الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثمَّ دخلت سنة سِتِّينَ وَخمْس مئة
قَالَ ابْن الْأَثِير فِيهَا فتح نور الدّين قلعة بانياس من الفرنج وَكَانَ قد سَار إِلَيْهَا بعد عوده من فتح حارم وَأذن لعسكر الْموصل وديار بكر بِالْعودِ إِلَى بِلَادهمْ وَأظْهر أَنه يُرِيد طبرية فَجعل من بَقِي من الفرنج هَمهمْ حفظهَا وتقويتها
فَسَار نور الدّين مجداً إِلَى بانياس لعلمه بقلة من فِيهَا من الحماة الممانعين عَنْهَا ونازلها وضيق عَلَيْهَا وقاتلها
وَكَانَ فِي جملَة عسكره أَخُوهُ نصْرَة الدّين أَمِير أميران فَأَصَابَهُ سهم أذهب إِحْدَى عَيْنَيْهِ فَلَمَّا رَآهُ نور الدّين قَالَ لَهُ لَو كُشف لَك عَن الْأجر الَّذِي أعد لَك لتمنيت أَن تذْهب الْأُخْرَى
قلت وَفِي نصْرَة الدّين هَذَا يَقُول أَحْمد بن مُنِير من قصيدة لَهُ
(يَا نصْرَة الدّين الَّذِي عزمه
…
مِنْهُ ترجى نصْرَة الدّين)
(وَابْن الَّذِي زلزل من خَوفه
…
مَا بَين أغمات إِلَى الصين)
قَالَ ابْن الْأَثِير وجد فِي حصارها وَسمع الفرنج بذلك فَجمعُوا لَهُ فَلم تتكامل عدتهمْ حَتَّى فَتحه الله تَعَالَى
على أَن الفرنج كَانُوا قد ضعفوا بقتل رِجَالهمْ بحارم وأسرهم فَملك القلعة وملأها ذخائر وعدة ورجالا عدَّة
وَعَاد نور الدّين إِلَى دمشق وَفِي يَده خَاتم بفص ياقوت من أحسن الْجَوْهَر فَسقط من يَده فِي شعراء بانياس وَهِي كَثِيرَة الْأَشْجَار ملتفة الأغصان فَلَمَّا أبعد من الْمَكَان الَّذِي ضَاعَ فِيهِ الفص علم بِهِ فَأَعَادَ بعض أَصْحَابه فِي طلبه ودلهم على مَكَانَهُ وَقَالَ أَظُنهُ هُنَاكَ ضَاعَ
فعادوا إِلَيْهِ
فوجدوه فَقَالَ بعض الشُّعَرَاء الشاميين وَأَظنهُ أَحْمد بن مُنِير من جملَة قصيدة يمدحه بهَا ويهنئه بِهَذِهِ الْغُزَاة وعود الفص الْيَاقُوت
(إِن يِمتر الشكاك فِيك فَإنَّك الْمهْدي
…
مطفئ جَمْرَة الدَّجَّال)
(فلعودة الْجَبَل الَّذِي أضللته
…
بالْأَمْس بَين غياطل وجبال)
(مسترجعاً لَك بالسعادة آيَة
…
ردَّتْ مطال الفال غير مطال)
(لم يُعْطهَا إِلَّا سُلَيْمَان وَقد
…
نلْت الرفاء بموشك الإعجال)
(زجر جرى لسرير ملكك أَنه
…
كسريره عَن كل جدر عَال)
(فَلَو الْبحار السَّبْعَة استهوينه
…
وأمرتهن قذفنه فِي الْحَال)
قلت هَذِه الأبيات لِابْنِ مُنِير بِلَا شكّ وَلَكِن فِي غير هَذِه الْغُزَاة فَإِن ابْن مُنِير قد سبق أَنه توفّي سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَفتح بانياس كَمَا ترَاهُ فِي سنة سِتِّينَ وَقد قَرَأت فِي ديوَان ابْن مُنِير وَقَالَ يمدحه يَعْنِي نور الدّين ويهنئه بِالْعودِ من غزَاة وضياع فص ياقوت جبل من يَده لاشتغاله بالصيد شراه ألف ومئة دِينَار
وَفِي نسخه ووجدان خَاتم ضَاعَ مِنْهُ فِي الصَّيْد قِيمَته ألف ومئة دِينَار وأنشده إِيَّاهَا بقلعة حمص
فَذكر القصيدة وأولها
(يوماك يَوْم ندى وَيَوْم نزال
…
)
يَقُول فِيهَا
(أخرست شقشقة الضلال وقدته
…
قَود الذلول أطَاع بعد صيال)
(ورميت دَار الْمُشْركين بصيلم
…
ألقحت فِيهَا الْحَرْب بعد حِيَال)
(وسعرت بَين تريبهم وترابهم
…
ذعرا يشيب نواصي الْأَطْفَال)
(فَوق الخطيم وَقد خطمت زعيمهم
…
ضربا سوابقه بِغَيْر توالي)
(ضربا مَلَأت فرنجةً من حرِّه
…
رهباً بِهِ سيف الصقالب صالي)
(وبفج حارم أَحرمت لقراعهم
…
