المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ثم دخلت سنة تسع وخمسين وخمس مئة - الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية - جـ ١

[أبو شامة المقدسي]

فهرس الكتاب

- ‌بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم

- ‌وَمَا توفيقي إِلَّا بِاللَّه رب الْعَالمين

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌ذكر أَخْبَار زنكي

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل فِي ولَايَة زنكي الْموصل وَغَيرهَا من الْبِلَاد الَّتِي كَانَت بيد البرسقي

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل فِي فتح شهرزور وبعلبك وحصار دمشق

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل فِي وَفَاة زنكي رحمه الله

- ‌فصل فِي ذكر بعض سيرة الشَّهِيد أتابك زنكي

- ‌فصل فِيمَا جرى بعد زنكي من تفرق أَصْحَابه وتملك ولديه غَازِي ومحمود

- ‌فصل فِيمَا جرى بعد وَفَاة زنكي من صَاحب دمشق والإفرنج المخذولين

- ‌فصل

- ‌وَدخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وَخمْس مئة

- ‌فصل فِي نزُول الفرنج على دمشق ورجوعهم وَقد خذلهم الله تَعَالَى عَنْهَا

- ‌وَدخلت سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌وَدخلت سنة أَربع وَأَرْبَعين وَخمْس مئة)

- ‌فصل

- ‌فصل فِي وَفَاة معِين الدّين أنر بِدِمَشْق وَمَا كَانَ من الرئيس ابْن الصُّوفِي فِي هَذِه السّنة

- ‌فصل فِي وَفَاة سيف الدّين غَازِي بن زنكي صَاحب الْموصل وَهُوَ أَخُو نور الدّين الْأَكْبَر

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌وَدخلت سنة خمس وَأَرْبَعين وَخمْس مئة

- ‌فصل فِي فتح عزاز

- ‌فصل فِي صفة أسر جوسلين

- ‌فصل

- ‌وَدخلت سنة سِتّ وَأَرْبَعين وَخمْس مئة

- ‌فصل فِي بَاقِي حوادث هَذِه السّنة

- ‌ثمَّ دخلت سنة سبع وَأَرْبَعين وَخمْس مئة

- ‌فصل

- ‌ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَخمْس مئة

- ‌ثمَّ دخلت سنة تسع وَأَرْبَعين وَخمْس مئة

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌ثمَّ دخلت سنة خمسين وَخمْس مئة

- ‌ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى وَخمسين وَخمْس مئة

- ‌فصل

- ‌ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وَخمْس مئة

- ‌فصل

- ‌فصل فِي ذكر حصن شيزر وَولَايَة بني منقذ

- ‌فصل فِي بواقي حوادث سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين

- ‌ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَخمسين وَخمْس مئة

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌ثمَّ دخلت سنة أَربع وَخمسين وَخمْس مئة

- ‌فصل

- ‌ثمَّ دخلت سنة خمس وَخمسين وَخمْس مئة

- ‌ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَخمسين وَخمْس مئة

- ‌ثمَّ دخلت سنة سبع وَخمسين وَخمْس مئة

- ‌ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَخمسين وَخمْس مئة

- ‌ثمَّ دخلت سنة تسع وَخمسين وَخمْس مئة

- ‌فصل فِي فتح حارم

- ‌فصل

- ‌ثمَّ دخلت سنة سِتِّينَ وَخمْس مئة

الفصل: ‌ثم دخلت سنة تسع وخمسين وخمس مئة

الْكَاتِب فِي = خريدته = فَأحْسن ذكره وَأكْثر الثَّنَاء على علمه وشعره وَسَيَأْتِي ذكره أَيْضا فِي هَذَا الْكتاب فِي أَخْبَار سنة سبعين وست وَسبعين وثمان وَسبعين إِن شَاءَ الله تَعَالَى

