الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
اهتمامه بأمور الدين وصدور أوامره لولاته بجبر رعاياهم على إقامة رسومه
قال المشرفى في شرحه للشمقمقية بعد ما نقلناه عنه صدر هذه الترجمة:
وكان -أى السلطان المولى عبد الرحمن- في الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر بالمحل الذى لا ينكر، يأمر عماله بالرفق والسير الحسن في الرعية والاستمساك بالسنة وعمارة المساجد واتخاذ الفقهاء يعلمون الصبيان بكل حلة ودوار، وينهاهم عن البدع والمحدثات التي أعظمها إشاعة الفاحشة والربا في معاملاتهم، حتى ابتلاهم مولاهم بغلاء الأسعار والآيات التي نشأت عن أفعالهم.
وبذلك كتب لسائر عماله في رابع جمادى الأولى عام سبعة وستين ومائتين وألف مكاتب فرقها جائلة في الأقطار، تقرأ عليهم في مساجدهم وأسواقهم وموضع اجتماعهم في مواسمهم ما نصه في النسخة التي بعثها لعامل الغرب المالكى القائد محمد بن الحاج الحباسى -فأقام ابن عمه الأستاذ الخير الفقيه ابن عبد السلام في نفر من أصحابه وأهل شرطته، يدور في المناهل ويطوف على كل حلة ويقرأ عليهم مكتوب السلطان، ولثقته وأمانته ومعرفة الناس له بأنه ابن عم الحاكم فيهم كى تأخذ بقوله وتنفذ ما أمر به السلطان- وفاتحة الكتاب: "الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، عاملنا فلان، سلام عليكم.
وبعد: فقد قال الله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ. . . (90)} إلى {تَذَكَّرُونَ (90)} [النحل: 90] وقال تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55)} [الذاريات: 55] وكان النبى صلى الله عليه وسلم يتخول أصحابه الكرام بالموعظة أحيانا مخافة السآمة، ولنا فيه أسوة، لأن سنته لمن تمسك بها أوثق عروة، ولم يقبضه الله إليه حتى أكمل به الدين، وأزاح غياهب الشك باليقين، قال جل جلاله: {. . . الْيَوْمَ
أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا. . . (3)} [المائدة: 3] فتركنا صلى الله عليه وسلم على المحجة البيضاء التي لا يحيد عنها إلا شقى، ولا ينحرف عن مناهجها القويم إلا غوى، فقد رغب وبشر وحذر وأنذر ولم يأل جهدا في نصح أمته، وندب الناس للانخراط في سلك ملته، فجزاه الله عنهم أفضل ما جزى به نبيا عن قومه آمين، وآكد ما جاء به صلى الله عليه وسلم قواعد الإسلام الخمس المشار إليها بقوله صلى الله عليه وسلم: بنى الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلا".
"فالتوحيد أساسها وقطبها الذى عليه مدارها فالبداية به أهم، والعناية به أتم، ومعرفته على الوجه الأكمل الذى هو إقامة الدلائل والبراهين أولى، ليخرج المكلف به من ربقة التقليد المختلف في إيمان صاحبه".
"والصلوات الخمس عمود الدين وذروة سنامه، فهى منه بمنزلة الرأس من الجسد، وقد وقع الحض عليها في كثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية كقوله: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238)} [البقرة: 238] وكقوله صلى الله عليه وسلم: أول ما يحاسب عليه العبد صلاة الفريضة، فإن صلحت له صلح سائر عمله، وإن فسدت عليه فسد سائر عمله، وكفاها فضيلة وشرفا أنها تنهى عن الفحشاء والمنكر، كما قال الله فيها، وتاركها يقتل حدًّا كما قال خليل في مختصره: ومن ترك فرضا آخر لبقاء ركعة بسجدتيها من الضرورى وقتل بالسيف حدا، ولو قال أنا أفعل وصلى عليه غير فاضل هـ، ولها وسائل من طهارة حدث أصغر وأكبر وطهارة خبث وستر عورة واستقبال قبلة، وغير ذلك مما لا بد من معرفته".
"والزكاة واجبة في الحبوب والثمار والعين والأنعام على من حال عليه الحول، وكمل عنده النصاب، "وهى أخت الصلاة قارنها الله بها في غير ما آية من كتابه لكونها طهارة للأموال كما أن الصلاة طهارة للأبدان قال تعالى: {. . . وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5)} [البينة: 5] وقال عليه السلام حصنوا أموالكم بالزكاة والمال الذى أخرجت زكاته ليس بكنز فلا يدخل صاحبه في الوعيد المشار إليه بآية (يوم يحمى) الآية".
وقال تعالى في الحج: {. . . وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا. . . (97)} [آل عمران: 97] وقال عليه السلام: من حج هذا البيت ولم يرفث ولم يفسق خرج من ذنبه كيوم ولدته أمه، وفى حديث آخر: العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة).
"وقد تساهل الناس في قواعد الإسلام المذكورة فتجد جل العوام لا يعرفون عقائد التوحيد ولو على سبيل التقليد المحض ولا يصلى، ومن صلى فإنما يعرف كيفية الصلاة بكثرة تكرارها ولا يعرف مسنونا ولا مفروضا ولا يحسن طهارة ولا غيرها من وسائلها، ويتثاقل الكثير منهم عن إخراج الزكاة ويعدها من قبيل المغرم، ويتجاهر البعض بكل رمضان من غير نكير، وجل الصائمين يتهاونون بحقه، ولا يبحث عما يصحح صومه أو يفسده، وبعضهم يصوم ولا يصلى، وفى الحديث: من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه، لما يكثر فيهما من الرياء والسمعة ويتلبس في سفره بمعاص كثيرة التي أعظمها ترك الصلاة في وقتها، ولا يبالى مع كثرة الرفث والفسوق والله يقول:{. . . فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ. . . (197)} [البقرة: 197].
"وكما وقع التساهل الكثير في أصول الدين المذكورة وقع التساهل في فروعها بالأحرى كالجهاد فإنه وإن كان فرض كفاية يسقط الطلب عن البعض
بسبب قيام البعض به فربما يصير فرض عين إن فجأ العدو، وقال خليل في مختصره: وتعين بفجأ العدو، وإن على امرأة، يحتاج الإنسان إلى نيته ومعرفة أحكامه وتعلم ما يقوى به عليه من رماية وفروسية وغير ذلك قال تعالى:{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ. . . (60)} [الأنفال: 60] وقال عليه الصلاة والسلام: من مات ولم يغز ولم ينو الغزو مات ميتة جاهلية".
