الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
522 - عمر الحراق أبو حفص، وزير الحضرة الإسماعيلية الشريف الحسنى
.
حاله: عين أعيان الأعلام، وواسطة عقد حملة الأقلام، بذلك الأوان، إذا نظم سحر الألباب، وإذا نثر أَدهش فرسان البلاغة بما أويته من حسن الانسجام، وعجيب الإبداع، نشأَ ببلده شفشاون نشأَة حسنة في العفاف والصيانة، وغذى بألبان المعارف والعلوم والآدب، إلى أَن بلغ الأشد، ونبع وبرع في الفنون على اختلاف أنواعها. قال في حقه معاصره الأديب الماهر المقتدر أبو عبد الله محمد بن الطيب الشريف العلمى في أنيسه ما لفظه: قوى العارضة، لا يطمح الفتح أَن يعارضه، تقلد الوزارة، وشد بها إزاره، فأَلقت إليه الرياسة عصا الطوع، وأمنت بسيوف أقلامه وسهام إصابته من الروع، وجاءها من البيان بكل صنف ومن البديع بكل نوع، من رجل يهاب سطوته الحجاج، ويستفتيه في العربية الزجاج.
رحل إلى المشرق فحج واعتمر، وطلع بأدبه على ذلك الأفق طلوع القمر، فاستفاد وأَفاد، وخلد هنالك علما تدخره الأبناء للأحفاد، وله ديوان شعر يشهد له بالدراية، وينشر على رأسه في دولة الإحسان أى راية، ولقد أَثبت له ما تبصره شعرا، وتجده عند الاختبار سحرا، وعند الاستنشاق شحرا، إلى أن قال: لقيته بداره من محروسة مكناسة فأطرفنى بما شاء من الطرف، وأعطانى في أخباره من كل فن طرف، ثم دعا بولد له بعد ست سنين، فلما حضر أَدى حق الآباء على البنين، ثم قال له: قل يا بنى لا فض الله فاك، ولا سلم من جفاك، فأنشد وما وجم، حتى أتى على آخر لامية العجم، من غير أن يحدث في عروضها كسرا، أو يغفل في إعرابها ضما ولا كسرا.
ثم أتى من القصائد ما يتخذ ذخرا، وانتقل في المعانى فكان تميميا مرة وقيسيا أُخرى، فما رأيت والله من يفصح مثل لفظه، ولا من ظفر بمثل حفظه، ثم
قال يا بنى أَطرفنا بشئ من الأخبار. مما عقلت من الأحبار. ونبذة من عجائب الأسفار. فحدثنا بقصص رائقة، سلك فيها منهج الإتقان ورائقه.
أَخبرنا قال حدث الخالد عن أبى بكر الصنوبرى، قال: كان بالرُّها وراق له سعد، وكان يجلس له أهل الفضل والأدب من أهل عصره وكان حسن الأدب غزير العلم، كثير الفهم، ينظم الأشعار الفائقة الرائقة، وكان جملة من الأدباء لا يفارقون دكانه، منهم أبو بكر المعوج الشامى الشاعر، وأبو بكر الصنوبرى وغيرهم من علماء الشام وديار مصر.
وكان لتاجر نصرانى هنالك ولد اسمه عيسى من أحسن الناس وجها وأعلاهم قدرا، وأظرفهم منطقا، وكان يجلس إلينا ويكتب من أشعارنا وجميعنا يحبه ويميل إليه، وهو حينئذ في المكتب، فعشقه سعد الوراق عشقا مبرحا، وكان يعمل فيه الأشعار فمن ذلك قوله فيه وقد جلس عنده يكتب شعرا:
اجعل فؤادى دواة والمداد دمى
…
وهاك فاجر عظامى موضع القلم
يرى المنعم لا يدرى بمن كلفى
…
وأنت أشهر في الصبيان من علم
ثم شاع بعشق الغلام، فلما كبر وبلغ الاحتلام، أحب الرهبانية وخاطب أباه وأمه في ذلك، وألح عليهما فأجاباه، وخرجا به إلى دير زكرى بنواحى الرقة وهو في نهاية الحسن، فابتاعا له قلابة فأَقاماه فيها، وضاقت الدنيا على سعد الوراق فأَغلق دكانه، وهجر إخوانه، ولزم الدير مع الغلام يعمل فيه الأشعار، ويسير خلفه حيث سار.