وَفِي هَذِه السّنة أَعنِي سنة ثَمَان وَخمسين توفى عبد الْمُؤمن بن عَليّ خَليفَة الْمهْدي مُحَمَّد بن تومرت صَاحب الْمغرب وَولى بعده ابْنه يُوسُف

‌ثمَّ دخلت سنة تسع وَخمسين وَخمْس مئة

فَفِيهَا سَار أَسد الدّين شيركوه بن شاذي إِلَى مصر الْمرة الأولى وَهُوَ من أكَابِر الْأُمَرَاء الَّذين فِي الْخدمَة النورية عَازِمًا على ملك الديار المصرية واستضافتها إِلَى المملكة النورية

وَكَانَ أَسد الدّين وَأَخُوهُ نجم الدّين أَيُّوب وَهُوَ الْأَكْبَر ابْنا شاذي من بلد دوين وَهِي بَلْدَة من آخر بِلَاد أذْرَبِيجان مِمَّا يَلِي الرّوم واصلهما من الأكراد الروادية وَهَذَا الْقَبِيل من اشرف الأكراد وقدما الْعرَاق وخدما

ص: 403

مُجَاهِد الدّين بهروز الْخَادِم وَهُوَ شِحنة الْعرَاق فَرَأى من نجم الدّين عقلا ورأيا وَحسن سيرة فَجعله دزدارا بتكريت وَهِي لَهُ فَسَار إِلَيْهَا وَمَعَهُ أَخُوهُ أَسد الدّين

فَلَمَّا انهزم أتابك زنكي الشَّهِيد وَالِد نور الدّين بالعراق من قراجه الساقي وَهُوَ أتابك دَاوُد بن السُّلْطَان مَحْمُود وَذَلِكَ زمن المسترشد بِاللَّه سنة سِتّ وَعشْرين وَخمْس مئة وصل إِلَى تكريت فخدمه نجم الدّين أَيُّوب وَأقَام لَهُ السفن فَعبر دجلة هُنَاكَ وَتَبعهُ أَصْحَابه فَأحْسن نجم الدّين صحبتهم وسيرهم

ثمَّ إِن أَسد الدّين قتل إنْسَانا نَصْرَانِيّا بتكريت لملاحاة جرت بَينهمَا فَأرْسل مُجَاهِد الدّين إِلَيْهِ وَإِلَى أَخِيه نجم الدّين فأخرجهما من تكريت

وَقيل إِن أَيُّوب كَانَ يحسن الرماية فَرمى شخصا من مماليك بهروز بِسَهْم فَقتله فخشى على نَفسه فَتوجه نَحْو الشَّام وخدم مَعَ زنكي وَقيل

ص: 404

لما قتل أَسد الدّين شيركوه النَّصْرَانِي وَكَانَ عَزِيزًا عِنْد بهروز هرب إِلَى الْموصل والتحق أَيُّوب بِهِ وسنوضح هَذِه الْقَضِيَّة إِن شَاءَ الله تَعَالَى عِنْد ذكر وَفَاة أَيُّوب فِي أَخْبَار سنة ثَمَان وَسِتِّينَ

ثمَّ إِن أَيُّوب وشيركوه قصدا أتابك الشَّهِيد فَأحْسن إِلَيْهِمَا وَعرف لَهما خدمتهما وأقطعهما إقطاعاً حسنا وصارا من جملَة جنده فَلَمَّا فتح حصن بعلبك جعل نجم الدّين دزداراً فِيهِ فَلَمَّا قُتل الشَّهِيد حّصر عَسْكَر دمشق نجم الدّين فَأرْسل إِلَى سيف الدّين غَازِي وَقد قَامَ بِالْملكِ بعد وَالِده يُنْهِي الْحَال إِلَيْهِ فَلم يتفرغ لبعلبك وضاق الْأَمر على من بهَا وَخَافَ نجم الدّين أَن تُؤْخَذ عنْوَة ويناله أَذَى فَأرْسل فِي تَسْلِيم القلعة وَطلب إقطاعا ذكره فَأُجِيب إِلَى ذَلِك وَحلف لَهُ صَاحب دمشق عَلَيْهِ وَسلم القلعة ووفى لَهُ بِمَا حلف عَلَيْهِ من الإقطاع والتقدم وَصَارَ عِنْده من أكَابِر الْأُمَرَاء

