الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قَالَ وَتُوفِّي عقيب وَفَاته الشريف القَاضِي النَّقِيب أَبُو الْحُسَيْن فَخر الدولة ابْن أبي الْجِنّ وتفجع النَّاس عَلَيْهِ لخيريته وَشرف بَيته
وَدخلت سنة سِتّ وَأَرْبَعين وَخمْس مئة
فَفِيهَا حاصر نور الدّين رحمه الله دمشق لمعاضدة اهلها الفرنج واستنصارهم بهم ومدحه ابْن مُنِير بقصيدة يحرضه فِيهَا عَلَيْهِم وكتبها إِلَيْهِ من حماة وَهُوَ محاصر دمشق وَقد تخلف عَن الْخدمَة لمَرض عرض لَهُ مِنْهَا
(أخليفة الله الَّذِي ضمنت لَهُ
…
تَصْدِيق واصفه سراة الْمِنْبَر)
(لَا المستطيل بِمصْر ظلّ قصوره
…
والمستطال إِلَيْهِ شقة صَرْصَر)
(يَا نور دين الله وَابْن عماده
…
والكوثر بن الْكَوْثَر بن الْكَوْثَر)
(صفّر بِحَدّ السَّيْف دَار أشائب
…
عقلوا جيادك عَن بَنَات الْأَصْفَر)
(هم شيدوا صرح النِّفَاق وأوقدوا
…
نَارا تحش بهم غَدا فِي الْمَحْشَر)
(اذكوا بجلق حرّها واستشعرت
…
لفحاتها بَين الصَّفَا والمشعر)
(شرد بهم من خَلفهم مستنجدا
…
مَا ظَاهر الْكفَّار من لم يكفر)
(لَا تعف بل شقّ الْهدى نفس الَّذِي ادرع
…
الضّلال على أغرّ مشهر)
(قَلّدهُ مَا اهدى على لمرحب
…
فَلَقَد تهكم فِي الخداع الْخَيْبَرِيّ)
(مَا الْغِشّ مِمَّن أمه نصرانة
…
لم تختتن كالغش من تنصر)
(أذكت لنا هذي العزائم لَا خبت
…
مَا غَار من سنَن الْمُلُوك الغبر)
(إثقاب آراء الْمعز وخفق رايات
…
الْعَزِيز ويقظة الْمُسْتَنْصر)
(شمر فقد مدت إِلَيْك رقابها
…
لَا يدْرك الغايات غير مشمر)
(أولست من مَلأ البسيطة عدله
…
واجتثت بِالْمَعْرُوفِ أنف الْمُنكر)
(حدب الْأَب الْبر الْكَبِير ورأفة الْأُم
…
الحفية باليتيم الْأَصْغَر)
(يَا هضبة الْإِسْلَام من يعْصم بهَا
…
يُؤمن وَمن يتول عَنْهَا يكفر)
(كَانُوا على صلب الصَّلِيب سرادقا
…
أنبت بنيته بِكُل مُذَكّر)
(آثَارهم نجس أذال الْمَسْجِد الْأَقْصَى
…
فصن مَا دنسوه وطهر)
(حَار الْخَلِيل وَمن بغزة هَاشم
…
بلهامك الْمُتَدَمْشق المتمصر)
(بعرمرم صلمت وعاوعه عرى
…
أسماع جيحون وَسيف البربر)
(يفتر عَن ملك الْمُلُوك منحل الأنواء
…
بل سعد السُّعُود الْأَكْبَر)
(عَن طَاعن الفرسان غير مكذب
…
ومتمم الْإِحْسَان غير مكدر)
(بدر الجحافل والمحافل فَارس الآساد
…
فِي غَابَ الوشيج الأسمر)
(ملك تَسَاوِي النَّاس فِي أَوْصَافه
…
عذر الْمقل وَبَان عجز المكثر)
(يَا أَيهَا الْملك الْمُنَادِي جوده
…
فِي سَائِر الْآفَاق هَل من مُعسر)
(إِن القصائد أَصبَحت أبكارها
…
فِي ظلّ ملكك غاليات الأمهر)
(إِن كنت أَحييت ابْن حمدَان لَهَا
…
