الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التوشيح والوشاحون
للإفراني
التوشيخ لغة مأخوذ من الوشاح قال في الأنوار والوشاح خزر تنظم بجواهر وأحجار نفيسة نظمين مختلفين تتقلد بهما المرأة يلتقيان عند صدرها وبين كتفيها كحمائل السيف ومنه التوشيح الذي في الحديث وهو أن يخالف الرجل بين طرفي الثوب آخذاً لهما من تحت إبطيه عاقداً لهما على رقبته اهـ. ومن هذا التوشيح عند أهل البديع ومخترعه قدامة وهو أن يكون أول الكلام دالاً على الفظ ولهذا سموه توشيحاً فإنه يتنزل المعنى فيه بمنزلة الوشاح ويتنزل أول الكلام وآخره منزلة العاتق والكشح اللذين يجول عليهما الوشاح.
ومن غريب التوشيح البديعي ما ذكر أن عدي بن الرقاع أنشد الوليد بن عبد الملك بحضرة جرير والفرزدق قصيدته التي أولها: عرف الديار توهماً فاعتادها، حتى انتهى لقوله: تزجي أغن كان إبرة روقه، ثم شغيل الوليد عن الاستماع فقطع عدي الإنشاد فقال الفرزدق إنه سيقول:
قلم أصاب من الدواة مدادها، فلما عاد الوليد للاستماع وعاد.
للإنشاد قال: قلم أصاب من الدواة مدادها، فقال الفرزدق: والله لما سمعت صدر بيته رحمته فلما أنشأ عجزه انقلبت الرحمة حسداً وقال الشريف الغرناطي (أبو القاسم الشريف) في شرح المقصورة لما أنشد أبيات ابن الزقاق ومنها:
على عاتقي من ساعديها حمائل. . . وفي خصرها من ساعدي وشاح
استعمل ابن الزقاق الوشاح في معنى النطاق وهو ما تديره المرأة على خصرها والوشاح ما تتقلده على عاتقها فيكون منها في موضع حمائل السيف من الرجل. وقد خطيء أبو تمام في قوله:
من الهيف لو أن الخلاخل صورت
لها وشحاً جالت عليه الخلاخل
لأنه استعمل الوشاح في الحقاًب، وإنما وصفوا الوشاح بالقلق والحركة لأن ذلك يدل على رقة الخصر وضمور البطن، وسمي التوشيح توشيحاً أخذاً من وشح بمعنى زين، قال الثعالبي على قول الحلي:
ما روضة وشح الوسمي بردتها، ما نصه وشح هو من التوشيح
وهو التزيين يقال: وشحت الشيء إذا زينته ومنه الوشاح اهـ.
وأما التوشيح عرفاً فقال ابن خلدون أن أهل الأندلس لما كثر
الشعر في قطرهم وتهذبت مناحيه وفنونه وبلغ التنميق فيه الغاية استحدث المتأخرون منهم فناً سموه بالموشح ينظمونه أسماطاً أسماطاً وأغصاناً أغصاناً يكثرون منها ومن أعاريضها المختلفة ويسمون المتعدد منها بيتاً وأحداً ويلتزمون غدد قوافي تلك الأغصان وأوزانها متتالياً فيما بعد إلى آخر القطعة وأكثر ما ينتهي عندهم إلى سبعة أبيات ويشتمل كل بيت على أغصان عددها بحسب الأغراض والمذاهب وينسبون فيها ويمدحون كما يفعل في القصائد اهـ. ولم يلتزموا في أوزانه بحراً من البحور الخمسة عشر بل صنعوا على كل بحر منها وربما استعملوه في الألحان المولدة والطبوع المخترعة والنغمات المستحدثة الخارجة عن أوزان العرب رأساً وهذا الاستعمال أغلب عليهم، ثم قال ابن خلدون:
وأول من اخترع التواشيح بجزيرة الأندلس مقدم بن معافر القبري من شعراء الأمير عبد الله بن محمد المرواني وأخذ عنه ذلك أبوعبد الله أحمد بن عبد ربه صاحب كتاب العقد ولم يظهر لهما مع المتأخرين ذكر وكسدت موشحاتهما، فكان أول من برع في هذا الشأن بعدهما عبادة القزاز شاعر المعتصم بن صمادح صاحب المرية وقد ذكر الأعلم البطليوسي أنه سمع أبا بكر بن زهر يقول الوشاحون كلهم عيال على عبادة فيما اتفق له من قوله:
بدر تم شمس ضحى. . . غصن نقا مسك شم
ما أتم ما أوضحا. . . ما أورقا ما أنم
لا جرم من لمحا. . . قد عشقا قد حرم
وزعموا أنه لم يسبق عبادة وشاح من معاصريه الذين كانوا زمن الطوائف وجاء من بعده جماعة منهم ابن ارفع رأسه شاعر المأمون بن ذي النون صاحب طليطلة قالوا وقد أحسن في ابتداء موشحته التي طارت له حيث يقول:
العود قد ترنم بأبدع تلحين. . . وشفت المذانب رياض الياسمين
وفي إثنائها يقول:
