الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما
* * *
412 - عبد الرحمن بن هشام بن محمد بن عبد الله بن فخر الملوك أبي النصر إسماعيل السلطان ابن السلطان ابن السلطان ابن السلطان ابن السلطان
.
ولادته:
قال نجبه العلامة المولى العباس فيما قرأته بخطه ومنه نقلت ولفظه: ولعل في هذا العام (يعنى عام 1204 أربعة ومائتين وألف) ازداد والدنا رحمه الله سيدى ومولاى عبد الرحمن بن هشام هـ أمه السيدة هنية بربرية.
حاله:
وصفه أبو حامد العربى الجامعى فيما كتب به للأمين الحاج محمد الزبيدى معزيا بتاريخ خامس صفر عام ستة وسبعين بقوله: مولانا فخر الملوك، وملجأ الضعفاء والمساكين، وسيف الله على الطغاة المعتدين، الحليم الرءوف الصابر، الجابر المتيقظ المتغافل، العابد الزاهد أُويس وقته هـ.
ووصفه العلامة الناسك المرشد الشيخ المختار بن محمد بن المختار الكنتى فيما كتب به إليه يعظه وينصحه بما لفظه: نخبة الأخيار، وخلاصة خاصة الأحرار، سلسلة السادات الأبرار، وخاتمة القادات ذوى الأقدار، منبع الفضل والجود، وفرع سبب أصل الوجود، من ثبت أصل شجرته وفرعها في السماء، وطاب ثمرها ودنت قطوفها للاجتناء، فكان أعرقها عرقا، وأرحبها عزقا، الفارع البارع، الورع البر المتواضع، الساعى في الخيرات المسارع، الجهبذ المجاهد أعداء
[صورة]
تقريظ حضرة صاحب السمو الأمير أحمد باشا باى صاحب المملكة التونسية للتاريخ
الدين، حامى بيضة الإسلام من المعتدين، إمام الأمة، القائم بكل الإمَّة (1) الباقعة السامى يتيمة الخلف، الخليفة المستخلف، الَّذي أنشد فيه الحال:
أتته الخلافة منقادة
…
إليه تجرر أذيالها
فلم تك تصلح إلَّا له
…
ولم يك يصلح إلا لها
الإمام الحق، الحاكم بالحق، وظل الله في أرضه، أمير المؤمنين سيدنا ومولانا عبد الرحمن ابن أمير المؤمنين سيدنا ومولانا هشام ابن أمير المؤمنين سيدنا ومولانا محمد ابن أمير المؤمنين سيدنا ومولانا عبد الله ابن أمير المؤمنين سيدنا وملانا إسماعيل بن مولاى على الحسنى.
إلى أن قال: هذا وقد قدم علينا من ناحيتكم الميمونة الفاضل الأديب، الفائق الأريب، السالك الناسك الصادق الذائق سيدى بابا أحمد بن عبد الرحمن في وفده المبارك غير خزايا ولا ندامى، فأثنوا عليك بما أنت أهله، وأنشدوا من فضائلك ما طوى البين، وفصلوا وأذاعوا من تقريبك العلماء، واحتفالك بالعلم، وصرفك عنان الهمة إليه، وإحيائك السنة، وإماتتك البدعة، ولين جانبك، وخوفك وتواضعك، وعفوك وحلمك وصبرك، ووقارك، وتوكلك وزهدك، وورعك وكرمك، ما هو الغاية القصوى المنتقاة، وقرة العين المبتغاة، والدليل القاطع على أحقيتك بالإمامة الحقيقية وأخلقيتك بالخلافة الحقية الحقيقية. إلى أن قال: إنه لم ينقل إلينا واش ولا خاص ولا عام قديما وحديثا من سيرتكم من عهد أمير المؤمنين مولانا سليمان إلى الآن ما ينقم حاسد، ولا ينقد بصير ناقد، إلَّا شدة الحجاب إلخ.
(1) في هامش المطبوع: "الإِمة بالكسر: النعمة، كما في المصباح".
ووصفه العلامة الخطيب السيد عبد الحفيظ الملقب الكبير الفاسى الفهرى في "إعراب الترجمان، عن قصة الأوَدايَة مع مولاى عبد الرحمن" بما لفظه: الإمام الَّذي حطت لديه السيادة ركابها، وأرخت عليه السعادة أطنابها، وتنظمت عقود مملكته أي انتظام، وانقادت له سوابق الخلافة بغير زمام، وتقلد بسيف النصر والمهاد، وقام على ساق الجد والاجتهاد، وشمر على ساعد السعد لنصرة الدين، مقتفيا آثار الخلفاء الراشدين، الأمير الَّذي ارتقى ذروة الجلال، وتحلى بأوصاف الكمال، وتفرد بالمحاسن الرائقة الجليلة الحسان، وجمع من الفضائل ما لم يأت على حصره لسان، رفيع القدر والشأن، أمير المؤمنين أبو زيد مولانا عبد الرحمن هـ.
وقال أبو محمد العربى بن على المشرفى الراشدى في مؤلفه "فتح المنان بشرح قصيدة ابن الونان" أو "المواهب السنية، في شرح الشمقمقية" -وكان شروعه في هذا الشرح مستهل شوال سنة 1294 أو في العشر الأواخر من رمضان، وانتهاء استخراجه من مبيضته أواخر جمادى الأولى سنة 1295 كما قال ذلك عن نفسه- في حق صاحب الترجمة ما لفظه:
أعز الله به الدين، وخذل الأعداء والبغاة المعتدين، وتمم مكارم الأخلاق لمن كان قبله، ولم يسود للإيمان وجها بل نور نهاره وأقمر ليله، وأرغم أنف الشيطان وأولياءه بوصية المولى سليمان، فكان في أسوأ الزمان حسنة الليالى والأيام، المضاعف أجرها للمولى الإمام، إذ هو الَّذي عهد له بالخلافة، وما شأن تصرفه طول عمره على وفق الشرع وما رام خلافه.
فهو الَّذي اختاره الله سلطانه العزيز، ورفعه على منصة التبريز، بل هو الإمام الَّذي ألقت إليه الإمامة زمامها، وقدمته الأفاضل لما اختص به من الفضائل أمامها، عميد المجد الَّذي لا يتناهى فخره، ووحيد الحسب الَّذي تسامى قدره،
فرع الدوحة المحمدية التي عم خيرها الإسلام، وغصنها الناعم الَّذي في روض أمنه أنام الأنام، بل هو المستظل بظل حرم نسبه المتصل بسيدنا محمد النفس الزكية، وشجرته الثابتة في الروضة الفاطمية العلوية، أعز الله به هذه الأمة المحمدية، التي هي خير أمة أخرجت للناس، وأسعد به هذه الأقطار المغربية كما أسعد بطالع سعده حاضرة فاس، وكان يسترعى على رعيته، حفظا لرعايته، ويأخذ في تسكين هذه الأوطان وتمهيدها، واستئناف العزائم وتجديدها، وإطفاء نار الفتن وإخمادها، وإعلاء أركان الإيالة ورفع عمادها، فكسر للبغاة الشوكة، ودفع بسياسته عن رعاياه الوثنية والشركة، وقد كان وعاظا لرعيته مشفقا عليها رءوفا بها، وإذا ظهر جور عامل وكررت به الشكوى لديه ولم يوافق على عزله في الحين، فإنما ذلك. من سوء الظن بالشاكى، لعموم الفساد على وجه الأرض في البر والبحر، وفى كل ذلك لم يخل فؤاده من نية عزله وكذلك عند جور وزير أو غيره هـ.
وقد كان رحمه الله صواما قوامًا، من أتقى ملوك الإسلام وأقومهم طريقة، ذا علم وورع، وديانة وعفاف، وكمال هدى وجد، ونجدة وشجاعة، وصدق لهجة، واقتصاد في الأمور وتدبر ونظر في العواقب، ومراقبة وخوف وخشية، وحلم وشفقة، وتأن وتوقف في الدماء، وصلابة في الدين، وقوفا مع الحق لا تأخذه في الله لومة لائم.
مقتصدا في مأكله ومشربه وملبسه يلبس المرقع والمخصوف، قدم له يوما صاحب طعامه جريدة صائره اليومى فوجد به زيادة غير معتادة، فسأله عنها؟ فقال: هي قيمة بعض الخضروات أول ظهورها، فقال له: لا تعد لمثلها، فإنى لا أحب أن أتناول إلَّا ما يقدر الضعيف على تناوله، ما لى وللخضرة الجديدة، حتى إذا كثرت آكلها كغيرى.
قال الفضيلى في الدرر البهية: أخبرنى من أعتمد حديثه من أقاربنا أنَّه تعذر ذات يوم على أهل مطبخته الوقود، ولما أمسى المساء بات جل أهله بدون عشاء، فلما بلغه ذلك كشف رأسه واعتراه سرور عظيم، ثم رفع يديه وقال: اللهم لك الحمد والثناء حيث سويت بين أهلى وبين ضعفاء المسلمين، وما لام من فعل ذلك ولا عاتبه ولا عنفه ولا أنبه، قال: وهذا دأبه في سائر الأحوال هـ.
وحسبك في هذا الباب أنموذجا ما كتب به لنجله المولى سليمان وإليك لفظه بعد افتتاحه:
"ولدنا الأبر مولاى سليمان، أصلحك الله وسلام عليك ورحمة الله تعالى وبركاته.
وبعد: فاعلم أن التوسع في المأكل والمشارب بأن يكل المرء كل ما اشتهى من الخصال البهيمية، والأخلاق الحيوانية، مع أنكم اليوم في مقابلة جهاد ورباط، ولستم بِصَدَدِ رفاهية ونشاط، ففي الحديث من كانت همته في بطنه فقيمته ما يخرج منها، وفى الأثر عن سيدنا عمر رضي الله عنه: كفى بالمرء إثما أن يأكل جميع ما اشتهى ونحن من العرب، وشأن العرب أخذ البلغة والاكتفاء بما وجد ولقد قائلهم:
وإنك مهما تعط بطنك سؤله
…
وفرجك نلت غاية الذم أجمعا
كما كان أسلافنا في حركاتهم لتمهيد القبائل بناحية الترك يقتصرون عند الحاجة على جمع فضلات علف الخيل، ويقلونه ويدقونه ويقتاتون به، وما أدركوا الَّذي أدركوه بالرفاهية والسعة، وإنما أدركوه بالصبر وتحمل المشاق من جوع وغيره، فالزم القناعة والإمساك عما فيه غضاضة وشره، وإياك أن تكلف الأمين هنالك أو غيره بشيء خارج عن الضرورى، وتجعل تقول: ايتنى بهذا الشيء، فإنى إن
سمعت عنك شيئًا من ذلك لا تبقى تساوى عندى قلامة، وتسقط من العين التي أنت فيها عندى، فاقبل على ما آتاك الله ولا تمدن عينيك إلى ما زاد على ذلك، وإياك أن ترى فرسا عند عامل أو غيره وتوجه له فيه، وارفع همتك عن كل أحد حتَّى إن عرض عليك أحد شيئًا قل له: لا أتوقف على شيء، وأنا الَّذي أُعطى للناس، وإذا دعتك داعية لشهوة أو غرض فاقمع نفسك، وشم يدك واشبع، ففي المثل: تجوع المرأة ولا كل من ثديها، وقال الشافعي:
إذا أظمأتك أكف اللئام
…
كفتك القناعة شبعا وريا
فكن رجلا رجله في الثرى
…
وهامة همته في الثريا
فإن إراقة ماء الحياة
…
دون إراقة ماء المحيا
واعلم أن تلك المراسى الثلاثة تطوان وطنجة والعرائش من أضعف البلاد وأقلها زرعا، وإنما يجلب لها من القبائل جيرانهم، فلا ينبغي أن يكلفوا أو يشططوا، بل ينبغي للنازل فيهم أن يعيش بعيشهم ويقتصر على قوتهم:
البس لكل حاجة لباسها
…
إما نعيمها وإما بؤسها
وهذه وصية خصصناك بها، وتذكرة آثرناك لها لتجرى على مقتضاها، وتسلك السبيل التي نحبها ونرضاها، والله يبقيك والسلام في 28 رجب الفرد الحرام عام 1260 هـ".
وكان قبل هذا قد كتب كتابا شديد اللهجة للقائد بريك الحبشى يحذره من أن يدع ولده المولى سليمان المذكور يتمتع بأنواع الملابس، كما حذره قبل من التنوع في المآكل والمشارب، ونص ما كتب به بعد الحمدلة والصلاة والطابع:
"وصيفنا الأرشد بريك الحبشى، وفقك الله، وسلام عليك ورحمة الله تعالى، وبعد:
فاعلم أنا إنما بعثنا ولدنا المولى سليمان بقصد قراءته والاشتغال بما يعنيه، ولم نوجهه دلالا يتخير في الشقق ويتلون في الملابس، ولم نبعثك معه إلَّا بقصد حراسته وحفظه من هذا وشبهه ومنعه ما لم نأذن لك فيه، فإن احتاج إلى كسوة أو شيء يطلبه منا ولا يباشر ذلك بنفسه ويوجه
…
عليه ولم ننقم على أخيه مولاى أحمد إلَّا هذا وشبهه، مع محافظته على دينه ومروءته، وعليه فإنى أعاهد الله تعالى إن سمعت عليه شيئًا بعد هذا أو أطلقت له اليد في التصرف في شيء مما دخل عليه من الهدايا شققا ودراهم حتَّى نخلى داربوك، فإنما وجهناك معه لتمنعه مما لا يناسب، فإذا تركته وما يريد فوجودك وعدمك سواء، فإن ضاع مما دخل عليه قلامة أو تصرف في شيء ببعث أو إعطاء نعاقبك عليه، واترك ذلك موقوفا حتَّى أرى فيه رأيى إن شاء الله والسلام في 23 شعبان المبارك 1255 ".
وله قدس الله سره في مثال هذا أخبار يضيق عنها المقام.
ولاه عمه أبو الربيع سليمان أمانة ثغر الصويرة وعمالتها، ثم نقله للخلافة عنه بفاس وذلك عام سبعة وثلاثين ومائتين وألف، فأحسن السيرة وقام بمأموريته أحسن قيام.
ووجهه مع أولاده للحرمين الشريفين بقصد أداء فريضة الحج وزيارة قبر جده عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، وأعطاه بضاعة ينفقها في سبيل حجه فحفظها ولم يتصرف في قيراط منها، ولما آب من حجه ردها إلى عمه وقال له يا سيدى: إننى كنت ادخرت بضاعة جمعتها من كد يدى لأنفقها في هذا الصدد، وآليت أن لا أضيف إليها غيرها إلَّا إذا نفدت، وقد حصلت لى بها الكفاية والحمد لله، فعجب عمه من حاله وسر واستبشر وقال له: خذ ذلك بارك الله لك فيه.
بويع له بالخلافة بعد وفاة عمه أبي الربيع المذكور بعهد منه يأتى نصه في ترجمة عمه سليمان بحول الله وقوته، وكانت بيعته بفاس في خامس عشر ربيع
[صورة]
بيعة أهل الرياط للمولى عبد الرحمن
النبوى عام 1238 ثمانية وثلاثين، وبويع له بالعاصمة المكناسية يوم الأحد الرابع عشر من ربيع الثانى، وسبب تأخر بيعة أهل مكناس ما كان من المخالفة والشقاق بين قاضيها أبي العباس أحمد بن عبد الملك مار الترجمة، وبين عبيد البخاري على ما قرأته بخط أبي العباس الأغزاوى المترجم فيما سلف، قال: حتَّى هم العبيد بقتل القاضي، وما منعهم من ذلك إلَّا الشرفاء، قال: وأقام المترجم بفاس بعد البيعة له سنتين هـ.