فَأَنا الَّذِي غبرت فِي وَجه السّري)
(ولأنت أكْرم من أنَاس نوهوا
…
باسم ابْن أَوْس واستخصوا البحتري)
(ذلت لدولتك الرّقاب وَلَا تزل
…
إِن تغز تغنم أَو تقَاتل تظفر)
وَكتب إِلَيْهِ من حماة أَيْضا وَهُوَ محاصر دمشق قصيدة ينَال فِيهَا من صَاحبهَا مِنْهَا
(أَبوك أَب لَو كَانَ للنَّاس كلهم
…
أَبَا وَرَضوا وَطْء النُّجُوم لفندوا)
(وَمَا مَاتَ حَتَّى سد ثلمة ملكه
…
بك الله ترمى مَا رَمَاه فتصرد)
(صدمت ابْن ذِي اللغدين فانحل عقده
…
وكالسلك قد أَمْسَى يحل ويعقد)
(يقلب خلف السجف عينا سخينة
…
ويبكي بِأُخْرَى ذَات شتر ويسهد)
(وَلَا غرو قد أبقى أَبوهُ وجده
…
لَهُ كل يَوْم ثوب عجز يجدد)
(فيا رَاكِبًا إِمَّا عرضت فبلغن
…
بُيُوتًا على جيرون بالذل تعمد)
(وَقل لمبير الدّين وَهُوَ مجيره
…
بزعم لَهُ وَجه الْحَقِيقَة أَرْبَد)
(حملت الصَّلِيب بَاغِيا ونبذته
…
وثغراك موطوس بِبَاب وأدرد)
(وحاربت حزب الله وَالله نَاصِر
…
لناصره وَدين أَحْمد أَحْمد)
(تنصرت حينا وَالْبَلَاء مُوكل
…
وَلَا بُد من يَوْم بِهِ تتهود)
(وَأقسم مَا ذاق الْيَهُود بإيليا
…
وموضعها من بخْتنصر أسود)
(كبعض الَّذِي جرعته فسرطته
…
وأيد فِيهِ من عماك الْمُؤَيد)
(ولَايَته عزل إِلَيْك موجه
…
وَتَصْحِيفه قتل عَلَيْك مؤبد)
(رماك بباقلا دمشق فَلم تكن
…
سوى بقلة حمقاء بالحمق تحصد)
(وجالدت جلادا وانت مؤنث
…
تذكرت والجلاد أدهى وَأجْلَد)
(تطاولت لَا نفس تسمى وَلَا أَب
…
وَرَاءَك زحفا إِنَّمَا أَنْت مقْعد)
(أمسعاة نور الدّين تبغي ودونها الأسنة
…
تبر والعوامل تعضد)
(بمحمود الْمَحْمُود سَيْفا وساعدا
…
حملت لقد ناجتك صماء مؤيد)
(وَهل يَسْتَوِي سَار تأسد طاويا
…
ونشوان يعلى معصما وَيُؤَيّد)
(تنصرت أما بل تمجست والدا
…
وَعَما فعرق الْكفْر فِيك مردد)
(تخذت بني الصُّوفِي أسرا وأسرة
…
لكَي يصلحوا مَا فِي يَديك فأفسدوا)
(لعمرى لَنِعْم العَبْد أَنْت تجيعه الموَالِي
…
وتوليه هواناً فيحمد)
(إِلَيْكُم بني العلاّت عَن متُشاوس
…
لَهُ الشَّام مرقا وَالْعراق مرقد)
(وَمَا مصر إِلَّا بعض أمصاره الَّتِي
…
إِلَى أمره تسْعَى قماء وتحفد)
(انيبوا إِلَيْهِ فَهُوَ أرْحم قادرٍ
…
لَهُ الصفح دين واقبلوا النصح تَرْشُدوا)
(وَلَا ترشفوا نفث الْمُؤَيد إِنَّه
…
عَن الْخَيْر يزوي أَو إِلَى المْين يسند)
(وفروا إِلَى مولاكم وَالَّذِي لَهُ
…
عَلَيْكُم أياد وَسْمُها لَيْسَ يجْحَد)
(وَلَا تكفروه إِنَّمَا أَنْتُم لَهُ
…
وَمِنْه وَيَوْم عِنْد حوران يشْهد)
(غَدَاة على الجولان جول وللظبى
…
رعود فريص الْمَوْت مِنْهُنَّ ترْعد)
(وَلما اكفهر الْيَوْم واربد وَجهه
