إِن الدعار والمفسدين وقطاع الطَّرِيق قد كَثُرُوا وَيحْتَاج إِلَى نوع سياسة فَمثل هَذَا لَا يَجِيء إِلَّا بقتل وصلب وَضرب وَإِذا أَخذ مَال إِنْسَان فِي الْبَريَّة من يشْهد لَهُ قَالَ فَقلب نور الدّين كِتَابه وَكتب على ظَهره إِن الله تَعَالَى خلق الْخلق وَهُوَ أعلم بمصلحتهم وَشرع لَهُم شَرِيعَة وَهُوَ أعلم بِمَا يصلحهم وَإِن مصلحتهم تحصل فِيمَا شَرعه على وَجه الْكَمَال فِيهَا وَلَو علم أَن على الشَّرِيعَة زِيَادَة فِي الْمصلحَة لشرعه فَمَا لنا حَاجَة إِلَى زِيَادَة على مَا شَرعه الله تَعَالَى قَالَ فَجمع الشَّيْخ عمر الملاء أهل الْموصل وأقرأهم الْكتاب وَقَالَ انْظُرُوا فِي كتاب الزَّاهِد إِلَى الْملك وَكتاب الْملك إِلَى الزَّاهِد

ص: 60

وَسمعت صقر الْمعدل يَقُول سَمِعت مُقَلدًا يَعْنِي الدولعي يَقُول لما مَاتَ الْحَافِظ الْمرَادِي وَكُنَّا جمَاعَة الْفُقَهَاء قسمَيْنِ الْعَرَب والأكراد فمنا من مَال إِلَى الْمَذْهَب وأردنا أَن نستدعي الشَّيْخ شرف الدّين بن أبي عصرون وَكَانَ بالموصل وَمنا من مَال إِلَى علم النّظر وَالْخلاف وَأَرَادَ أَن نستدعي القطب النَّيْسَابُورِي وَكَانَ قد جَاءَ وزار الْبَيْت الْمُقَدّس ثمَّ عَاد إِلَى بِلَاد الْعَجم فَوَقع بَيْننَا كَلَام بِسَبَب ذَلِك وَوَقعت فتْنَة بَين الْفُقَهَاء

فَسمع نور الدّين بذلك فاستدعى جمَاعَة الْفُقَهَاء إِلَى القلعة بحلب وَخرج إِلَيْهِم مجد الدّين يَعْنِي ابْن الداية عَن لِسَانه وَقَالَ نَحن مَا أردنَا بِبِنَاء الْمدَارِس إِلَّا نشر الْعلم ودحض الْبدع من هَذِه الْبَلدة وَإِظْهَار الدّين وَهَذَا الَّذِي جرى بَيْنكُم لَا يحسن وَلَا يَلِيق وَقد قَالَ الْمولى نور الدّين نَحن نرضى الطَّائِفَتَيْنِ ونستدعي شرف الدّين بن أبي عصرون وقطب الدّين النَّيْسَابُورِي فاستدعاهما جَمِيعًا وَولى مدرسة ابْن أبي عصرون لشرف الدّين ومدرسة النفري لقطب الدّين

قَالَ وعلقت أَيْضا من خطّ فَقِيه كَانَ معيدا بالنظامية يُقَال

ص: 61

لَهُ أَبُو الْفَتْح بنجير بن أبي الْحسن بن بنجير الأشتري وَكَانَ ورد دمشق وَجمع لنُور الدّين سيرة مختصرة قَالَ كَانَ نور الدّين يقْعد فِي الْأُسْبُوع أَرْبَعَة أَيَّام أَو خَمْسَة أَيَّام فِي دَار الْعدْل للنَّظَر فِي أُمُور الرّعية وكشف الظلامة لَا يطْلب بذلك درهما وَلَا دِينَارا وَلَا زِيَادَة ترجع إِلَى خزانته وَإِنَّمَا يفعل ذَلِك ابْتِغَاء مرضاة الله وطلبا للثَّواب والزلفى فِي الْآخِرَة وَيَأْمُر بِحُضُور الْعلمَاء وَالْفُقَهَاء وَيَأْمُر بِإِزَالَة الْحَاجِب والبواب حَتَّى يصل إِلَيْهِ الضَّعِيف وَالْفَقِير وَالْقَوِي والغني ويكلمهم بِأَحْسَن الْكَلَام ويستفهم مِنْهُم بأبلغ النظام حَتَّى لَا يطْمع الْغَنِيّ فِي دفع الْفَقِير بِالْمَالِ وَلَا الْقوي فِي دفع الضَّعِيف بالقال

ويحضر فِي مَجْلِسه الْعَجُوز الضعيفة الَّتِي لَا تقدر على الْوُصُول إِلَى خصمها وَلَا المكالمة مَعَه فيأمر بمساواته لَهَا فتغلب خصمها طَمَعا فِي عدله ويعجز الْخصم عَن دَفعهَا خوفًا من عدله فَيظْهر الْحق عِنْده فيجرى الله على لِسَانه مَا هُوَ مُوَافق للشريعة وَيسْأل الْعلمَاء وَالْفُقَهَاء عَمَّا يشكل عَلَيْهِ من الْأُمُور الغامضة فَلَا يجرى فِي مَجْلِسه إِلَّا مَحْض الشَّرِيعَة