والذي للزيانى في "عقد الجمان، في شمائل السلطان المولى عبد الرحمن بن هشام" وذكر حركاته وغزواته وعماله وقواده وأمنائه وقضاته، أن خبر وفاة المولى سليمان إنما وصل لفاس في السادس والعشرين من ربيع الأول هـ.
وفى الاستقصاء أن القاضي ابن عبد الملك كان ممن حضر البيعة بفاس هـ يعنى وهو متول خطة القضاء بها إذ ذاك، والذي يظهر أن ما عند الأغزاوى المذكور أصح وأضبط، لأنه ممن حضر وعاين الوقائع وممن كان بصدد تقييد الحوادث مياومة والله أعلم، ثم أعلنت بيعته في سائر البلاد المغربية.
ونص بيعة أهل الرباط له من إنشاء أبي العباس أحمد الرفاعى الرباطى كاتب الدولتين ومن خطه نقلت:
"نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين. هذه بيعة مظهر العدل والإحسان. أمير. المؤمنين مولانا عبد الرحمن. ابن حائز الشرفين. وشريف الطرفين. مولانا هشام بوأه الله فراديس الجنان.
الحمد لله عاقد ألوية النصر بمعاقد العز منشورة الأعلام، وناشر الرحمة العامة بأنوار الخلافة العظمى عناية بأهل الإسلام، ومرسى قواعد الشريعة بالخلفاء أن تميد، وهو الَّذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته وهو الولى الحميد،
ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم، أحمده حمدًا يوافى متوالى آلائه التي من أجلها الاستظلال في كنف الخلافة، وأشكره شكرًا كفيلا بالمزيد من كرمه الَّذي نؤمله ولا نعتمد خلافه، وأستعينه على القيام بأمور الدين وأتولاه، وأستنصره جلت قدرته وما النصر إلَّا من عند الله، إن الله عزيز حكيم، وأستغفره مما يعرض من التقصير فيما طوقناه من الأمور الأكيدة، وأعوذ بوجهه الكريم من شرور أنفسنا التي لولا عدل الخلافة يحجزها لهوت في هوة المكيدة، وأستهديه إلى الاستضاءة بشمس الخلافة في فلك السعادة، وأستكفيه فتنة من يعشو عن أنوار الحق في البدء والإعادة، وأعتصم به اعتصام الذين باعوا من الله أنفسهم فآمنوا وجاهدوا، وأستمسك بسنته استمساك الواثقين به الموفين بعهدهم إذا عاهدوا، ومن يعتصم بالله فقد هدى إلى صراط مستقيم.
وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له شهادة يزين التدين بطاعة سلطان الله حلاها، وينتظم في سلك الدين والوفاء علاها، شاهدة لمن وفى بما عاهد عليه الله بالنجاة، كفيلة لمن دان بها بأعالى الدرجات، فالذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات النعيم.
وأشهد أن سيدنا ونبينا ومولانا محمد صلى الله عليه وسلم عبده الَّذي بعثه رحمة لخلقه يزكيهم ويهديهم، وخليفته الأعظم الَّذي أوحى إليه {إِنَّ الَذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ
…
(10)} [الفتح: 10]، وأمينه الَّذي شرع نصب الخلافة عصمة نأمن بها سوء العدو ومكره، وحبيبه الَّذي ألزم خلقه السمع والطاعة في المنشط والمكره، ووليه الَّذي نوه بذكره فقال:{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} [القلم: 4]، اللهم فصل وسلم عليه وعلى آله العترة الزكية، والنسمات الذكية، الذين عقدت لهم لواء المجد في صدور الأكارم، وحفظت بهم نظام أشتات المكارم، وأغليت
نفائس معاليهم فوق الدر النظيم، صلاة وسلاما يشملان أصحابه الذين قاموا على الواجب بأعباء ما رغب فيه وأمر، وأجمعوا على إنفاذ عهد أبي بكر بالخلافة لعمر، وحافظوا على التمسك بسنته في الحديث والقديم، وواصل اللهم رضوانك الأكبر، ورحمتك الموجودة في المورد والمصدر، على ساداتنا العلماء الذين بلغونا عنه حقائق الدين، وأئمتنا الخلفاء المهتدين، الذين لم يزالوا شجى في لغاديد المعتدين، وسرجا يستضاء بهم في دياجى ليل الخطب البهيم.
ونضرع لك في تأييد مولانا الإمام الَّذي عقدت عليه الخناصر، وقطع به أثر كل باغ متمرد فما له من قوة ولا ناصر، وكففت به أكف أهل العداء وإخوانهم يمدونهم في الغى ثم لا يقصرون، ومننت على العباد تيمنا به بعام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون، والله يؤتى ملكه من يشاء والله واسع عليم.
أما بعد: هذه الفاتحة التي تيسر لها من الآمال كل مرتجى، وأطلقت من ألسنة المسألة والابتهال ما كان معقودا مرتجا، ورسخت في قواعد التأييد والظفر سوقها، ونفقت في متاجر العز والتمكين سوقها، وسقاها اليمن وابل عهاده، وأحلها الإقبال بحبوحة صدره وفسيح مهاده، وأسرعت نحوها الآمال خاضعة، ولبت دعوتها أعيان الأكابر وأكابر الأعيان مطرقة متواضعة، وابتسمت لها ثغور اليمن ضاحكة بملء فيها، وهش لها من كل قلب منيب يبتغى الديانة ويصطفيها، فإن الله جل جلاله، وعز كماله، دعا خلقه والصحف مطوية والأقلام جافة، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْم كَافَةً
…
(208)} [البقرة: 208]. وإن الإمامة العظمى من الدين بمحل الروح من الجسد، والشجاعة من الأسد، ومنصب عظيم الخطر والبال، ومرتبة يعز منالها بتكلف واهتبال، ولكنها موهبة من الله يرشح لها من اختصه بفضله ومبرته، ومظهر قدرة حفته عناية قوله عليه السلام: إذا أراد الله أن يخلق خلقا للخلافة مسح يده على ناصيته، وقد احتضنتها بهذا
المغرب والحمد لله أبوة نبوية، ونسبة هاشمية علوية، فتمت له المآرب بهالات البدور، وانشرحت به الصدور من الصدور، فإنها دولة رفعت منار العدل على العلم المنيف، وأمنت كل مروع من الخطوب في إقامة الدين الحنيف، وازدهت بالخلافة بيض أيامها وغر لياليها، واتسقت لها المفاخر الجسام من مواليها، ونشرت أعلام الفضل المبذول للأنام على السوية، وحاطتها أيدى الأقدار لحسن السيرة وصفاء الطوية، وصارت أزمانها على التجدد موسما وعيدا، وأمنتها عناية الملك الحق إسعادا وتأييدًا، بأمراء ورثوا سر النبوءة كابرا عن كابر، وتأثلوا الفخر التليد المتلو في المصاحف على رءوس المنابر، حتَّى أفضت بالتأييد والمبرة العميمة، إلى صدر صدورهم الَّذي حاز من هذا الفخر صميمه، إمامنا الَّذي لم يختلف في عدله وفضله اثنان، وسلطاننا الَّذي أيد الله به الدين وقلده أمر المسلمين فما بات عن مصالحهم بطرف وسنان، سلطان العلماء وعالم السلاطين أبي الربيع مولانا سليمان، فلم يأل جهدًا رضي الله عنه في نصيحة يدخرها لغده، ومبرة يتعجلها حيثما مرت على خلده، مؤيدا للدين والسنن، موضحا بالقول والفعل كل نهج حسن، رافعا منار الحق وشعاره، جاعلا تقوى الله دثاره وشعاره.
وكانت أيامه الغر شامة في محيا الدهر، وعوامله المرجوة المخوفة محيية للمهج قاصمة للظهر، في خفض ودعة، وبركة وسعة، لا جرم قد طلع في آفاق السعد مطلعا قفى به وفاق سلفه، ويسر له وعلى يديه من الآمال ما أجزل به أجره وأدخله كنفه، وناهيك به من إمام حسنت أياديه فهي لعيون الزمان نواظر، وطابت بعدله أغصان السول فهي زواه نواضر، تزهى في ثوب العز والقبول، وتميس ببرد قشيب بين الصبا والقبول، وللناس ببركته سرور وازدهاء، والأيام في طرب من مراد واشتهاء.
وهو لنا أب بر ونحن له بنون، تجرى بأمره الأقدار وعلى حكم خواطره
المنون، حتَّى اشتاق إلى ربه، وأحس بإجابة الداعى من قلبه، نظر رحمه الله شفقا في الأمانة، في عصابة أبقى الله على خلقه ببقائهم أمانه، فاختبر على محك السبر يواقيت الآل، ونفائس اللآل، فتخير أثبتها جنانا، وأقواها نجدة وبيانا، وأوفرها مروءة وديانة، وأكملها عدالة وصيانة، وأجمعها لشرائط الإمامة اتفاقا، وأوعبها لضروب الكمال في سوق المعارف والعوارف نفاقا، وكان هذا البدر الساطع، والسيف القاطع، حسنة الدهر، وشذا خمائل الزهر، المفضال المبرز في ميدان العلوم بذكائه، والمقدام المجلى في مضمار السبق بذكائه.
طالع الأمن في غرة الأزمان، ويتيمة الفخر التي تضاءلت لعلو مقدارها الأرواح والأثمان، أبو زيد مولانا عبد الرحمن ابن أخيه أمير المؤمنين مولانا هشام ابن أمير المؤمنين السلطان الجليل مولانا إسماعيل الشريف الحسنى العلوى.
فعهد إليه بالخلافة بعده، وألزم كل واحد من رعيته السمع والطاعة له جهده، فكان أمره رحمه الله حتما، وعهده حكما، ولما تحول رحمه الله للملك الكبير، وجوار الملك الخبير، وثبت عهده الَّذي نصح فيه لله ولرسوله وللمسلمين كان أول من قام بتنفيذ أمره العاطر الأنفاس، صدور العلماء وعلماء الصدور بحاضرة فاس، في جملة من بها من الأئمة والأشراف الذين هم بدور الحنادس المدلهمة، وعامة المسلمين وخاصتهم، والجيش السعيد من الوداية وغيرهم، فقلدوه الإمامة الجسيمة، ورفعوا ببيعتهم منار الإسلام اغتناما لبركته العميمة، فقام بها علما، وأرضاها عدلا وسيفا وقلما، وأفاض سجال الفضل وهو أيسر شمائله، وسار سيرة أخجلت ورود الزهر في خمائله، فأرتهم محاسنه من ضروب الحسن والإحسان عجائب أحجم المقوال عن إبانة فضلها، وتلت عليهم باليمن والعافية {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ منْهَا أَوْ مِثْلِهَا
…
(106)} [البقرة: 106].
وإنا معشر أهل رباط الفتح من الخاصة والعامة من ساداتنا الشرفاء والفقهاء،
والعلماء والطلبة والمجاهدين الرؤساء، من الطبجية والبحرية قاطبة، وأهل الحرف قد بلغنا على الحقيقة جميل ما صنعه أهل حارة المغرب قاعدة فاس، العطرة الأنفاس، من تنفيذ عهده، والوفاء بوعده، فأسرعنا مهرولين، وعلى إجابته معولين.
فإنا نشهد الله وملائكته أنا نقر له بالسمع والطاعة، في المعروف حسب الاستطاعة، وأعطينا أمير المؤمنين مولانا عبد الرحمن هذا أيده الله تأييد جده ببدر، وأحله من القلوب بسويدائها ومن محافل الجلالة بالصدر، صفقة أيدينا، وعقد قلوبنا، وبايعناه بيعة نبتغى بها رضا الله والدخول في الطاعة، وننتظم بها في سلك جماعة المسلمين، فيد الله مع الجماعة، وقد التزمنا إمامته، ورضينا بها تاجا للفخر وعمامته، على الوفاء بما ألزمنا الله من طاعة إمام البرية، وما ألزمه الله من حقوقنا في جملة الرعية.
اللهم اجعلها بيعة مستمدة بكرمك من بيعة الرضوان، وأتح لنا من نعمك بها ما لا يخطر ببال في كل حين من الأحيان، وبارك لنا في إمامته بركة تشمل النفس والأهل والأموال والأولاد، وتحفظ بها المهج والسفار والتجار والبلاد، ويسر له آمال الراغبين، وحطه وحط به فإنك ملجأ الطالبين.
اللهم وَآلِهِ بوَلائِك، وكن له نصيرا غامرا بآلائك، وألهمنا وإياه شكرا يقتضى الآلاء، ويقضى بانقضاء اللأواء، إنك سميع الدعاء، بجاه سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام آمين.
شهد على نفسه وعلى جميع من حضر هذا العقد السعيد بعقده والتزامه، وعرفهم وهم بأتم حال وأكمله في وقت الضحى والشمس على ارتفاع 28 ثمان وعشرين درجة من يوم الخميس التاسع عشر من ربيع الثانى عام ثمانية وثلاثين
ومائتين وألف، عبد ربه تعالى، أحمد بن محمد الرفاعى الحسنى لطف الله به آمين.
وبعده واحد وعشرون توقيعا وشكلا منها: محمد بن أبي العباس الرفاعى، ومحمد بن محمد الأوسى الأندلسى، ومحمد بن العربى عاشور، وعبد القادر بن المهدى مرين، وصالح بن أحمد الحكمى، ومحمد بن محمد البوعزوى، ومحمد بن محمد السلاسى، ومحمد الطيب بسير، ومحمد بن المكي البنانى، ومحمد بن على الزعيمى، ومحمد بن محمد فرج.
وقد رفع على خط الكاتب المذكور بما نصه:
"الحمد لله، الخط والشكل الأول عقبه بصك بيعة أهل هذه الحضرة الرباطية لأمير المؤمنين أبي زيد مولانا عبد الرحمن العلوى، روح الله روحه، وأسكنه من الجنان فسيحه، أعلاه كلاهما للفقيه العلامة الأوحد أبي العباس سيدى أحمد بن الفقيه الأسمى سيدى محمد الرفاعى الحسنى، قاله عارفهما معرفا بهما من غير شك يلحقه في ذلك في ثامن عشر محرم الحرام عام اثنين وخمسين وثلاثمائة وألف، عبيد الله تعالى محمد بن العباس الرفاعى لطف الله به".
ونص الأداء عند قاضى الرباط الحالى:
"الحمد لله وحده أدى المعرف أعلاه فقبل وأعلم به عبد السلام بن إبراهيم لطف الله به".
هذا ولم تزل البلاد على عهده في هدوء وراحة وإقبال، وسعادة وثروة وزيادة نوال، والحدود قائمة، والفتن نائمة، والمظلوم ينتصف من الظالم، والبرئ لا يخشى سطوة الحاكم، رغما عما وجده أمامه من الأهوال، والفتن البربرية التي أصبحت بها الدولة في انحلال كاد أن يئول إلى الاضمحلال.
فقابل تلك الخطوب بلا مال ولا معين ولا ناصح، فرد الملك المحمدى إلى عنفوان شبابه، وجدد سياسته على المهيع العتيق الوثيق، ونظم التراتيب الداخلية، على نحو ما أرَاد، ورتب أمور الرعية وأصلح ما أفسده الزمان منها.
وولى وعزل، ونكل من استحق التنكيل، وأقر من يستحق الإقرار مع التكريم والتبجيل، وأصدر في هذه السنة الأولى من ولايته الملك ظهيرا شريفا بتوقير واحترام حفدة الأستاذ سيدى عبد الرحمن بن القاضي وإبقائهم على عادتهم.
