الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تقسيمُ العُلومُ
إلى فلسفيّة ومِلِّيَّة
وبيان ما تواطأت عليه
المِلَّة والفلسفة مِنْهَا
لأبي علي اليوسي
العلوم على الجُملة إما قديمة وإما حادثة، وإن شئت قلت أمَّا فلسفية وإمَّا مِلِّيَة، أو إمَّا قديمة وإمَّا إسلامية، وهو أضبط لأن من القديم ما ليس بفلسفي كعلوم العرب، غير أن هذه لمَّا لم تكن علوماً مهمة صح أن لا يُبإلى بها في التقسيم بل يقتصر على ذكر الفلسفية والإسلامية وما سوى ذلك يُذكَر تبعاً فنقول: أمَّا الفلسفية فمنها مقبول في المِلَّة ومنها مردود، والمقبول منه مأخوذ ومنه متروك، ولنبدأ بتقسيم الفلسفيات جرْياً مع عباراتهم فيها مع الإلمام بما يُقبَل وما لا، فنقول: العلم إمَّا مقصود لذاته أو لغيره، أمَّا الأول فهو الفلسفة الأولى المقصود بها تكميل النفس الناطقة والاطلاع على حقائق الأشياء بقدر الطاقة وهو إمَّا نظري وإمَّا عملي، والأول إما مُجرّد عن المادة مطلقاً وهو العِلم الإلهي أو في الذِّهن فقط وهو العلم الرياضي أو مقيد بالمادة وهو العلم الطبيعي، والثاني أمَّا متعلق بنفس الشخص من حيث هي ويسمى سياسة النفس وعلم الأخلاق أو بها وبما يحتاج
إليه من شهوات قواها وهو علم تدبير المنزل، أو بما يعم وهو الملكية والسَّلطنة، فإن كان الحافظ لنظامها والقائم بأحكامها الظاهرة والباطنة شخصاً دلت عليه القِرَانات الكبار وتميز عن البشر ما أُفِيضَ عليه من قُوى المجردات فهو النبي وهو دولة النبوءة، وإن كان قائماً بتدبير ظواهرها فقط ودلَّت عليه القِرانات المتوسطة فهي السلطنة وهو السلطان، وقد يعُمُّ حكمه وقد يخصّ.
قلت أما دلالات القرانات الكبار والمتوسطة فلا مانع منه، إذ لا مانع أن يُجري الله تعالى عادته بخلق شيء أو إنزال شيء أو تخصيص شيء ما بشيء عند طلوع كوكب أو غروبه أو اجتماعه بكوكب آخر أو بَيْنُونَتِه عنه أو قربه منه أو بعده ثم يلهم الله من يشاء من عباده علم ذلك فيعلم ويحكم به اتِّباعاً لتلك العادة ولا تأثير في شيء من ذلك لشيء، بل التأثير كله لله تعالى الواحد القهار، وأما الفيض من قُوَى المجردات فهو وهم باطل لا حاصل له، فكل ما يثبتونه من المجردات والعقل الفياض باطل، وإنما الله تعالى واحد موجود واجب الوجود وكل موجود من هذه العوالم حادث أثر عنه خلقه بقدرته ومشيئته عن عدم، وهو تعالى المخصَّص للنبي بما اختصّ به من النبوءة والكرامة، وهو المُمِدُّ له ولغيره لا إله ولا فاعل ولا مُعطِيَ ولا مانع غيره سبحانه.
وأما الثاني أعني المقصود لغيره، فإما للذِّهن وما يُنَاط به من المعاني وهو المنطق، وإما لِلِّسَان وما يُناط به من الألفاظ وهو الأدب، وهذا مُحدَث.
ثم إن الشريعة المطهرة على القَيِّم بها أفضل الصلاة والسلام جاءت بما يُغنِي عن العلوم العملية المذكورة فتُرِكَت، وذلك أن مَدَارَها إمَّا على حفظ النفس وهو في الشريعة بالقصاص ونحوه، وإمّا على العقل وهو فيها بتحريم ما يزيله والحدِّ عليه، أو المالي وهو فيها بالتَّنْمِية بالتِّجارات وسائر المعاملات وحَدِّ الحرابة والسرقة وتحريم الربا والغش ونحو ذلك، أو العِرْض وهو فيها بعد القذف مثلاً أو النَّسب وهو فيها بتحليل النكاح وتحريم السِّفاح وحد الزنى، أو تهذيب النفس بالتخلية والتحلية، والقيام بالتعبد ومعرفة المعبود والاعتراف بالشرع ومن جاء به وهو مبسوط فيها على أكمل وجه وكذا سياسة العباد بالنبوءة والخلافة فأسقط المتأخرون هذا القسم من علوم القدماء استغناءً عنه واقتصروا على الأقسام الباقية أعني العلم الإلهي والرياضي والطبيعي والمنطقي.