قَالَ وَأما زَمَانه فَهُوَ مَصْرُوف إِلَى مصَالح النَّاس وَالنَّظَر فِي أُمُور الرّعية والشفقة عَلَيْهِم وَأما فكره فَفِي إِظْهَار شعار الْإِسْلَام وتأسيس قَاعِدَة الدّين من بِنَاء الرَّبْط والمدارس والمساجد حَتَّى إِن بِلَاد الشَّام كَانَت خَالِيَة من الْعلم وَأَهله وَفِي زَمَانه صَارَت مقرا للْعُلَمَاء وَالْفُقَهَاء والصوفية لصرف همته إِلَى بِنَاء الْمدَارِس والربط وترتيب أُمُورهم وَالنَّاس آمنون على أَمْوَالهم

ص: 62

وأنفسهم وَلَو لم يكن من هَذِه الْخِصَال إِلَّا مَا علم مِنْهُ وشاع أَنه إِذا وعد وَفِي وَإِذا أوعد عَفا وَإِذا تحدث بِشَيْء يقف عَلَيْهِ وَلَا يُخَالف قَوْله وَلَا يرجع عَن لَفظه ومنطقه لكفى

وَلَا يجْرِي فِي مَجْلِسه الْفسق والفجور والشتم والغيبة والقدح فِي النَّاس وَالْكَلَام فِي أعراضهم كَمَا يجرى فِي مجَالِس سَائِر الْمُلُوك وَلَا يطْمع فِي أَخذ أَمْوَال النَّاس وَلَا يرضى بِأَن يَأْخُذ أحد من أَمْوَال الشَّرِيعَة شَيْئا بِغَيْر حق

قَالَ وبلغنا بأخبار التَّوَاتُر عَن جمَاعَة يعْتَمد على قَوْلهم أَنه أَكثر اللَّيَالِي يُصَلِّي ويناجي ربه مُقبلا بِوَجْهِهِ عَلَيْهِ وَيُؤَدِّي الصَّلَوَات الْخمس فِي أَوْقَاتهَا بِتمَام شرائطها وأركانها وركوعها وسجودها

قَالَ وبلغنا عَن جمَاعَة من الصُّوفِيَّة الَّذين يعْتَمد على أَقْوَالهم مِمَّن دخلُوا ديار الْقُدس للزيارة حِكَايَة عَن الْكفَّار أَنهم يَقُولُونَ ابْن القسيم لَهُ مَعَ الله سر فَإِنَّهُ مَا يظفر علينا بِكَثْرَة جنده وَعَسْكَره وَإِنَّمَا يظفر علينا بِالدُّعَاءِ وَصَلَاة اللَّيْل فَإِنَّهُ يُصَلِّي بِاللَّيْلِ وَيرْفَع يَده إِلَى الله وَيَدْعُو وَالله سبحانه وتعالى يستجيب دعاءه وَيُعْطِيه سؤله وَمَا يرد يَده خائبة فيظفر علينا قَالَ فَهَذَا كَلَام الْكفَّار فِي حَقه

قَالَ وَحدثنَا الشَّيْخ دَاوُد الْمَقْدِسِي خَادِم قبر شُعَيْب على نَبينَا وَعَلِيهِ أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام قَالَ حضرت فِي دَار الْعدْل فِي شهر ربيع الأول سنة ثَمَان وَخمسين فَقَامَ رجل وَادّعى على نور الدّين الْملك الْعَادِل أَن أَبَاهُ أَخذ من مَاله شَيْئا بِغَيْر حق قَالَ وَأَنا مطَالب لَك بذلك فَقَالَ نور الدّين أَنا مَا أعلم ذَلِك فَإِن كَانَ لَك بَيِّنَة تشهد بذلك فهاتها وَأَنا أرد إِلَيْك مَا يخصني فَإِنِّي مَا ورثت جَمِيع مَاله كَانَ هُنَاكَ وَارِث غَيْرِي فَمضى الرجل ليحضر الْبَيِّنَة فَقلت فِي نَفسِي هَذَا هُوَ الْعدْل قَالَ وَحضر رجل زاهد فِيهِ سمة الْخَيْر مَعْرُوف بالسداد وَالصَّلَاح فَسَأَلت عَنهُ فَقَالُوا أَخُو

ص: 63

الشَّيْخ أبي الْبَيَان وَكَانَ قد أودع عِنْد أَخِيه أبي الْبَيَان وَدِيعَة وَقد توفّي فَادّعى الْمُودع على هَذَا الشَّيْخ أَنه يعلم بالوديعة وطالبه بِالرَّدِّ عَلَيْهِ فَأنْكر هَذَا الرجل علمه بالوديعة فَأوجب عَلَيْهِ القَاضِي كَمَال الدّين حكم الشَّرْع أَن يحلف أَنه لَا علم لَهُ بِهَذِهِ الْوَدِيعَة فَحلف على ذَلِك فَجعل الْمُودع يشنع عَلَيْهِ وَيَقُول إِنَّه حلف كَاذِبًا وَيتَكَلَّم فِي عرضه وَيَقُول فِي حَقه من التنمس وَغَيره فَحَضَرَ عِنْد الْملك الْعَادِل شاكياً مِنْهُ وذاكرا سيرته وطريقته وَمن الَّذِي يقدر أَن يَقُول فِي حَقي هَذَا

ويتعرض بالتماسه من الْملك الْعَادِل التَّقَدُّم بإحضاره وَالْإِنْكَار عَلَيْهِ فِيمَا يَقُول فِي حَقه