ونصه بعد الحمدلة والصلاة والطابع بداخله "عبد الرحمن بن هشام بن محمد" وبدائريته "محمد، أبو بكر، عمر، عثمان، على" {
…
وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإلَيْهِ أُنِيبُ (8)} [هود: 88]:
"جددنا بحول الله وقوته حكم ما بأيدى المرابطين حفدة الفقيه الأستاذ سيدى عبد الرحمن بن القاضي، من ظواهر عمنا المرحوم المتضمنة التوقير والاحترام، والرعى الجميل والإعظام، وما بأيديهم من الظهائر السلطانية والمكاتب الملوكية، لأجل انتسابهم، وأبقيناهم على عادتهم المألوفة في ضريح الولى سيدى المليلى من الاختصاص بما يوضع فيه من الصدقة والنظر في مصالحه، بحيث لا ينازعهم فيها أحد، والله يوفقنا وإياهم والسلام في 11 جمادى الثانية عام 1238".
ولما فرغ من التراتيب الداخلية خرج من فاس لتفقد الأحوال، ومراقبة ما عليه العمال، واستخلف على فاس ابن عمه أبا عبد الله محمد بن الطيب (1) فنزل
(1) في هامش المطبوع: "قد أوصى المترجم على سيدى محمد بن الطيب هذا الشيخ المختار الكنتى في رسالته المشار لها ونوه به قائلا: "واختر لجيوشك من القواد أكملهم عقيدة وأتمهم ديانة وأقواهم نصيحة وأشدهم على أعداء الدين شكيمة كسيدى محمد بن الطيب ابن سيدى محمد وأشباهه".
بقصر كتامة، وبه اجتمعت عليه الجيوش من أعمال مراكش، فرحل إلى الرباط وبه أقام مناسك عيد الأضحى، ورجع إلى فاس أَوائل رجب سنة 1239 تسع وثلاثين ومائتين وألف، فأمر بشراء الأملاك التي بين قبة المولى إدريس وسوق البزازين، فهدمت وزادها في سعة مسجد الشرفاء.
ثم أمر بسنة الختان لأولاد الغرباء والضعفاء والأيتام من الحواضر والبوادى، وكان اختتان من ذكر بضريح الشيخ أبي الحسن على بن أبي غالب، وأمر أمناءه بإعطاء جميع من ختن، قميصا من كتان ودراهم، ثم وصل ضعفاء فاس بمال جزيل وكان توزيعه على يد مقدمى الحومات، فخان أولئك المقدمون، واستبدوا بنحو النصف لأنفسهم. قاله في عقد الجمان.
وفى هذه الأثناء خرج للعاصمة المكناسية وكانت تعجبه، فرأى من تلاشى الجيش البخاري بها ما أهمه، ولم يزل يعالج أمره حتَّى أنعشه وأمده بالخيل والسلاح، ورتب له الرواتب الشهرية ثلاثون أوقية للفارس ونصفها للراجل وثلثها للشويردات -أبناء الجيش الذين لم يبلغوا الحلم- وربعها للمسنين الذين تقاعدوا عن الخدمة، وثمنها للصبيان.
وقرر أن يسقط راتب من مات ممن ذكر، فإن وجد من يخلف الهالك يعين في محله، وإلا فيبقى المرتب بيد ورثة الهالك إلى أن يوجد من يخلفه.
أما إذا مات فرس فيجمع المرتب المعين له إلى أن يجتمع ما يعوض به فيشترى فرس آخر بدله، ولا بد من الإشهاد بالعدول على عين الفرس الَّذي مات ووصفه وصفا مدققا، ويكتب ذلك في كناش ليقابل بكناش إحصاء الخيل بأوصافها الخاصة.
ينبئك عن كبير الاعتناء والتدقيق الَّذي كان جاريا في أمور الخيل وأنسابها وأسمائها وأوصافها في دولتنا العلوية، ما كتب به ولد صاحب الترجمة سيدى
محمد زمن خلافته عن أبيه للقائد الجيلانى بن بوعزة في هذا الشأن ونصه بعد الحمدلة والصلاة:
"وصيف سيدنا الأرضى القائد الجيلانى بن بوعزة، أعانك الله، وسلام عليك ورحمة الله تعالى وبركاته، عن خير مولانا أيده الله ونصره.
وبعد: فقد وجدنا في نفولة من نفائل أنساب الجذعان الفطام الذين وجهت جذعة زرقاء بالدينار بنت الحيمر فرس ابن العامرى، مع أن الحيمر أصله من الصحراء لا مِنْ بنى حسن، والآن أعلمنا هل الكاتب الَّذي كان يقيد أنسابهم أراد أن يجعل الحميرى فغلط ونجعل الحيمر، أو كائن لابن العامرى فرس يقال له الحيمر لنكون على بصيرة، أصلحك الله والسلام في 22 ربيع الثانى عام 1263".
واتخذ الجيش من خمس قبائل: الأوَدايَا، والشراردة سكان آزغار، وأهل سوس سكان مراكش، وشراكة وأولاد جامع، وأهل فاس، وعبيد البخاري، ورتب لهذا الجيش الكسوة في كل ستة أشهر، والصلة شهرا دون شهر مقدار المرتب الشهرى المذكور، ويكون توزيع تلك الصلات طبق توزيع الراتب هـ.
وكان له مزيد اعتناء بالجيش المذكور، يتفقد أموره، وينظر في إصلاحه يدل لذلك هذا المقال الَّذي كتب به للقائد الجيلانى بن بوعزة يأمره بوجوب متابعة قوانين الجيش، والتمشى على سننها، ويذكر الإنعام الصادر لوفد عيادة الجيش، ويأمره باستعراضهم ودفع رواتبهم والنظر في خيل فرسانهم.
ونص أولها بعد الحمدلة والصلاة والطابع:
"وصيفنا الأرضى القائد الجيلانى بن بوعزة، وفقك الله، وسلام عليك ورحمة الله تعالى وبركاته.
وبعد: فقد وصلنا كتابك، وعرفنا ما فيه، ووصل عيادة الجيش السعيد
وفرهم الله مخازنية، وقواد المائة ومقدمين وقائد المسخرين، وقواد الأرحى والعلاف، ووقفنا على زمامهم مبينا فيه عدد الخيل وما معهم من الرماة 25.
وقد حضروا عيد المولد النبوى على مشرفه أفضل الصلاة والسلام، واغتنموا بركته، وقاموا بواجب الخدمة والطاعة أصلحهم الله ورضى عنهم، وقد وجهناهم بعد أن أبقينا الإدالة ومن يعجز عن القيام بفرسه، وأنعمنا عليهم بثلاثين أوقية للفارس ونصفها للراجل وخمسًا وأربعين أوقية للمقدم، وستين أوقية لقائد المائة، وثلاثين مثقالا لقائد الرحى ومن جملتهم المدني، وخمسة عشر مثقالا للعلاف بناصر، وقدر ما يجب لهم بحسب ما ذكر تسع وعشرون مائة مثقال، وخمسة وعشرون مثقالا.
وزمامهم على التفصيل يرد عليك طى هذا، وبوصول كتابنا هذا إليك اشرع في تسريد الجيش، وعند كماله ادفع له الراتب الوارد صحبة الطاهر الرغاى، وقدره ثلاثة عشر ألف مثقال وخمسمائة مثقال واثنان وتسعون مثقالا وسبع أواقى ونصف الأوقية، كما ترد عليك عشرون ألف مثقال اجعلهما ببيت المال عمره الله من جملة ما سبق، وقد أمرنا المدني يحضر معكم عند التسراد ليحصى الخيل الضعيفة بقصد أن يتوجه صحبتها للعذير، فإذا أحصيتم عددها وجهوه لحضرتنا الشريفة لنوجه الكتاب الَّذي يصحب معه المدني لقائد الغرب، ونوجه الخيل الراكة التي هنا تلحق به أيضًا وإذا وصلت الإدالة ادفع لها ما أنعمنا عليه بها المذكور صدره إلَّا من تخلف عن العلامات فلا تدفع له شيئًا والسلام في 7 ربيع الثانى عام 1267".
ونص ثانيها:
"وصيفنا الأرضى القائد الجيلانى بن بوعزة، وفقك الله وسلام عليك ورحمة الله تعالى وبركاته.
وبعد: فقد نقم على ابن العواد مسائل كان يرتكبها ليس للجيش فيها سلف ولا في ارتكابها خير، منها ما قدمنا لك النهى عنه من التخليف كل شهر، ومنها أنَّه بلغنا أن المائة تسرد جملة ولا تسرد كل رباعة وحدها كما هو القانون المعروف والجيش البخاري به يقتدى المخزن في كل الجهات، ومنه يأخذون القوانين حتَّى إن اختلفوا في أمر يرجعون إليه، وهذا التسراد الَّذي تقف فيه المائة كلها لا يعرف زائدها من ناقصها ولا غائبها من حاضرها، والمعروف المعمول به قديما وحديثا هو تسراد كل رباعة وحدها، حتَّى إن خص لعددها شيء يبينه واحدا واحدا ويذكر وجهته ومحله، وإذابيان المقدم لا يسأل نسى وقائد المائة من باب أولى وأحرى، فقد ضاع الحزم والضبط الَّذي يقتبس من عبيد سيدى البخاري، فبوصول كتابنا هذا إليك رد القوانين لأصولها.
وتنبه لما لا تحمد عاقبته، واجعل تسراد كل رباعة وحدها كما هو القانون المألوف، لتعرف الزائد من الناقص، وتطلع على ما خفى عنك من التلبيس.
وقد كان الجيش فيما سلف يعادل القبائل كلها قوة ونجدة، ويفوقهم عَددا وعُددا، وانظر إلى القبائل الدائرة بكم اليوم كل قبيلة تعادل الجيش أو تقاربه، فينبغى أن لا يحسب في الجيش إلَّا أهل النجدة والحزم والشجاعة، الذين يقاوم واحد منهم العدد الكثير، والناس ألف منهم كواحد وواحد كالألف إن أمر عنّا، والله يعينك ونسأله سبحانه وتعالى أن يبلغ قصدنا فيكم، حتَّى ترجعوا لأصلكم الأصيل من العدد الكثير، والمدد الغزير بمنه، والسلام في 3 ذى الحجة الحرام عام 1258".
ونص ثالثها:
"وصيفنا الأنجد القائد الجيلانى بن بوعزة، وفقك الله وسلام عليك ورحمة الله وبركاته.
وبعد: فخيل مسخرى الجيش السعيد الذين كانوا في الخدمة مع ولدنا سيدى محمد أصلحه الله ووجهم لصلة رحمهم وذكر أن فيهم عزابا، ومن لا اعتناء له بفرسه فاربط منها ما هو للعزاب ومن لا اعتناء له بفرسه بمحل العسكر وفى وقت علفها يحضر قائدهم الطالب إدريس بن المكي، والعلافة الطالب بوعزة الفشار، والطالب أحمد الخضر حتَّى تعلف الخيل المذكورة على أعينهم مدة مقام أربابها هناك للاستراحة، فإن هؤلاء العزاب بنفس ما يستريحون نوجههم لولد سيدى محمد أصلحه الله يقابلون خدمتهم.
وبوصول كتابنا هذا إليك خلف الهراب منهم والموتى والعاجزين عن الخدمة وعددهم عند قائدهم إدريس بن المكي، وزد على عددهم المذكور من لا شغل له من الجيش إلَّا الدوران في الأزقة على حسب ما يشير به إدريس بن المكي، والحاضر بصيرة، والسلام في 14 ربيع الأول عام 1269".
وكان له ولوع زائد بعتاق الخيل لا يركب غيرها، لم يحفظ قط أنَّه ركب بغلة في حضر ولا سفر، ومن عادته أنَّه يجلس لملاقاة الناس، وسماع المظالم بكرة وبعد صلاة العصر من كل يوم، وترفع إليه المظالم في الوقتين المذكورين، وإذا كان بمراكش يركب صباحا لترويح النفس بجنان أجدال، يتطوف أقسامه، يدخل من باب ويخرج من باب آخر، ولا ينزل غالبا عن فرسه إلى أن يرجع لاقتبال الناس وسماع المظالم.
ولم يزل عمله جاريا على ما ذكر منذ جلس على كرسى ملك آبائه الأكرمين إلى أن لقى ربه.
وفى أيامه استكشفت معادن نحاسية في سواحل طنجة وتطوان ومعدن حديدى بنواحى رباط الفتح، واختبرت كلها فوجدت صالحة، واكتشف بمقربة من فاس معدن الكبريت، ولكنه لم يتم عمله.
وفى أيامه حدث الاتجار في بيع العلق لأروبا، يصطاده الناس من المروج ويحتفظون على إبقائه حيا، ثم يوسق للخارج بالأثمان ذات البال.
وفيها جرى العمل بالاتجار أيضًا في بيع قشور الدباغ ووسقها للديار الأروبية، كذا قال بعض حذاق كتابه في مؤلف له تعرض فيه لبعض أخلاق المترجم وعوائده وبعض ما كان في أيامه من الأحداث والوقائع.
وفى عام 1240 أربعين وصل ضعفاء أهل فاس وما أضيف إليها بمال جزيل أيضًا، وأسند توزيعه عليهم للفقيهين أبي عبد الله محمد بن الطاهر وأبى زيد عبد الرحمن بن مخلوف، فلم يحرموا أحدا ممن يستحق، وتوليا دفع ذلك لأربابه بأنفسهما يدا بيد.
وفيه أصدر ظهيرا بإبقاء الأشراف الكتانيين على ما عهد لهم به.
ونصه بعد الحمدلة والصلاة والطابع:
"يعلم من كتابنا هذا أعلى الله قدره، وأنفذ في البسيطة أمره، وجعل في الصالحات طيه ونشره، أننا أبقينا السادات الأشراف الكتانيين على ما عهد لهم من توليتهم ضريح الولى الشهير، الغوث الكبير، سيدى دراس بن إسماعيل دفين خارج باب الفتوح واستبدادهم بجميع ما يهدى للضريح المذكور من غير منازع لهم في ذلك ولا معارض، ولا مزاحم ولا مداحض، فعلى الواقف عليه من خدامنا وولاة أمرنا العمل بما فيه، ولا يحيد عن كريم مذهبه والسلام في 17 ربيع الأول عام 1240".
وفى شوال من العام تحرك لحسم مادة الزيغ والعناد من متمردة الأعراب ذوى منيع، وأولاد نصير، ودخيسة، فمزق جموعهم الشيطانية كل ممزق، وألقى القبض على رءوس الفتنة منهم وقيدهم بالأغلال والسلاسل وأودعهم بطون السجون،
وكانوا نحو المائة، وألزمهم بإعطاء العسكر، ووظف عليهم غرامة مالية فلم يسعهم غير السمع والطاعة وتنجيز الجميع، وأراح الله البلاد والعباد من عيثهم.
وفى عام 1241 واحد وأربعين أنف بنو زروال من ولاية ابن يشو عليهم لظلمه وتعديه، وفروا وتحصنوا بالجبال، فحشد العامل المذكور جنودا مجندة واقتفى أثرهم، فلم ينل منهم شيئًا، فتوجه إليهم المترجم لإرضاخهم للطاعة خوفا من انتشار الفساد واقتداء العامة بهم في خلع ربقة الطاعة من أعناقهم من غير أن يرفعوا أمرهم للسلطان، فيتسع الخرق، ولما نزل بساحتهم وعلموا أن لات حين مناص أتوا خاضعين طائعين، فقوبلوا بالعفو، وولى عليهم الودينى وكان ظلوما غشوما.