…
وعوذ مَرْهُون وفر مُزْبِد)
(وأيقن من بَين السدير وجاسم
…
بِأَن الْحرار السود بالجرد تجرد)
(ردتهم على بصرى وصرخد خيله
…
وَقد أَبْصرت بصرى رداها وصرخد)
(وطاروا تهز المرهفات طلاهم
…
كَمَا انصاع من أَسد نعام مشرد)
(وَلَيْلَة ألْقى الشّرك بالمرج بركه
…
ومارج نيران الوغى يتوقد)
(رمى وَأَخُوهُ مغرب الشَّمْس دونكم
…
بمشرقها غَضْبَان يعدو ويسئد)
(فمذ وَردت مَاء الأرنط مُغِذَّةً
…
أثارت بثَوْرَا غلَّة لَيْسَ تبرد)
(أيا سيف شامته يَد الْملك صَارِمًا
…
فيمهد إِذْ يسري ويسري فيمهد)
(دمشق دمشق إِنَّمَا الْقُدس سرحة
…
ومركزها صرح عَلَيْهَا ممرد)
(حموها لكَي يحموا وَقد بلغ المدى
…
بهم أجل حتم وَعمر محدد)
(مَتى أَنا رَاء طَائِر الْفَتْح صادحا
…
يرفرف فِي أرجائها ويغرد)
وَله من قصيدة أُخْرَى
(نذرك بالغوطتين قد ضمنت
…
ربوتها ريعه ومقراها)
(أطلع لَهَا الشَّمْس من جبينك لم
…
يرج سواهَا فِي النّوم جفناها)
(فالخيل صور إِلَى تساهم سهميها
…
وملهى فِي بَيت لهياها)
(دولة من دَانَتْ الْبِلَاد لَهُ
…
وعمها ظلّه فأغناها)
(لَا بِسِواها تلِيق بهجتها
…
وَلَا سواهُ تبغي رعاياها)
قَالَ أَبُو يعلى وَفِي عَاشر الْمحرم نزلت أَوَائِل عَسْكَر نور الدّين على أَرض عذراء من عمل دمشق وَمَا والاها وَفِي الْغَد قصد فريق وافر مِنْهُم نَاحيَة السهْم والنيرب وكمنوا عِنْد الْجَبَل لعسكر دمشق فَلَمَّا خرج مِنْهَا إِلَيْهِم أسْرع النذير إِلَيْهِم فَحَذَّرَهُمْ وَقد ظهر الكمين فَانْهَزَمُوا إِلَى الْبَلَد
وَفِي الْغَد نزل نور الدّين بعسكره على عُيُون فاسريا بَين عذراء ودومة وامتدوا إِلَى تِلْكَ الْجِهَات ونزلوا من الْغَد فِي أَرَاضِي حجيرا وراوية فِي الْخلق الْكثير والجم الْغَفِير وانبثت أَيدي المفسدين من الْعَسْكَر الدِّمَشْقِي والأوباش من أهل العيث وَالْفساد فِي زروع النَّاس فحصدوها وَفِي الثِّمَار فأفنوها بِلَا مَانع وَلَا دَافع وتحرك السّعر وانقطعت السابلة وَوَقع التأهب للحصار ووافت رسل نور الدّين إِلَى وُلَاة الْبَلَد يَقُول أَنا مَا أوثر إِلَّا صَلَاح أَمر الْمُسلمين وَجِهَاد الْمُشْركين وخلاص من فِي أَيْديهم من الْأُسَارَى فَإِن ظهرتم معي فِي عَسْكَر دمشق وتعاضدنا على الْجِهَاد فَذَلِك المُرَاد
فَلم يعد الْجَواب إِلَيْهِ بِمَا يرضاه فَنزل فِي أَرض مَسْجِد الْقدَم وَمَا وَالَاهُ من الشرق والغرب
وَبلغ مُنْتَهى الخيم إِلَى الْمَسْجِد الْجَدِيد قبلى الْبَلَد
قلت هُوَ الَّذِي يُسمى فِي زَمَاننَا بمقبرة الْمُعْتَمد بَين مَسْجِد الْقدَم وَمَسْجِد فلوس