"وقد أكثر العمال من التساهل في أمر الزنى والسرقة والدماء واكتفوا فيمن ثبت عليه شئ منها بالسجن والذعيرة مع أنهما من الكبائر شدد الشارع في أمرهما وعين في كل واحد منهما مائة جلدة وأما المحصن فحده الرجم حتى يموت لأن السنة خصصت الآية وقال جل وعلا في أمر السرقة {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا. . . (38)} [المائدة: 38] وقال عليه السلام: لو أن. . . . سرقت لقطعت. . . . وذكر عضوا شريفا من ذات شريفة وحاشاها من ذلك وقال تعالى في حق الدماء: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى. . . (178)} [البقرة: 178]{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ. . . (45)} - إلى قوله {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45]، وقال:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ. . . (179)} [البقرة: 179] فهذه نصوص صريحة قاطعة لا تقبل التأويل، فالإعراض عنها إلى الحكم بالهوى والغرض الدنيوى إلحاد في الدين، وخروج عن ربقة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم وعلى آله قال تعالى:{. . . وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)} [المائدة: 45] وفى آية أخرى: {. . . فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47)} [المائدة: 47] وفى آية أخرى: {. . . فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)} [المائدة: 44].
"ومن ذلك فساد المعاملات بيعا وغيره وتعاطى الربا بإسلاف الدراهم بزيادة أو كرائها بكذا لكل مثقال في الشهر، مع أن الله شدد فيه لقوله تعالى:{الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ. . . (275)} - إلى
قوله: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] وقال صلى الله عليه وسلم: لعن الله الربا وآكله وموكله وكاتبه وشاهده، وقال: من نبت لحمه من سحت فالنار أولى به، وقال في حديث: ولا فشا في قوم الربا إلا أخذوا بالسنة".
"ومن ذلك تسلط الأشياخ في نساء رعاياهم بالاحتيال بالقبض على من كانت عنده زوجة حسناء، حتى يتوصلوا للإفساد فيها، ومن ذلك فساد الأنكحة والتساهل فيها من خطبة الرجل على خطبة أخيه والدخول بالمطلقة قبل كمال العدة وغير ذلك من المنكرات، وأبشعها وأشنعها ما كان بلغنا عن فجرة الأشياخ والخلايف من بيع النساء، وصورة ذلك أن يرغب الرجل في زوجة حسناء تحت آخر ويتوصل إليها بإغراء الشيخ على زوجها بالقبض عليه، وتوظيف ذعيرة لا يفى بها ماله، فإن أدى ما قدر عليه تحمل عنه الراغب في زوجته بالباقى ويتسلمها منه، ويجعلها فجرة عدول الوقت في صورة خلع، وربما يدخل بها الراغب فيها قبل انقضاء عدتها".
"ومع شيوع هذه الحوادث الفظيعة، والبدع الشنيعة، فلا غرابة من حبس الأمطار، وارتفاع الأسعار واستيلاء العدو الكافر على كثير من الأقطار، فإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وهذه المسغبة التي امتحن الله بها عباده، وجعلها فيهم حكمه ومراده، أعظم الآيات التي قال الله فيها:{. . . وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا (59)} [الإسراء: 59] فليجهد الإنسان في الإقلاع عن ذنبه، والرجوع لربه، حتى لا يكون ممن قال فيهم:{. . . وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا (60)} [الإسراء: 60].
"وقد غاضت حياض العلم وأقوت ربوعه، وضيعت من الدين أصوله وفروعه، وزهد الناس وخصوصا ذوى أمرهم في الباقية، رغبة في هذه الدنيا الفانية، مع أن مآلها إلى ذهاب، ومصيرها إلى عقاب، ولو استقام العمال
لاستقامت الرعية، لأن القوم على دين رئيسهم، فهم أولى الناس بالتفقه في الدين لتكون سيرتهم في الرعية على منهاج الشريعة، فإنه لا يحل لامرئ مسلم أن يقدم على أمر حتى يعلم حكم الله فيه كما في الحديث.
والعامل إن كانت بطانته صالحة، كانت أعماله جارية على الصلاح والسداد، وإن كانت بطانته على غير هداية، كانت أحكامه مخالفة للشرع فضلّ وأضلّ.
وقد كان العمال الأقدمون أهل الخير والدين ويقتدون بأفعالهم بالعلماء العاملين والأخيار الصالحين، ويعينون من ظهرت نجابته في قبائلهم على طلب العلم من محله، وأخذه من أهله.
واليوم تجد القبيلة الكبيرة من قبائل البادية ليس فيها عالم واحد يرجع الناس إليه في مسائل دينهم ونوازل أحكامهم، وما ذاك إلا للانهماك في زهرة الحياة الدنيا والإعراض عن الآخرة، وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم: خيركم من لم يدع آخرته لدنياه ولا دنياه لآخرته، فيجب على من ولاه الله أمرًا أن ينصح لنفسه ولرعيته جهد الاستطاعة، فإن النبى صلى الله عليه وسلم يقول: كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، ويحمل الناس على اتباع السنة والجماعة، ويزجر من قصر في دين الله وخالف أمره، ويبدأ بنفسه لينفع تعليمه ويقبل ما يقول ويسعى في إحياء العلم ما أمكنه فإن رفعه من أشراط الساعة، وتعظيم العلماء من تعظيم حرمات الله، والله لا يقبض العلم انتزاعا من صدور الرجال ولكن يقبضه بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رءوساء جهالا، فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا، ويلزم العامل كل دوار أو جماعة مشارطة طالب علم يرجعون إليه في أمر دينهم وتعليم صبيانهم وجهالهم، ويقوم بالأذان والصلوات الخمس في أوقاتها، ومن لم يفعل زجره
وعاقبه، ويختار الأشياخ من أهل الدين، ويرفع القضايا الشرعية لقضاة العدل الذين يتقون الله ويتحرون في أحكامهم.
ومن وجب عليه حد من حدود الله يرفع أمره إلينا لنأمر بإنفاذ حكم الله فيه، ولا يقال: فسد الزمان، وقل أهل الدين وفقد الناصر، فإن من قام لله وجد الله قال تعالى:{. . . وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)} [الحج: 40، 41] فهذه تذكرة لمن تذكر، وتبصرة لمن تبصر، فاجعلوا ما اشتمل عليه هذا الكتاب نصب أعينكم، فإنا نصحناكم ولمنهاج الشرع أرشدناكم، فمن أحسن فلنفسه ومن أساء فعليها، والله يوفقكم لما يحبه ويرضاه آمين".