فَلَمَّا فرغ من الْكَلَام وَرمى مَا كَانَ فِي جعبته من دَعْوَى الْحَقِيقَة والطريقة وَكَانَ حَاصله التمَاس الْإِنْكَار عَلَيْهِ فَقَالَ الْملك الْعَادِل أَلَيْسَ أَن الله تَعَالَى يَقُول فِي كِتَابه {وَإِذَا خَاطَبَهُم الَجْاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً} فَإِذا كَانَ هُوَ يجهل عَلَيْك وَيَقُول فِي حَقك بِالْجَهْلِ مَا لَا يجوز فَيجب عَلَيْك أَلا تعْمل مَعَه مثل مُعَامَلَته فَتكون مثله فكأنك قابلت الْإِسَاءَة بالإساءة وَمن حَقك أَن تقَابل الْإِسَاءَة بِالْإِحْسَانِ

فَقلت فِي نَفسِي الْحق مَا قَالَ الْملك الْعَادِل إِمَّا قَرَأَ هَذَا فِي كتب التفاسير فَثَبت فِي قلبه أَو أجراه الله على لِسَانه وأنطقه بِهِ

قَالَ وَحضر جمَاعَة من التُّجَّار وَشَكوا أَن الْقَرَاطِيس كَانَ سِتُّونَ مِنْهَا بِدِينَار فَصَارَ سَبْعَة وَسِتُّونَ بِدِينَار وتزيد وتنقص فيخسرون

فَسَأَلَ الْملك الْعَادِل عَن كَيْفيَّة الْحَال فَذكرُوا أَن عقد الْمُعَامَلَة على اسْم الدِّينَار وَلَا يرى الدِّينَار فِي الْوسط وَإِنَّمَا يعدون الْقَرَاطِيس بالسعر تَارَة سِتِّينَ بِدِينَار وَتارَة

ص: 64

سَبْعَة وَسِتِّينَ بِدِينَار وَأَشَارَ كل وَاحِد من الْحَاضِرين على نور الدّين أَن يضْرب الدِّينَار باسمه وَتَكون الْمُعَامَلَة بِالدَّنَانِيرِ الملكية وَتبطل الْقَرَاطِيس بِالْكُلِّيَّةِ

فَسكت سَاعَة وَقَالَ إِذا ضربت الدِّينَار وأبطلت الْمُعَامَلَة بالقراطيس فَكَأَنِّي خربَتْ بيُوت الرّعية فان كل وَاحِد من السوقة عِنْده عشرَة آلَاف وَعِشْرُونَ ألف قرطاس أيش يعْمل بِهِ فَيكون سَببا لخراب بَيته قَالَ فَأَي شَفَقَة تكون أعظم من هَذَا على الرّعية

قَالَ وَحضر صبي وَبكى عِنْد الْملك الْعَادِل وَذكر أَن أَبَاهُ مَحْبُوس على أُجْرَة حجرَة من حجر الْوَقْف

فَسَأَلَ عَن حَاله قَالُوا هَذَا الصَّبِي ابْن الشَّيْخ أَبى سعد الصُّوفِي وَهُوَ رجل زاهد قَاعد فِي حجرَة الْوَقْف وَلَيْسَ لَهُ قدرَة على الْأُجْرَة وَقد حَبسه وَكيل الْوَقْف لِأَنَّهُ اجْتمع عَلَيْهِ أُجْرَة سنة

قَالَ الْملك الْعَادِل كم أُجْرَة السّنة فَقَالُوا مئة وَخَمْسُونَ قرطاسا وَذكروا سيرته وطريقته وَفَقره

فرق لَهُ وأنعم عَلَيْهِ وَقَالَ نَحن نُعْطِيه كل سنة هَذَا الْقدر ليصرفه إِلَى الْأُجْرَة وَيقْعد فِيهَا

وَتقدم بذلك وبإخراجه من الْحَبْس فوصل إِلَى قلب كل وَاحِد من الْحَاضِرين الْفَرح حَتَّى كَأَن الإنعام كَانَ فِي حَقه

أخبرنَا افتخار الدّين عبد الْمطلب بن الْفضل بن عبد الْمطلب الْهَاشِمِي قَالَ كَانَ عِنْد القَاضِي تَاج الدّين عبد الغفور بن لُقْمَان الكردري قَاضِي حلب غُلَام قد جعله لمجلس الحكم يَدعِي سويداً يحضر

ص: 65

الْخُصُوم إِلَى مجْلِس الحكم

فَحَضَرَ بعض التُّجَّار وَادّعى أَن لَهُ على نور الدّين دَعْوَى

فَقَالَ الكردري لسويد الْمَذْكُور امْضِ إِلَى نور الدّين وادعه إِلَى مجْلِس الحكم وعرفه أَنه حضر شخص يطْلب حُضُوره وَكَانَ نور الدّين فِي الميدان فجَاء سُوَيْد إِلَى بَاب الميدان فَخرج إِسْمَاعِيل الخزندار فَوَجَدَهُ فَتقدم سُوَيْد إِلَيْهِ وَقَالَ قد سيرني تَاج الدّين القَاضِي وَذكر أَنه حضر تَاجر وَذكر أَن لَهُ دَعْوَى على الْمولى نور الدّين وَقد أنفذني تَاج الدّين وَقَالَ لي كَذَا وَكَذَا فَضَحِك إِسْمَاعِيل الخزندار وَدخل على نور الدّين ضَاحِكا وَقَالَ لَهُ مستهزئا يقوم الْمولى فَقَالَ إِلَى أَيْن فَقَالَ قد حضر سُوَيْد غُلَام تَاج الدّين الكردري وَقَالَ إِن تَاج الدّين أرْسلهُ يطْلب الْمولى إِلَى مجْلِس الحكم فَأنْكر نور الدّين على إِسْمَاعِيل استهزاءه وَقَالَ تستهزئ بطلبي إِلَى مجْلِس الحكم وَقَالَ نور الدّين يحضر فرسي حَتَّى نركب إِلَيْهِ السّمع وَالطَّاعَة