واتصل أَخُوهُ أَسد الدّين شيركوه بِالْخدمَةِ النورية بعد قتل الشَّهِيد وَكَانَ يَخْدمه فِي أَيَّام وَالِده فقربه نور الدّين وأقطعه وَرَأى مِنْهُ فِي حروبه ومشاهده آثارا يعجز عَنْهَا غَيره لشجاعته وجرأته فزاده إقطاعاً وقرباً حَتَّى صَارَت لَهُ حمص والرحبة وَغَيرهمَا وَجعله مقدم عسكره

فَلَمَّا تعلّقت الهمة النورية بِملك دمشق أَمر أَسد الدّين فراسل أَخَاهُ نجم الدّين وَهُوَ بهَا فِي ذَلِك وَطلب مِنْهُ المساعدة على فتحهَا فَأجَاب إِلَى مَا يُرَاد مِنْهُ وَطلب هُوَ وَأسد الدّين من نور الدّين كثيرا من الإقطاع والأملاك بِبَلَد دمشق وَغَيرهَا فبذل لَهما مَا طلبا مِنْهُ وَحلف لَهما عَلَيْهِ ووفى لَهما لما ملكهَا وصارا عِنْده فِي أَعلَى الْمنَازل لاسيما نجم الدّين فَإِن

ص: 405

جَمِيع الْأُمَرَاء كَانُوا لَا يَقْعُدُونَ عِنْد نور الدّين إِلَّا أَن يَأْمُرهُم أَو أحدهم بذلك إِلَّا نجم الدّين فَإِنَّهُ كَانَ إِذا دخل إِلَيْهِ قعد من غير أَن يُؤمر بذلك

فَلَمَّا كَانَ سنة تسع وَخمسين عزم نور الدّين على إرْسَال العساكر إِلَى مصر وَلم ير لهَذَا الْأَمر الْكَبِير أقوم وَلَا أَشْجَع من أَسد الدّين فسيره

وَكَانَ سَبَب ذَلِك أَن شاور بن مجير أَبَا شُجَاع السَّعْدِيّ وَهُوَ الملقب أَمِير الجيوش الَّذِي يَقُول فِيهِ عُمارة من جملَة قصيدة

(ضجر الْحَدِيد من الْحَدِيد وشاور

فِي نصر آل مُحَمَّد لم يضجر)

(حلف الزَّمَان ليَأْتِيَن بِمثلِهِ

حنثت يَمِينك يَا زمَان فَكفر)

وَهُوَ وَزِير الملقب بالعاضد لدين الله آخر المستخلفين بِمصْر كَانَ قد وصل إِلَى دمشق فِي سنة ثَمَان وَخمسين فِي سادس ربيع الأول إِلَى نور الدّين مستنجداً بِهِ على من أَخذ مِنْهُ منصبه قهرا

وَكَانَت عَادَة المصريين أَنه إِذا غلب شخص صَاحب المنصب وَعجز صَاحب المنصب عَن دَفعه وَعرفُوا عَجزه وَقَعُوا للقاهر مِنْهُم ورتبوه ومكنوه فَإِن قوتهم إِنَّمَا كَانَت تكون بعسكر وزيرهم وَهُوَ الملقب عِنْدهم بالسلطان وَمَا كَانُوا يرَوْنَ المكاشفة وأغراضهم مستتبة وقواعدهم مُسْتَقِرَّة من أول زمانهم على هَذَا الْمِثَال

