الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَخمسين وَخمْس مئة
قَالَ ابْن أبي طي فِي هَذِه السّنة حج أَسد الدّين من الشَّام وَخرج فِي تجمل عَظِيم وشارة رائعة واستصحب مَعَه من الأزواد والكسى أَشْيَاء عَظِيمَة وَيُقَال إِنَّه كَانَ مَعَه ألف نفس يجرى عَلَيْهِم الطَّعَام وَالشرَاب
وَحج على كوجك الْمَعْرُوف بزين الدّين من الْعرَاق وَحج ملهم أَخُو ضرغام وَزِير مصر فَكَانَ الْمَوْسِم بهؤلاء الثَّلَاثَة كثير الْخَيْر وَاسْتغْنى بسببهم أهل الْحجاز وَعَاد أَسد الدّين سالما وَخرج نور الدّين إِلَى لِقَائِه وَكَانَ يَوْم وُرُوده يَوْمًا عَظِيما
وَقَالَ أَيْضا فِيهَا قتل الصَّالح بن رزيك بِمصْر وَكَانَ سَبَب قَتله إِن عمَّة العاضد عملت على قَتله ونفذت الْأَمْوَال إِلَى الْأُمَرَاء فَبلغ ذَلِك الصَّالح فاستعاد الْأَمْوَال واحتاط على عمَّة العاضد
قَالَ وَإِنَّمَا كرهته عمَّة العاضد لاستيلائه على الْأُمُور والدولة وَحفظه للأموال وَقتل الصَّالح بِسَبَبِهَا جمَاعَة من الْأُمَرَاء ونكبهم وَتمكن من الدولة تمَكنا حسنا
ثمَّ إِن عمَّة العاضد عَادَتْ وأحكمت الْحِيلَة عَلَيْهِ وبذلت لقوم من السودَان مَالا جزيلا
حَتَّى أوقعوا بِهِ الْفِعْل جَلَسُوا لَهُ فِي بَيت فِي دهليز الْقصر مختفين فِيهِ فَلَمَّا كَانَ يَوْم تَاسِع عشر رَمَضَان ركب إِلَى الْقصر ودخله وَسلم على العاضد وَخرج من عِنْده فَخرج عَلَيْهِ الْجَمَاعَة وَوَقعت الصَّيْحَة فعثر الصَّالح بأذياله فطعنه أحدهم بِالسَّيْفِ فِي ظَاهر رقبته فَقطع أحد عمودي الرَّقَبَة وَحمل إِلَى بَاب الْقصر وَأُصِيب وَلَده رزيك فِي كتفه
وَلما حصل الصَّالح فِي دَاره أوصى وَلَده رزيك وَمَات بعد سَاعَة من ذَلِك الْيَوْم
قَالَ الْعِمَاد وانكسفت شمس الْفَضَائِل وَرخّص سعر الشّعْر وانخفض علم الْعلم وضاق فضاء الْفضل وَعم رزء ابْن رزيك وَملك صرف الدَّهْر ذَلِك المليك فَلم تزل مصر بعده منجوسة الْحَظ منحوسة الْجد منكوسة الرَّايَة معكوسة الْآيَة إِلَى أَن ملكهَا يوسفها الثَّانِي وَجعلهَا مغاني الْمعَانِي وأنشر رميمها وعطر نسيمها وتسلم قصرهَا وَالْتزم خصرها
قَالَ زين الدّين الْوَاعِظ عمل فَارس الْمُسلمين أَخُو الصَّالح دَعْوَة فِي شبعان من السّنة الَّتِي قتل فِيهَا فَعمل هَذِه الأبيات وَسلمهَا إِلَيّ
(أنست بكم دهرا فَلَمَّا ظعنتم اسْتَقَرَّتْ
…
بقلبي وَحْشَة للتفرق)
وَمِنْهَا
(وأعجب شَيْء أنني يَوْم بَيْنكُم
…
بقيت وقلبي بَين جَنْبي مَا بقى)
(أرى الْبعد مَا بيني وَبَين أحبتي
…
كبعد المدى مَا بَين غرب ومشرق)
أَلا جددي يَا نفس وجدا وحسرة
…
فَهَذَا فِرَاق بعده لَيْسَ نَلْتَقِي)
قَالَ فَلم يبْق بعْدهَا لَهُم اجْتِمَاع فِي مَسَرَّة وَقتل فِي شهر رَمَضَان