قَالَ الله تَعَالَى {إنّمَا كَانَ قَوْلَ المُؤْمِنينَ إِذا دُعُوا إلىَ الله وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وأَطَعْنَا} ثمَّ نَهَضَ وَركب حَتَّى دخل بَاب الْمَدِينَة فاستدعى سويدا وَقَالَ لَهُ امْضِ إِلَى القَاضِي تَاج الدّين وَسلم عَلَيْهِ وَقل لَهُ إِنِّي جِئْت إِلَى هَا هُنَا امتثالا لأمر الشَّرْع وأحتاج فِي الْحُضُور الى مَجْلِسه إِلَى سلوك هَذِه الْأَزِقَّة وفيهَا الأطيان وَهَذَا وَكيلِي يسمع الدَّعْوَى وَإِن تَوَجَّهت على يَمِين أحضر إِن شَاءَ الله

قَالَ فَحَضَرَ الْوَكِيل وَسمع الدَّعْوَى وتوجهت الْيَمين فَقَالَ الْكرْدِي قد تَوَجَّهت الْيَمين فليحضر

فَلَمَّا بلغ نور الدّين ذَلِك وَعلم أَنه لَا مندوحة عَن حُضُور مَجْلِسه للْيَمِين استدعى ذَلِك التَّاجِر وَأصْلح الْأَمر فِيمَا بَينه وَبَينه وأرضاه

ص: 66

سَمِعت قَاضِي الْقُضَاة بهاء الدّين يَقُول حكى لي السُّلْطَان الْملك النَّاصِر صَلَاح الدّين قَالَ أَرْسلنِي الْملك الْعَادِل نور الدّين إِلَى عمي أَسد الدّين شيركوه وَكَانَ لَا يفعل شَيْئا إِلَّا بمشورته فَقَالَ امْضِ وَقل لأسد الدّين قد خطر فِي بالي أَن أبطل هَذِه الضمانات بأسرها والمؤن والمكوس

وَخذ رَأْيه فِي ذَلِك

قَالَ فَجئْت إِلَيْهِ وأنهيت إِلَيْهِ مَا قَالَ لي فَقَالَ امْضِ وَقل لَهُ يَا مَوْلَانَا إِذا فعلت ذَلِك فالأجناد الَّذين أَرْزَاقهم على هَذِه الْجِهَات من أَيْن تعطيهم وتحتاج إِلَيْهِم للغزاة وَخُرُوج العساكر فَقَالَ السُّلْطَان صَلَاح الدّين فَقلت لِعَمِّي هَذَا أَمر قد ألهمه الله إِيَّاه فساعده عَلَيْهِ

فصاح فِي وَقَالَ امْضِ إِلَيْهِ وَقل لَهُ مَا أَقُول لَك قَالَ فعدت إِلَى نور الدّين فأنهيت إِلَيْهِ مَا قَالَ لي عمي فَقَالَ امْضِ إِلَيْهِ وَقل لَهُ إِذا كُنَّا نغزو من هَذِه الْجِهَات نتركها ونقعد وَلَا نخرج قَالَ فعدت إِلَى عمي وَقلت لَهُ مَا قَالَ فَقَالَ قل لَهُ إِن تركوك تقعد فجيد هُوَ فراجعته فِي أَلا يثبطه عَن ذَلِك فصاح فِي وَقَالَ امْضِ إِلَيْهِ وَقل لَهُ مَا أَقُول لَك قَالَ فَجئْت إِلَيْهِ وَقلت لَهُ ذَلِك فَترك ذَلِك مُدَّة ثمَّ أمضى مَا كَانَ عزم عَلَيْهِ

قَالَ لي صقر بن يحيى بَلغنِي أَن موفق الدّين خَالِدا رأى فِي النّوم كَأَن نور الدّين دفع إِلَيْهِ ثِيَابه ليغسلها فَقص مَنَامه على نور الدّين فتمعر وَجه نور الدّين فَخَجِلَ موفق الدّين وَبَقِي أَيَّامًا على غَايَة من الخجل فاستدعاه يَوْمًا نور الدّين وَقَالَ تعال قد آن لَك أَن تغسل ثِيَابِي اقعد واكتب بِإِطْلَاق الْمُؤَن والمكوس والأعشار واكتب للْمُسلمين إِنَّنِي قد رفعت

ص: 67

عَنْكُم مَا رَفعه الله عَنْكُم وَأثبت عَلَيْكُم مَا أثْبته الله تَعَالَى عَلَيْكُم قَالَ فَكتب موفق الدّين توقيعا

سَمِعت خَليفَة بن سُلَيْمَان بن خَليفَة الْفَقِيه يَقُول سَمِعت أبي يَقُول لما كسر نور الدّين يَعْنِي كسرة كسرة البقيعة تكلم الْبُرْهَان الْبَلْخِي فَقَالَ أتريدون أَن تنصرُوا وَفِي عسكركم الْخُمُور والطبول والزمور كلا

وكلاما مَعَ هَذَا فَلَمَّا سَمعه نور الدّين قَامَ وَنزع عَنهُ ثِيَابه تِلْكَ وَعَاهد الله تَعَالَى على التَّوْبَة وَشرع فِي إبِْطَال المكوس إِلَى أَن خرج فِي نوبَة حارم وَكسر الإفرنج