وَكَانَ شاور قد غلب على الوزارة وانتزعها من بني رزيك وَقتل

ص: 406

الْعَادِل بن الصَّالح بن رزيك الَّذِي وزر بعد أَبِيه واسْمه رزيك ويلقب بالناصر أَيْضا وَهُوَ الَّذِي استحضر القَاضِي الْفَاضِل عبد الرَّحِيم بن عَليّ من الْإسْكَنْدَريَّة واستخدمه بِحَضْرَتِهِ وَبَين يَدَيْهِ فِي ديوَان الْجَيْش على مَا ذكره عمَارَة اليمني فِي = كتاب الوزراء المصرية = وَقَالَ غرس مِنْهُ للدولة بل للملة شَجَرَة مباركة متزايدة النَّمَاء اصلها ثَابت وفرعها فِي السَّمَاء

ثمَّ خرج على شاور نَائِب الْبَاب وَهُوَ أَمِير يُقَال لَهُ ضرغام بن سوار ويلقب بالمنصور فَجمع لَهُ جموعاً كَثِيرَة لم يكن لَهُ بهَا قبل فغلبه وَأخرجه من الْقَاهِرَة وَقتل وَلَده طيئا وَاسْتولى على الوزارة

فَرَحل شاور إِلَى الشَّام قَاصِدا خدمَة نور الدّين مستصرخا بِهِ ومستنصرا فَأحْسن لقاءه واكرم مثواه فَطلب مِنْهُ إرْسَال العساكر إِلَى مصر ليعود إِلَيْهَا وَيكون لَهُ فِيهِ حِصَّة ذكرهَا لَهُ ويتصرف على أمره وَنَهْيه واختياره

نور الدّين يقدم فِي ذَلِك رجلا وَيُؤَخر أُخْرَى تَارَة تحمله رِعَايَة قصد شاور وَطلب الزِّيَادَة فِي الْملك والتقَّوى على الفرنج وَتارَة يمنعهُ خطر الطَّرِيق وَكَون الفرنج فِيهِ إِلَّا أَن يوغلوا فِي الْبر فيتعرضوا لخطر آخر مَعَ الْخَوْف من الفرنج أَيْضا

ثمَّ استخار الله تَعَالَى وَأمر أَسد الدّين بالتجهز للمسير مَعَه قَضَاء لحق الْوَافِد المستصرخ وجسا للبلاد وتطلعا على أحوالها

وَكَانَ هوى أَسد الدّين فِي ذَلِك وَعِنْده من الشجَاعَة وَقُوَّة النَّفس مَا لَا يُبَالِي بمخافة

فتجهز وَسَار مَعَ شاور فِي جُمَادَى الْآخِرَة من سنة تسع وَخمسين هَكَذَا ذكر ابْن الْأَثِير والعماد الْكَاتِب

وَقَالَ القَاضِي

ص: 407

ابْن شَدَّاد كَانَ ذَلِك سنة ثَمَان وَخمسين وَالْقَوْل فِي ذَلِك قَوْلهمَا فقد بَينا أَن قدوم شاور إِلَى الشَّام كَانَ فِي سنة ثَمَان وَخمسين وإرسال نور الدّين الْعَسْكَر كَانَ فِي جُمَادَى سنة تسع وَخمسين

قَالُوا وَأمر نور الدّين أَسد الدّين بِإِعَادَة شاور إِلَى منصبه والانتقام مِمَّن نازعه فِي الوزارة

وَسَارُوا جَمِيعًا وَسَار مَعَهم نور الدّين إِلَى أَطْرَاف بِلَاد الْإِسْلَام مِمَّا يَلِي الفرنج بعساكره ليشغلهم عَن التَّعَرُّض لأسد الدّين فَكَانَ قصارى الفرنج حفظ بِلَادهمْ من نور الدّين

وَوصل أَسد الدّين سالما إِلَى مصر هُوَ وَمن مَعَه فهرب المنازع لشاور فِي الوزارة وَقتل وطيف بِرَأْسِهِ وَعَاد شاور وزيرا وَتمكن من منصبه