وفى عام 1242 اثنين وأربعين ومائتين وألف توجه المترجم للصويرة ونواحيها من حاحة وغيرهم، فطاف على تلك القبائل وأصلح خللها، وأقام الحدود ورتب الأمور، ثم رجع لمراكش، ثم نهض لزمور الشلح ونزل بساحتم وحكم بالسيف فيهم حتَّى كسر شوكة تمردهم ووجه أسراهم في الأغلال والقيود للسجون.
وفى آخر عام 1243 ثلاثة وأربعين، اتصل بالمترجم ما عليه هشتوكة والشياظمة من العيث في الطرقات وأنهم نهبوا الحجاج، وأن زرارة والشبانات خرجوا عن الجادة واتبعوا أهواء حامل راية ضلالهم الضال المدعو المهدى بن محمد ابن العباس الشرادى، فاستعمل الحركة وأخذ في تجهيز عساكره فقومها وجمع آيت يمور، فخرجوا معه من مكناسة الزيتون بحللهم، وسار إلى أن بلغ ثغر تطاوين، فتفقد أحوالها وأصلح أبراجها وركب مدافعها ورتب حاميتها، ثم توجه على طريق آزمور مولاى بوشعيب لهشتوكة والشياظمة النازلين أحواز آزمور، فأوقع بهم شر وقعة انجلت عن تعمير السجون المغربية بهم، حملوا إليها أربعة على جمل،
ووقع الاستيلاء على محصولاتهم، ومن انفلت منهم من السجن بقى عالة يتكفف.
وفى أوائل عام 1244 أربعة وأربعين، توجه نحو الزاوية الشرادية على طريق آسفى في جنود جرارة متلاطمة الأمواج، وأحدق بها من جهاتها الأربع، ودخل الزاوية عنوة بعد معارك عظيمة، واستولى على جميع ذخائرها من مال ومتمول، وفرقت بغاة صناديدهم على سجون المغرب زجرا لأمثالهم، ووجه بعيال الفتان وأولاده لمكناسة الزيتون، فأنزلوا بدار القائد محمد بن الشاهد البخاري، وصير تلك الزاوية بلاقع، وقلع أشجارها، ونقل ما كان بها من الزيتون والفواكه للجنان الكبير الَّذي اتخذه بمراكش وسماه الزهراء والزاهرة.
قال أبو العلاء إدريس أحد كتبه الديوان الرحمانى في الابتسام: إن الزاوية بقيت خالية لم تسكن إلى سنة تسع وأربعين، فعمرها المترجم بالأودَايَة حين أجلاهم عن فاس هـ.
والذي للزيانى في عقد الجمان: أنَّه أنزل بمحلها آيت يمور الذين كانوا معه. هـ.
ويمكن أنَّه أنزل بها أولًا آيت يمور، ثم نقلهم بعد وأنزل الودايا. والله أعلم.
أما زعيمهم موقد نيران الفتن الضال المدعو المهدى، فإنه نجا بنفسه للفيافى وسار إلى أن انتهى به المسير إلى آيت باعمران من ولتيتة، وبقى هنالك ثلاثة أعوام، ولما ضاقت عليه الأرض بما رحبت اتخذ الشفعاء والوسائط لصاحب الترجمة فأمنه وجاء تائبا، فوجهه لأولاده بمكناس، ثم ولاه على إخوانه فآذاهم ومكر بهم، فشكوه إلى المترجم فعزله عنهم.
ثم استعطف السلطان في الإذن له في أداء فريضة الحج فأذن له، ولما قضى مناسكه ورجع استأنف له صاحب الترجمة الولاية على إخوانه فلم يقبلوه، ثم سجن ثم سرح، وتقلبت به الأحوال وتأخرت وفاته إلى أوائل شوال من سنة ثلاث وتسعين ومائتين وألف، وقد كان ذا قساوة وشكاسة غليظ الحجاب، طويل النقاب، لا يبالى بما وراء الباب.
وفى وقعة الزاوية الشرادية المشار لها يقول الفقيه الأديب السيد محمد بن الحسن أقصبى:
مبين الفتح بالتيسير لاحا
…
وبالنصر العزيز غدا وراحا
وسار في البلاد كسير شمس
…
وفاق المسك نشرا حيث فاحا
فحق لنا الهناء ولا كيوم
…
من الشرادى الغرب استراحا
وكيف وفى اسمه الشر ابتداء
…
وحيث الشر ينفى لا جناحا
فما المهدى بمهدى لرشد
…
ولكن سبه شرعا أباحا
أضل فريقه عن نهج حق
…
فراموا من أميرهم الكفاحا
غرورا بالمضل فاحتواهم
…
خميس منهم ساءوا صباحا
فحكم فيهم الآلات ضربا
…
ورميا والد ما منهم أباحا
وصار منهم أسرى وقتلى
…
وأعمل في رءوسهم الرماحا
وجاد بالجسوم على وحوش
…
يعودها بما منه السماحا
وخرب دورهم وهو ارتداع
…
لكل مفسد يأبى الصلاحا
فلا جمع الإله لهم شتاتا
…
ولا نالوا بفسقهم رباحا
فمن لم يشكر النعماء يجزى
…
بمنع غيره نال الفلاحا
فلو أموا الأمير لنالوا عفوا
…
وأتحفهم نجاة بل نجاحا
همام شأنه حلم وصفح
…
لأهل الدين قد خفض الجناحا
إضافته إلى الرحمن أومت
…
بأن له إلى الرحما ارتياحا
مآثره الكريمة ليس تخفى
…
وليس تقاوم الشمس اتضاحا
فلم تزل الأنام به بخير
…
لسان ثنائهم بالشكر باحا
فزدت يا أبا زيد سرورا
…
وبسطا وابتهاجا وانشراحا
وأبقاك الإله لنا بخير
…
وزاد ملكك الأسمى صلاحا
بجاه من عليه الله صلى
…
أتى في ذكره قولا صراحا
عليه ألف ألف صلاة تهدى
…
مسا ومهبها بهدى صباحا
كذا للآل ما أذنت ببشرى
…
مبين الفتح بالتبشير لاحا
وفى عام 1246 ستة وأربعين ومائتين وألف، عزل الوزير ابن إدريس إرضاء للودايا كما نشرحه بعد.
وفيه كانت ثورة الودايا على صاحب الترجمة، وذلك أنَّه لما كان ورد على صاحب الترجمة من علماء أهل تلمسان وأعيانهم مبايعين له عمن خلفوه وراءهم وراغبين في الدخول تحت طاعته وملحين في توجيه مدد من قبله وخليفة عنه ينزل ببلادهم ويكون ردءا لهم، والتزموا بإعطاء جميع ما يلزم في ذلك من مصاريف وعدة وأسعف رغبتهم، فوجه معهم ابن عمه المولى على بن سليمان خليفة عنه، وعددا من فرسان الودايا، وعين القاضي والمحتسب وكان في معيتهم السيد الحاج العربى بن على الوزانى، وخط لهم الخطة التي يجب تمشيهم عليها، وساروا إلى أن حلوا دار الإمارة بتلمسان وضيعوا الحزم ونبذوا الخطة التي رسمت لهم، وكان
ما كان مما لست أذكره، واتصل تفصيل ذلك بالمترجم فاشتد غضبه، وحقد على الرؤساء المستبدين كالطاهر بن مسعود، ومحمد بن فرحون وغيرهما.
وكان الحاج الطالب ابن جلول الفاسى قائما على ساق في الشيطنة والوسوسة، يدس الدسائس لإيقاد نيران الفتن بين المترجم والودايا، إذا كانوا ذوى قوة وبأس شديد، فاغتنم هذه الفرصة وجسم الأمر وطير الإعلام للودايا بنوايا المترجم نحوهم، وهول لهم غاية التهويل، فتمكنت منهم شيطنته وصمموا على الخروج عن الطاعة ونقض البيعة، وخرجوا من تلمسان قاصدين فاسا، وساروا إلى أن بلغوا قنطرة سبو، فوجه المترجم على أعيانهم وهو يومئذ بفاس، فوفدوا عليه لمشور الدكاكين من دار الإمارة بعد أن تحالفوا مع إخوانهم على أنهم لا يسلمونهم للسجن، وأنهم يقومون في وجه الأمير والمأمور لنصرتهم، ولو أدى الحال إلى إتلاف نفوسهم وأموالهم.
ولما مثلوا بين يدى صاحب الترجمة أظهروا غاية الغلظة والجراءة، فأمر بالقبض عليهم وإيداعهم السجن، فلما كانوا بباب المشور قام الصعاليك إخوانهم وانتزعوهم من أعوان المترجم قهرا، وكان الَّذي تولى كبر ذلك الطاهر ابن مسعود الأودى، وذلك في تاسع عشر شوال العام، ثم لما بلغ هذا النبأ لصاحب الترجمة خرج لقصبة الشراردة في خاصته يريد التوجه لمكناس، ولما علم بذلك الودايا ضجوا، وآذنوا بالقتال، وشقوا عصا الطاعة، وأحدقوا بالقصبة، ففر عن السلطان جميع الناس ونفرت منه قلوب العامة، ولم يتجاهر بمؤازرته غير ابن عمه القاضي مولاى عبد الهادى، ووزيره أبي عبد الله محمد بن إدريس العمراوى، ثم اغتنم المترجم فرصة أمكنه فيها الخروج بما خف وعز من الذخائر النفيسة فخرج ناجيا بنفسه يريد مكناسة، فاقتفى أثره الودايا فردوه مسلوبا للقصبة، وجعلوا يعدون عليه
ما نقموا من الأمور وأزالوا جلباب الحياء وتجودوا في أثواب الوقاحة وهو ساكت لا يجيب.
ولما كان الصباح احتال إلى أن ركب فرسه ورجع لدار الإمارة بفاس العليا، فاجتمعوا للمشورة فيما يفعلون به، فمن قائل نوجه به لبلده سجلماسة، ومن قائل نقتله لأنه لا يفلتنا إذا تمكن من نواصينا، ولا نأمن غوائله ما دام حيا، وتعددت اجتماعاتهم على ما ذكر أياما وهو يبعث العيون لترقب حركاتهم وسكناتهم حتَّى لا تغيب عنه من نتائج تلك الاجتماعات شاذة ولا فاذة، ويستعمل النظر في وجه يمكنه به الخلاص منهم، فأسَرَّ في يوم من الأيام لبعض خاصته أنَّه يريد التنقل لترويح النفس مع بعض حرمه لجنان أبي الجنود المكتنف بين فاس الجديد وفاس القديم، ومراده بذلك الاحتراس على نفسه والأخذ بالأحوط لها، فركب صبيحة بعض الأيام فرسه كأنه يريد استنشاق الهواء وتنسم النسيم على عادته من قبل، وغلقت الأبواب بينه وبينهم، وأمر بالعيال فلحقوا به للجنان المذكور، ولما علم بذلك بغاة الودايا تعاقدوا مع أهل فاس على الإعلان بخلع ربقة الطاعة، وانضم إليهم أهل الفساد من أولاد جامع.
ثم إن صاحب الترجمة لما حل بعياله بالجنان المذكور اطمأنت نفسه وأمن من تسور أولئك البغاة عليه، ووجه للجيش البخاري الَّذي بالعاصمة المكناسية يأمرهم بالقدوم عليه لفاس في ألفى فارس من أهل النجدة والبأس، يرأسهم أبو سلهام بن العريف البخاري، وبمجرد وصول الأمر العالى للجيش المكناسى لحق بالسلطان لفاس، فاعترضهم الودايا على مقربة من وادى النجا، وحميت الحرب بين الفريقين نحو ساعتين، وساروا إلى أن اقتحموا فاسا عنوة رغم أنف الودايا.
وبعد أيام عزم المترجم على التوجه لمكناسة ولكن رأى أنَّه لا يمكنه المسير على طريق سايس لتجول خيل شياطين الودايا به مع البربر حلفائهم، ثم عين
اليوم الَّذي يسافر فيه وقسم محلته على قسمين الأثقال مع قسم، وهو مع قسم، وقد أخذ كل غير طريق الآخر.
وذلك يوم الاثنين ثالث عشرى حجة الحرام منصرم العام، ولما علم بذلك الودايا اقتفوا أثره وصمموا على قتله وتبديد الجنود البخارية التي معه، ولما وصل لعقبة المساجين من ناحية وادى سبو، لحقوا به وركضت خيولهم على كل ذروة وغارب، واقتحموا الحملة عليه وهو يذودهم ويدافعهم ذات اليمين وذات الشمال، وفر الناس ونهبت الأثقال وتلفت أنفس، ورجعوا العيال لدار الإمارة بفاس الجديد، والمترجم يكرّ ويفر إلى أن انفلت منهم ونجا بنفسه لمكناس على طريق زرهون، وأثناء ما ذكر كتب للقائد بوسلهام ابن يشو يستنجده ويستدعيه لمقابلة البغاة الخارجين، ومنازلتهم، بما نصه بعد الحمدلة والصلاة والطابع الكبير بداخله (عبد الرحمن بن هشام الله وليه 1243):
"خالنا الأرضى الأنجد القائد بوسلهام بن يشو، أصلحك الله، وسلام عليك ورحمة الله تعالى وبركاته.
وبعد: وصلنا كتابك وعرفنا ما فيه وعلمنا ما أنت عليه من الحزم والتيقظ والسعى في الصلاح، الله يرضى عنك ويصلحك، وأنتم أقرب الناس إلينا، وأحظاهم لدينا، وأولاهم بنصرتنا وحمايتنا، وأن الله تعالى استرعانا إياكم، وجعل بيعتنا في أعناقكم، وهو سبحانه سائلكم عنها إن لم تقوموا بحقها.
وهؤلاء الأودَايَة طغوا وتجبروا، وعتوا في الأرض واستكبروا، وقالوا بزعمهم: مَنْ أشد منا قوة؟ فنقضوا البيعة، وشقوا عصا المسلمين، وفتحوا عليهم بابا من الفتنة عظيما، وقد قال صلى الله عليه وسلم: الفتنة نائمة ومن أيقظها فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، وقال عليه السلام: من فارق الجماعة قيد شبر مات ميتة جاهلية، وقد أوجب الله عليكم قتالهم بالكتاب والسنة، فشمروا عن ساعد الجد
إيمانا واحتسابا، وجاهدوا في الله حق جهاده فسيأخذهم الله على أيديكم وينفلكم أموالهم ويورثكم أرضهم وديارهم، وهذا أمر شرعى أوجبه الله عليكم وعلى غيركم من المسلمين، فلا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين.
فانهض إليهم مع الأعراب نهوض أمثالك، ونشطهم واقتف سيرة أخيك، فلو كان موجودا ما فعلوا هذا، ولكان رابطا عليهم بمكس، وهذه أول كلفة كلفناك بها، وفيها تظهر نجدتك وحزمك، والسلام في 21 ذى الحجة عام 1246".
وكان حلوله بمكناس عاشر محرم فاتح عام سبعة وأربعين ومائتين وألف، وفى يوم السبت الرابع عشر من الشهر المذكور نهض من مكناس لقمع مردة جروان الذين سعوا في الأرض الفساد، فأوقع بهم ومزق أحزابهم كل ممزق، ورجع للعاصمة من يومه، ولم يزل ثاويا بها وأهل الأهواء في طغيانهم يعمهون، والمترجم يكتب لعماله بالمراسى يأمرهم ببعث الأخبية والميرة وما يحتاج إليه، فبعث إليه القائد محمد عشعاش عامل تطاوين كل ما دعت الحاجة إليه من أخبية وكساوى وميرة إلى أن كان العيد النبوى، فأتت لتهنئة جنابه وفود القبائل تَتْرَى، ففرح الناس واستبشروا.