قال المشرفى المذكور بعد جلبه لهذا الظهير: فلينظر العاقل إلى هذه الوصية الجامعة التي لم تصدر إلا من خليفة أو من ابن نبى ولى، جمع فيها بين علوم الشريعة والحقيقة، دلت على صفاء باطنه واتصافه بالعدل وإيثاره للدين على غيره، وإعراضه عن الأغراض المفسدة للطبع البشرى، فيجب على كل خليفة وولى عهد من أمير ومأمور أن يحفظ فصولها، ويعمل بمقتضاها، ولذلك أدرجتها في تأليفى هذا لنأخذ قسطا من الثواب مع من عمل بها، فينبغى للحاكم أن يمشى على منهاجها فهى كرسالة مولانا على بن أبى طالب كرم الله وجهه للقضاة وأهل الفتوى، ولقد شاهدنا من لم يخالف أمره نجح سعيه وصلحت أحواله ونتجت بخير قضاياه، ومن ادعى عليه أو خالف أمره واتبع هوى نفسه بدد الله شمله ومحا المولى سبحانه اسمه ورسمه.
وقضية الوداية، فيها الكفاية، فقد كانت لهم السطوة والجاه العريض الباع والحظوة، وحيث استخفوا بسلطان الله أهينوا، وكان عاقبة أمرهم خُسْرًا والذى قرأناه في فنون الأدب أن ثمانية إذا أهينوا فلا يلومون إلا أنفسهم: من أتى مائدة
لم يدع إليها، والمتأمر على صاحب الدار، والداخل في حديث اثنين لم يدخلاه فيه، والمستخف بالسلطان، والجالس في مجلس ليس له بأهل، والمقبل بحديث على من لا يسمعه منه، وطالب الرفق من أعدائه، وراجى الفضل من اللئام، وهى مجموعة نظما:
أحق بالصفع في الدنيا ثمانية
…
لا لوم في واحد منها إذا صفعا
المستخف بسلطان له خطر
…
وداخل في حديث اثنين مندفعا
ومتحف بحديث غير سامعه
…
وداخل الدار تطفيلا بغير دعا
وطالب الخير ممن لا خلاق له
…
وجالس مجلسا عن قدره ارتفعا
وطالب الرفق من أعدائه وكذا
…
ضيف تأمر فاحفظها أخى لمعا
وقضيتهم مذكورة في الحسام، وسببها أنهم كانوا هم الرؤساء على محلة مولاى على بن مولانا سليمان بتلمسان لكونه خليفة عن مولانا عبد الرحمن، فجاروا وعاثوا، وكرههم أهل تلك الإيالة لميلهم للطمع الدنيوى، ولا يمضون حكما على وجهه، فنفوهم وأعرضوا عن أحكامهم، وكم بلغوا أمرهم لمولاى على الخليفة بفسادهم وإشاعة الفاحشة منهم، فتارة يأمر بسجنهم ويسرحهم عند غيبة الشاكى، وتارة يوعدهم بالزجر، ولم يفعل، وحين تحققوا ذلك مدوا أيديهم فيهم، عند ذلك كرهوا البقاء هناك، ورجعوا عن غير إذن الإمام، وشهد عليهم الخليفة بذلك بين يدى السلطان فخلى سبيله لكونهم أكرهوه على الرجوع وعاقبهم بما هو معلوم ويستوجبونه، وذكرنا ذلك في غير هذا، وكانت قبيلتهم مشئومة مهما وجدوا مندوحة لإثارة الفتنة أثاروها، فدعا عليهم العلامة السيد محمد بن أبى بكر بن عبد الكريم بن على اليازغى ثم الزهنى، في قصيدة له حين أكلوا ملاح اليهود بفاس العليا وقت فتنة الفترة، التي كانت آخر ولاية مولانا سليمان مطلعها:
يا غارة الله عهد الله ينتظر
…
إن الودايا لذلك العهد قد كسروا
شنوا على ملة الإسلام غارتهم
…
وذمة المصطفى في أهلها خفروا
سبوا نساءهم من بعد ما سلبوا
…
ديارهم ولدور البغى قد عمروا
إلى أن قال:
يا أهل فاس سيروا بهم على مهل
…
ولا عليكم فإن الله ينتصر
تربصوا بهم بالسوء دائرة
…
تأتى حماهم فلا تبقى ولا تذر
تصبها راحة المنصور فوقهم
…
فيصبحون وفى أخبارهم عبر
اهـ كلامه.
وقد وقفت على ظهائر شريفة للمترجم أصدر أحدها للقائد المهدى الشرادى، والثانى للقائد العربى السعيدى، كلاهما بتاريخ رمضان سنة 1252، والثالث للقائد ابن عبد الصادق الريفى بتاريخ صفر عام 1270 يأمر فيها العمال المذكورين بالاهتمام بإقامة قواعد الإسلام بمحل ولايتهم، وإرشاد الناس إليها، وتعليمهم أمور دينهم، وما يجب عليهم وجبرهم على العمل به، ويأذن بعقوبة من تهاون بذلك، ويستغرب سكوت العمال عن عقاب تارك الصلاة مع أنه أولى بالعقوبة.
وقد سبق تصريح المشرفى أنه كتب بتاريخ جمادى الأولى عام 1267 لسائر عماله بهذا المعنى، كما عثرت في بعض ظهائره الصادرة بتاريخ عام 141 لرؤساء المراكب البحرية التجارية منها والحربية على الحض على التقوى، والصلاة لوقتها وقراءة القرآن (1)، ويوصى بعدم حمل مثل الخمر والخنزير، ويوعد من فعل ذلك
(1) في هامش المطبوع: "هذا نظير ما أمر به السلطان المولى عبد العزيز بحرية "البشير" كما قدمناه".
بالنكال، وتلك أدلة كلها تدل على مبلغ اهتمامه بالدين، وحمل الأمة على العمل بأوامره، وتجنب نواهيه.
وإليك نص ما وقفت عليه مما كتب به للقائد المهدى الشرادى الذى كان ادعى المهدوية وعتا وتمرد، مار الذكر آنفا، بعد الحمدلة والصلاة والطابع السلطانى:
"محبنا المرابط الأرضى السيد المهدى الشرادى، وفقك الله، وسلام عليك ورحمة الله تعالى وبركاته.
وبعد: فإن الله سبحانه رضى لنا الإسلام دينا، وجعلنا من أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الذى لم يخلق الله له في الوجود قرينا، فمن اتبعه واقتفى ما جاء به فقد فاز فوزا عظيما، ومن حاد عن سنته، فليس من أمته، وقد خسر خسرانا مبينا.
وقد بلغنا من غفلة الناس عن دين الله وتفريطهم في جنب الله وإعراضهم عن أداء ما فرض الله عليهم ما حملنا على تنبيههم من سنة الغفلات، وإرشادهم لتدارك ما فات، بإصلاح ما هو آت {
…
إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ. . . (114)} [هود: 114]، قال تعالى:{وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55)} [الذاريات: 55] وقال: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ. . . (125)} [النحل: 125] وقال: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ. . . (22)} [الزمر: 22] وقال: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ. . . (13)} [الشورى: 13] وفى الصحيح عن بعض الصحابة رضوان الله عليهم: كان النبى صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة مخافة السآمة علينا.