وَكَانَ عمَارَة قد مدح ضرغاما بقصيدة مِنْهَا

(وأحق من وزر الْخلَافَة من نشا

فِي حَضْرَة الْإِكْرَام والإجلال)

(واختص بالخلفاء وانكشفت لَهُ

أسرارها بقرائن الْأَحْوَال)

(وَتصرف الوزراء عَن آرائه

كتصرف الْأَسْمَاء بالأفعال)

قَالَ عمَارَة وَلما جازوا بِرَأْسِهِ على الخليج وَكنت أسكن صف الخليج بِالْقَاهِرَةِ قلت ارتجالا

(أرى حنك الوزارة صَار سَيْفا

يجذ بحده صيد الرّقاب)

(كَأَنَّك رائد الْبلوى وَإِلَّا

بشير بالمنية والمصاب)

ولعمارة اليمني من قصيدة مدح بهَا شاور وَذكر وزارتيه

ص: 408

(فنصرت فِي الأولى بِضَرْب زلزل الْأَقْدَام

وَهِي شَدِيدَة الْإِقْدَام)

(ونصرت فِي الْأُخْرَى بِضَرْب صَادِق

أضحى يطير بِهِ غراب الْهَام)

(أدْركْت ثأرا وارتجعت وزارة

نزعا بسيفك من يَدي ضرغام)

وَكَانَ ضرغام أَولا من أَصْحَاب شاور واتباعه وَقد أَشَارَ إِلَى ذَلِك عمَارَة فِي قَوْله من قصيدة لَهُ

(كَانَت وزارتك الْقَدِيمَة مشرعاً

صفواً وَلَكِن كدرت غدرانها)

(غصبت رجال تاجه وسريره

من بعد مَا سجدت لَهُ تيجانها)

وَله من قصيدة أُخْرَى فِي شاور

(وَزِير تمنته الوزارة أَولا

وثانية عفوا بِغَيْر طلاب)

(فخانته فِي الأولى بطانة وده

وَرب حبيب فِي قَمِيص حباب)

(وجاءته تبغى الصُّلْح ثَانِي مرّة

فَلم يرض إِلَّا بعد ضرب رِقَاب)

وَلم يغلب وَزِير لَهُم وَعَاد غير شاور

وَكَانَ مُدَّة أَخذ الوزارة مِنْهُ إِلَى أَن عَادَتْ إِلَيْهِ تِسْعَة أشهر سَوَاء وَهِي مُدَّة الْحمل نَص عمَارَة على ذَلِك وَقَالَ قتل وَلَده طي يَوْم الْجُمُعَة الثَّامِن وَالْعِشْرين من رَمَضَان وَجَاز رَأسه على رمح تَحت الطيقان وَالنِّسَاء يولولن بالصراخ وَكَانَ فِيهِنَّ وَاحِدَة تحفظ قولي فِي الصَّالح

ص: 409

(أينسى وَفِي الْعَينَيْنِ صُورَة وَجهه الْكَرِيم

وعهد الإنتقال قريب)

فَمَا زَالَت تكرره حَتَّى رَأَتْ رَأس ضرغام

قَالَ وَأدْركَ شاور ثَأْره فِي يَوْم الْجُمُعَة الثَّامِن وَالْعِشْرين من جُمَادَى الْآخِرَة فَيكون بَينهمَا تِسْعَة أشهر

قَالَ وَقلت فِي ذَلِك

(ونزعت ملكك من رجال نازعوا

فِيهِ وَكنت بِهِ أَحَق وأقعدا)

(جذبوا رداءك غاصبين فَلم تزل

حَتَّى كسوت الْقَوْم أردية الردى)

(وَبَردت قَلْبك من حرارة حرقة

أمرت نسيم اللَّيْل أَلا يبردا)