فأنكرت الرهبان إلمام سعد بعيسى ونهوه عنه وأَنكروا عليه، وأَغلظوا له في القول، وأَزمعوا على إخراجه إن دخل القلابة على عيسى، فلما رأى سعد امتناعه منه شق ذلك عليه وخضع للرهبان، وتملق لهم فلم يجيبوه، وقالوا: هذا عار علينا وفيه إثم فلا تمكن موافقتنا عليه، مع ما نخشى من السلطان.
فكان إذا وافى الدير أَغلقوا الباب في وجهه، ولم يدعو الغلام يكلمه، فاشتد وجعه وزاد عشقه وكلفه، حتى صار إلى الجنون، فخرق ثيابه وأضرم النار في جميعها، ولزم صحراء الدير وهو عريان يهيم، ويعمل الأشعار.
قال الصنوبرى: فعبرت يوما أنا والمعوج الشامى من بستان بتنا فيه فرأيناه عريانا جالسا في ظل الدير، وقد طال شعره وتغيرت خلقته، فسلمنا عليه وعذلناه وعنفناه، فقال: دعانى من هذا الوسواس، أتريا ذلك الطير الذى على هيكل الدير؟ قلنا: نعم، قال: إنى والله أُناشده منذ الغداة أَن يسقط فأَحمله رسالة إلى عيسى، ثم التفت إلى وقال: يا صنوبرى أمعك ألواحك؟ قلت: نعم، قال اكتب عنى وأَنشد:
بدينك يا حمامة دير زكرى
…
وبالإنجيل عندك والصليب
قفى وتحملى منى سلاما
…
إلى قمر على غصن رطيب
حماه جماعة الرهبان عنى
…
فقلبى لا يقر من الوجيب
وقالوا رابنا إلمام سعد
…
ولا والله ما أنا بالمريب
وقولى سعدك المسكين يشكو
…
لهيب جوى أحر من اللهيب
فصله بنظرة لك من بعيد
…
إذا ما كنت تمنع من قريب
وإن أَنامت فاكتب حول قبرى
…
محب مات من هجر الحبيب
رقيب واحد تنغيص عيش
…
فكيف بمن له مائتا رقيب
قال: ثم تركنا وقام إلى باب الدير وهو مغلق دونه، وانصرفنا عنه، وما زال كذلك زمانا حتى وجد في بعض الأيام ميتا إلى جانب الدير فانتهى خبره إلى أمير البلد ابن كيغلغ، فعزم على ضرب رقبة الغلام وإحراقه بالنار، وضرب جميع الرهبان بالسياط حتى افتدوا منه بمائة ألف، وانتقل عيسى إلى دير سمعان مطرودا.
رجع: ثم أَنبأت صاحب الترجمة بعزمى على هذا الكتاب، وطلبت منه أَن يعطينى من ديوانه ما أَثبت له في طبقة الكتاب، فماطلنى في ذلك، وكأنه رأى نفسه ليس أهلا لما هنالك، تواضعا لمولاه، ومن تواضع لله رفعه الله، ثم لما أن عدت في ذلك إليه، وأجلبت بخيلى ورجلى للتأكد عليه، اعتذر بتراكم الأكدار، ووعدنى بوصول القصائد إلى الدار؛ فودعته مصدقا لوعده، فما رأيت شيئا من بعده، سوى فقده، هـ لفظه.
شعره: من ذلك قوله يتشوق إلى شفشاون بلده ويحن لها حنين الوالد لولده:
شفشاون يا شفاء النفس من نصب
…
ومن عنا وشفاء الروح من وصب
حياك من لم يزل حيا وأحيا رُبًى
…
رُبِّيت فيها رهين اللهو والطراب
مسقط رأسى وأنسى مع جهابذة
…
أَربوا على كل ذى علم وذى أدب
زدت جمالا على حمراء أندلس
…
وفقت بيضاء غرب منتهى الأدب
أرض تجمع فيها كل مفترق
…
في غيرها من أراضى العجم والعرب
ماء معين وأشجار منوعة
…
تعجز عن وصفها الأقلام في الكتب
ما شعب بوان ما مرج دمشق وما
…
نيل بمصر وما العاصى لدى حلب
في جنب شفشاون الغراء إن فخرت
…
بتينها وبزيتون مع العنب
إلى أن قال:
أنت التي في سواد القلب مسكنها
…
يا بلدة قربها يروى بلا قرب
تسر من جاءها ظمآن في تعب
…
كما تسر عطاش ليلة الغرب
قومك قومى ورهطى لست أنكرهم
…
وكيف أنكر أمى أو أعق أبى