فاعلموا أن التوحيد أصل الإيمان، وبه يخرج الإنسان من ربقة الشرك وحزب الشيطان، وهو النطق بلا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم مع اعتقاد
معناها، والجزم بأن الله واحد في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله {. . . لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} [الشورى: 11] والسورة الجامعة للتوحيد {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)} [الإخلاص] وقد قال عليه الصلاة والسلام: بنى الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام لمن استطاع إليه سبيلا.
فمن أخل بقاعدة من هذه القواعد الخمس فقد اختل إيمانه، ولا يخفى أن الصلاة هى عمود الدين وذروة سنامه، وقد ذكرها الله في مواضع من كتابه وأوصى عليها ومدح القائمين بها كما ذم من ضيعها قال سبحانه:{الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ. . . (3)} [البقرة: 3]، وقال:{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ. . . (59)} [مريم: 59] الآية، ولا يكون القيام بها إلا بأدائها في وقتها بشروطها المعلومة شرعا، قال تعالى:{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238)} [البقرة: 238] وقال: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38)} [النور: 36 - 38].
وقد قال عليه السلام أول ما يحاسب عليه العبد الصلاة، فإن قبلت قبل سائر عمله، وإن ردت رد سائر عمله.
فمن حافظ عليها فهو لما سواها أحفظ، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع، ويجب حفظ أم القرآن، وسور منه للقراءة في الصلاة قال تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ
وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)} [المزمل: 20].
وقد تواترت لدينا أن الناس أهملوا الصلاة رأسا، وتركوا ما كان عليه سلفهم من جعل المساجد في الحلل وترتيب الطلبة للأذان، وإقامة الصلوات وتعليم الصبيان، وهذه غفلة كبيرة عن الله، وتضييع لدين رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فإذا قرأت كتابنا هذا فمر كل أهل دوار من إيالتك بجعل مسجد فيه إمام راتب، وأجبرهم على إقامة رسوم دينهم، وإحياء سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، بإقامة الصلوات في أوقاتها بشروطها المعتبرة شرعا، فإنهم رعيتنا ينبغى لنا نصحهم وإرشادهم لما ينفعهم دنيا وأخرى.
قال عليه السلام: كلكم راع ومسئول عن رعيته، وقال: الدين النصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم. فمن قام بواجب ذلك وواظب عليه فقد استبرأ لدينه، وأدى ما عليه، ومن تراخى في ذلك وحاد عن سنن الدين فنعاقبه بحول الله وقوته أشد العقوبة ولا يلم إلا نفسه.
وبث نسخا من هذا الكتاب في إيالتك ليعم النفع به إن شاء الله وليعملوا بمقتضاه، والله يوفقهم لما فيه رضاه، وقد أذنا لك في عقاب من لم يمتثل بعد الإعلام، فأحق ما يعاقب عليه الإنسان دينه، وقد علمت أن سبب نزول المصائب غالبا من احتباس الأمطار وغيرها، التفريط في الدين، فلا بدَّ قُمْ على ساق الجد في هذا والسلام في 16 رمضان المعظم عام 1252" هـ من أصله.
وبمثله ولفظه كتب للقائد العربى بن على السعيدى بتاريخ 15 رمضان عام 1252.
[صورة]
ظهير رحماني للقائد المهدي الشرادى بإقامة رسوم الدين وإحياء السنة بكل دوار من إيالته
[صورة]
ظهير رحماني إلى القائد محمد بن عبد الصادق بإقامة رسوم الدين في البادية وإلزام كل دوار بمشارطة طالب علم يعلمهم وأولادهم الدين ويقيم الصلاة
ونص ما كتب به لابن عبد الصادق بعد الحمدلة والصلاة والطابع الكبير:
"خديمنا الأرضى، القائد محمد بن عبد الصادق الريفى، وفقك الله وسلام عليك ورحمة الله تعالى وبركاته.
وبعد: فمن أعظم من الله على هذه الأمة أن رضى لها الإسلام دينا، وأتم عليها به النعمة قال تعالى:{. . . الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا. . . (3)} [المائدة: 3] وقال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)} [آل عمران: 85] وأن الصلاة منه كما ورد بمنزلة الرأس من الجسد، فهى بعد التوحيد والإيمان بالله أعظم قواعده، وذروة سنامه ويتيمة عقد فرائده، حض عليها الكتاب والسنة، قال تعالى:{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238)} [البقرة: 238] وقال: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ. . . (132)} [طه: 132] وقال: {. . . إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ. . . (45)} [العنكبوت: 45] وفى صحيح البخارى وغيره عن النبى صلى الله عليه وسلم: بنى الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام لمن استطاع إليه سبيلا. وقال صلى الله عليه وسلم: أول ما يحاسب عليه العبد الصلاة إن صلحت له صلح سائر عمله، وإن فسدت عليه فسد سائر عمله، فمن حافظ عليها فهو لما سواها أحفظ ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع، وقد ذم الله قوما بإضاعتها فقال:{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ. . . (59)} [مريم: 59] الآية، وفى مختصر خليل وقتل بالسيف حدًّا، ولو قال أنا أفعل وصلى عليه غير فاضل، ولا شك أن لها وسائل وشروطا من طهارتى الحدث
والخبث، واستقبال القبلة مع الأمن إلى غير ذلك مما تتوقف معرفته على مخالطة العلماء الأخيار، وسؤالهم عنه كما يسأل غيرهم عن أمور الدنيا.
وقد بلغنا أن الناس تركوا الصلاة بالبادية وأضاعوها، حتى كأنها ليست من قواعد دينهم، وما ذاك إلا من غفلة العمال عن أمور الدين وصرفهم وجه عنايتهم للأغراض الدنيوية، وإعراضهم عن النظر في الأمور الدينية الأخروية:
ما هكذا يا سعد تورد الإبل
إذا لم يكن دين فلا كانت الدنيا
إن دام هذا ولم يحدث له غير
…
لم يبك ميت ولم يفرح بمولود
فإن الله تعالى يقول في معرض الثناء على العمال أهل الخير والدين، المقتفين منهاج سيد المرسلين:{الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)} [الحج: 41] وفى الحديث الشريف: خيركم من لم يدع آخرته لدنياه، ولا دنياه لآخرته.
وما سمعنا أحدا من العمال سجن أحدا أو عاقبه على ترك الصلاة، مع أن تاركها أولى بالعقوبة وأحق، ولو أن العمال اعتنوا بأمور الدين لأعانهم الله على صلاح دنياهم قال تعالى:{. . . وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ. . . (40)} [الحج: 40] فيجب على كل عامل تحرى لدينه وأراد السلام لنفسه أن يتفقد أحوال إيالته، فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فيلزم كل دوار ومدشر مشارطة طالب علم يرجعون إليه في أمر دينهم، وتعليم صبيانهم وجهالهم، ويقوم بالأذان والصلوات الخمس، ومن لم يفعل زجره وعاقبه فإن دين الله أولى ما يعاقب عليه العامل الرعية.