قَالَ وَهَذَا منزل مَا نزله أحد من مقدمى العساكر فِيمَا سلف من السنين وأهمل الزَّحْف إِلَى الْبَلَد إشفاقا من قتل النُّفُوس
ووصلت الْأَخْبَار باحتشاد الفرنج واجتماعهم لإنجاد أهل دمشق فضاقت صُدُور أهل الصّلاح وَزَاد إنكارهم لمثل هَذِه الْأَحْوَال الْمُنكرَة والمناوشات فِي كل يَوْم
مُتَّصِلَة من غير مزاحفة وَلَا محاربة
فَلم يزل ذَلِك إِلَى ثَالِث عشر صفر فَرَحل الْعَسْكَر النورى من هَذِه الْمنزلَة وَنزل فِي أَرَاضِي فذايا وحلقبلتين والخامسين المصاقبة للبلد وَمَا عرف فى قديم الزَّمَان من أقدم على الدنو مِنْهَا
ثمَّ رَحل فِي الْعشْرين من صفر إِلَى نَاحيَة داريا لتواصل الإرجاف بِقرب عَسَاكِر الإفرنج من الْبَلَد لقُوَّة عزمه على لقائهم
وَصَارَ الْعَسْكَر النوري فِي عدد لَا يُحْصى وَفِي كل يَوْم يزْدَاد بِمَا يتواصل من الْجِهَات وَطَوَائِف التركمان وَنور الدّين مَعَ هَذِه الْحَال لَا يَأْذَن لأحد من عسكره فِي التسرع إِلَى قتال أحد من الْمُسلمين وَكَانُوا يَعْنِي أهل الْبَلَد يحملهم الْجَهْل والغرور على التسرع والظهور وَلَا يعودون إِلَّا خاسرين مفلولين
وَأقَام على هَذِه الصُّورَة ثمَّ رَحل إِلَى نَاحيَة الأعوج لقرب عَسْكَر الإفرنج وعزمهم على قَصده وَاقْتضى رَأْيه الرحيل إِلَى نَاحيَة الزبداني استجرارا لَهُم وأفرق من عسكره فريقاً يناهز أَرْبَعَة آلَاف فَارس مَعَ جمإعة من المقدمين ليكونوا فِي أَعمال حوران مَعَ الْعَرَب لقصد الإفرنج ولقائهم وترقبا لوصولهم وَخُرُوج الْعَسْكَر الدِّمَشْقِي إِلَيْهِم واجتماعهم بهم ثمَّ يقاطع عَلَيْهِم
وَاتفقَ أَن عَسْكَر الإفرنج رَحل عقيب رحيله إِلَى الأعوج وَنزل بِهِ فِي ثَالِث ربيع الأول وَدخل مِنْهُم خلق كثير إِلَى الْبَلَد لقَضَاء حوائجهم
وَخرج مجير الدّين ومؤيده فِي خواصهما وَجَمَاعَة وافرة من الرّعية واجتمعا بملكهم وخواصه وَمَا صادفا عِنْده شَيْئا مِمَّا هجس فِي النُّفُوس من كَثْرَة وَلَا قُوَّة وتقرر بَينهم النُّزُول بالعسكرين على حصن بصرى لتملكه واستغلال اعماله
ثمَّ رَحل عَسْكَر الإفرنج إِلَى رَأس المَاء وَلم يتهيأ خُرُوج الْعَسْكَر الدِّمَشْقِي إِلَيْهِم لعجزهم وَاخْتِلَافهمْ وَقصد من كَانَ بحوران من الْعَسْكَر النوري وَمن انضاف إِلَيْهِم من الْعَرَب فِي خلق كثير نَاحيَة الإفرنج للإيقاع بهم والنكاية فيهم والتجأ عَسْكَر الإفرنج إِلَى لجاة حوران للاعتصام بهَا ونمي الْخَبَر إِلَى نور الدّين فَرَحل وَنزل على عين الْجَرّ من الْبِقَاع عَائِدًا إِلَى دمشق وطالبا قصد الفرنج والعسكر الدِّمَشْقِي