قال في إعراب الترجمان: ثم فرق -يعنى صاحب الترجمة- بعد العيد تلك الجموع، وانقلب كل واحد لبلده يود الرجوع، لأجل ما شاهد من بشائر التمكين، وعلامات النصر المكين، فعند ذلك قال الذين يريدون العتو في الأرض والفساد: لو كانت له قدرة ما استقر به الوساد، حيث فرق ما كان بيده، فكيف يعود من وصل إلى بلده.
ثم أعلن المترجم بقتال الفرقة الباغية، وشرذمة الودايا الطاغية، حتَّى تفئ إلى أمر الله.
وذلك يوم الاثنين الثامن عشر من ربيع النبوى المذكور، فكتب للقبائل الحوزية يستنهضهم فأتوه مسرعين، ووردت عليه القبائل الغربية وقائدهم ابن يشو، وخيم ذلك الجند العرمرم بضواحى مكناس، وعقد لقائد المسخرين القائد بوسلهام المذكور على ذلك الجيش، ونهض به لفاس لقطع جرثومة فساد شرار الودايا ومن شايعهم، ولما وصل لوادى ويسلين وجد نساء الودايا وصبيانهم أمامه بالألواح متشفعين، فرق لحالهم فتقدم إليه بوسلهام المذكور وقال له: يا سيدى نصرك الله، إن الودايا لم يتركوا للصلح محلا وليس العفو عنهم في هذه الحالة مما ينبغي، ولما كان بسايس أجلب بخيله على عتاة بنى مطير واستولى على ما لديهم من مال ومتمول، ولما اتصل الخبر بالودايا اجتمعوا مع أهل العدوة من فاس وأجمعوا أمرهم على الإصرار على التمرد والعدوان.
وفى رابع عشرى ربيع الثانى من العام، وجه كتابًا لأهل فاس ليقرأ على المنابر، قال صاحب إعراب الترجمان. فقرئ وحضر جميع الناس ولا خصوصية للأكابر، فألفى منهلا يروى ويمير، بفصاحة يكل عنها منطق بنى نمير، ولقد نثر الدر فيه من فيه، وازدادت فيه الطائفة الصالحة ما كانت تنويه من التنويه، بألفاظ رائقة، ومعانى فائقة، وأحاديث نبوية، وآيات من محكم القرآن، وهو في غاية الضبط والإتقان، ولعمرى إنه لباب الأدب وفصه، وعنوان الفصاحة ونصه هـ.
وقد تركت جلب نص ذلك الظهير هنا اختصارا، ومضمنه الإخبار بحال تلك الفرقة الفاسدة، ذات التجارة الكاسدة، وما تسببت فيه للإسلام والمسلمين من الفتن والأهوال، وأنه لما لم ينفع فيها تحذير ولا إنذار، ولم تزد المقابلة بالحلم واللين إلَّا طغيانا ونفورا، وانهماكا في هتك الحرم، تعين أن يقابلوا بالحرب والتضييق بعزائم قوية.
وقد أصدر إليهم ذلك الرقيم من المحل المعروف بالسوير حيث كان مخيمه،
وأعلمهم فيه أنَّه سينهض منه إلى وادى النجا أو العيون الزرق، ومنه إلى وادى فاس، ولما بلغوا وادى النجا أمر المترجم الديارة وابن يشو بالتوجه على باب الجيسة، والجيش البخاري على باب الساكمة، وتحالفوا على أن من لم يدخل من الباب المعين له لا تتزوج له بنت.
وخيم السلطان بجبل تغاة، وضرب به فسطاطه وخيمت الجيوش السلطانية من دار الأضياف إلى أعلى عين قادوس إلى وادى الملاح، وكان عدد تلك الجنود يناهز الخمسين ألفا، واشتعلت نيران الحرب وحمى الوطيس إلى أن صار الكور ينزل أمام المترجم، وذلك ثلاثة أيام قتل فيها بوسلهام المذكور.
ثم وقع الصلح بواسطة السيد الحاج العربى الوزانى، والطالب ابن جلول موقد نيران هذه الفتن بشروط شرطها الودايا، منها: عزل المولى عبد الهادى عن خطة القضاء، ومنها عزل الوزير ابن إدريس عن الوزارة، فلم يكن للمترجم بدل من قبول ذلك فعزل القاضي وولى مكانه السيد العربى الزرهونى، وولى مكان ابن إدريس المختار الجامعى، وتم الصلح وتفرقت أحزاب الضلال.
ثم بعد هذا كله لم يزل عرق فساد الودايا ينبض، فتصدى لهم المترجم ولم يقلع عنهم حتَّى أذعنوا قهرا، ولم يسعهم ومن شايعهم غير التوبة والإنابة فأقبلوا بصبيانهم وشيوخهم بالمصاحف والألواح متشفعين وبالنصر معلنين، وذلك في ثامن عشرى ربيع الثانى من العام.
ولم يزل صاحب الترجمة مخيمًا بجنوده خارج فاس إلى جمادى الثانية، فنهض لمكناسة، وكان حلوله به يوم السبت ثامن عشرى الشهر، وولى على فاس القائد الأحمر، وعزل الزرهونى عن القضاء، وولى مكانه أبا حسن على التسولى، ووجه الطاهر بن فرحون ومحمد بن مسعود والعكادى لسجن جزيرة الصويرة،
وأمر بصلبهم، واستعمل الأحمر العروى على فاس، واستخلف بها ولده أبا عبد الله سيدى محمد.
وقد ألف الناس في هذه القضية وذهب الكتاب في شرحها كل مذهب، ووقع لبعضهم تخليط واشتباه وعلى ما سقناه وأوضحناه تشد يد الضنين.
هذا وفى السنة نفسها سافر صاحب الترجمة لمراكش، وأخذ معه جماعة من أعيان الودايا، ولما استقر بها قبض عليهم وثقلهم بالحديد وتركهم بسجن مراكش نحو العامين، ثم قطع رأس اثنين منهم كما قطع أربعة من خلاف شاركوا في البغى والشقاق، ثم كتب لعامله على فاس بالقبض على رؤساء الفتنة من أهل فاس والتوجه بهم لسجن مراكش ففعل.
وفى عام 1248 وفد عليه أبو الربيع سليمان بن محمد الشيبى القرشي المكي أحد سدنة بيت الله الحرام، فبالغ في إكرامه ورده ردا جميلا، ولما بلغ في أوبته لطنجة اخترمته المنية بها رحمه الله.
وفى عام 1249 تسعة وأربعين، أصدر أوامره بترحيل الودايا من فاس وتفريقهم على فرق ثلاث: فرقة عين لنزولها ثغر العرائش، وفرقة أنزلها برباط الفتح، وفرقة بوادى نفيس حول الزاوية الشرادية.
وفى عام خمسين ومائتين وألف، كتب ظهيرا شريفا يحض فيه على الاتحاد وجمع الكلمة أمام الخطر الداهم، والجيش المهاجم، ونصه بعد الحمدلة والصلاة والطابع بداخله:"عبد الرحمن بن هشام الله وليه" وبدائرته: "ومن تكن برسول الله نصرته، البيت":
"خديمنا الأرضى القائد مصطفى بن إسماعيل وفقك الله وسددك، وسلام عليك ورحمة الله تعالى.
[صورة]
ظهير رحمانى إلى مصطفى بن إسماعيل في الندب للصلح بين الأمير عبد القادر الجزائرى وبين المتشاجرين معه
وبعد: وصلنا كتابك الأول والثانى مخبرا بما شجر بينكم وبين الحاج عبد القادر بن الحاج محيى الدين، فغير خاف على أحد ما يريد العدو الكافر لذلك القطر من تشتيت كلمته، وموت مقاتلته وإهانته، وسبى ذراريه ونسائه، أحال الله بينه وبين ما يريد بما شاء من قدرته، ودافع عن حوزة الإسلام، وأصلح أمر الخاص والعام، بجاه سيدنا ومولانا محمد عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام، ومهما ظهر بينكم خلاف وعدم ائتلاف إلَّا ونشط له عدو الدين، واعتقد أن حيلته ومكره تمكنا من المسلمين.
فعليكم أيها المسلمون بالتمسك بالكتاب والسنة وما أجمع عليه سلف صالح هذه الأمة من الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وتحمل الأذى، والصبر على ما آذى، فإن في طلبكم عدوا ماكرا، لم يزل فكره لأخذكم والحيل التي يتوصل بها لإهانتكم حائرا، فتفطنوا واستيقظوا من سنة الغفلة، واعملوا فيما يدرأ عنكم هذه الثلمة، وتضرعوا لمولانا جلت قدرته في كشف الرجز عنكم، وأزيلوا حظ النفس الأمارة، واسعوا فيما يجلب لكم الألفة قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ
…
(10)} [الحجرات: 10] وقال عز من قائل: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ
…
(29)} [الفتح: 29].
وأنت في ذلك القطر من العقلا، والرؤساء النبلا، فكان من حقك والأنسب لمثلك أن تصلح ما أفسد الحاج عبد القادر، وتسعى في ألفة المسلمين، وتنظر في العواقب، وتقصد بذلك وجه الله وحياطة المسلمين.
وعليه فإن أردت رضا الله ثم رضانا، فاجتهد في صلح بين خدامنا الدواثر والزمالة، والشيخ ابن الغمارى مع الحاج عبد القادر بن محيى الدين، لتجتمع كلمة المسلمين ويكونوا يدا واحدة على من سواهم، ونفسا متحدة على من عاداهم، وقذى في عين من ناوأهم، والله يتولى هداكم، واقصدوا بذلك وجه
الله والدار الآخرة، قال تعالى: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ
…
(114)} [النساء: 114]، وفضل الجهاد والترغيب فيه وما أعبد الله للمجاهدين في سبيله كتابا وسنة وإجماعا مما يعلمه كل من يعقل بالضرورة، فلا حاجة لنصب البراهين عليه:
وليس يصح في الأذهان شيء
…
إذا احتاج النهار إلى دليل
وها نحن وجهنا من خاصتنا وخيار جيش أخوالنا الأوداية، صاحبنا، حامله محمد بن العربى ليحضر الصلح المذكور، فإياك والتراخى، أصلحك الله والسلام في مهل المحرم الحرام فاتح عام 1250".
ومما يدل على أنَّه -مع تحمله أعباء الخلافة وقيامه بواجباتها قدر المستطاع- لم ينس نصيبه من الدنيا ما كتب به لابن عمه المولى الهاشمي ابن ملوك فيما يتعلق بجنان له ما نصه:
"ولد عمنا الأرضى، مولاى الهاشمي بن ملوك، سلام عليك ورحمة الله تعالى.
وبعد: فقد بلغنا أن سور الجنان كمل فاجعل له أساسا داخل السور حائطا به من كل الجهات عرضه ثمانية أشبار، واشتغل بجمع الحجر والجير ليكونا مهيأين ميسرين، وحين نكون بالغرب نوجه لكم كيفية الفصالة بحول الله، وما بداخل الجنان المذكور من الكدا ومدر الذور يجعل في الحفر التي به وبالأساس المذكور، والسلام في 24 من المحرم فاتح عام 1249" صح من أصله.
ومما يدل على ما كان من تبادل التجارة مع الخارج في عهده ما كتب به لأمناء العدوتين، وعامل الرباط، ونصه بعد الحمدلة والصلاة والطابع بداخله "عبد الرحمن بن هشام الله وليه":
"خدامنا أمناء العدوتين القائد محمد السويسى، والحاج بناصر غنام، والحاج العربى معنين أعانكم الله، وسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
وبعد: فقد سرحنا لخديمنا الحاج عبد الكريم الغسال وسق الصوف والزيت من مرسى العدوتين وما أُبيح وسقه من مراسينا، وأذناه أن ينوب عنه من شاء ويعزله متى شاء، فاستوصوا به خيرا، وسرحوا له ذلك والكل بالصاكة المتعارفة التي عليها العمل بجميع ثغورنا المحروسة بالله، والسلام وفى 18 من جمادى الثانية عام 1349".
وبعده بخط من يجب: "استقل قابلها بأصلها فماثلته وأشهده الفقيه الأجل، العالم العلامة الأفضل، المدرس الخطيب الأنبل، قاضى الجماعة بفاس الإدريسية وما والاها وهو (فلان
…
) أعزه الله تعالى وحرسها باستقلال الرسم أعلاه عنده الاستقلال التام بواجبه، وهو حفظه الله تعالى وأكرمه بحيث يجب ذلك من حيث ذكر، وفى تاسع عشر جمادى الثانية عام تسعة وأربعين ومائتين وألف (فلان
…
) وعبد ربه (أحمد البكرى
…
الله برحمته).
وبعده: الحمد لله أديا فقبلا واعلم به عبد ربه تعالى (فلان
…
) ".
وهذا الرجل المصرح له بوسق ما ذكر كان من الأمناء ذوى المروءة والصدق، حسبما يدل على ذلك ظهيران شريفان نص أولهما بعد الحمدلة والصلاة والطابع الكبير:
"يعلم من كتابنا هذا أعلى الله قدره، وأطلع في سماء المعالى شمسه المنيرة وبدره، بيد حامله المتمسك بالله تعالى ثم به خديمنا الحاج عبد الكريم بن محمد الغسال الطنجاوى، يتعرف منه بحول الله التام، وشامل يمنه العام، أننا أسدلنا عليه أردية العناية منا والتوقير، من ولاة أمرنا وحملناه على كاهل المبرة والإكرام،
والرعى الجميل المستدام، فلا يكلف بتكليف، ولا يوظف عليه وظيف، لما ثبت لدينا من مروءته ودينه وصدقه فعلى الواقف عليه من خدامنا وولاة أمرنا العمل بما فيه ولا يحيد عن كريم مذهبه، صدر به الأمر المعتز بالله في 21 من ذى القعدة عام 1243".
ونص ثانيهما بعد الحمدلة والصلاة والطابع الكبير:
"كتابنا هذا أسماه الله وأعز أمره، وأطلع في سماء المعالى شمسه المنيرة وبدره، يعلم منه سدلنا بحول الله وقوته، وشامل يمنه ومنته، على ما سكه خديمنا الأمين الأرضى الحاج عبد الكريم الغسال أردية التوقير والاحترام، وحملناه على كاهل المبرة والإكرام، والرعى الجميل المستدام، لما هو عليه من الدين والمروءة والعفاف إذ ينبغي لمن كان كذلك أن يميز ويوقر ويحترم، فنأمر من يقف عليه من عمالنا وولاة أمرنا أن يعمل به، ولا يحيد عن كريم مذهبه، وقد أخرجناه من زمرة العوام فلا يسام معهم بتكليف، ولا يوظف عليه وظيف، صدر به أمرنا المعتز بالله في 23 ذى الحجة الحرام عام 1249".
وفى ثانى محرم من سنة 1250 المذكورة أصدر ظهيرا للشرفاء العلويين في شأن توزيع صلتهم عليهم نصه بعد الحمدلة والصلاة والطابع:
"يعلم من كتابنا هذا أسماه الله وأعز أمره، وأطلع في سماء المعالى شمسه المنيرة وبدره، أننا جددنا بحول الله وقوته، وشامل يمنه ومنته، لأبناء عمنا الشرفاء العلويين أهل الدار الكبيرة وسكان المدينة حكم ظهير عمنا رحمه الله الَّذي بأيديهم وأقررناهم على ما جعل لهم فيه، من تفريق ما يوصلون به من بيت المال على الصغير منهم والكبير، وعدم إنفاق الوالد على ولده المطلقة أمه من واجبه في الصلة، بل من متاع الوالد لوجوب إنفاقه عليه شرعا، وإنفاق واجبه في الصلة على ولده إن امتنع من الإنفاق عليه، لينكفوا بهذا عن الطلاق، فالواقف عليه
يعمل به ولا يحد عن كريم مذهبه، والسلام في ثانى المحرم الحرام فاتح عام 1250".
