الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عقد توبة لميمون الخطابي
(1)
يقول العبد الذي اعترف بما اقترف لمولاه، وأقر له بما أضاعه لا بما أطاعه على ما منحه من النعم وأولاه، الميمون بن علي الخطابي، جبر الله بالتقوى كسره، وفك من حبائل الدنيا أسره، لم أزل مدة أيام بل عدة أعوام، أخالل كل مخل بديني، واستظل من إطالة البطالة بكل ظل مضل يرديني، وأخالف كل صالح مصلح، وأحالف كل طالح غير مفلح، وأجر أذيال المجون على أرض الراحة، وأطلق عنان مهر الغفلة في ميدان النسيان فيطيل جماحه ومراحه، راكباً مطاياً التسويف دون إهمال، مستوطئا فرش الكسل والانهماك في الشهوات والانهمال، مستوطناً ربع التصابي بقلة الأعمال وكثرة الآمال، سالكاً سبيل الهزل وطريقه، تاركاً قبيل الجد وفريقه، لا أثني عناني، إلى ما يعنيني، ولا أزال أعاني، ما يعنيني، ولطائف الله عز وجل التي يضيق عن حمل أصغرها الأمكنة الفسيحة، ولا يطيق بلوغ شكرها الألسنة الفصيحة، ضاحية الورود، ضافية البرود وقد طنبت علي قبابها وأرواقها، وخلعت بعنقي ثيابها وأطواقها وأطردت بماء النعمة مذانبها
(1) لبهلول المجنون حديث يشبه أن يكون هو الأصل هذا العقد فأنظره إن شئت في كتاب عقلاء المجانين لابن حبيب النيسابوري.
وأنهارها، وتساوي في القدوم بالكرم ليلها ونهارها، وأنا مع ذلك لا أزيد إلا غفلة عن القصد السني وسهواً، ولا استزيد إلا اشتغالاً عن المقصود السني ولهوا، إلى أن أجرى الله عادة إحسانه وجوده، وأرادت مراداته السائقة السابقة إخراج العبد المذكور من عدم الغفلة إلى ظهور الإلهام ووجوده، فسلط رعد الخوف على سحائب سمائه فكشفها وجلاها، وحل بساحة أرضها سكر السلو فسكرها من سواه وخلاها، وقلد أجياد فكره بقلائد حمده وشكره وحلاها، وسل من سويداء قلبه محبة غيره فتزهها عنه وسلاها فلاح إصباح النجاح وآذن ليل الغفلة بالصباح، ونادي منادي الوصلة بمنار العزلة حي على الفلاح وصاح كالئ، صبح النجح بالسفر المعرسين شدوا المطي فقد سال نهر النهار، ومال جرف الليل والنهار، وانفجر عمود الفجر بنوره الوضاح، فلاح، فأفاق العبد المذكور من نوم الركون، إلى السكون والكرى، وشمر للسير ذيوله وضمر للسبق خيوله إذ سمع عند الصباح يحمد القوم السرى.
ثم كتب العبد المذكور عقداً وعهد مع المولى الجليل عهداً، وهو على خوف ووجل يسأله ادراك ما أمله، والوصول إلى ما أم له، ويتبرأ من حوله وقوته إليه، ويتوكل في جميع أموره عليه، ويقف بقدم الندم بين يديه، معترفاً بما كان له مقترفاً، وراجياً أن يكون من بحر الإحسان لدار الامتنان مغترفاً، والعقد المذكور:
هذا ما اشترى المولى اللطيف الجليل، من العبد الضعيف الذليل الميمون ابن علي، اشترى منه في صفقة واحدة دون استبقاء ولا تبعيض، ولا استثناء بتصريح ولا تعريض، جميع المنزل المعروف بمنزل القلب والفؤاد، الذي من سكانه الإخلاص والمحبة والوداد، حده من القِبلة قبوله الأوامر المطاعة، ومن الشرق لزوم السمع والطاعة، ومن الجنوب الإقبال على ما عليه أهل السنة والجماعة، ومن الغرب دوام المراقبة في كل وقت وساعة، بكل ما يخص هذا المبيع المذكور ويعمه، وينتهي إليه كل حد من حدوده ويضمه، من داخل الحقوق وخارجها، ومداخل المنافع ومخارجها، وبكل ما له من الآلات التابعة له في التصرف، والحواس الجارية معه في حالتي الإضاعة والتشرف، السالكة مسلكه في التنكر والتعرف، من يدين ورجلين، ولسان وشفتين، وعينين وأذنين، اشتراء صحيحاً تاماً، شائعاً في جميع المبيع المذكور وعاماً، ثبتت قواعده، وظهرت بالتسليم الصحيح شواهده، بلا شرط ولا ثنيا ولا خيار، ولا بقيا مع حظ نفس ولا اختيار، بثمن رتبته العناية الربانية، ونسخته المشيئة الإلاهية، بين عاجل وآجل، فالعاجل العون على كل مندوب ومفترض، والصون عن كل غرض وعرض، والثناء على النعم الظاهرة والباطنة، وإهداء الآلاء المتحركة والساكنة. والآجل الفوز بالدار القدسية، والحضرة الأنسية، التي فيها ما امتد به جناح التواتر بالخبر الصادق وانتشر، ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر
على قلب بشر، من النعيم السرمدي، والحبور الدائم الأبدي.