قلت ولعمارة اليمني وَلغيره فِي الصَّالح مدائح ومراث جليلة وَقد أثنى عَلَيْهِ كثيرا فِي = كتاب الوزراء الْمصْرِيّ = وَقَالَ لم يكن مجْلِس أنسه يَنْقَطِع إِلَّا بالمذاكرة فِي أَنْوَاع الْعُلُوم الشَّرْعِيَّة والأدبية وَفِي مذاكرة وقائع الحروب مَعَ أُمَرَاء دولته
قَالَ وَكَانَ مرتاضا قد شم أَطْرَاف المعارف وتميز عَن أجلاف الْمُلُوك وَكَانَ شَاعِرًا يحب الْأَدَب وَأَهله يكرم جليسه ويبسط أنيسه وَلكنه كَانَ مفرط العصبية فِي مَذْهَب الإمامية وَكَانَ مرتاضا حصيفا قد لَقِي فِي ولَايَته فُقَهَاء السّنة وَسمع كَلَامهم
قَالَ وَدخلت عَلَيْهِ قبل أَن يَمُوت بِثَلَاث لَيَال وَفِي يَده قرطاس قد كتب فِيهِ بَيْتَيْنِ من شعره عملهما فِي تِلْكَ السَّاعَة وهما
(نَحن فِي غَفلَة ونوم وللموت
…
عُيُون يقظانة لَا تنام)
(قد رحلنا إِلَى الْحمام سنينا
…
لَيْت شعري مَتى يكون الْحمام)
قَالَ وَمن عَجِيب الِاتِّفَاق أَنِّي أنشدت ابْنه مجد الْإِسْلَام فِي دَار سعيد السُّعَدَاء ليله السَّادِس عشر من شهر رَمَضَان أَو السَّابِع عشر قصيدة أَقُول فِيهَا
(أَبوك الَّذِي تسطو اللَّيَالِي بحده
…
وَأَنت يَمِين إِن سَطَا وشمال)
(لرتبته الْعُظْمَى وَإِن طَال عمره
…
إِلَيْك مصير وَاجِب ومآل)
(تخالسك اللحظ المصون ودونها
…
حجاب شرِيف لَا انْقَضى وحجال)
قَالَ فانتقل الْملك بعد ثَلَاث إِلَيْهِ
قَالَ وَمِمَّا رثيته بِهِ وَإِن كَانَ كثيرا قولي
(أفى أهل ذَا النادي عليم أسائله
…
فَأَنِّي لما بِي ذَاهِب اللب ذاهله)
(سَمِعت حَدِيثا أحسد الصم عِنْده
…
وَيذْهل واعيه ويخرس قَائِله)
(فقد رَابَنِي من شَاهد الْحَال أنني
…
أرى الدست مَنْصُوبًا وَمَا فِيهِ كافله)
(وَأَنِّي أرى فَوق الْوُجُوه كآبة
…
تدل على أَن الْوُجُوه ثواكله)
(دَعونِي فَمَا هَذَا بِوَقْت بكائه
…
سَيَأْتِيكُمْ طل الْبكاء ووابله)
(وَلم لَا نبكيه ونندب فَقده
…
وَأَوْلَادنَا أيتامه وأرامله)
(فيا لَيْت شعري بعد حسن فعاله
…
وَقد غَابَ عَنَّا مَا بِنَا الدَّهْر فَاعله)
(أيكرم مثوى ضيفكم وغريبكم
…
فيسكن أم تطوى ببين مراحله)
وَله من أُخْرَى يرثيه وَيذكر ولَايَة ابْنه
(طمع الْمَرْء فِي الْحَيَاة غرور
…
وطويل الآمال فِيهَا قصير)
وَمِنْهَا
(وَلكم قدر الْفَتى فَأَتَتْهُ
…
نوب لم يحط بهَا التَّقْدِير)
(فض ختم الْحَيَاة عَنْك حمام
…
لَا يُرَاعى إِذْنا وَلَا يستشير)
(مَا تخطى إِلَى جلالك إِلَّا
…
قدر أمره علينا قدير)
(يَا أَمِير الجيوش هَل لَك علم
…
أَن حر الأسى علينا أَمِير)
(إِن قبرا حللته لغنى
…
إِن دهرا فارقته لفقير)
(انطوى ذَلِك الْبسَاط وعهدي
…
وَهُوَ بِالْعلمِ والندى معمور)
(لَا تظن الْأَنَام أَنَّك ميت
…
لم يمت من ثَنَاؤُهُ منشور)
(إِن مضى كافل فَهَذَا كَفِيل
…
أَو وَزِير يغب فَهَذَا وَزِير)
(دولة صالحية خلفتها
…
دولة عادلية لَا تجور)
(أعقب الدَّهْر بؤسه بنعيم
…
رب حزن فِي الطي مِنْهُ سرُور)
(مَا شَكَوْنَا كسر النوائب حَتَّى
…
قيل فِي الْحَال كسركم مجبور)
(نصر النَّاصِر الْعلَا بالعوالي