وقد ذكرناكم وأرشدناكم لأنكم مسئولون عن الرعية ونحن مسئولون عنكم {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15)} [الجاثية: 15] ألا هل بلغت، اللهم اشهد، اللهم اشهد، اللهم اشهد، وفقنى الله وإياكم، وهدانى والمسلمين إلى صراطه المستقيم وهداكم. آمين والسلام في 8 صفر الخير عام 1270".
فهذه الظهائر الشريفة، والأوامر المنيفة، هى مرآة مكبرة لماضى صالح سلفنا الأكرمين، وأمرائنا العظام من الفتح الإسلامى إلى العصر الحاضر، لا يتقاعسون عن زجر وإنذار من حاد عن الطريقة المثلى والمحجة البيضاء، التي لا يزيغ عنها إلا هالك، ولا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، تارة بالوعد، وأخرى بالوعيد، فلقد كان يهمهم كثيرا تعظيم شعائر الدين ورعاية حرماته وإعلاء منار النظام الذى رتبه الله لخلقه، ورسمه بالشريعة، وأوجبه بالحكمة البالغة امتثالا لأوامر الخالق الرازق، ورضوخا لتعاليم الدين الحنيف، ولتحققهم أن الدين أكثر تأثيرًا في بقاء الملك ورسوخ الدولة وجمع الكلمة في الدفاع عنها، وأن أهل الاعتقاد الواحد يعملون بقلب واحد ويد واحدة، ويعتقدون برابطة دائمة بينهم في الدنيا والآخرة، وأن أعظم واجب على السلطان القيام بحفظ الدين ووظائفه الشرعية حتى لا تزول عن أوضاعها، وأن وظيفة الملك قد علم بالضرورة أنها هى حراسة الدين لحماية الناموس.
والأوائل لا يسمون بالملك إلا من حرس الدين وقام بحفظ مراتبه وأوامره وزواجره، وأما من أعرض عن ذلك فيسمونه متغلبا ولا يؤهلونه لاسم الملك، وأن الدين هو وضع إلهى يسوق الناس باختيارهم إلى السعادة القصوى، والملك حارس هذا الوضع الإلهى حافظ على الناس ما أخذوا به، حتى إذا أغفل شيئا من حدوده دخل عليه من هنالك الخلل والوهن -وحينئذ تتبدل أوضاع الدين ويجد الناس
رخصة في شهواتهم، ويكثر من يساعدهم على ذلك، فتنقلب هيئة السعادة إلى ضدها، ويحدث بينهم الاختلاف والتباغض المؤديان إلى الشتات والتفرقة، وبطلان الغرض الشريف، وانتقاض النظام الذى طلب صاحب الشرع بالأوضاع الإلهية، فتحتاج الأمة إذ ذاك إلى تجديد الأمر واستئناف التدبير، قال حكيم الفرس وملكهم ازدشير: إن الدين والملك أخوان توأمان لا يتم أحدهما إلا بالآخر، فالدين أس والملك حارس، وكل من لا أس له فمهدوم، وكل من لا حارس له فضائع.
إن الإسلام جاء بالحكمة والعزم هادما للتشريك بالكلية، ومحكما لقواعد الحرية السياسية المتوسطة بين الديموقراطية والأريستوقراطية، فأسس التوحيد وأظهر للوجود حكومة كحكومة الخلفاء الراشدين التي لم يسمح الزمان بمثال لها بين البشر حتما ولم يخلفهم فيها بين المسلمين خلف، إلا بعض شواذ كعمر بن عبد العزيز، والمهتدى العباسى، ونور الدين الشهيد. فإن هؤلاء الخلفاء الراشدين فهموا معنى القرآن وما يدعو إليه وعملوا به واتخذوه إماما، فأنشأوا حكومة قضت بالتساوى حتى بينهم أنفسهم وبين فقراء الأمة في نعيم الحياة وشظفها، وأحدثوا في المسلمين عواطف أخوة وروابط هيئة اجتماعية، وحالات معيشية اشتراكية، لا تكاد توجد بين أشقاء يعيشون بإعالة أب واحد وفى حضانة أم واحدة، وهذا القرآن الكريم مشحون بتعاليم إماتة الاستبداد وإحياء العدل والتساوى حتى في القصص منه.
إن الحكومة الإسلامية مؤسسة على أصول إدارة الديمقراطية، أى العمومية والشورى الأريستوقراطية أى شورى الإشراف -وقد مضى عهد النبى صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين من بعده على هذه الأصول بأتم وأكمل صورها، خصوصا وأنه لا يوجد في الإسلام نفوذ دينى مطلقا في غير مسائل إقامة
الدين. . . هذا الدين السهل السمح الذى رفع الإصر والأغلال وأباد الميزة والاستبداد.
ومما يدل على خضوع ملوكنا للشرع المطاع وتسوية أنفسهم مع أقل الرعية، أنه لما كان المولى عبد الرحمن صاحب الترجمة عاملا وأمينا بالصويرة استقرض البعض منه مالا وبقى بذمته إلى أن نقل لخلافة فاس، ثم إلى أن تسنم عرش الملك، ومات المستقرضون، ولما طلب الأمير من الوراثة أداء ما على موروثهم من المال المستقرض طلبوا من السلطان إعمال الشرع معهم في ذلك، فعين وكيلا عنه لرفعهم لمجلس الشرع الحاج عبد القادر بنانى ناظر أحباس القرويين، والقاضى يومئذ مولاى عبد الهادى الشريف العلوى، وبعد تقييد المقال وإجراء المسطرة الشرعية وقع الحكم على الورثة بالأداء وعلى السلطان بيمين القضاء، ثم صالحهم الوكيل بحط قدر من الدين في مقابلة اليمين فأجابوه لذلك، وتم الفصال وهذا يذكرنا بعدل المصدر الأول.
قال في الترجمان المعرب آخر ترجمة أبى الربيع في حق السلطان أبى عبد الله محمد بن عبد الله ما لفظه: لما ولى خاله القائد قدور بن الخضر على قبائل الجبل وأمره بالخروج بالمحلة لقبض الزكاة والعشر في إبان الخريف واقتضاها منهم ورجع، فكثر شاكو تلك القبائل بباب السلطان بأشياخهم فاستفهمهم السلطان عن العامل، فقالوا: ما رأينا منه إلا الجميل، وما تشكينا إلا بالأشياخ، فوجه معهم رحمه الله أحد قواده بهذا الكتاب (من إملائه) ونصه:
"خالنا القائد قدور بن الخضر سلام عليك ورحمة الله وبركاته.