تخطر ولم تسلم، عساك المأمون
مروع الكتائب، يحيي بن ذي النون
ثم جاءت الحلبة التي كانت في أيام الملثمين فظهرت لهم البدائع فمن فرسان حلبتهم الأعمى التطيلي ويحيى بن بقي، ومن موشحات الأعمى:
كيف السبيل إلى. . . صبري وفي العالم، أشجان
والركب وسط الفلا. . . بالخرد النواعم، قد بانوا
وذكر غير واحد من المشايخ أن أهل هذا الشأن بالأندلس يذكرون أن جماعة من الوشاحين اجتمعوا في مجلس من إشبيلية وكان كل وأحد منهم قد صنع موشحة وتأنق فيها فتقدم الأعمى التطيلي فلما افتتح موشحته المشهورة بقوله:
ضاحك عن جمان، سافر عن بدر
…
ضاق عنه الزمان، وحواه صدري
خرق ابن بقي موشحته وتبعه الباقون وذكر إلا لم البطليوسي أنه سمع ابن زهر يقول ما حسدت قط وشاحاً على قول إلا ابن بقي حين وقع له:
أما ترى أحمد. . . في مجده العالي. . . لا يلحق
أطلعه الغرب. . . فأرنا مثله. . . يا مشرق
وكان في عصرهما من الوشاحين المطبوعين أبوبكر الأبيض وكان في عصرهما أيضاً الحكيم ابن باجة صاحب التلاحين المعروفة، ومن الحكايات التي اشتهرت عنه أنه حضر مجلس مخدومه ابن تيفلويت صاحب سرقسطة فألقى على بعض قيناته موشحته:
جرر الذيل أيما جر. . . وصل السكر منك بالسكر
فطرب الممدوح حتى ختمها بقوله:
عقد الله راية النصر. . . لأمير العلا أبي بكر
فلما طرق ذلك التلحين سمع ابن تيفلويت صاح: واطرباه وشق ثيابه وقال ما أحسن ما بدأت به وما ختمت وحلف بالإيمان المغلظة لا يمشي ابن باجة إلى داره إلا على الذهب فخاف ابن باجة سوء العاقبة فاحتال بأن جعل ذهباً في نعله ومشى عليه وذكر أبو الخطاب بن زهر (1) أنه جرى في مجلس أبي بكر بن زهر ذكر أبي بكر الأبيض الوشاح المتقدم الذكر فغض منه أحد الحاضرين فقال كيف تغض ممن يقول:
ما لذ لي شرب راح. . . على رياض الاقاح
لولا هضيم الوشاح. . . إذا انثنى في صباح
أوفي الأصيل أضحى يقول. . . ما للشمول لطمت خدي
وللشمال هبت فمال. . . غصن اعتدال ضمه بردي
مما أباد القلوبا بمشي لنا مستريباً. . . يا لحظه زذ نوبا ويالماه الشنيبا
برد غليل صب عليل. . . لا يستحيل فيه عن عهد
(1) كذا عند الافراني وفي مقدمة ابن خلدون ونظن أن الصواب أبو الخطاب ابن دحية.
ولا يزال في كل حال. . . يرجو الوصال وهو في الصد
واشتهر بعد هؤلاء في صدر دولة الموحدين محمد بن أبي الفضل ابن شرف قال الحسن ابن دويدة حسدت حاتم بن سعيد على هذا الافتتاح:
شمس قارنت بدراً. . . راح ونديم
وابن هردوس الذي له:
يا ليلة الوصل والسعود. . . بالله عودي
وابن مؤهل الذي له:
ما العيد في حلة وطاق، وشم طيب. . . وإنما العيد في اللاق، مع الحبيب
وأبو إسحاق الرويني قال ابن سعيد سمعت أبا الحسن سهل ابن مالك يقول أنه دخل على ابن زهر وقد أسن وعليه زي البادية إذ كان يسكن بحصن استبة فلم يعرفه فجلس حيث انتهى به المجلس وجرت المحاضرة أن أنشد لنفسه موشحة وقع فيها:
كحل الدجى يجري. . . من مقلة الفجر. . . على الصباح
ومعصم النهر. . . في حلل خضر. . . من البطاح
فتحرك ابن زهر وقال أنت تقول هذا قال اختبر قال ومن تكون فعرفه فقال ارتفع فو الله ما عرفتك قال ابن سعيد وسابق الحلبة التي
أدركت هؤلاء هو أبوبكر بن زهر وقد شرقت موشحاته وغربت. قال وسمعت أبا الحسن ابن سهل بن مالك يقول قيل لابن زهر لو قيل لك ما أبدع ما وقع لك في التوشيح قال كنت أقول:
ما للموله. . . من سكره لا يفيق. . . يا له سكران
قال في نفح الطيب هذا مطلع موشح يستعمله أهل المغرب إلى الآن ويروى أنه من أحسن الموشحات قلت وأبو بكر بن زهر هو أول من عصر سلافة التوشيح لأهل عصره ولذلك قال فيه تلميذه أبو الخطاب بن دحية في كتاب الطرب من أشعار أهل المغرب والذي انفرد به شيخنا الموشحات وهي زبدة الشعر وخلاصه. من الفنون التي أغرب فيها أهل المغرب على أهل المشرق.