…
ولنعم الْمولى وَنعم النصير)
وَقَالَ أَيْضا يرثيه وَيذكر الظفر بقاتليه ويصف نقل تابوته إِلَى مشهده بالقرافة قصيدة طَوِيلَة مِنْهَا
(قد كنت أشرق من ثماد مدامعي
…
أسفا فَكيف وَقد طمى التيار)
(عَم الورى يَوْم الْخَمِيس وخصني
…
خطب بأنف الدَّهْر مِنْهُ صغَار)
(مَا أوحش الدُّنْيَا غدية فَارَقت
…
قطبا رحى الدُّنْيَا عَلَيْهِ تدار)
(خربَتْ ربوع المكرمات لوَاحِد
…
عمرت بِهِ الأجداث وَهِي قفار)
(نعش الجدود العاثرات مشيع
…
عشيت بِرُؤْيَة نعشه الْأَبْصَار)
(نعش تود بَنَات نعش لَو غَدَتْ
…
ونظامها أسفا عَلَيْهِ نثار)
(شخص الْأَنَام إِلَيْهِ تَحت جَنَازَة
…
خفضت لرفعة قدرهَا الأقدار)
(سَار الإِمَام أمامها فَعلمت إِن
…
قد شيعتها الْخَمْسَة الْأَبْرَار)
(وَمَشى الْمُلُوك بهَا حُفَاة بعد مَا
…
حفت مَلَائِكَة بهَا أطهار)
(فَكَأَنَّهَا تَابُوت مُوسَى أودعت
…
فِي جانبيه سكينَة ووقار)
(لكنه مَا ضم غير بَقِيَّة الْإِسْلَام
…
وَهُوَ الصَّالح الْمُخْتَار)
(أقطنته دَار الوزارة ريثما
…
بنيت لنقلته الْكَرِيمَة دَار)
(وتغاير الهرمان والحرمان فِي
…
تابوته وعَلى الْكَرِيم يغار)
(آثرت مصرا مِنْهُ بالشرف الَّذِي
…
حسدت قرافتها لَهُ الْأَمْصَار)
(وجعلتها أمنا بِهِ ومثابة
…
ترجو مثابة قَصدهَا الزوار)
(قد قلت إِذْ نقلوه نقلة ظاعن
…
نزحت بِهِ دَار وشط مَزَار)
(مَا كَانَ إِلَّا السَّيْف جدد غمده
…
بسواه وَهُوَ الصارم البتار)
(والبدر فَارق برجه مبتدلا
…
برجا بِهِ تتشعشع الْأَنْوَار)
(والغيث روى بَلْدَة ثمَّ انتحى
…
أُخْرَى فنوء سحابه مدرار)
(يَا مُسبل الأستار دون جَلَاله
…
مَاذَا الَّذِي رفعت لَهُ الأستار)
(مَالِي أرى الزوار بعد مهابة
…
فوضى وَلَا إِذن وَلَا استئمار)
(غضب الْإِلَه على رجال أقدموا
…
جهلا عَلَيْك وَآخَرين أشاروا)
(لَا تَعَجبا لقدار نَاقَة صَالح
…
فَلِكُل دهر نَاقَة وقدار)
(واخجلتا للبيض كَيفَ تطاولت
…
سفها بأيدي السود وَهِي قصار)
(واحسرتا كَيفَ انْفَرَدت لأعبد
…
وعبيدك السادات والأحرار)
(رصدوك فِي ضيق المجال بِحَيْثُ لَا الخطي
…
متسع وَلَا الخطار)
(مَا كَانَ أقصر باعهم عَن مثلهَا
…
لَو كنت متروكا وَمَا تخْتَار)
(وَلَقَد ثَبت ثبات مقتدر على
…
خذلانهم لَو ساعد الْمِقْدَار)
(وتعثرت أَقْدَامهم بك هَيْبَة
…
لَو لم يكن لَك بالذيول عثار)
(أحللت دَار كَرَامَة لَا تَنْقَضِي
…
أبدا وَحل بقاتليك بوار)
(يَا لَيْت عَيْنك شاهدت أَحْوَالهم
…
من بعْدهَا وَرَأَتْ إِلَى مَا صَارُوا)
(وَقع الْقصاص بهم وَلَيْسوا مقنعا
…
يُرْضِي وَأَيْنَ من السَّمَاء غُبَار)
(ضَاقَتْ بهم سَعَة الفجاج وَرُبمَا
…
نَام الْعَدو وَلَا ينَام الثار)
(وتوهموا أَن الْفِرَار مَطِيَّة
…
تنجي وَأَيْنَ من الْقَضَاء فرار)
(طاروا فَمد أَبُو الشجاع لصيدهم
…
شرك الردى فكأنهم مَا طاروا)
(فتهن بِالْأَجْرِ الجزيل وميتة
…
درجت عَلَيْهَا قبلك الأخيار)