(تَارِيخ هَذَا نلته فِي مثله

يَوْمًا بِيَوْم عِبْرَة لمن اهْتَدَى)

(حملت بِهِ الْأَيَّام تِسْعَة أشهر

حَتَّى جعلن لَهُ جُمَادَى مولدا)

وَله فِيهِ أَيْضا فِي ذَلِك

(لله دَرك موتورا أقض بِهِ

دست وسرج وأجفان ومضطجع)

(مَا غبت إِلَّا يَسِيرا ثمَّ لحت لنا

والثأر مُسْتَدْرك وَالْملك مرتجع)

(قَضِيَّة لم ينل مِنْهَا ابْن ذِي يزن

إِلَّا كَمَا نلْت والْآثَار تتبع)

(فافخر على الْحَيّ من قيس وَمن يمنٍ

أَبَا شُجَاع فَلَيْسَ الْحق ينْدَفع)

ص: 410

قَالَ ابْن الْأَثِير وَأقَام أَسد الدّين بِظَاهِر الْقَاهِرَة وغدر بِهِ شاور وَعَاد عَمَّا كَانَ قَرَّرَهُ لنُور الدّين من الْبِلَاد المصرية ولأسد الدّين أَيْضا

وَأرْسل إِلَيْهِ يَأْمُرهُ بِالْعودِ إِلَى الشَّام فَأَنف أَسد الدّين من هَذِه الْحَال وَأعَاد الْجَواب يطْلب مَا كَانَ اسْتَقر فَلم يجبهُ شاور إِلَيْهِ فَلَمَّا رأى ذَلِك أرسل نوابه فتسلموا مَدِينَة بلبيس وَحكم على الْبِلَاد الشرقية فَأرْسل شاور إِلَى الفرنج يستمدهم ويخوفهم من نور الدّين إِن ملك مصر

وَكَانَ الفرنج قد أيقنوا بِالْهَلَاكِ إِن ملكهَا نور الدّين فهم خائفون

فَلَمَّا أرسل شاور إِلَيْهِم يستنجدهم وَيطْلب مِنْهُم أَن يساعدوه على إِخْرَاج أَسد الدّين من الْبِلَاد جَاءَهُم فرج لم يحتسبوه وسارعوا إِلَى تَلْبِيَة دَعوته والمبادرة إِلَى نصرته وطمعوا فِي ملك ديار مصر

وَكَانَ قد بذل لَهُم مَالا على الْمسير إِلَيْهِ فتجهزوا وَسَارُوا

فَلَمَّا بلغ نور الدّين خبر تجهزهم للمسير سَار بعساكره فِي أَطْرَاف بِلَاده مِمَّا يَلِي الإفرنج ليمتنعوا من الْمسير فَلم يمتنعوا لعلمهم أَن الْخطر فِي مقامهم إِذا ملك أَسد الدّين مصر أَشد من الْخطر فِي مَسِيرهمْ فتركوا فِي بِلَادهمْ من يحفظها وَسَار ملك الْقُدس فِي البَاقِينَ إِلَى مصر

وَكَانَ قد وصل إِلَى السَّاحِل جمع كثير من الفرنج فِي الْبَحْر لزيارة الْبَيْت المقدَّس فاستعان بهم ملك الإفرنج فأعانوه وَسَار بَعضهم مَعَه وَأقَام بعض فِي الْبِلَاد يحفظها

فَلَمَّا قَارب الفرنج مصر فَارقهَا أَسد الدّين وَقصد مَدِينَة بلبيس وَأقَام بهَا هُوَ وَعَسْكَره وَجعلهَا ظهرا يتحصن بِهِ فاجتمعت العساكر المصرية والفرنجية ونازلوا أَسد الدّين بِمَدِينَة بلبيس وحصروه بهَا ثَلَاثَة أشهر وَقد امْتنع أَسد الدّين بهَا وسورها من طين قصير جدا وَلَيْسَ لَهُ خَنْدَق