. . قال ابن خلدون واشتهر بعد ابن زهر ابن حيون والمهر بن الفرس بغرناطة قال ابن سعيد ولما سمع ابن زهر قوله:
لله ما كان من يوم بهيج. . . بنهر حمص على تلك المروج
ثم انعطفنا على فم الخليج
نفض مسك الختام. . . عن عسجدي المدام
ورداء الأصيل. . . تطويه كف الظلام
قال أين كنا من هذا الرداء وكان معه في بلده طرف أخبر ابن
سعيد عن والدته أن مُطَرَّفاً هذا دخل على ابن الفرس فقام له وأكرمه فقال لا تفعل فقال ابن الفرس كيف لا أقوم لمن يقول:
قلوب تصابت. . . بألحاظ تصيب. . . فقل كيف نبقى. . . بلا وجد
وبعد هؤلاء ابن حزمون بمرسية ذكر ابن الرئيس أن يحيى الخزرجي دخل عليه في مجلس فإنشده موشحة لنفسه فقال له ابن حزمون ما الموشح بموشح حتى يكون عارياً عن التكلف قال مثل م إذا؟ قال على مثل قولي:
يا هاجري هل إلى الوصال. . . منك سبيل
أو هل يُرى عن هواك سال. . . قلب العليل
وأبو الحسن بن سهل بن مالك بغرناطة قال ابن سعيد كان والدي يُعجب بقوله:
إنّ سيل الصباح في الشرق. . . عاد بحراً في أجمع الأفق
فتداعت نوادب الورق. . . أتُراها خافت من الغرق
فبكت سُحرةً على الورق
واشتهر بإشبيلية لذلك العهد أبو الحسن بن الفضل قال ابن سعيد عن والده سمعتُ سهل بن مالك يقول يا ابن الفضل لك على الوشّاحين الفضل في قولك:
فواحسرتا لزمان مضى. . . . عشية بان الهوى وانقضى
وأُفرِدتُ بالرَّغم لا بالرِّضا. . . وبتُّ على حَرِّ جَمْر الغَضا
أُعانِقُ بالفكر تلك الطُّلول. . . وألثُمُ بالوَهمِ تلك الرُّسوم
قال وسمعت أبا بكر الصَّابوني يُنشد الأستاذ أبا الحسن الدَّباج موشحاته غير ما مرَّة فما سمعتُه يقول لله درُّه إلا في قوله:
قسماً بالهوى لذِي حِجر. . . ما لِلَيل المشوق من فجر
جمد الصُّبح ليس يطَّردُ. . . ما لِلَيلي فيما أظنُّ غَدُ
صَحَّ يا ليلُ أنكَّ الأبدُ
أو فقُصَّت قَوادِمُ النَّسْر. . . فنُجُوم السَّماءِ لا تَسْرِي
واشتهر ببرَّ العُدوَة ابنُ خلف الجزائري صاحب الموشحة المشهورة:
يد الصباح قد قدَحت. . . زِنَادَ الأنوار، في مجَامر الزَّهر
وابن زَجر البِجائي وله من موشحة:
ثغرُ الزمان مُوافِق. . . حيَّاك بابْتسَام
قال ابن خلدون ومن محاسن الموشحات للمتأخرين موشحة ابن سهل شاعر إشبيلية وسَبْتة من بعدِها فمنها قوله:
هَل درَى ظَبيُ الحِمَى أن قد حمى. . . قلب صب حِلَّه عن مكْنَسِ
فهو في حَرّ وخَفْقٍ مثلما. . . لَعِبَتْ ريحُ الصبا بالقَبَسِ
وأما المشارقةُ فالتكلُّف عندهم ظاهر على ما عانوه من الموشحات ومن أحسن ما وقع لهم في ذلك موشحة ابن سناء المُلك المصري اشتهرت شرقاً وغرباً وأولها:
يا حبيبي ارفع حجاب النور. . . عن العِذار
تنظرِ المسْكَ على الكافور. . . في جُلَّنار
كلِّلي، يا سُحْبُ تيجان الرُّبى. . . . بالحُلِي
واجعلي، سوار ها مُنْعَطِفَ. . . الجَدْوَلِ
ومن أحسن موشحات الشارقة موشحة عبد العزيز بن سرايا الحِلِّي:
شُقَّ جَيْبُ الليْلِ عن نَهْدِ الصباح. . . أيُّها السَّاقُون
وله:
جَرَّدَ الأُفقُ صَارِمَ الفَجْر. . . مِن جُفُون الغَسَق