وَسمعت صديقنا شمس الدّين إِسْمَاعِيل بن سودكين بن عبد الله النوري وَكَانَ أَبوهُ أحد مماليك نور الدّين وعتيقه يَقُول سَمِعت وَالِدي يَقُول كَانَ نور الدّين مَحْمُود رحمه الله يلبس فِي اللَّيْل مسحا وَيقوم يُصَلِّي فِيهِ قِطْعَة من اللَّيْل قَالَ وَكَانَ يرفع يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاء ويبكي ويتضرع وَيَقُول ارْحَمْ العشار المكاس

ص: 68

قَالَ لي قَاضِي الْقُضَاة بهاء الدّين سير نور الدّين إِلَى بَغْدَاد كتابا يعلم الْخَلِيفَة بِمَا أطلق وبمقدار مَا أطلق ويسأله أَن يتَقَدَّم إِلَى الوعاظ بِأَن يستجعلوا من التُّجَّار وَمن جَمِيع الْمُسلمين لَهُ فِي حل مِمَّا كَانَ قد وصل إِلَيْهِ يعْنى من أَمْوَالهم فَتقدم بذلك وَجعل الوعاظ على المنابر ينادون بذلك

حَدثنِي رضى الدّين أَبُو سَالم عبد الْمُنعم بن الْمُنْذر أَن نور الدّين حِين خرج لأخذ شيزر خرج أَبُو غَانِم بن الْمُنْذر صحبته فَأمره نور الدّين رحمه الله بِكِتَابَة منشور بِإِطْلَاق الْمَظَالِم بحلب ودمشق وحمص وحران وسنجار والرحبة وعزاز وتل بَاشر وعداد الْعَرَب فَكتب عَنهُ توقيعا نسخته بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم

هَذَا مَا تقرب بِهِ إِلَى الله سبحانه وتعالى صافحا وَأطْلقهُ مسامحاً لمن علم ضعفه من الرعايا رعاهم الله لضعفهم عَن عمَارَة مَا أخربته أَيدي الْكفَّار أبادهم الله تَعَالَى عِنْد استيلائهم على الْبِلَاد وَظُهُور كلمتهم فِي الْعباد رأفة بِالْمُسْلِمين المثاغرين ولطفا بالضعفاء المرابطين الَّذين خصهم الله سُبْحَانَهُ بفضيلة الْجِهَاد واستمحنهم بمجاورة أهل العناد اختبارا لصبرهم وإعظاما لأجرهم فصبروا احتسابا وأجزل الله لَهُم أجرا وثوابا {إِنَّمَا يُوفى الصَّابِرُونَ أجرهم بِغَيْر حِسَاب} وَأعَاد عَلَيْهِم مَا اغتصبوا عَلَيْهِ من أملاكهم الَّتِي أَفَاء الله عَلَيْهِم بهَا من الْفتُوح العمرية واقرها فِي الدولة الإسلامية بَعْدَمَا طَرَأَ عَلَيْهَا من الظلمَة الْمُتَقَدِّمين واسترجعه بِسَيْفِهِ من الْكَفَرَة الملاعين فطمس عَنْهُم بذلك معالم الْجور

ص: 69

وَهدم أَرْكَان التَّعَدِّي واقر الْحق مقره لقَوْله تَعَالَى {مَنْ جَاءَ بِالْحَسنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أمثاَلهاَ} {واللهُ يُضاَعِفُ لُمِنَ يَشَاءُ} ثمَّ لما أَعَانَهُ الله بعونه وأيده بنصره وقمع بِهِ عَادِية الْكفْر وَأظْهر بهمته شَعَائِر الْإِسْلَام وأظفره بالفئة الطاغية وَأمكنهُ من مُلُوكهَا الباغية فجعلهم بَين قَتِيل غير مقاد وهارب مَمْنُوع الرقاد {وَآخَرِينَ مُقَرَّنِين فِي الأصْفَادِ هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنن أَو أَمْسِكْ بغَيْرِ حِسَاب وَإن لَهُ عِنْدَنا لَزُلفى وَحُسْن مآب} علم أَن الدُّنْيَا فانية فاستخدمها للآخرة الْبَاقِيَة واستبقى ملكه الزائل بَان قدمه أَمَامه وَجعله ذخْرا للمعاد فالتقوى مَادَّة دارة إِذا انْقَطَعت الْموَاد وجاًدة وَاضِحَة حِين تَلْتَبِس الْجواد {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لله} فصفح لكافة الْمُسَافِرين وَجَمِيع الْمُسلمين بالضرائب والمكوس وأسقطها من دواوينه وحرمها على كل متطاول إِلَيْهَا ومتهافت عَلَيْهَا تجنبا لإثمها واكتسابا لثوابها فَكَانَ مبلغ مَا سامح بِهِ وَأطْلقهُ وأنفذ الْأَمر فِيهِ اتبَاعا لكتاب الله وَسنة نبيه مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم فِي كل سنة من الْعين مئة ألف وَسِتَّة وَخمسين ألف دِينَار جِهَة ذَلِك حلب خَمْسُونَ ألف دِينَار عزاز عَن مكس جددته الفرنج خذلهم الله على الْمُسَافِرين عشرَة آلَاف دِينَار تل بَاشر أحد وَعِشْرُونَ ألف دِينَار المعرة ثَلَاثَة آلَاف دِينَار دمشق المحروسة لما استنجد بِهِ أَهلهَا واستصرخ من فِيهَا خوفًا على أنفسهم وَأَمْوَالهمْ من اسْتِيلَاء الْعَدو وضعفهم عَن مقاومة مَا كَانَ يُؤْخَذ مِنْهُم فِي كل