هيم أحلن النّوم غير حَلَال)
(عجموا على الجسر الْحَدِيد حديدها
…
نبعاً يعاذمه أديرد صال)
(زلزلت أَرضهم بِوَقع صواعق
…
أعطيننا أمنا من الزلزال)
(فِي مأزق شمرت ذيلك تَحْتَهُ
…
والنصر فَوْقك مُسبل الأذيال)
(فِي دولة غراء محمودية
…
سحبت رِدَاء الْحَمد غير مذال)
(تنسى الْفتُوح بهَا الْفتُوح وتجتنى
…
زُهر الْمقَال بباهر الْأَفْعَال)
(لبست بِنور الدّين نور حدائق
…
ثمراتهن غرائب الأفضال)
(ملك تحجبّ فِي السرير بزأرة
…
زرّت حواشيها على رئبال)
(تنجاب عَن ذِي لبدتين شذاته
…
فِي بردتي بدل من الأبدال)
(رفع الرواق بروق أنطاكية
…
فَرمى الخليج بمرهق البلبال)
(بدر لأَرْبَع عشرَة اقتبس السنا
…
من خمس عشرَة سُورَة الْأَنْفَال)
(فوز الْمَآل أخاضه مَاء الطلى
…
وسواه يُقعده احتيازُ المَال)
(متقسم بَين القسيمين الْعلَا
…
عَن عَم عَم أَو مخايل خَال)
(لَا زلت تطلع من ثنايا جحفل
…
يقفو لواءك كاللوى الْمنْهَال)
(تغزو فتنهب أَو تؤوب فتنهب العافين
…
سلب قِنَا وَكسب نصال)
(لَك أَن تطل على الْكَوَاكِب راقيا ولحاسديك بكا على الأطلال)
وَمِمَّا يُنَاسب هَذِه السَّعَادَة فِي وجدان الْخَاتم بعد وُقُوعه فِي مَظَنَّة الْهَلَاك والضياع مَا بَلغنِي أَن مُوسَى الْهَادِي لما ولي الْخلَافَة سَأَلَ عَن خَاتم عَظِيم الْقيمَة كَانَ لِأَبِيهِ الْمهْدي فَبَلغهُ أَن أَخَاهُ الرشيد أَخذه فَطَلَبه مِنْهُ فَامْتنعَ فألح عَلَيْهِ فِيهِ فحنق الرشيد وَمر على جسر بَغْدَاد فَرَمَاهُ فِي دجلة
فَلَمَّا مَاتَ الْهَادِي وَولي الرشيد الْخلَافَة أَتَى ذَلِك الْمَكَان بِعَيْنِه وَمَعَهُ خَاتم من رصاص فَرَمَاهُ ثَمَّ وَأمر الغطاسين أَن يلتمسوه فَفَعَلُوا فَاسْتَخْرَجُوا الْخَاتم الأول فعُد ذَلِك من سَعَادَة الرشيد وَبَقَاء ملكه
قَالَ ابْن الْأَثِير وَلما فتح نور الدّين حصن بانياس كَانَ ولد معِين الدّين أنر الَّذِي سلم بانياس إِلَى الإفرنج قَائِما على رَأسه فَالْتَفت إِلَيْهِ وَقَالَ لَهُ للنَّاس بِهَذَا الْفَتْح فرحة وَاحِدَة وَلَك فرحتان فَقَالَ كَيفَ ذَلِك قَالَ لِأَن الله تَعَالَى الْيَوْم برد جلدَة والدك من نَار جَهَنَّم
وَقد تقدم أَنه كَانَ صانع بهَا عَن دمشق لما نزل الفرنج عَلَيْهَا
وفيهَا توفّي وَزِير بَغْدَاد عون الدّين أَبُو المظفر يحيى بن مُحَمَّد بن هُبَيْرَة الشَّيْبَانِيّ من بني ذهل بن شَيبَان بن ثَعْلَبَة بن الْحصن
وَكَانَ عَالما دينا مُدبرا حنبلي الْمَذْهَب وزر للمقتفي ثمَّ للمستنجد بعده وَله عدَّة مصنفات مِنْهَا = الإفصاح فِي شرح الْأَحَادِيث الصِّحَاح =
وَكَانَ يجمع فِي مَجْلِسه أفاضل الْوَقْت من أَعْيَان الْمذَاهب الْأَرْبَعَة والنحاة وَغَيرهم وَيجْرِي بحضرتهم فَوَائِد كَثِيرَة
توفّي وَهُوَ ساجد فِي صَلَاة الصُّبْح من يَوْم الْأَحَد ثَالِث
عشر جُمَادَى الأولى سنة سِتِّينَ وَخمْس مئة
ورئيت لَهُ منامات حَسَنَة ومدحه جمَاعَة من الْفُضَلَاء
ومولده فِي ربيع الآخر سنة سبع وَتِسْعين وَأَرْبع مئة بقرية من أَعمال دجيل تعرف بالدور وَهُوَ الَّذِي محا رسوم سلاطين الْعَجم من الْعرَاق وأجلاهم عَن خطتها بِحسن تَدْبيره
وَمن كَلَامه لبَعض من كَانَ يَأْمر بِالْمَعْرُوفِ اجْتهد أَن تستر العصاة فَإِن ظُهُور معاصيهم عيب فِي الْإِسْلَام وَأولى الْأُمُور ستر الْعُيُوب