وبعد: بلغنى ما صار إليه حال المستضعفين من الرعايا الذين أسندناهم لنظرك، لتحفظهم بسمعك وبصرك، فتركتهم في حيز الإهمال، وليس هذا شأن من يتولى الأعمال، فنأمرك أن تخرج إليهم وقت قراءتك لهذا الكتاب، في
خمسمائة من الركاب، وأدرك هذه الغنم قبل أن تفترسها الذئاب والقبيلة التي تنزل عليها فاصل دعاويها، ورد مظالمها، وانتصف من ظالميها، ولا تكثر المقام وتطيله، واترك الطمع وسبيله، فإن ذلك مما يضر بالرعية ويجحف بالمال، والحظ عاقبة المآل.
والقبيلة التي تشتكى من شيخها لا تهمل أمرها، وابحث عن حال الشيخ المشتكى منه، فإن كان ممن علم بالجور والتعدى فانتصف منه وأبدله بغيره، وإن كان الشيخ من أهل الخير ولم يعلم ظلمه فأقره على شيخوخته وافصل مسألته بوجه سديد.
وأصحاب الجنايات أحوالهم تختلف، فمنهم من يسجن ولا يطول سجنه ويمكث ثلاثة أيام أو أربعة تأديبا له ويسرح، ومنهم من يضرب ويسجن ويبقى الشهر والشهرين عقوبة له، وأما أهل الجرائم العظيمة مثل القاطع والسارق والهاجم والمتلصص وقاتل النفس، فالواجب أن تتصرف فيهم بالضرب والسجن، وقبض النصاف، ويبقوا تحت يدك إلى أن تأتينا بهم وتخبرنا بجرائمهم، ولا تجعل فسحة في تسريحهم.
وأوصيك بتقوى الله والرفق بالمساكين، والضرب على أيدى الجبارة والمتمردين، فإن ذلك من القربة في الدين، وإياك أن تتعدى هذا الحد وتفرض على القبائل مالا أو تكلفهم لما لا يطاق من المئونة والسخرة، أو تظلمهم مظلمة، فما وجّهتُك في هذه الحركة إلا لرد المظالم وإقامة الحقوق لأربابها، ومن تجنب الظلم في هذا الحركة إلا لرد المظالم وإقامة الحقوق لأربابها، ومن تجنب الظلم في هذا فهو مأجور والسلام" وقد أسلفنا في ترجمة صاحب هذا الكتاب سيدى محمد بن عبد الله نصيحته للأمة كما قدمنا نصيحة السلطان المولى الحسن القرنية في ترجمته.
ومن هذا الباب ما كان من تحرى صاحب الترجمة المولى عبد الرحمن في الأوقاف الدينية، فقد وقفت له على ظهير أصدره لناظر سَلَا، أبى العباس أحمد عواد في الموضوع، ودونك لفظه بعد الحمدلة والصلاة ثم الطابع السلطانى بداخله "عبد الرحمن بن هشام الله وليه":
"خديمنا الناظر الأرضى، الحاج أحمد عواد، وفقك الله وسلام عليك ورحمة الله تعالى وبركاته.
وبعد: فدور الحبس المنفذة بأيدى الناس هناك أردنا التحرى منها، فإن كان من دور المخزن هناك ما يناسب فأعلمنا به لنكون ننفذ منها والسلام في 22 ذى الحجة متم عام 1252".
ومن الباب ما كتب به وزير المترجم المختار الجامعى لعواد المذكور ونصه بعد الحمدلة والصلاة:
"محبنا الأود الأرضى، الخير الدين المرتضى، السيد الحاج أحمد عواد، سلك الله بنا وبك مناهج السداد، وبلغنا وإياك من رضاه غاية المراد، وسلام عليك ورحمة الله وبركاته عن خير مولانا أيده الله ونصره.
وبعد: فقد وصلنا كتابك واستوعبناه، وأطلعنا عليه مولانا فسر غاية، ودعا لك بخير، وحمد الله على وجود مثلك في هذا الوقت، لأنه أيده الله لا يحب أن يتولى أمور المسلمين إلا من هو مثلك وهو ضالته المنشودة، وغايته المقصودة، فابق على عملك فإن الله يعينك ويسددك حيث لم تطلب هذا الأمر وما ذكرت في شأن ما ضربه المتولى قبلك من المكوس وأحدثه من الأمور المذمومة شرعا وطبعا، أسقطه واقطع مادته، فإن سيدنا لا يحبه ولا يرضى لولاة أمره أن يسمع عنهم ما يخالف الشرع والسلام في 14 ربيع الثانى عام 1247، وأسلم على الفقيه السيد
محمد عواد والحاج العربى معنين والفقيه السيد التهامى مرسيل بأتمه وأزكاه والسلام.
المختار خار الله له ولطف به"
ومن الباب أيضا ما وقفت عليه لولده السلطان سيدى محمد بن عبد الرحمن ونصه بعد الحمدلة والصلاة والطابع:
"خديمنا الأرضى الأمين، الحاج عبد الله حصار، وفقك الله وسلام عليك ورحمة الله تعالى وبركاته.
وبعد: فقد وصلنا كتابك مخبرا بورود كتابنا الشريف عليك المتضمن للجواب عما أعلمتم به جانبنا العالى بالله من الفصال مع الإنجليز في فكاك دار الأحباس بالعدد الذى قدره ثلاثة آلاف ريال، على أن يدفع خديمنا الطالب الطيب ابن هيمة النصف الذى تطوع به، وأمرناكم بفكاكها من يد النصرانى، ولو أن يزاد من بيت المال ضعف ما تطوع به الخديم المذكور حرصا على تطهير ذلك المحل، وحتى إن توقفتم في خلاصه من يده على محل آخر غيره ويدفع له بالكراء تفعلوا، وذكرتم أنكم أحضرتم النصرانى المرة بعد المرة، واجتهدتم كل الاجتهاد في سل المحل من بين يديه أنت والأمين الذى معك، وذلك بمحضر القائد الطيب بن هيمة وخوفتموه من جهة تسلطه على المسجد وغيره من مواضع البر، بطرق الشرع والقوانين، وضيقتم به غاية حتى أطاع بخروجه منه بمشقة، وطلب فيه ستة آلاف ريال ومحلا يسكن فيه، فبالغتم في الاجتهاد معه حتى أسقط ألفًا وتفاصلتم معه بخمسة آلاف ريال، وعينتم له دارا مناسبة يسكن بها بالكراء من جهة كونها بين دارين لتجار النصارى، وليس في جوارها مسجد ولا زاوية ولا غيرهما من مواضع التقرب، وأنها كانت في القديم معدة للتجار، وكانت بيد نصرانى، ثم بيد ذمية من آسفى، وتكنى بدار الأعشار حيث كانت تنزل بها المعشرات لما كانت تحاز
بجانب المخزن قيد ولاية ابن عزوز، وأنها الآن بيد الأمناء يضعون فيها إقامة البناء وغيرها، ويؤدون للأحباس ستين أوقية كراء في كل شهر، وأسفلها صين وأعلاها متداع للسقوط، وأكريتموها للنصرانى بمائة ريال في السنة، وعملتم معه تصلحوها له، وذكرتم إن اقتضى نظرنا بقاء الأحباس على حيازة الستين أوقية كراء، وأنتم تحوزون المائة ريال من النصرانى في السنة فذاك وإن اقتضى نظرنا أن تناقل مع المسجد بملك يساوى ستين أوقية كراء في الشهر فعلتم، وأخبرتم أن الخمسة آلاف ريال التي تفاصلتم بها مع النصرانى عملتم معه يقطع له نصفها الآن من خدمة إن كانت له خدمة، والنصف الآخر حين تصلح الدار ويخرج إليها ويدفع لكم مفاتح المحل والمخازن التي كانت بيده يصير يقتطع له من خدمته، وصار كل ذلك بالبال، فقد أمضينا ما فعلتموه أصلحكم الله ورضى عنكم، وأمر المناقلة سهل، فما تقتضيه المصلحة فافعلوه فيها والسلام في 23 من شعبان عام 1285".