ص: 70

سنة وَهُوَ رسم يسمونه الفسة عشرُون ألف دِينَار حمص سِتَّة وَعِشْرُونَ ألف دِينَار حران خَمْسَة آلَاف دِينَار سنجار ألف دِينَار الرحبة عشرَة آلَاف دِينَار عداد الْعَرَب عشرَة آلَاف دِينَار وَمَا وَقفه وَتصدق بِهِ وأجراه فِي سبل الْخيرَات ووجوه الْبر وَالصَّدقَات تَقْدِير ثمنه مئتا ألف دِينَار وَتَقْدِير الْحَاصِل من ارتفاعه فِي كل سنة ثَلَاثُونَ ألف دِينَار من ذَلِك مَا وَقفه على الْمدَارِس الْحَنَفِيَّة وَالشَّافِعِيَّة والملكية والحنبلية وأئمتها ومدرسيها وفقهائها وَمَا وَقفه على آدر الصُّوفِيَّة والربط والجسور والبيمارستانات والجوامع والمساجد والأسوار وَمَا وَقفه على السَّبِيل فِي طَرِيق الْحجاز وَمَا وَقفه على فكاك الأسرى وَتَعْلِيم الْأَيْتَام ومقر الغرباء وفقراء الْمُسلمين وَمَا وَقفه على الْأَشْرَاف العلويين والعباسيين وَمَا ملكه لجَماعَة من الْأَوْلِيَاء والغزاة والمجاهدين

هَذَا جَمِيعه سوى مَا أنعم بِهِ على أهل الثغور حرسها الله تَعَالَى من أملاكهم الَّتِي تقدم ذكرهَا فَإِنَّهُ يضاهي هَذَا الْمبلغ وَزِيَادَة عَلَيْهِ جعل ذَلِك ذَرِيعَة عِنْد الله تَعَالَى وتقربا إِلَيْهِ مُضَافا إِلَى مَا أنفقهُ فِي الْغُزَاة وَالْجهَاد واستئصال شأفة الْكفْر والعناد من خزانته المعمورة وأمواله الموروثة المذخورة طلبا لما عِنْد الله {وَالله عِنْده حسن الثَّوَاب} فَالْوَاجِب على كل إِمَام عَادل وسلطان قَادر أَن يمده ويوده ويشد عضده وَيُقَوِّي عزمه وَينفذ حكمه وعَلى كل مُسلم أَن يواصله بِالدُّعَاءِ آنَاء اللَّيْل وأطراف النَّهَار وَكتب خَادِم دولته وغذي نعْمَته عبد الرَّحْمَن بن عبد الْمُنعم بن رضوَان بن عبد الْوَاحِد بن مُحَمَّد بن الْمُنْذر الْحلَبِي غفر الله لَهُ ورحمه وَرَضي عَنهُ إِلَى كل من يصل إِلَيْهِ من أَئِمَّة الدّين وفقهاء الْمُسلمين وَأَصْحَاب الزوايا

ص: 71

المتعبدين وكافة التُّجَّار والمسافرين أحسن الله توفيقهم وسدد إِلَى أغراض الْخَيْر تفويقهم ليشعروا بذلك من حضرهم من التُّجَّار والمترددين إِلَيْهِم من الْأَسْفَار ليعرفوا قدر مَا أنعم الله بِهِ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِم {ولينذروا قَومهمْ إِذا رجعُوا إِلَيْهِم} ويمدوه بأدعيتهم ويبرؤوا ذمَّته مِمَّا سبق من أَخذ مؤنتهم فَإِنَّهُ لم يصرف ذَلِك إِلَّا فِي وَجه بر وتجهيز جَيش ومعونة مُجَاهِد وردع كَافِر ومعاند فهم شركاؤه فِي الثَّوَاب

قَالَ لي رضى الدّين أَبُو سَالم بن الْمُنْذر فَلَمَّا وقف نور الدّين على قَوْله ويبرؤوا ذمَّته مِمَّا سبق

اسْتحْسنَ ذَلِك كثيرا ووعده بإقطاع حسن وَاتفقَ مَوته بعد ذَلِك

قلت ونقلت من خطّ الشَّيْخ الْأمين أَبى الْقَاسِم عبد الرَّحْمَن بن الْحُسَيْن بن الْخضر بن الْحُسَيْن بن عَبْدَانِ الأزدى الدِّمَشْقِي وقف الْمولى نور الدّين بُسْتَان الميدان سوى الغيضة الَّتِي من قبليه بعد عِمَارَته وَإِصْلَاح مَا يحْتَاج إِلَيْهِ على تطييب الْمَسَاجِد الَّتِي يَأْتِي ذكرهَا وَهِي جَامع دمشق المحروسة جَامع قلعة دمشق مدرسة الْحَنَفِيَّة الَّتِي جددها نور الدّين مَسْجِد ابْن عَطِيَّة دَاخل بَاب الْجَابِيَة مَسْجِد ابْن لبيد بالفسقار مَسْجِد سوق الرماحين الْمَسْجِد الْمُعَلق بسوق الصاغة مَسْجِد دَار الْبِطِّيخ الْمُعَلق مَسْجِد العباسي بسوق الْأَحَد مَسْجِد جدده نور الدّين جوَار بيعَة