أما العلم الإلهي فهو العلم الباحث على الموجود من حيث ثبوته وما يعرض له أو على المعلوم من حيث هو على الخلاف في موضوعه، ومنفعته تبيين المعتقَد الحق من الباطل وسُمِّيَ إلهياً لأن فيه أحكام
الربوبية وهذا العلم هو المقصود بالذات للإنسان في كماله وفوزه في الدارين وكل ما سواه من العلوم تبَعٌ له فما كان منها دينياً فوسيلة إليه وما كان دنيوياً فبمثابة الخديم له ولهذا توفرت رغبات العقلاء على طلبه ثم اختلفت الطرق إليه فمن العقلاء من رام إدراكه بالنظر وهم الحكماء ومنهم من رام إدراكه بالرياضة بالجوع والعزلة والخلوة كالنسَّاك وهم الصوفية في ملتنا ومنهم من رامه بالنظر وليس من أهله فأخطأ الحق وضلَّ وأضل كالثَّنِويَّة والمُعطِّلة وسائر المنكرين للشرائع، ومنهم من عجز ورام التعلُّق بالمولى تعالى على ما هو شأن العبودية أو غفل فأمدَّهم الله تعالى فضلاً منه ومِنَّة ببعث الرسل مع التأييد بالعقل الصائب. . .
وأما العلم الرياضي فهو العلم الباحث عما تجرد عن المادة في الذهن فقط كما مَرَّ، وأنواعه أربعة: علم الهندسة، وعلم الهيئة، وعلم العدد، وعلم الموسيقى وذلك أن نظره في الكم وهو إمَّا متَّصل بأن يُفرَض بين أجزائه حدّ مشترك تتلاقى عنده وكلاهما أما قارُّ الذات بأن يكون مجتمع الأجزاء في الوجود أولاً، فالأول علم الهندسة وموضوعه الكم المتصل القارُّ الذات وهو المقدار فهو علم يعرف به أحوال المقادير ولواحقها وأوضاعها وأشكالها، ومنفعته اكتساب الحِدَّة وارتياض الفكر مع ما يستتبع ذلك من المصالح في الأبنية والمنازل وغير ذلك ويتفرع عنه عشرة علوم، والثاني علم الهيئة وهو العلم الباحث عن
الأجرام البسيطة فلكية أو عنصرية من حيث الكم والكيف والحركة والسكون وموضوعه الأجرام المذكور من تلك الحيثية فمرجع مبحثه الزمان وهو الكم المتصل غير القارِّ الذات، وهو محتاج إلى علم الهندسة لأن مقدّمَات براهينه منها والعلوم المتفرعة عليه خمسة. . . والثالث علمَ العَدد وهو العلم الباحث عن العدد من حيث انقسامه إلى الزوج والفرد وإلى الصحيح والكَسْر وغير ذلك وما يعتريه من الأحوال كالضرب والجمع والقسمة ونحو ذلك وموضوعه العدد من تلك الحيثية وهو الكم المنفصل ومنفعته ارتياض الذهن وضبط الأموال والمعاملات ويتنوع إلى ستة أنواع. . . والرابع علم الموسيقى وهو العلم الباحث عن النّغم وما يعتريها من الإيقاعات وانتظام اللحون المختلفة وإيجاد الآلات الصالحة لذلك. . .
وأما العلم الطبيعي فهو العلم الباحث عن الجسم الطبيعي أي المادي وهو المحسوس من حيث هو مُعرَّض للتغيُّر والانفعال والثبات في أحواله وموضوعه الجسم من تلك الحيثية وفائدته معرفة أحوال الأجسام البسيطة والمركبة من الأفلاك والعناصر والمولدات والاطلاع على موادها وصورها وعللها وغاياتها وأعراضها اللازمة والمفارقة وسائر خواصِّها وأسرارها الغريبة ويتفرع منه عشرة علوم. . .
وأما المنطق فهو العلم الباحث عن المعلومات التصوُّرية والتصديقية
من حيث التأدي بها إلى مجهول تصوري أو تصديقي، وموضوعه المعلومات من تلك الحيثية، ومنفعته تقويم الفكر عن الزيغ وحراسته عن الخطأ في المدارك وناهيك بها فهو المعيار على العلوم كلها ولذا قيل مَن لا معرفة له به لا وثوق بعلمه. . . وهذا آخر العلوم الفلسفية وقد تواطأ على بعضها المِلَّة والفلسفة كالعلم الإلهي والطب والعبارة (1) والتوقيت فهي موجودة في لسان الشرع، وأُدخِلَ منها في الملة ما عمَّت منفعته، وعظمت فائدته، مع هذه المذكورة، كالمنطق والحساب وما يحتاج إليه من علم الهيئة ومن علم الهندسة كالتكسير، وكثير منها متروك إلا في الخصوص لعدم الحاجة إليه أو لقصور الهمم عنه، وجملة منها دنيوية بقيت في أيدي العامَّة من الفلاحين والبنائين ورؤساء البحر وأهل السحر وخطاط الرمل ونحو هؤلاء، ولا بأس بجميعها فنحن لا نلتفت إلى مَن يُحرِّم علم شيء منها فإن العلم في نفسه هو غذاء العقل ونزهة الروح وصفة الكمال، وإنما تختلف ثمراته في الشرف بحسب الموضوع والغاية، وتختلف الأحكام بحسب النية حتى أن علم السحر الذي يحرم استعماله بإجماع لو تعلمه أحد ليؤذي به معصوم الدم، كان تعلمه حراماً كعمله ولو تعلَّمه لمجرد أن يعرفه فيُميز بينه وبين المعجزة مع ما تقدم من الفوائد كان تعلُّمه جائزاً أو واجباً،
(1) يعني علم تعبير الرؤيا.