وفى جمادى الأولى من العام أذن لقاسم حصار والذمى الياهو الزاكورى بضرب فلوس النحاس بالرباط ونص الإذن بذلك:
"يعلم من كتابنا هذا أعلى الله قدره، وأنفذ في البسيطة أمره، وجعل فيما يرضي الله طيبه ونشره، أننا أذنا حامليه الحاج قاسم حصار والذمى الياهو ابن إبراهام الزكورى في ضرب سكة الفلوس برباط الفتح قطع ثمانية عشر موزونات في الرطل، وأن لا يضيفا للنحاس أكثر مما يستوجبه من خفيف وروح التوتية، وكل ما يضربانه ينظره الأمناء، فما ألفوه على الكيفية الموصوفة أجازوه، ويروج بأيدى الناس، وما لا كسروه ولا يروج بأيدى الناس، وإن أخفيا منه شيئًا ووجد يعاقبان، وقصرنا عليهما شراء شظاية النحاس بالعدوتين سَلَا، ورباط الفتح على أن يؤديا لبيت المال وفره الله سبعمائة مثقال عن كل سنة.
ونأمر خديمنا القائد محمد السويسى أن يشد عضدهما على ذلك ويعينهما فيما احتاجا إليه فيه، ألحق عليهما وأصلح، ونأمر خديمنا القائد والسلام في 3 جمادى الأولى عام 1250".
وفى رجب منه كتب لهْ عامله القائد العربى السعيدى بما نصه من أصله بعد الحمدلة والصلاة:
"بعد تقبيل حاشية بساط مولانا الشريف، ولثم الثرى تحت قدمه المنيف، سيدنا أمير المؤمنين وناصر الدين، ناشر لواء العدل على جماعة المسلمين، سيدنا ومولانا عبد الرحمن بن مولانا هشام أدام الله نصره، وكبت عدوه وخلد في الصالحات ذكره، آمين.
[صورة]
إذن رحمانى للحاج قاسم حصار والذمى الزاكورى بضرب سكة الفلوس بالرباط
أما بعد الإعلام لمولانا أيده الله ونصره: أنه ورد على العبد من عند خديم سيدنا القونص يهودي ابن عليل أقجار قزدير مطبوع عليه، وداخله مكاتب لمولانا ورسوم كنطرادة الصلح مع جنس نابليطان بذكره فها هو يصل حضرة مولانا العالية بالله صحبة فارسين مع إخواننا التباعة خدام سيدنا، كانوا هنا على الخدمة وتوجهوا لخدمتهم مع مولانا، ثم الإعلام به لمولانا أيده الله أنه ورد علينا كتاب نجل مولانا سيدى محمد بارك الله لنا فيه يأمرنا فيه بتوجيه خمسين فارسا ادالة للريف لعند خديم سيدنا القائد محمد بن عبد الصادق بقصد الخدمة والانتفاع معه، ونمكنهم من راتبهم خمسين أوقية لكل فارس منهم، ومقدمين خمسة وسبعين أوقية، وقائد المائة عشرة مثاقيل، وذلك من سائر سيدنا من عند خديم سيدنا الأمين القائد عبد الخالق اشعاش، فامتثلنا أمر سيدنا ومكناهم بما قال ووجهناهم للخدمة فالله يقضى بهم غرض مولانا ويبارك لنا في عمره آمين.
ثم الإعلام به لسيدنا أن الذمى زنكوط من آل ذمة طنجة الذى هو في علم سيدنا كان يطلب من مولانا يوسق البقر من طنجة ولم يساعده مولانا لذلك، وكان بمدينة مكناس وهرب منها إلى وهران، ومعه اثنان من اليهود لعنهم الله، فلما خرج عن تلمسان اتصلوا به القطاع وقتلوه هو ومن معه، وكانت عليه بذمته لمولانا من صاكة المرسى نحو أربعة مثقال ومائتين مثقالا وخمسين أوقية، تخلدت بذمته الآن، ولم يكن له ما يوفى ما بذمته سوى دار سكناه إن كان بيعها للمسلمين تساوى ستمائة مثقال إلى سبعمائة، كان أمر سيدنا ببيعها لليهود تزيد على تلك القيمة والله أعلم.
وهذا دون ما كان بذمته أيضا من صاكة سيدنا كان أعطى فيه ضامنا للأمين، وعليه ديون للمسعودى وغيره ما ينيف عن ألفين مثقالا، بهذا وجب الإعلام لمولانا بارك الله لنا في عمره وأبقاه لدى الأنام، وهذه النواحى سالمة والحمد لله
ولا ما يخطر في البال من فضل الله ووجود مولانا، والعبد يطلب مولاه صالح الأدعية لنا ولعقبنا والسلام في رجب الفرد الحرام عام 1250.
خديم المقام العالى بالله العربي بن على السعيدى" صح من أصله بلفظه.
وفى هذا العام ولى ابن عمه وصهره على بنته المصونة المولاة خديجة المولى عبد الهادى خطبة القضاء بفاس.
وفى شوال عام 1251 كتب لخليفته ولده بما نصه بعد الحمدلة والصلاة والطابع الكبير:
"ولدنا البار الأرضى، سيدى محمد أصلحك الله ورضى عنك، وسلام عليك ورحمة الله تعالى وبركاته.
وبعد: فقد بلغنا دخول العدو الكافر دمره الله لتلمسان جبرها الله، وتحققنا أن ذلك من خيانة المسلمين وموالاتهم للنصارى والعياذ بالله، فإنا لله وإنا إليه راجعون على غربة الإسلام وأهله، وقد طلب (
…
كذا) خديمنا القائد العربي الرحمانى شدة احتياج المسلمين للإعانة والمدد بالبارود والخفيف والعدة، فبوصول كتابنا هذا إليك وجه له ثلاثين قنطارا من البارود وما يكفيها من الخفيف يجعل ذلك تحت يديه احتياطا إن احتاجوا إليه يجدونه موجودا، وانظر إن كان تحت يدك من المكاحل نحو المائة والخمسين اجتمعت بالخزين من دفع أو غيره، وجهها له مع ذلك.
وإن لم تتيسر ففى البارود والخفيف كفاية وهو العمدة التي تدعو إليها الضرورة، وقد كتبنا للشيخ أبى زيان بالانتجاع بحلته والنزول بطرف الإيالة في الحدود التي حدها الأسلاف قدسهم الله مع الترك ولا يتعداها، وأمرنا أن يستكثر من الخيل، ويأمر بالاستظهار بالعدة والعدد، ويحشد ما قدر عليه من خيل إيالته،
ويقيم هناك بحلته أياما كأنه متبع الكلأ لرعى المواشى على عادتهم في الانتجاع، حتى يشيع خبره في الآفاق، ويسمع العدو الكافر دمره الله قوة الإسلام واستعداده، فلابد كاتبه بذلك وأكد عليه وحرضه أتم التحريض، ويوافيك كتاب إليه فوجهه على يدلّ عزما، والسلام في 15 من شوال عام 1251" صح من أصله.
وفى عام 1253 أصدر ظهير للحاج قاسم حصار السلوى المتقدم الذكر بالتوقير والاحترام، ونصه بعد الحمدلة والصلاة والطابع الصغير بداخله "عبد الرحمن بن هشام الله وليه".
"كتابنا هذا أسماه الله وأعز أمره، وخلد في الصالحات طيه ونشره، بيد المتمسك بالله تعالى ثم به خديمنا الأرضى الحاج قاسم حصار السلوى يتعرف منه بحول الله وقوته، وشامل يمنه ومتته، أنا أسدلنا عليه أردية التوقير والاحترام، وحملناه على كاهل المبرة والإكرام، على ممر الليالى والأيام، لمحبته في جانبنا العالى بالله تعالى، وحسن خدمته فالواقف عليه يعمل بمقتضاه، ويقف عند حده ولا يتعداه، صدر به أمرنا المعتز بالله في ثالث ربيع الأول النبوى الأنور عام ثلاثة وخمسين ومائتين وألف".
وفى عام 1255 كتب له خديمه محمد عشعاش بما نصه من أصله بعد الحمدلة والصلاة:
"مولانا السلطان المساجد الهمام، الرافل في حلل الإجلال والإعظام، قرة الأعيان، أمير المؤمنين سيدنا مولانا عبد الرحمن، بارك الله في عمر سيدى وزاده شرفا وتعظيما، وسلام الله ورحماته وبركاته على الحضرة المحروسة المحفوظة بالله تعالى.
وبعد: لثم حاشية البساط الكريم، وأداء ما يجب للمقام الرفيع من
التعظيم، فقد ورد كتاب سيدى المعظم المبجل في شأن تفصيل الألفى كسوة من الكارية كما وصف، فبوصوله فصل مما حضر من الكارية محمد 1200 وبعثت لجبل طارق على ما يكون به الكمال، وأما الملف الموفر من الأعشار فبوصول إذن سيدنا في بيعه بيع بعشرة في المائة فائدة، فإن كان لا زال مراد سيدى في كساوى الملف فليأمر بما يريد منه عددا ووصفا يبعث عليه وتصنع بحزم وعزم، وكساوى الكتان نطلب من سيدى أيده الله الإذن فيما يكون بها، هل توجه بوجدانها أم حتى يأمر سيدى متى شاء؟ وما ذكر سيدى أيده الله على شأن قفاطين النساء يجعل بدل السفيفة كمخة فذلك العمل فيما يوجه من قفاطين النساء، نعم إن كان سيدى يريد ذلك في قفاطين الرجال فليأمر بذلك، يكون في التالي للقابل والعمل على ما يأمر به سيدى أدام الله نصره وتأييده وعلى الخدمة والسلام في يوم الثلاثاء 4 رمضان المعظم عام 1255.
الخديم محمد أشعاش وفقه الله آمين" صح من أصله مباشرة بلفظه.
وفى عام 1256 كتب لخليفته بما نصه:
"ولدنا الأبر الأرضى، سيدى محمد، أصلحك الله وسلام عليك ورحمة الله تعالى وبركاته.
وبعد: فقد كتبنا لك هذا بعد حلولنا الصخرة وإقامتنا بها الاثنين أول شعبان، ونقيم بها يوما آخر للاستراحة، وننهض إن شاء الله إلى ماز (1) ومنها إلى بين الصاع وعين البل، فبوصول كتابنا هذا إليك عين للنهوض معك جميع خيل الجيش الفاسى ولا يبقى هناك إلا ما لابد منه، وادفع لهم راتبا من عند أمناء فاس خمسين أوقية للمخزنى، وسبعة مثاقيل ونصف للمقدم، وعشرة مثاقيل لقائد
(1) في هامش المطبوع: "محل بين تادلا وزعير والشاوية".
[صورة]
ظهير رحمانى للحاج أحمد عواد بوصول جزية أهل الذمة بسلا
المائة، وانهض على بركة الله لحضرتنا العالية بالله قاصدا لمكناسة على مهل، ويكون مبيتك بوادى النجا، ومنه لمكناسة إن شاء الله.
وقد أمرنا ابن العواد أن يهيئ للتوجه صحبتك ثلاثمائة من خيل عبيد سيدى البخارى، تنتظرك بمكناسة، وقبض الراتب مثل الجيش الفاسى، وأمرنا البهلول الشرادى أن يعين من الشراردة مائتى فارس بالتثنية ويأمرها بملاقاتك حيث تعين لهم، فإذا وصلت مكناسة تقص في الخبر عن أمر زمور زيادة على ما عندك من خبرهم، فإن تحقق عندك صلاحهم فمر حراك الشراردة يلحقون بك لمكناسة، وادفع لهم ثلاثين أوقية للمخزنى، وأربعين أوقية للمقدم، وخمسين أوقية لقائد المائة.
وانهض على بلاد زمور قاصدا لرباط الفتح، وإن كانوا على غير استقامة تامة فأظهر عذرا موجبا لانحرافك عن بلادهم، واقدم على طريق جروان وقدم لحراك الشراردة الأمر بملاقاتك حيث تعين، ويكون راتبهم معك لتدفعه لهم عند الملاقاة لتوافينا بالرباط إن شاء الله عند حلولنا به، فيتوجه حراك الحوز معك، فإنهم راغبون في توجيهك صحبتهم.
وما كان من أمور تافيلالت على يد الحاج الطالب مره بالقيام به وقضائه، وما كان على يد السيد علال الشامى كذلك، وأمر وصيفنا فرج بأن يصير إلينا كتب تافيلالت مهما وردت، والسلام في فاتح شعبان المبارك عام 1256" صح من أصله الموجود بالمكتبة الكتانية.
وفيه كتب بما نصه بعد الحمدلة والصلاة والطابع:
"خديمنا الأرضى الحاج أحمد عواد، وفقك الله وسلام عليك ورحمة الله تعالى وبركاته.
وبعد: فقد وصل لحضرتنا العلية بالله كتابك وصحبته ألف مثقال جزية أهل ذمة سَلا، حسبما بينت، وذلك على يد خديمنا الطالب محمد السويسى، وذلك جزية ثلاث سنين مضت عن تاريخه والسلام في 24 محرم الحرام عام 1256".
وبعده: "الحمد لله أعلم بأعمال الكتاب الشريف أعلاه عبد الله تعالى فلان
…
".
وفيه كتب لقاضى سَلَا بما يكون عليه العمل في أمر الأملاك بعد حيازتهما عشر سنين بما نصه:
"الفقيه القاضى السيد محمد زنيبر أرشدك الله، وسلام عليك ورحمة الله تعالى، وصلنا كتابك وعرفنا ما فيه وعلمنا أن ما حكم به علماء الرباط في قضية بوعمرو بن الحسن الشاكى مع الحاج محمد أمغار السلوى موافق لما حكمت به فيها قبلهم، فالحمد لله على موافقة الحق، وعلمنا أن الشاكى لا حق له، وإنما هو ملد ونحن نسمع ممن ورد لبابنا السعيد شاكيا ونرد قضيته لمن يبحث فيها من الحكام تفصيا من العهدة، لأنا لا نعلم المحق من المبطل، وحيث تحقق أن الشاكى ملد فبوصول كتابنا هذا إليك اجلده ثمانين جلدة أدبا له وزجرا لأمثاله، والعمل في أمر الأملاك على ما في كتاب عمنا رحمه الله الذى وجهت النسخة منه من أن من ملك ملكا مدة من عشرة أعوام لا ينزع من يده ولا يسمع ممن ادعى فيه بدعوى إن كان حاضرا ساكتا والسلام في 14 ذى الحجة الحرام متم عام 1256".
وعلى هذا الظهير ذهب ولده السلطان سيدى محمد، فقد كتب لقاضى تلك المدينة في عهده بما نصه:
"الفقيه القاضى السيد العربي بن منصور السلاوى، سددك الله، وسلام عليك ورحمة الله تعالى وبركاته.