ومن ذلك أيضا ما وقفت عليه لحفيده المولى الحسن ونصه بعد الحمدلة والصلاة والطابع:
"خديمنا الأرضى الحاج عبد الله حصار وفقك الله وسلام عليك ورحمة الله.
وبعد: فقد بلغنا أن بلاد السواحل الحوزية كلها أو جلها ملكها أهلها للنصارى واليهود الذين في حمايتهم بالبيع أو الرهن، بأن يذهبوا إليهم برسومها ويطلبون منهم دينا أو بيع قوت أو شبه ذلك، فيعطونهم ما طلبوه ويحوزوا الرسوم، ولا يبقى لأهلها فيها إلا الاستغلال من تحت أهل الحمايات، وهذا الأمر إن لم يتدارك بالقرب اتسع الخرق فيه على الراقع، ولا يكون هذا إلا مع تجار المراسى الحوزية لقربهم منه وعليه فاستفهم تجار بلدك عما دفعوه لأرباب هذه البلاد من دين أو شبهه، ما هو منه على وجه الشراء وما هو على وجه الرهينة، والقدر
الذى وقع به البيع أو الرهن، وأسماء الذين باعوه أو رهنوه لهم، وأعلمنا به على التفصيل، وإن أمكنك أن تتلطف في حوز الرسوم منهم وتوجيهها إلينا فذلك المراد والسلام في 19 ربيع النبوى عام 1296 هـ".
ونص آخر له بعد الحمدلة والصلاة والطابع:
"أذنا بحول الله وفوته للفقيه القاضى السيد عبد الله ابن خضراء، في النظر في الوكلاء والشهود والعرفاء بمراكشة، وتمييز البر منهم فيقر والفاجر فيقصى، كما أذنا له في النظر في أمور الأحباس والمواريث والغياب والكشف عن أولياء الأيتام والمحاجير بما تقتضيه الشريعة المطهرة في كل ما يتعلق بحقوق الجميع، فيسلم ما سلمه الشرع من ذلك، ويرد ما رده، وأن يحاسب أولياء الأيتام والمحاجير على ما دخل بأيديهم من أموالهم.
وأما ما دخل بيد ناظر الأحباس الكبرى من مستفادها ونائب المواريث والغياب من أموال المواريث والمنقطعين، فالنظر في محاسبتهم عليه أمر آخر موكل لجانبنا العالى بالله حين نريده والسلام في 5 ربيع النبوى عام 1298 ".
ونص آخر بعد الحمدلة والصلاة والطابع:
"خديمنا الأرضى القائد محمد بن سعيد السلوى، وفقك الله، وسلام عليك ورحمة الله تعالى وبركاته.
وبعد: فقد بلغ لعلمنا الشريف ما استفز به اللعين. رعاع المسلمين، واستهواهم بغوايته وضلاله المبين، وارتمى بهم الحال إلى أن صاروا يشربون الخمر جهارا، ويعربدون في الشوارع وهم صرعى أطوارا، من غير مراقبة من حرمها في صدر الإسلام، وأوعد من يقتحم شربها بأليم العقاب، وفوق إليهم السهام.
فعن مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم مخبرا عن ذى الجلال، من شرب الخمر في الدنيا سقاه الله من طينة الخبال، وهى ما يسيل من جلود أهل النار.
فاعتبروا يا أولى الأبصار، على أن المخالفة باقتحام عقبات المحرمات، موجبة لسخط الله ومجلبة للآفات. {. . . إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ. . . (11)} [الرعد: 11] فيما يأتونه أو يذرونه، وقد ذم الله تعالى بنى إسرائيل بما جعله بيانا لما اقترفوه. فقال:{كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ. . . (79)} [المائدة: 79]. ويكفيك في الإيعاد كونها -أى الخمر- من الخمس عشرة خصلة التي إذا فعلتها هذه الأمة حل بها الخسف أو المسخ أو غيرهما من أنواع البلاء، واستأصلتهم يد الخلاء والجلاء، بنص قوله سبحانه في كتابه المبين:{. . . سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (145)} [الأعراف: 145].
وعليه فنأمرك تزجر من عثرت عليه من المسلمين معربدا، أو وجدته صريعا واللعين عليه مستحوذا، بأن تجلده ثمانين، وتودعه السجن حتى تتحقق توبته ويخلص من شؤم سمة المجانين، ويتدرع شعار المسلمين:{. . . إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)} [البقرة: 222] كما نأمرك أن تجعل عهدة من أخرج شيئا من الملاح على البوابين. وتتوعدهم عن ذلك إن غضوا الطرف عنه أو قبضوا عليه الرشا من المبتلين، وتزجر من المسلمين من عاد إلى مخالطة أهل الذمة في شئ من ذلك في الحين أو بعد حين، فإن ذلك مثلبة في الدين:
والنفس كالطفل إن تهمله شب على
…
حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم
إلا ما يتعاطاه أهل الذمة فيما بينهم فلا يتعرض لهم، لكونه مستحلهم في دينهم، وأعطوا العهد عليه، نعم يعزرون إن أظهروا السكر في غير محلهم جريا
[صورة]
ظهير حسني لعامل سلا في التحذير من الخمر وإقامة الحد على شاربه وسجنه
[صورة]
ظهير حسنى إلى القائد حم بن الجيلانى في الإذن للنظار بالزيادة في أكرية الأحباس تبعا لارتفاع السكة والزيادة لأصحاب الوظائف الدينية والعلمية في رواتبهم تبعا لذلك
على مقتضيات الشريعة المطهرة في ذلك، والله ولى التوفيق، والهادى إلى سواء الطريق، والسلام 9 رجب الفرد الحرام عام 1304".