وَكَانَ الإفرنج حِين اجْتَمعُوا مَعَ الْعَسْكَر الدِّمَشْقِي قد قصدُوا بصرى لمضايقتها ومحاربتها فَلم يتهيأ ذَلِك لَهُم وَظهر إِلَيْهِم سرخاك واليها فِي رِجَاله وعادوا عَنْهَا خاسرين وانكفأ عَسْكَر الفرنج إِلَى أَعماله وراسلوا مجير الدّين ومؤيده يَلْتَمِسُونَ بَاقِي القطيعة المبذولة لَهُم على ترحيل نور الدّين عَن دمشق وَقَالُوا لَوْلَا نَحن نَدفعه مَا رَحل عَنْكُم
قَالَ أَبُو يعلى وَفِي هَذِه الْأَيَّام ورد الْخَبَر بوصول الأسطول الْمصْرِيّ إِلَى ثغور السَّاحِل فِي غايٍة من الْقُوَّة وَكَثْرَة من الْعدة وَالْعدة وَذكر أَن عدَّة مراكبه سَبْعُونَ مركبا حربية مشحنة بِالرِّجَالِ وَلم يخرج مثله فِي السنين الخالية وَقد أنْفق عَلَيْهِ فِيمَا حُكيَ وَقرب ثَلَاث مئة ألف دِينَار
وَقرب من يافا من ثغور الفرنج فَقتلُوا واسروا وأحرقوا مَا ظفروا بِهِ واستولوا على عدَّة وافرة من
مراكب الرّوم والإفرنج ثمَّ قصدُوا ثغر عكا فَفَعَلُوا فِيهِ مثل ذَلِك وَحصل فِي أَيْديهم عدَّة وافرة من المراكب الحربية الفرنجية وَقتلُوا من حجاجهم وَغَيرهم خلقا عَظِيما وقصدوا ثغر صيدا وبيروت وطرابلس وفعلوا فِي الْكل مثل ذَلِك ووعد نور الدّين بمسيره إِلَى نَاحيَة الأسطول الْمَذْكُور لإعانته على تدويخ الفرنجية فاتفق اشْتِغَاله بِأَمْر دمشق وَعوده إِلَيْهَا لمضايقتها وَحدث نَفسه بملكها لعلمه بضعفها وميل الأجناد والرعية إِلَيْهِ وإشارتهم لولايته وعدله
قَالَ وَذكر أَن نور الدّين أَمر بِعرْض عسكره فَبلغ كَمَال ثَلَاثِينَ ألفا مقاتلة ثمَّ رَحل وَنزل بالدلهمية من عمل الْبِقَاع ثمَّ نزل بِأَرْض كوكبا غربي دارَيّا ثمَّ نزل بارض دارَيّا إِلَى جسر الْخشب وَنُودِيَ فِي الْبَلَد بِخُرُوج الأجناد والأحداث إِلَيْهِ فَلم يظْهر مِنْهُم إِلَّا الْيَسِير مِمَّن كَانَ يخرج أَولا ثمَّ تقدم وَنزل القطيعة وَمَا والاها ودنا مِنْهَا بِحَيْثُ قرب من الْبَلَد وَوَقعت المناوشة بَين الْفَرِيقَيْنِ من غير زحف وَلَا شدّ فِي محاربة تحرجا من قتل الْمُسلمين وَقَالَ لَا حَاجَة إِلَى قتل الْمُسلمين بأيدي بَعضهم بَعْضًا وَأَنا أرفُههم ليَكُون بذل نُفُوسهم فِي مجاهدة الْمُشْركين
قَالَ وَورد الْخَبَر إِلَى نور الدّين بتسلم نَائِبه الْأَمِير حسان المنبجي مَدِينَة تل بَاشر بالأمان فِي الْخَامِس وَالْعِشْرين من ربيع الأول وَورد مَعَ
المبشر جمَاعَة من أَعْيَان تل بَاشر لتقرير الْأَحْوَال