وبعد: فإن الناس في هذا الوقت اعتادوا القيام في الأملاك المبيعة بل قديما لارتفاع ثمنها ويلتمسون لذلك أسبابا يفتحون بها باب القيام والخصام بعد سكوتهم عنها وهى في يد مشتريها وتصرفه المدة الطويلة، وذلك مؤد إلى الشغب، وكثرة الخصام المطلوب تقليله ما أمكن، ومن جملة ذلك المعلم أحمد أحسيسو السلاوى الحصار، اشترى دارًا من بعض ورثة عمر عواد ما يزيد على الثلاث عشرة سنة صفقة، وأمضى له الباقون، وأفتى له من يعتبر من الفقهاء بإمضاء البيع وصحته كما رسمه بيده، وقد كان مولانا المقدس بالله كتب للقاضى السيد محمد زنيبر بأن العمل في أمر الأملاك على ما في كتاب عمنا مولانا سليمان رحمهم الله، من أن من ملك ملكا عشرة أعوام لا ينزع من يده، ولا يسمع ممن ادعى فيه بدعوى إن كان حاضرا ساكتا، ونحن على أثرهما في ذلك، فنأمرك أن تنتهج نهجه، وحيث أفتى من يعتبر من الفقهاء بصحة شراء أحسيسو المذكور، وطال أمره زيادة على المدة المذكورة، فلا تسمع للقائم عليه فيه كلاما والسلام في 20 شوال الأبرك 1282".
وبعده بخط من يجب حفظه الله استقل، وبعده:
انتهت قوبلت بأصلها فماثلته ووافقته وأشهده الفقيه الأجل، العلامة الأفضل، قاضى محروسة سلا ونواحيها حينه وهو (محمد العربي بن أحمد بن منصور لطف الله به) أعزه الله تعالى بعز طاعته وحرسها بثبوت المنتسخ أعلاه الثبوت التام، لصحته عنده وثبوته لديه بواجبه، وهو حفظه الله ورعاه وسدده وكلاه، بحيث يجب له ذلك من حيث ذكر دامت كرامته، وتوالت بحمد الله سعادته ومجادته.
وفى ثامن عشرى جمادى الثانية عام ثلاثة وثمانين ومائتين وألف فوقه والاستقلال عقبهما بخط من يجب رعاه الله، بطرته: وبعده بخط من يجب حفظه
الله استقل، بين أسطره ونص خطابه، أصلح نسخة، لحصاء، له، ضرب بين تعالى ووصلنا صح به عبيد ربه محمد إدريس بن محمد الجعائدى الحسنى لطف الله به في الدارين آمين بين فقته، وأشهده صح به محمد وعبيد الله محمد العربي ابن محمد بن سعيد لطف الله به في الدارين.
ونص الثبوت عقبه:
الحمد لله أديا لدى أصلا وإلحاقا، فقبل وأعلم به أسير نفسه محمد العربي بن أحمد بن منصور لطف الله به، ونص الأعمال أسفله بخط من يجب رعاه الله: أعملته. وبعده ثبوت ثان نصه:
انتهت فقوبلت بأصلها فماثلته ووافقته وأشهده الفقيه الأجل العالم العلامة الأمثل، الدراكة الأنبل، المحدث الحجة الأكمل، قاضى سلا ونواحيها وخطيب أعظمها حينه ووقته وهو أبو الحسن (فلان
…
) أعزه الله تعالى بعز طاعته، وحرسها بثبوت المنتسخ أعلاه الثبوت التام لصحته عنده، وثبوته لديه بواجبه، وهو حفظه الله ورعاه وسدده وكلاه، بحيث يجب له ذلك من حيث ذكر، دامت كرامته وتوالت بحمد الله سعادته ومجادته، وفى ثالث عشرى ربيع الثانى عام عشرة وثلاثمائة وألف بين أسطره من من لطخ بين مولانا والمقدس صح به عبيد ربه تعالى (فلان
…
.) بشر محل وفى ثالث عشرى ربيع الثانى عام عشرة وثلاثمائة صح به (فلان
…
. ").
وفى عام 1257 ورد على صاحب الترجمة العلامة الأديب السْيخ يوسف المدنى فأكرم وفادته وأحسن إليه.
وفى عام 1258 كتب لولده الخليفة بما نصه بعد الحمدلة والصلاة والطابع:
"ولدنا الأبر الأرضى، سيدى محمد أصلحك الله وسلام عليك ورحمة الله تعالى وبركاته.
وبعد: فتصلك كتب فيها أخبار المسلمين مع العدو الكافر، قصمه الله بناحية الشرق وغيره، وجهناها لك لتطلع على ما فيها وتعلم حقيقته، فإن الأعداء أهلكم الله حسبوا كل بيضاء شحمة، وقويت أطماعهم ومنتهم أنفسهم وهموا بما لم ينالوا، ولما استولوا على تلمسان ورأوا ما عليه أهل حوزها من التواكل والتخاذل والفشل والرعب منه والفرار أمامه، ظنوا أن هذه الناحية مثل تلك، وأرادوا تعدى الحدود ومد اليد إلى الإيالة، وأعملوا الوجهة لها بعد الوجهة الأولى التي لم يحضر هناك أحد من الجيش، فلما دنوا وجدوا المخازنية أمامهم في شرذمة فثبتوا وناوشهم خيل المتنصرة القتال فردوهم على أعقابهم، فخشى العدو على نفسه وفر ليلا.
ولما عاين من نجدتهم وثباتهم ما لا قبل له به وتخلف ظنه، كتب لطاغيته بذلك، وأرادوا إعمال التمويه والتلبيس ونصب المكائد بالتخيلات والأوهام، فظهرت بعض قراصينهم بنواحى طنجة والعرائش، فأمرنا جميع القبائل بإظهار القوة والاستظهار بالعدة والعدد ليرى من ذلك ما يسوءه ويبلغ الشاهد الغائب، ولا ينبغى إلا ذلك، فإنه دمره الله صاحب غدر ونكر وتلبيس، لا تؤمن غوائله، ولا تنقضى حيله ومكائده.
فلتكتب لعمال الثغور وعمال القبائل الموالية لها لإظهار القوة والاستظهار بالعدة وكثرة العدد، فإن ذلك مما يقوى سواد المسلمين، ويفت في أعضاد الكافرين فقد قال الله تعالى: {
…
لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفُّارَ
…
(29)} [الفتح: 29] مثل أن تأمر خديمنا عبد الله أبه (1)، وسليمان بن الطاهر بحشد عديد قبائلهما، خيلا ورماة للصويرة، وعمارة ساحتها بلعب البارود وغيره، مما يغيظ العدو، ويقيمون يومين
(1) في هامش المطبوع: "بضم الهمزة وكسر الموحدة تحت والهاء، أحد كبار عمال سوس وصناديدهم".
أو ثلاثة، وبعد ذلك ينصرف الجل ويبقى البعض، ويجعلون عمارة ذلك الثغر مناوبة، إذا توجهت طائفة وردت أخرى، وأمر ابن الغنيمى يفعل مثل ذلك بآسفى، وابن إبراهيم يفعل مثل ذلك في فحص المجاهدين، والحاج موسى كذلك، فإن ذلك مما يغيظ الكفار ويفت في أعضادهم ويرهب المشركين ويرعبهم، وفيه مغفرة الله ورضوانه، فإن كل ما فيه إغاظة عبدة الأوثان، وإرغام أشياع الشيطان فيه رضا الرحمن والفوز بالثواب والأمان، قال الله سبحانه: {
…
وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ
…
} [التوبة: 120] الآيات.
ولتأمر عمال الثغور الصويرة وآسفى والجديدة وآرمور بمباشرة آلة الحرب ونصبها على كراريطها في مواضعها، ووضع الإقامة حذوها، وإصلاح ما احتاج إلى الإصلاح من ذلك وتهيئته ليبلغ العدو من ذلك ما يغيظه ويسوءه، فإنه أهلكه الله عين وأذن على ما يتجدد من ذلك ولا يغيب عنه شئ منه، والله يرفع راية الإسلام، ويخذل عبدة الأصنام بجاه النبى عليه الصلاة والسلام في 4 ربيع الثانى عام 1258"، صح من أصله الموجود بالمكتبة الكتانية.
وبنفس التاريخ كتب لعاملي العدوتين ظهيرا في شأن المناوشات الواقعة على الحدود، يأمرهما بأخذ الأهبة والاستعداد وتهيئ الأبراج والمدافع، واستعراض رجالها.
ونصه بعد الحمدلة والصلاة والتوقيع السلطانى صدر الكتاب "عبد الرحمن ابن هشام وفقه الله" بخطه كما كان يفعل أحيانا في بعض رسائله:
خديمينا الأنجدين القائد محمد بن الحاج محمد السويسى، والقائد بوعمران ابن الحاج الطاهر فنيش السلوى، وفقكم الله وسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
[صورة]
ظهير رحماني لعاملى العدوتين الرباط وسلا بالاستعداد للطوارئ المنتظرة من جانب فرنسا ويرى خط السلطان صدر الظهير
وبعد: فاعلموا أن عدو الدين الفرنصيص دمره الله لما استولى على تلمسان ردها الله دار إسلام، ورأى اضطراب أحوال قبائل تلك الناحية وفشلهم عن ملاقاته وفرارهم أمامه، ظن أن كل الناس كذلك، وحسب كل بيضاء شحمة، فسولت له نفسه لعنه الله التشوف إلى قبائل إيالتنا السعيدة وإرهابهم بتهويل أمره ونصب حيله ومكره بدورانه بعسكره المخذول، ومحاكته للحدود ليرهب ضعفة العقول ويرعبهم، فتحرك على عادته وأراد النزول بمحل نزل به قبل توجه جيشنا المنصور لتلك الناحية، فلما قرب منه وجد بعض خيل المخزنية أمامه فنزل على بعد، لعلهم يتزلزلون فثبتوا، وناوشهم خيل المتنصرة القتال فردوهم أعقابهم وولوا إلى العدو منهزمين، فسقط في يده وهرب ليلا، فلما رأى ما لا قبل له به أراد إعمال المكر والحيلة بظهور القوة الإسلامية، والاستظهار بالعدة والعدد، ليرى ما يسوءه ويزداد غيظا وهوَانًا، ويعلم أن الإسلام والحمد لله بأنصاره، وأن أمة النبى عليه الصلاة والسلام راغبة في جهاده ساعية في دماره.
فبوصول كتابنا هذا إليكم أظهروا أخذ الأهبة والاستعداد بتركيب آلات الحرب في محالها على كراريطها وعجلاتها في صقائل العدوتين، وأنزلوا حول كل مدفع ومهراس عددا من آلاف حربه من الكور والبنب وغير ذلك، وأظهروا الحزم بتفقد العدة ومسحها وتشميسها وتسراد الرجال أهل العدة، وتعمير الصقائل والأبراج بأهلها، ليصل العدو ذلك، فإنه لا يغيب عنه شئ، لأن له عيونا يطالعونه بذلك، ويبلغ الشاهد الغائب، وفى ذلك من توفر أَجْر نيّة الجهاد، ونيل رضوان الله ما يتبادر إليه المؤمنون ويتسابق إليه الموقنون، فإن في ذلك إغاظة الكفار، وإرغام الشيطان وأشياعه، وكل ما فيه إرغام الشيطان فيه رضا الرحمن.
والقصد بذلك إظهار عزة الإسلام، وإلا فالعدو قصمه الله في هوان وصغار، وذلة واحتقار، فالمراسى معمورة والحمد لله بحاميتها، والثغور مشحونة
بعدة الحرب وآلتها، وكل عين أمامها إصبع ما تحرك في ناحية إلا ويلقى من أهلها خسارا، ولا يطمع في جهة إلا وينال هلاكا وبوارا، بحول الله وقوته، وهذا الأمر افعلوه عند ظهور شئ، والسلام في 4 ربيع الثانى عام 1258".
ثم كتب له بما نصه:
"ولدنا البار الأرضى، سيدى محمد أصلحك الله، وسلام عليك ورحمة الله تعالى وبركاته.
وبعد: فاعلم أن المهدى الشرادى كنا حسَّنَّا به الظن، حيث أظهر التنسك وأبدى النصيحة والتودد مع أخذ الحذر منه، ووليناه على قبائل أهل سوس طلبا لجمع كلمتهم، حيث رأينا رغبتهم فيه وميلهم إليه، حتى طلب التوجه للمشرق فساعدناه وجعلنا خليفته البهلول كما في علمك، ولما سافر صرحنا له بالاستقرار، ونحن في خلال ذلك نلتمس انحرافهم عن المهدى وانقطاعهم عن محبته، ولما قدم أعرضنا عنه وأقررنا الوالى على عمله، فكان لا يبرم أمرًا دون ولده في غيبته ودونه في حضوره حتى ألقى الله العدواة والبغضاء بينهم وبين العامل، وسعى في فساد القبيلة عليه فلم يصلح الله له عملا ولا بلغه من ذلك أملا، بل رجع شؤم سعيه عليه، وعادت سهام فساده إليه، فأصبح وقد كشف الله عواره، وأبلى أسراره، وأطلقت ألسنة خاصتهم وعامتهم في ثلبه، وإبداء العجر والبجر من عيبه، ورموه عن قوس واحدة، وهتكوا حرمته وخرقوا عوائده، ولم يبق مصمما على اتباعه غير البعض من زواره، أمرناهم بالانتقال لفاس فكان مبلغ شيعته مائة ونيفا وخمسين فارسا وما يناهز الأربعمائة رام، بعد ادعائهم أن الكل له تابع وبعد انتقالهم جعلوا يتسللون فرادى وأزواجا، ويرغبون في الرجوع أفواجا، وتطرقت إليه ألسنتهم بكشف ما كان يسر من قلة الدين، والتلبيس بالانتساب للصالحين، حتى ذكرت شبانية كانت بداره قالوا على وجه الفساد فأخرجها عند توقع الشرّ به.
وحدثت أنه يبول على المصحف الكريم وموضع خلوته وقبلة استجابة دعوته المستراح، وأنه تارك للصلاة، مشتغل بالسحريات، وصدقتها في دعواها زوجته بنت عمه وشاع ذلك وذاع، وملا الأفواه والأسماع، وحدث به العامة عن الخاصة وعمدوا إلى زريبته فحرقوها، وإلى مخازنه فنهبوها وفرقوها، ومن سر سريرة ألبسه الله رداءها، وأصبحوا اليوم وقد خرجوا من الظلمات إلى النور، يتأسفون على ما فاتهم من الاغترار به وتقلبات الأمور، وقد اختفى بحيث لا يدرى محله، وعامله الله بما هو أهله، فكان طلب الانتقال إلى المشرق بأولاده، وإعراء الأرض من فساده، وسنجيبه إلى ذلك إبعادا له عن هذه الأقطار وننشد:
إذا ذهب الحمار بأم عمرو
…
فلا رجعت ولا رجع الحمار
وأيضا اعلم أن ابن العواد ظهر منه من الفساد ما لم يكن في حساب، واغتررنا ببكائه وما كان يظهر من الدين والطهارة وكثرة إيمانه بنصيحته في هذا الجيش وشفقته، وكانت تصدر منه هنات، وتبلغنا عنه أمور يتحاشى أهل الدين عنها، فنعاتبه على ارتكابها فيجيب بالتفصى من عهدتها، ويبرهن برسوم زور، وكلام فجور، فنحمله على علاته، ونغض الطرف عن هناته، ثقة بما يظهر، واغترارا بما يموه ويزور، وهو ساع في تبذير هذا الجيش البخارى بخرق العوائد، وإفساد القوانين، وأحدث فيهم أموراً شنيعة من بيع المراتب والخطط وتوليتها غير أهلها، ومنع المستحق منها، وإيثار الدخلاء ومن لا خلاق له بذلك، وإلزامهم المغارم زيادة على خيانة الرواتب الشهرية، والغفلة عن تفقد الأسلحة والعدة والخيل التي نخصصهم بها حتى كادت أن تضيع المخزنية رأسا.