ص: 411

وَلَا فصيل يحميها وَهُوَ يغاديهم الْقِتَال ويراوحهم فَلم يبلغُوا مِنْهُ غَرضا وَلَا نالوا مِنْهُ شَيْئا فَبينا هم كَذَلِك إِذْ أَتَاهُم الْخَبَر بهزيمة الفرنج بحارم وَملك نور الدّين الْحصن ومسيره إِلَى بانياس

فَحِينَئِذٍ سقط فِي أَيْديهم وَأَرَادُوا الْعود إِلَى الْبِلَاد ليحفظوها ولعلهم يدركون بانياس قبل أَخذهَا فَلم يدركوها إِلَّا وَقد ملكهَا على مَا سَيَأْتِي بَيَانه إِن شَاءَ الله تَعَالَى

وراسلوا أَسد الدّين فِي الصُّلْح وَالْعود إِلَى الشَّام ومفارقة مصر وَتَسْلِيم مَا بِيَدِهِ مِنْهَا إِلَى المصريين فأجابهم إِلَى ذَلِك لِأَنَّهُ لم يعلم بِمَا فعله نور الدّين بالفرنج فِي السَّاحِل

قَالَ ابْن الْأَثِير فَحَدثني من رأى أَسد الدّين حِين خرج من بلبيس قَالَ رَأَيْته وَقد أخرج أَصْحَابه بَين يَدَيْهِ وَبَقِي فِي آخِرهم وَبِيَدِهِ لت من حَدِيد يحمي ساقتهم والمسلمون والفرنج ينظرُونَ قَالَ فَأَتَاهُ فرنجي من الفرنج الغرباء فَقَالَ لَهُ أما تخَاف أَن يغدر بك هَؤُلَاءِ الْمُسلمُونَ والفرنج وَقد أحاطوا بك وبأصحابك فَلَا يبْقى لَك مَعَهم بَقِيَّة فَقَالَ شيركوه يَا ليتهم فعلوا حَتَّى كنت ترى مَا لم تَرَ مثله كنت وَالله أَضَع سَيفي فَلَا أُقتل حَتَّى أقتُل رجَالًا وَحِينَئِذٍ يقصدهم الْملك الْعَادِل نور الدّين وَقد ضعفوا وفني أبطالهم فَيملك بِلَادهمْ ويفني من بَقِي مِنْهُم وَوَاللَّه لَو أَطَاعَنِي هَؤُلَاءِ يَعْنِي أَصْحَابه لَخَرَجت إِلَيْكُم أول يَوْم لكِنهمْ امْتَنعُوا فصلّب الفرنجي على وَجهه وَقَالَ كُنَّا نعجب من فرنج هَذِه الديار ومبالغتهم فِي

ص: 412

صِفَتك وخوفهم مِنْك والآن فقد عذرناهم

ثمَّ رَجَعَ عَنهُ وَسَار شيركوه إِلَى الشَّام وَعَاد سالما

وَقَالَ الْعِمَاد الْكَاتِب وصل شاور إِلَى نور الدّين ملتجئا فألفاه على عدوه معديا مشكيا وسير مَعَه أَسد الدّين على قَرَار عينه وَأمر بَينه وبغية يُدْرِكهَا وخطة يملكهَا ومحجة وَاضِحَة فِي الْملك يسلكها

فَمضى مَعَه وَنَصره وأصفى لَهُ مشرعة واسترد لَهُ مَوْضِعه وأظهره بعلوه وأظفره بعدوه فَلَمَّا باد خَصمه بدا وصمه وغدر بعهده وأخلف فِي وعده