سلم العبد المذكور هذا المبيع المذكور تسليماً تبرأ فيه من الملكة، ورفع به يد الاعتراض عما يفعل المولى الجليل فيما ملكه، وأيقن أنه المتصرف فيه في سره وجهره، وعلم أن الملك المذكور تحت يد عنزته وقهره، يجري فيه أحكامه القاهرة، وينفذ فيه قضاياه الباهرة، ومقتضي قدرته الظاهرة، وقد أحاط المولى الجليل بهذا المبيع المذكور، إحاطة ظهور، ولم يخف عليه شيء من قليله وكثيره، وجليله وحقيره، ومبانيه ومساكنه، ومتحركه وساكنه، واطلع عليها اطلاع عليم قدير، «ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير» .
ولما أسلم العبد المذكور المبيع المذكور وأمضاه، واستسلم لمولاه فيما حكم به وقضاه، تفضل عليه مولاه وغمره بجوده العميم وأولاه، وجعل له السكني بهذا المنزل المذكور مدة حياته، والإقامة فيه إلى حين مماته، وإتيان وفاته، إذ يستحيل على المولى الجليل الحلول في شيء، أو السكون إلى شيء، وهو موجد كل شيء وخالق كل ميت وحي، ومريد كل رشد ومقدر كل شيء (1) به قيام جميع العبيد، وعن قدره غناهم وفقرهم لأنه الفعال لما يريد، وهو ميسرهم لليسرى فمنهم شقي وسعيد، وله الغني عن كل شيء وهو الغني الحميد.
(1) كذا، ولعله غي،
وقد أمر المولى الجليل بخدمة هذا المنزل المذكور خدمة التقرب إليه، وجعل له التصرف فيه لقبول أمره للفوز بما لديه، وبهذا المنزل المذكور بساتين تسمى بساتين الإخلاص، وجنات تعرف بجنات حضرة القلب المعروف بمحل الاستخلاص، التزم العبد المذكور تسهيل أرضها من شوك الشرك والارتياب، وتذليلها من حجر العجب والاضطراب، في حالتي الحضور والغياب، وتنقيتها من أعشاب الحسد والحقد والكبر، وزوال ما فيها من عوارض الغش والخديعة والمكر، وإن يقطع منها كل عود لا منفعة فيه بحديد الفكر، مثل عود الحرص والطمع، ويغرس مكانه شجر الزهد والورع، ويقلم أغصان الميل إلى الأدران والأقذار، وأفنان الركون إلى الأغيار والأكدار، وقضبان السكون إلى الشهوات والأوطار، ويفتح أبواب البذل والإيثار، بمفاتح الجود الحميد المساعي والآثار، ويطلق ينابيع التوكل على مصرف الأقدار، وإن يخدم ما توعر من سواقي مياهها الإخلاصية وحياضها، ويمشي بالمصلحة المصلحة لدوحاتها وغياضها، ويفجر بها مياه الصفاء من الأكدار، المتصلة بساقية الوفاء في الإيراد والإصدار، والملاصقة لساقية ترك الجفاء في هذه الدار، حتى يبدو إن شاء الله صلاحها، ويكثر ببركة الله إصلاحها، وتهب بقبول القبول أرواحها، وتثير بجنى المنى أدواحها، فتنبت قرنفل التنقل، وعود التقبل، وآس الأنس
والسوسان، وياسمين اليأس من كل إنسان، ونعمان النعمة التي لا يصفها لسان.
وقد علم العبد المذكور أن بخارج هذا المنزل حرس الله إيمانه، وأدام أمانه، جيشاً يغير عليه في مسائه وصباحه، وينتهز فيه الفرصة في غدوه ورواحه، ويقطع جادة السبيل بالمرور عليها إلى حضرة الملك الجليل وملك هذا الجيش المذكور النفس الكثيرة الأغراض، الميالة إلى ما يعرض من الأعراض، المعتكفة على المشارب المهلكة والإعراض، وخادم الملك المذكور الشهوة الموقوفة على خدمته، المعدودة في أعلى خزنته، ووزيره المفاخرة، وزمامه المنافسة في زهرة الدنيا وحاجبه المكاثرة، وقيم جيشه المقدم، وفارسه الأقدم، شجاع الغضب، الذي عنده يتولد الهلاك وبه يكون العطب. وطلب العبد المذكور من مولاه السداد بعساكر العزم، وفوارس الحزم، ورغب منه الإعانة بكتائب السداد والتوفيق ومواكب الرشد والتحقيق، وإرسال جيوش الاصطبار، وفوارس الانتصار في ميادين الاختبار، والتدرع بدروع الأذكار، وجولان خيل السعادة في ميادين الاختيار، والعون بأعلام العلم، والسكون في حصن الحلمٍ، حتى يذهب حدة النفس ويزيل كيدها ويميتها في المجاهدة بسيوف المجادلة ويقطع قوتها وأيدها، أو تمديد التسليم بقهرها واضطرارها، وينطق بلسان اعترافها وإقرارها، أنها أسقطت جملة دعواها واختيارها، ودخلت تحت امتثال الأوامر