وترددت المراسلات فِي عقد الصُّلْح مَعَ أهل دمشق على شُرُوط واقتراحات وَتردد فِيهَا الْفَقِيه برهَان الدّين عَليّ الْبَلْخِي والأمير أَسد الدّين شيركوه وَأَخُوهُ نجم الدّين أَيُّوب وتقارب الْأَمر فِي ذَلِك إِلَى أَن اسْتَقَرَّتْ الْحَال على قبُول الشُّرُوط المقترحة وَوَقعت الْأَيْمَان من الْجِهَتَيْنِ على ذَلِك وَالرِّضَا بِهِ فِي عَاشر ربيع الآخر
ثمَّ رَحل نور الدّين من الْغَد طَالبا نَاحيَة بصرى للنزول عَلَيْهَا وَالْتمس من دمشق مَا تَدْعُو إِلَيْهِ الْحَاجة من آلَات الْحَرْب لِأَن سرخاك كَانَ شاع خِلَافه وعصيانه وَمَال إِلَى الفرنج فاعتضد بهم فَأنْكر نور الدّين ذَلِك عَلَيْهِ وأنهض إِلَيْهِ فريقا وافراً من عسكره
قلت وَلابْن مُنِير فِي نور الدّين يذكر وقْعَة الجولان وَغَيرهَا قصيدة أَولهَا
(مَا برقتْ بيضك فِي غمامها
…
إِلَّا وغيث الدّين لابتسامها) يَقُول فِيهَا
(مَحْمُود الْمَحْمُود جدا وجدا
…
أرخص جلد الأَرْض حكم عامها)
(ملك أَزَال الرّوم عَن صلبانها
…
دفاعه وكب من أصنامها)
(جال على الجولان أمس جَوْلَة
…
صفرت الأدحي من نعامها)
(والجون قد جرعها أجونه
…
وفل مشحوذا من اعتزامها)
(وَشد فِي الْقد لَهُ مليكها
…
قَود عتود القوط فِي شبامها)
(وَفِي الرّها صابت لَهُ سَحَابَة
…
صَارُوا جُفَاء خف فِي التطامها)
(وهب فِي هاب لَهُ عواصف
…
تجهمتها الهف من جهامها)
(وَكفر لاثا لاث فِي جبينها
…
لثم ظبى أَتَت على لثامها)
(وقائع يرفضُّ تَحت وقعها
…
نظم الثريا فِي فضا مصامها)
(فساعة الْبيض إِذا عدّدها
…
سَوط عَذَاب صب فِي أَيَّامهَا)
(وَاعجبا لعُصب الشّرك الَّتِي
…
لم يعصب الرشد على أحلامها)
(حِكْمَة استواؤها فِي غيّها
…
فِي نقض مَا أحصد من إبرامها)
(مظفر الرَّايَات والرأي إِذا الحربُ
…
مشت تعثر فِي خطامها)
(عدت بِهِ حد الْعَلَاء همم
…
هن النُّجُوم أَو نواصي هامها)
(جلت لَهُ الدُّنْيَا حلى زبرجها
…
عفوا فَلم يلو على حطامها)
(رَأَتْهُ وَهُوَ اللَّيْث يدمي ظفره
…
أنفذ فِي الْمُشكل من حكامها)
(فتوجته الْعِزّ فِي مرتبَة
…
تمنطق الجوزاء فِي نظامها)
(غَضْبَان لِلْإِسْلَامِ لَا يغيظه استسلامها
…
للقسر من إسْلَامهَا)
(خطّ على مثل أَب طاعت لَهُ الْآفَاق واستشرف لاغتنامها)
(تصرف الدُّنْيَا على إيثاره
…
وعراقها مستردفا بشامها)
(لَو لم تكن دون منى فَاتَ المنى
…
وأقعد الفائز من قوامها)
(وامتك مَاء مَكَّة رواضع
…
يقصر بَاعَ الدَّهْر عَن فطامها)
(وَصَارَ كالجمر الْجمار وخلا
…
من أَهله الْأَشْرَف من مقَامهَا)
(حميتها لَا زلت ترقى فِي حمى
…
من مؤلم الأرداء أَو لمامها)
(تُلْبس بَيت الله وشى يَمَن
…
يقْرَأ آياتك من أعلامها)
(فَإِنَّمَا الدّين رحى قطبتها
…
وبازل مُكّنت من زمامها)
(أمّت بِنَا الآمال مِنْك كعبة