وَكَانَ قد راسل الفرنج وهداهم فِي حَرْب الْإِسْلَام فوصلوا فتحصن شيركوه وَمن مَعَه بِمَدِينَة بلبيس فحاصره شاور بِجُنُود مصر والفرنج ثَلَاثَة أشهر من مستهل رَمَضَان إِلَى ذِي الْحجَّة فبذلوا لَهُ قطيعة فَانْصَرف عَنْهُم وَعَاد إِلَى الشَّام وَفِي قلبه من شَرّ شاور الإحن وَكَيف تمت بغدره تِلْكَ المحن

قلت وَقد أَشَارَ إِلَى ذَلِك عُمارة فِي قَوْله فِي مدح شاور وَذكر الإفرنج فَقَالَ

(وأنقذت من مصر عدواًّ بِمثلِهِ

فَللَّه من ظفر فللت وناب)

(صدمت جموع الْكفْر وَالشَّام صدمة

أَقمت بهَا للْقَوْم سوق ضراب)

(وَقد جرّدت أجناد مصر عزائماً

مضاربها فِي الصخر غير نوابي)

(تولّوا عَن الإفرنج فادح ثقلهَا

ودارت رحاها مِنْهُم بهضاب)

(أَقَامَت دروع الْجند تسعين لَيْلَة

ثيابًا لَهُم مَا بدلت بِثِيَاب)

(وهم بَين مطروح هُنَاكَ وطارح

وَبَين مُصِيب خَصمه ومصاب)

وَقَالَ القَاضِي ابْن شَدَّاد سَار أَسد الدّين إِلَى مصر واستصحب مَعَه

ص: 413

ابْن أَخِيه صَلَاح الدّين يُوسُف بن أَيُّوب وَجعله مقدم عسكره وَصَاحب رَأْيه وَكَانَ لَا يفصل أمرا وَلَا يُقرر حَالا إِلَّا بمشورته ورأيه لما لَاحَ لَهُ مِنْهُ من آثَار الإقبال والسعادة والفكرة الصَّحِيحَة واقتران النَّصْر بحركاته وسكناته

فَسَارُوا حَتَّى وصلوا مصر وشاور مَعَهم وَكَانَ لوصولهم إِلَى مصر وَقع عَظِيم وخافه أهل مصر وَنصر شاور على خَصمه وَأَعَادَهُ إِلَى منصبه ومرتبته وَقرر قَوَاعِده وَشَاهد الْبِلَاد وَعرف أحوالها وَعلم أَنَّهَا بِلَاد بِغَيْر رجال تمشي الْأُمُور فِيهَا بِمُجَرَّد الْإِيهَام والمحال

وَكَانَ ابْتِدَاء رحيله عَنْهَا مُتَوَجها إِلَى الشَّام فِي السَّابِع من ذِي الْحجَّة فَأَقَامَ بِالشَّام مُدبرا لأَمره مفكراً فِي كَيْفيَّة رُجُوعه إِلَى الْبِلَاد المصرية مُحدثا بذلك نَفسه مقرراً لقواعد ذَلِك مَعَ نور الدّين إِلَى سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ

قلت ولفعل شاور مَا فعل مَعَ أَسد الدّين وَصفه الشُّعَرَاء بالغدر ووقعوا فِيهِ قبل قَتله وَبعده على مَا سَنذكرُهُ وَبَقِي متخوفاً من أَسد الدّين

فَقَالَ عرقلة الْكَلْبِيّ من جملَة قصيدة لَهُ

(وَهل هم يَوْمًا شيركوه بجلق

إِلَى الصّيد إِلَّا ارتاع فِي مصر شاور)

(هُوَ الْملك الْمَنْصُور والأسد الَّذِي

شذا ذكره فِي الشرق والغرب سَائِر)

فِي ذِي الْحجَّة من هَذِه السّنة احترقت جيرون بعد رُجُوع أَسد الدّين إِلَى دمشق فَقَالَ العرقلة بمدحه وَيذكر ذَلِك

(جَازَ صرف الردى على جيرون

وَسَقَى أَهلهَا كؤوس الْمنون)

ص: 414