ص: 72

الْيَهُود جَامع الصَّالِحين بجبل قاسيون يبْتَاع بذلك طيب وعود وَيفرق على هَذِه الْأَمَاكِن النّصْف للجامع بِدِمَشْق وَالنّصف الثَّانِي يَنْقَسِم على أحد عشر جُزْءا جزءان للمدرسة وَتِسْعَة أَجزَاء لتسعة الْمَسَاجِد الْبَاقِيَة لكل مَسْجِد جُزْء وَاحِد تطيب هَذِه الْأَمَاكِن فِي الْأَوْقَات الشَّرِيفَة ومواسم الاجتماعات وليالي شهر رَمَضَان والأعياد وَأَيَّام الْجمع وَقت عقد الْجُمُعَة فِي الْجَوَامِع وليالي الْجُمُعَة وَالْخَمِيس والاثنين

ونقلت من خطه أَيْضا أَن نور الدّين رحمه الله الله تَعَالَى حضر عِنْده بقلعة دمشق يَوْم الْخَمِيس تَاسِع عشر صفر سنة أَربع وَخمسين وَخمْس مئة القَاضِي زكي الدّين أَبُو الْحسن عَليّ بن مُحَمَّد بن يحيى الْقرشِي وَالْفُقَهَاء الشَّيْخ شرف الدّين بن أبي عصرون والخطيب عز الدّين أَبُو البركات بن عبد وَالْإِمَام عز الدّين أَبُو الْقَاسِم على بن الْحسن بن

ص: 73

الماسح الشافعيون وَشرف الدّين أَبُو الْقَاسِم عبد الْوَهَّاب بن عِيسَى الْمَالِكِي وَشرف الْإِسْلَام نجم بن عبد الْوَهَّاب الْحَنْبَلِيّ وَرَضي الدّين أَبُو غَالب عبد الْمُنعم بن مُحَمَّد بن أَسد التَّمِيمِي رَئِيس دمشق ونظام الدّين أَبُو الْكِرَام المحسن بن أبي المضاء مُتَوَلِّي الوزارة بِدِمَشْق والأعيان من شُهُود الْعَدَالَة بِدِمَشْق وهم عبد الصَّمد بن تَمِيم وَعبد الْوَاحِد بن هِلَال والصائن أَبُو الْحُسَيْن وَغَيرهم

فَسَأَلَهُمْ نور الدّين عَن الْمُضَاف إِلَى أوقاف الْمَسْجِد الْجَامِع بِدِمَشْق من الْمصَالح الَّتِي لَيست وَقفا عَلَيْهِ وَأَن يظْهر كل وَاحِد مِنْهُم مَا يُعلمهُ من ذَلِك ليعْمَل بِهِ وَيَقَع الِاعْتِمَاد عَلَيْهِ وَقَالَ لَهُم لَيْسَ يجوز لأحد مِنْكُم أَن يعلم من ذَلِك شَيْئا إِلَّا ويذكره

ص: 74

وَلَا يُنكر شَيْئا مِمَّا يَقُوله غَيره إِلَّا وينكره والساكت مِنْكُم مُصدق للناطق ومصوب لقَوْله وَلَيْسَ الْعَمَل إِلَّا على مَا تتفقون عَلَيْهِ وتشهدون بِهِ وعَلى هَذَا كَانَ الصَّحَابَة رضى الله عَنْهُم يَجْتَمعُونَ ويتشاورون فِي مصَالح الْمُسلمين

فَكل من الْحَاضِرين شكره على مَا قَصده وَأثْنى عَلَيْهِ ودعا لَهُ بِالْبَقَاءِ ثمَّ أَمر نور الدّين مُتَوَلِّي أوقاف الْجَامِع والمساجد والبيمارستان وقني السَّبِيل وَمَا يجْرِي مَعَ ذَلِك أَن يقْرَأ عَلَيْهِ بِمحضر من الْمَذْكُورين ضريبة الْأَوْقَاف موضعا موضعا ليفرد مَا يعلمُونَ أَنه للْمصَالح دون الْوَقْف فَافْتتحَ بِالسوقِ المستجد تَحت المئذنة الغربية جوَار البيمارستان فَقَالَ الصائن وَابْن تَمِيم وَابْن هِلَال هَذَا السُّوق بِكَمَالِهِ لمصَالح الْمُسلمين وَلَيْسَ من وقف الْجَامِع لِأَنَّهُ احدث فِي طَرِيق الْمُسلمين وَقد صرف فِي الْجَامِع من أجوره أوفى مِمَّا غرم على عِمَارَته من وَقفه

فَصَدَّقَهُمْ الْحَاضِرُونَ على مَا شهدُوا بِهِ ومبلغ ذَلِك خمس وَعِشْرُونَ عضادة ثمَّ عين للْمصَالح أَيْضا مَا فِي زِيَادَة الْجَامِع الْقبلية وَزِيَادَة بَاب الْبَرِيد فِي الصَّفّ القبلي والشامي من العضائد والحوانيت وَالْحجر الَّتِي طباقها وطباق الطَّرِيق بحضرتها وَجَمِيع بيُوت الخضراء من قبْلَة الْجَامِع والفرن المستجد بهَا وَدَار الْخَيل والمساكن والحوانيت الْمُجَاورَة لدار الْخَيل وحانوت فِي الخواصين فِي الصَّفّ الغربي وَاثنا عشر حانوتا متلاصقات فِي الصَّفّ الشَّرْقِي تعرف بالمعتصميات وَنصف حَانُوت والفرجة المستجدة بِحَضْرَة دَار الْوكَالَة إِلَى سوق على وعدتها ثَلَاثَة عشر حانوتا ومصطبة وَثَلَاثَة حوانيت فِي الصَّفّ