…
سلم اللَّيَالِي آيَة استسلامها)
(وأرشفتنا بك ثغر نعْمَة
…
لَا نسْأَل الله سوى دوامها)
وَقَالَ أَيْضا يمدحه
(بجدك أصحب الْجد الحزون
…
وأطلع فجره الْفَتْح الْمُبين)
(وَفِي كنفيك سولمت اللَّيَالِي
…
وَفَارق طبعه الزَّمن الخؤون)
(ومنك تعلم الْقطع المواضي
…
وَقد زبنت بهَا الْحَرْب الزبون)
(وَأَنت السَّيْف لم تمسسه نَار
…
وَلَا شحذت مضاربه القيون)
(ترَقْرقُ فَوق صفحته الْأَمَانِي
…
وتقطر من غراريه الْمنون)
(وقبلك مَا سَمِعت بذى فقار
…
يبُير الْفقر كَانَ وَلَا يكون)
(وَلَا غيث سماوته سَرِير
…
وَلَا لَيْث وسادته عرين)
(وَلَا قمر لَهُ الهيجاء هال
…
وَلَا تَاج لَهُ الدُّنْيَا جبين)
(جبلت ندى وعفوا وانتقاما
…
وَمَاء كل مجبول وطين)
(وملكك عمم الأقطار قطرا
…
فأمرعت الأواعث والحزون)
(تلألأ تَحْتَهُ غرر اللَّيَالِي
…
إِذْ الْأَيَّام عِنْد سواك جون)
(وَأَنت أَقمت للجدوى مناراً يبين لشائميه وَلَا يبين)
(وعندك مشرب النعمى زلال
…
إِذا عنفت مشاربها الأجون)
(تحكم فِي عطائك كل عاط
…
وَقد شيدت من الُمنع الْحُصُون)
(لقد أشعرت دين الله عزا
…
تتيه لَهُ المشاعر والحجون)
(وَقَامَ بنصره وَالنَّاس فوضى
…
قوى مِنْك فِي الجلى أَمِين)
(رجعت مُلُوكهمْ وهم خيوف
…
أَسِير فِي صفادك أَو كنين)
(فبرنست الْبُرْنُس لقاع خسف
…
وجرع مرّ جوسك جوسلين)
(إِذا مَا الْفِعْل عُلَّ تلاه حذف
…
يتاح لمنتهاهُ أَو سُكُون)
(غنوا حَتَّى غزوتهم فغنى الصدى
…
فِي أَرضهم خف القطين)
(وَكم عبر الصَّلِيب بهم صليبا
…
فَردته قناك وَفِيه لين)
(وَمَا خطرت بدار الشّرك إِلَّا
…
هوى الناقوس وارتفع الأذين)
(مَلَأت عِظَام ساحِهُم عظاما
…
فَكل مَلأ لقوك بِهِ جرين)
(بإنب والقنا تجْرِي نجيعا
…
كَأَن عُيُون أكعبها عُيُون)
(وَبَين حِرار صرخد ذُبْنَ حَرًّا
…
لَهُ فِي كل خبخبة كمين)
(وفئن من العُرَيْمة فِي عَرام
…
لَهُ فِي جونها الْأَقْصَى وجون)
(وَكم حرم بحارم غادرته
…
ودارته لمنسفها درين)
(وَفِي شعراء قُورُس صغن شعرًا
…
تدار على غراريه اللحون)
(وقائع صِرْن فِي صنعاء طيرا
…
يوقعها على عدن عدون)
(نماك أَب إِذا عد انتسابا
…
تراقى مصعدا وَالنَّاس دون)
(شمالا كَانَ أَمْلَاك البرايا
…
وَقد قيسوا بِهِ وَهُوَ الْيَمين)
(قضى وقضاؤه فِي الأَرْض حتم
…
وَطَاعَة أَهلهَا لِبَنِيهِ دين)
(لهَذَا الْيَوْم تنتخب القوافي
…
ويذخر نَفسه الدّرّ المصون)
(وَنحن أَحَق مِنْك بِأَن نهنا
…
إِذا قرّت برؤَيِتك الْعُيُون)
(سلمت لنا فَإنَّا كل صَعب
…
نوازنه بِأَن تبقى يهون)
(ترابطنا بعقوتك التهاني
…
وتغبطنا بدولتك الْقُرُون)