ونص آخر بعد الحمدلة والصلاة والطابع الكبير:
"وصيفنا الأرضى القائد حم بن الجيلانى، وفقك الله، وسلام عليك ورحمة الله.
وبعد: فقد بلغ لعلمنا الشريف ما استحال إليه أمر الرباع من الضياع وضعف الخراج، بالاستيلاء عليها بما كانت به من الأكرية قبل ارتفاع السكة وعلو الرواج، حتى أفضى ذلك إلى تعطيل جل الوظائف الدينية، والرواتب العلمية العملية، كالإمامة والأذان، والأحزاب والوعظ والتدريس كما شهد بذلك العيان، وعذر التعطيل مقبول، وليس لرده محصول، لما هو بيّن من أن خراج ذلك الوظيف بحساب ما كان به قديما، وقبضه بما تروج به السكة الآن صار تافها ذميما، لا يسمن ولا يغنى، ولا يقوم بصاحبه الذى نعنى، كما أن الأصول والرباع، تداعى جلها للسقوط وآلت إلى الضياع.
ومن المعلوم أنه من مستفاد البعض يتلافى البعض ويتدارك الإصلاح، ويداوى عليها من عاهة الاجتياح، فالزيادة في الأكرية طبق السكة متعين، والمصير إليه من الحق الواضح البين، إذ بذاك تبقى الأحباس محفوظة منتفعا بها على الدوام، وتصير المناصب الدينية مستمرة غير معطل بها القيام، وبه يتوفر ما يقع به الإصلاح في المستقبل كما كان قبل ليصير فيما له وجه من المصالح وقبل.
وإبقاء ما كان على ما كان، سبب في تعطيل الوظائف الدينية وخراب الإسكان، وفى محض حق الله تجب المبادرة بقدر الإمكان، وعليه فليرد سائر النظار في أكرية الرباع والعقار بحسب ما يقتضيه الحال من جهة ارتفاع السكة
وحسن الاعتبار، وتمسكا بأسد الأنظار، مما ليس فيه ضرر ولا ضرار، وليعرف الزائد أنه أدى ما عليه من حق الله، واستبرأ لدينه قبل أن يأتى يوم لا مرد له من الله، وليعد ما زاده من قبيل التعاون على الدين، لينتظم في سلك الفائزين المهتدين، وليتخلص العمل بتحسين الطوية، فإنما الأعمال بالنية، وليزد ناظر الأحباس المذكور لأهل الوظائف بقدر ما زيد في أكرية الرباع، لتنضبط الوظائف الدينية ولا يبقى عذر في تعطيلها بمقتضى هذا الاصطناع، وقد أزلنا بذلك من عهدتنا ما استرعانا الله عليه، وجعلناه في ربقة النظار والقضاة ومن الأحباس مسندة إليه، والله رقيب، وعلى كل شئ حسيب، والسلام في. . جمادى الثانية عام 1303" استقل الظهير الشريف.
إلى غير ذلك مما يطول ذكره.
وإن أى وقفة يقفها القارئ الكريم من هذه الفصول التي كان يصدر الأمر بها لعمال الجهات وقواد المناطق نَأت أو قرُبَت تملى عليه من آيات الاعتناء بكل ما يتعلق بأمر الدين، ومعالم التوحيد، وأركان الإسلام مما لم يكن يغفل أمره أحد من سلفنا الأكرمين، وملوكنا الأماثل مجتهدين، حاثين على التواصى بإقامة الدين، ونشر نفوذه وثقافته المؤثرة بين مختلف الطبقات وتنوع الأوساط.
وكيف لا يكون اعتناؤهم بالدين عظيما واهتمامهم بأمره يتجاوز أقصى مجهوداتهم ومتفوق حدود مقدرتهم، وهم يعلمون أن ذلك من أخص واجباتهم، وأول فروضهم المحتّم عليهم قبل غيرهم إنجازها وأداؤها، علاوة على ما في رابطة الدين وثقافته، ومن لم الشعث وضم المتفرق وإحكام الوحدة التي ينتظم بها أمر الملك، ويصلح نظام السلطان.
وقلما أمكن صلاح حال أمة أو رعية من الرعايا ما لم تسق بسياسة الدين الكفيلة بصلاح عموم الأحوال، وتحقيق جميع الآمال، ولعل ذلك هو سر اتفاق
كلمة المؤرخين وعموم الباحثين والمحررين على سحب كلمة السلطان ونعت الملك عن كل قائم لا ينهض بأمر الدين، ولا يحفل بتعاليمه وأوضاعه المحببة إلى كل ذى فكر سليم ونفس شريف.
فمهما علا قدر الواحد واشتد ساعده يدعونه متغلبا ما لم يكن للدين من نظره نصيب، وللاهتمام به من رعايته قدر وافر، ولنرسل رائد النظر بعيدا منذ الفتح الإسلامى للآن على جميع الأصقاع النائية والدانية من مختلف أقطار المغرب وجهاته، فنرى كيف أن مناحية أو صقع مهما ضؤل شأنه وقل سكانه إلَّا وبه مسجد لإقامة الصلوات ومرجع عبادة وإنابة لأداء الفروض، وطلب غفران الخطايا، وتهذيب النفوس، وإصلاح الضمير.
ولم يخل قط عصر أو تاريخ لم تكن فيه كل قبيلة أو بادية تفرط في شأن من أمور دينها وتعليم شرعها، وكان الفضل الأول والأكبر في ذلك واستمراره لهداتها الأمراء الكرام والملوك الأعاظم، ولا سيما ملوك دولتنا الحاضرة الذين نقرأ لهم في هذا الباب صفحات بيضاء يبيض لها وجه التاريخ وتنار بها طلعة وجوهم على ممر الأعصار وتوالى الأيام، وما هذه الفصول المنتشرة بأغلب مراجع هذا التاريخ كله -ومنها ظهيرنا الواقفة هذه اليراعة عنده- إلا غيض من فيض، وقُلّ من كُثْر، من هذه العنايات المختلفة والرعايات المتشتتة بين مختلف دفاتر التاريخ.
أما مولانا السلطان الحالى المفتخرة بعصره الدنيا على كل العصور، فلم ينهج إلا نهج أسلافه الأكرمين، وسلفه من عظماء ملوكنا العلويين في الحث على إقامة أمر الدين وتنظيم معالم الإسلام في مناحية وجهة، ففى كل مرجع وموضع من الأنحاء المغربية يعطى لأمر الدين المقام الأول والمكان الممتاز، وإذا كان قد انفرد عصره الزاهى بإقامة شعائر الدين في مواطن جديدة وأماكن لم يكن تأسس بها مسجد من قبل لحدوثها بحدوث عمران إيالته المتسع، وانتشار نفوذ دولته الممتد في