ص: 75

الشَّامي من سوق على بلصق الفرجة من شرقها وحانوت بالفسقار فِي الصَّفّ القبلي يعرف بسكنى ثَعْلَب الفقاعي وحوانيت اللبادين وَالَّتِي بحضره الفوارة وَتَحْت اللبادين وقيسارية العقيقي بسوق الْأَحَد وتعرف بدار الشَّجَرَة وحانوتان فِي الصَّفّ الشَّرْقِي بِحَضْرَة فندق الزَّيْت من غرب درب التمارين وحانوت بقنطرة الشماعين فِي الصَّفّ الشَّامي بِحَضْرَة البياطرة وَقطعَة جوَار المأمونية من غربها والعضائد الَّتِي فِي الصَّفّ الشَّامي من سوق الْأَحَد وَهِي خَمْسَة عشر عضادة وَسِتَّة أسْهم من طاحونة السَّقِيفَة

وَذَلِكَ كُله بعضه مِيرَاث عَن بني أُميَّة كالخضراء وَدَار الْخَيل وَبَعضه اشْترِي بِمَال الْوَقْف والمصالح وَبَعضه أَخذ مِمَّن باد أَهله الْمَوْقُوف عَلَيْهِم وَلم يكن لَهُ مَال وَبَعضه أحدث فِي الطَّرِيق قَالَ فَلَمَّا شهدُوا بِصِحَّة جَمِيع مَا ذكر وَأَن مَنَافِع ذَلِك وأجوره جَارِيَة فِي الْمصَالح قَالَ نور الدّين إِن أهم الْمصَالح سد ثغور الْمُسلمين وَبِنَاء السُّور الْمُحِيط بِدِمَشْق والقل وَالْخَنْدَق لصيانة الْمُسلمين وحريمهم وَأَمْوَالهمْ فصوبوا مَا أَشَارَ إِلَيْهِ وشكروه

ثمَّ سَأَلَهُمْ عَن فواضل الْأَوْقَاف هَل يجوز صرفهَا فِي عمَارَة الأسوار وَعمل الخَنْدَق للْمصْلحَة المتوجهة للْمُسلمين فَأفْتى شرف الدّين عبد الْوَهَّاب الْمَالِكِي بِجَوَاز ذَلِك وَمِنْهُم من روى فِي مهلة النّظر وَقَالَ الشَّيْخ شرف الدّين بن أَبى عصرون الشَّافِعِي لَا يجوز أَن يصرف وقف مَسْجِد إِلَى غَيره وَلَا وقف معِين إِلَى جِهَة غير تِلْكَ الْجِهَة وَإِذا لم يكن بُد من ذَلِك فَلَيْسَ طَرِيقه إِلَّا أَن يقترضه من إِلَيْهِ الْأَمر فِي بَيت مَال الْمُسلمين فيصرفه فِي

ص: 76

الْمصَالح وَيكون الْقَضَاء وَاجِبا من بَيت المَال

فوافقه الْأَئِمَّة الْحَاضِرُونَ مَعَه على ذَلِك

ثمَّ سَالَ ابْن أَبى عصرون نور الدّين هَل أنْفق شَيْء قبل الْيَوْم على سور دمشق وعَلى بِنَاء الكلاسة من شام الْجَامِع وعَلى إنْشَاء السّقف المقرنص تَحت النسْر بالجامع وعَلى الرصاص الْمَعْمُول على سطح الرواق الشَّامي من الْجَامِع وَسَائِر العمارات الْمُتَعَلّقَة بالجامع الْمَعْمُور بِغَيْر إِذن مَوْلَانَا وَهل كَانَ إِلَّا مبلغا لِلْأَمْرِ العالي فِي عمل ذَلِك فَقَالَ نور الدّين لم تنْفق ذَلِك وَلَا شَيْء مِنْهُ إِلَّا بإذني وَأَنا أمرت بِهِ وبفتح المشهدين من غربي الْجَامِع الْمَعْمُور اللَّذين كَانَا مخزنين وَكنت مبلغا عني ومؤديا أَمْرِي

قلت هَذَا مُخْتَصر الْمحْضر الَّذِي كتب فِيهِ صُورَة مَا جرى فِي ذَلِك الْمجْلس وَهُوَ مُشْتَمل على فَوَائِد حَسَنَة وتأكيد لما نقل من سيرة هَذَا الْملك فِي وُقُوفه مَعَ أوَامِر الشَّرِيعَة

وَفِي ذَلِك الْمحْضر خطوط الْجَمَاعَة الْحَاضِرين

وَصُورَة مَا كتبه الْمَالِكِي الْمُفْتِي حضرت الْمجْلس الْمَذْكُور عمره الله وزينه بِالْعَدْلِ أبدا مَا عَاشَ صَاحبه وَشهِدت على مَا تضمنه من المشورة الْمُبَارَكَة وَمَا نسب إِلَى الْجَمَاعَة الشَّهَادَة بِهِ من الْمَوَاضِع الْمَشْهُورَة كَمَا نسب إِلَيْهِم وَقد أخل بِذكر دَار الْحِجَارَة وَقد ذكروها فِي الْمصَالح وَمَا نسب إِلَى من الْفَتْوَى فقد كنت قيدته بِالْحَاجةِ وفراغ بَيت المَال أَو ضعفه عَن الْقيام بِمَا يحْتَاج إِلَيْهِ الْمُسلمُونَ ومهماتهم الدِّينِيَّة كتبه عبد الْوَهَّاب بن عِيسَى بن مُحَمَّد الْمَالِكِي

ص: 77