وفقد الحزم والضبط المعهود في المخازنية، وعدم الإقدام والشجاعة فيهم مع أنهم كان يضرب بهم المثل، فإن الرعية على رأسها، وتصدى لإرث كل من حانت منيته من المخازنية وحيازة متروكه وبيع أصله ومنع ورثته.
وأما أهل مكناسة فقد سار فيهم سيرة جور وعسف، وأذاقهم عذاب ظلم
وخسف، بجعل حيل ونصب حبالات وأساليب لاستخلاص الأموال، ومصادرة ذوى الأغراض، وأفضى به الحال إلى جعل ديار مخصوصات للفاسد، وتوظيف خراج على الفاسدات في كل شهر، ولم يكفه ذلك كله حتى جعل من جهاته لإفساد القبائل ومداخلته أعيان الفساد، وتمالئهم عن الخروج على عمالهم، فكل من لم يمل إليه ولم يواصله أو تشانا معه، بث في رعيته القيام عليه وواعدهم بالمعونة، ورتب لهم الطعام عند الزوقة، مع أنه أبخل من مادر، وإن نزل عليه ضيف واحد أضجره ونصب العداوة مع قواد البرابرة المجاورة لمكناسة، وألقى الشرّ بينهم وبين المخازنية، حتى لم يبق لهم وُدًّا في قلب القريب والبعيد، ولم تبق له همة إلا في هذا وشبهه.
وأما أهل الذمة فأبدأ فيهم وأعاد، حتى أخرجناهم من حكمه، ومع ذلك لم يتحاش عن فعله فيهم وفى غيرهم، ولما تفاحش أمره، وفشا في الرعية شره، قبضنا عليه ووجهناه لفاس بكبله، وحاق به سوء مكره، ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله.
واستخرنا الله تعالى فيمن نوليه على الجيش ممن يسعى في جبره، وينصح لله ولرسوله وللمؤمنين في سره وجهره، فشرح الله صدرنا لتولية قائد مشورنا السعيد القائد الجيلانى بن بوعزة لما بلوناه من نصحه ومحبته، وعلمناه من دينه ومروءته، نسأل الله تسديده وتوليقه، وإلهامه الرشد وطريقه.
واعلم أن جل الحياينة وخصوصا أولاد أرياب منعوا الحقوق، وأظهروا العقوق، فطلب عاملهم خروج المحلة إليهم، فوقع منهم وعد وإخلاف، ومنع وإرجاف، فنهضت المحلة المنصورة إليهم وأحاطت بالمفسدين وأخذتهم أخذة رابية، ولاذوا بالفرار، وتركوا الأموال والأنعام، فامتلأت أيدى المحلة منها، وقبضوا
وقتلوا وهو مشروح في الكتب الواردة عليك صحبته، والسلام في 4 جمادى الأولى عام 1258، صح من أصله الموجود بالمكتبة الكتانية.
وفى عام 1260 ستين ومائتين وألف، كتب له الأمير عبد القادر بن محيى الدين الحسينى الجزائرى يسأله عن أبناء عمه المهاجرين للمغرب، وفى طى كلامه الإعلان بانحياشه وانحيازه إلى شريف حضرته، وطلبه صالح أدعيته، ونص كتابه بعد الحمدلة والصلاة ثم الطابع بداخله "عبد القادر بن محيى الدين 1258" وبزواياه الاثنتى عشرة: الله، محمد أبو بكر، عمر، عثمان، على، عبده، ناصر الدين، الواثق بالقوى المعين. وبدائرته ومن تكن برسول الله نصرته البيت:
"ملاذنا وعمدتنا وقاطبة أهل الإسلام، الذى بلغ الله به قصد ومرام، ورفع به مقام أهل الإيمان على كل مقام، متعنا الله بنصرته على الدوام، ومر الليالى والأيام، ذلك الإمام الهمام، الذى اشتهر كنار على رءوس الأعلام، ولا تحصى مزاياه أو تحصرها الطروس والأقلام، مولانا عبد الرحمن بن مولانا هشام على مولانا ما لا يتناهى حصره من السلام، مضمخا بطيب التحيات والإكرام والإعظام، وأسبغ عليكم أنواع الإنعام، ونصر بكم ملة النبى العدنان، وخذل بكم أهل الكفر والطغيان، ولا زائد بعد التماس صالح دعاء مولانا ورضاه الأرضى، عن أبناء صنو أبينا الذين حلوا بساحته، وصموا بجوار حضرته، وهم السيد أحمد وإخوته أولاد المرحوم السيد أحمد بن أبى طالب، وأن لا يكونوا مطرحين بزاوية الإهمال، لأننا وإياهم منسوبون من جملة الخدمة والعيال، ومثل مولانا نصره الله، من قال فيهم تعالى جل جلاله: {
…
يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهم
…
} [الحشر: 9].
ونحن لك أينما كنا وحيثما حللنا واستقر المكان بنا، لأن من إلى الشرف الرفيع انحاز، فقد قال المطلوب وفاز، وأن لا ينسانا من دعواته، في خلواته وجلواته، المرجوة القبول عند الله، ونحن من أهل الحسبة عليه بعد حسبتنا على
[صورة]
كتاب من الأمير عبد القادر الجزائرى للسلطان المولى عبد الرحمن
الله خديم حضرتكم الباذل جهده في مرضاة الله ورسوله ثم مرضاتكم، المتوكل في كل أموره على الله وعليكم الموضوع اسمه بالخاتم، النائب عنكم بما قدر من جهاد العدو القائم، في 1 ربيع الثانى سنة 1260" هـ من أصله الفتوغرافى الموجود بالمكتبة العمومية للحكومة بالرباط.
ولما دخلت هذه السنة التي هى سنة ستين، كان قد تم استيلاء فرنسا على سائر شمال المغرب الأوسط، اضطر الأمير عبد القادر المذكور للدخول لحدود المغرب الأقصى، فنزل بعين القصب فاقتفت أثره ووقفت جنودها وراء نهر تافنة، وجعلت تبنى قصبة في الغزوات على شاطئ البحر لتقرب منها مراكبها وتنزل إليها عساكرها، وقصبة أخرى على وادى الحاجة مغنية، فكثر العيث بأعمال وجدة وملحقاتها، وعمد بعض الحامية الفرنسية النازلين ببنى واسين وكانوا تابعين لأعمال وجدة، وكانت تربة المرأة الصالحة مغنية، معتقدة من بنى واسين، فأهانوا قبتها بما قام له بنو واسين، وقعدوا وصدر منهم ضد الحامية ما جسم المسألة، وكدر صفو المسلم بين الإيالتين، وأوجب إلحاح سفير فرنسا بطنجة على المترجم في طلب الترضية.
وفى أثناء المخابرة وجه المترجم جيشا في نحو ثلاثة آلاف بين خيل ورماة تحت رياسة كاتبه على بن الطيب الأجناوي، وأمره أن لا يفاتح بقتال حتى يصدر إليه الأمر، ثم لما وصل الكاتب لوجدة فتح باب المخابرة مع رئيس الحملة الفرنسية، ولم يشعر حتى ابتدأ المسلمون بقتال جيش الحملة، ولما رأى رئيسها ذلك أمر عسكره بالكمون للمسلمين بعريش الوادى، ثم أحدقوا بهم وقتلوا منهم نحو الثمانين، فرجع الجيش السلطانى لوجدة، ثم نهض لعيون سيدى ملوك، ودخلت الحملة الفرنسية لوجدة فوجدتها خالية فباتت بها ليلة واحدة أعدمت ما كان بها من بارود ورصاص، ثم بارحتها من غير أن تحدث بها أدنى حدث.
ولما اتصل هذا النبا بالمترجم وهو يومئذ بمراكش، وجه لخليفته بفاس ولده أبا عبد الله محمد للنظر في شأن الحدود ريثما تنفصل القضية بطريقة سلمية، فجهز جيشا من القبائل الغربية يبلغ ثلاثين ألف مقاتل، وسار به إلى أن بلغ وجدة، وألقى القبض على على بن الطيب رئيس المحلة السابقة المذكور.
وقد عثرت له على كتاب أرسله لوالده المترجم يخبره بحلوله بالعيون وما كان من اجتماع قبائل آنكاد والصحراء وحسن استعدادهم، ونصه بعد الحمدلة والصلاة:
"بعد تقبيل حاشية البساط الشريف، وأداء ما يجب بين يد سيدنا أيده الله من التبجيل والتعظيم والتشريف، يكون في علم مولانا أيده الله، أنا حللنا بعيون سيدى ملوك حلول عز ويمن وسعادة بوجود مولانا أدام الله وجوده، ونصر أعلامه وجنوده، وتلقتنا بها قبائل آنكاد بعطاطيشهم، وأظهرت من الفرح والسرور بمحال سيدنا أيده الله ما لم يعهد منها، وسكنت أنفسهم واطمأنت وزال عنهم ما كانوا فيه من الخوف والجزع، والروع والفزع، بسبب فعل ابن الأكناوى، وانحاشت إلى عاملها الطالب حميدة الشجعى، وانتظم شملها، وما بقى منها من تطمح عينه للعدو الكافر بوجه ولا بحال، كما تلقانا بتازا أخوال سيدنا الكرارمة في أحسن زى وأعجبه بعطاطيشهم أيضا، وقاموا بمؤنة المحلة أحسن قيام وصحبتنا كافة فرسانهم ورجالاتهم وجميع أعرابهم، وما تخلى أحد عنا من هؤلاء القبائل المعتبرة، ولا أظهرت عجزا ولا تكاسلا.
وقد اجتمع من القبائل الصحراوية أيضا خلق كثير لله الحمد وله المنة، والمسلمون الآن في غاية الظهور، والعدو من أجل ذلك ينادى بالويل والثبور.
هذا وقد بلغتنى كتب سيدى أيده الله ونصره في شأن العدو الكافر الذى جعل طنجة نصب عينيه، واستفدت منها ما حدث بطنجة من الهرج، فإنا لله وإنا
إليه راجعون، نسأل الله ببركة سيدنا أن يجبر صدع الإسلام، ويكسر شوكة عبدة الأصنام، والمحال التي هنا في غاية النشاط، والسرور الانبساط، وما لحقتها خصاصة ولا تلحقها بحول الله وبركة سيدى ووجوده أيده الله.
والسيد عبد القادر بن محيى الدين تأخر بمن معه لملوية بألطف إشارة، وأوجز عبارة، من الطالب حميدة والشيخ حمدون بأمرنا وإشارتنا، فلم يبق للكافر الآن ما يعتذر به من جهته، والذى حققناه أن هذا العدو لا يقنع بتأخير السيد عبد القادر ولا بكل ما يفعل معه، إذ لا زال مصمما مع ضعفه الآن بالنسبة للمسلمين المجتمعين هنا على تعدى طوره إن وجد إليه سبيلا، وقد خوطب من قبل الطالب حميدة بنص ما في التقييدة الواصلة في على هذا الكتاب فأجاب بالامتناع من الخروج من مغنية، والمتعين خروجه منها إذ ليس في بقائه بها إلا الفساد، ورد هؤلاء القبائل للخوض والعناد، فيتعين اشتراط الخروج عليه منها عند عقد الصلح معه، وإلا فلا يتم كلامه ولا تحسم مادته ولا ينقطع تشوف من في قلبه مرض إليه، ولا يستقيم مع بقائه بها أمر من أمور هذه النواحى.
وهذه القبائل عزمت على الزحف عليه وإخراجه منها وإعمال موجبات التضييق عليه من قطع الماء عنه، وأخذ من خرج منها، ومنع من يريد الدخول إليه حتى لا يقر له بها قرار، ويطلب النجاة بنفسه والفرار، وإن تمادى على البقاء بها مع توفر أسباب إخراجه منها الآن وذهبت هذه الجموع، وبقى بها مد يده بل ورجله وملك ما شاء من قرى وأمصار، وصدر منه ما لم يصدر منه في عصر من الأعصار، فلا ينفع معه إلا الجد، ولا يخدع سيدنا بإبقاء عسته بها -أى بمغنية- فإنه يترك بها محلة لا عسة وحاصله مكائده لا يحدها حد، ولا تدخل تحت محمد، وما رضى أحد من هؤلاء القبائل بإبقائه بها خوفا من غدره، وجسارته ومكره، إن تفرقت هذه الجموع وكذا الحراك قالوا: إن رجعنا وأبقينا هذا الكافر بمحله ذهب
عملنا، وظهر له فشلنا، والله يبارك في عمر سيدى آمين والسلام في 20 رجب عام 1260.
محمد وفقه الله بمنه آمين".
ثم إن الخليفة المذكور خيم بجنوده على ضفة وادى يسلى حول وجدة، في ذلك البسيط الممتد من غير تَروِّ وَلا نظر في العواقب، وعندما نزلت المحلة على تلك الحالة، ورأى ذلك الأمير عبد القادر، قال لهم: إن هذه الفرش والأثاث والثقلة التي جئتم بها حتى وضعتموها بباب جيش هذا العدو، ليس من الحزم في شئ، والرأى أن لا تلاقوا العدو إلا وأنتم متحملون منكمشون بحيث لا يبقى لكم خباء مضروب على الأرض، وإلا فإن العدو متى رأى الأخبية مضروبة وإلا وقصدها ولا يرجع دونها ولو أفنى عليها عساكره، فلو أبقيتم هذه الأثقال بوادى زا، فإن كانت لكم فلا يبعد إتيانها، وإن كانت عليكم فتسلم من الأخذ وتجدون الراحة والمقام بها حتى تعودوا للقتال، ولكن لم يجد لنصحه أذنا واعية، فرجع من حيث أتى يتنفس الصعداء.
ثم إن بعض الأعراب لما رأى قائد تلمسان يريد أن يصبح الجيش السلطانى على حين غفلة، قدم على المحلة وأنذرهم بالهجوم عليه، وحقق لهم أنه ترك الجيش الفرنسى يستعد للنهوض إليهم حينا، فلم يلتفوا إليه، ولا رفعوا لخبره رأسا اعتمادا على قوة عددهم وبسالة مقاتلتهم، ولما كان الصباح أعجلهم قائد الفرقة المذكورة الجنرال (لامور يسير) الشهير عند العرب بابى هراوة وعسكر بجيشه بمغنية، وقبل فتح المخابرة هجم على الجيش المغربى في غلسن يوم الخميس ليلة الخامس من شعبان السنة.
ولما أشرف على اسلى، نظم جيشه على هيئة قلعة مركزها مئونة الجيش وأركان الجيش، تحيط بالمركز عسكر المشاة ثم الخيالة ثم القبائل الدائنة بطاعته،
وتحيط بالدائرة بطريات المدافع الخفيفية من سائر جهاتها، وأمر القائد العام لامور جيشه بالهجوم والسير على هذا النظام، ولما تراءى الجمعان ركبت محلة المخزن وكان أكثرها خيالة وأضعاف المحلة الفرنسية وتسابقت إلى اللقاء، والجيش الفرنسى محافظ على النظام المذكور لا يتحرك من مركزه حتى أحاطت به جيوش المغرب إحاطة السوار بالمعصم، صارت تصب رصاصها فيه.
فعند ذلك أمر القائد الفرنسىي بإطلاق المدافع من سائر الجهات إطلاقا متواليا بلا إمهال دام العمل على ذلك ثلاث ساعات، والجيش الفرنسى لم يتزحزح عن موقفه، وما كانت الساعة العاشرة من اليوم المذكور حتى افترقت محلة المغرب ومات أكثرها، وتمزقت أوصال حماتها -الذين جعلوا صدورهم هدفا لمدافع مقابلهم- كل ممزق، وتطايرت أشلاؤهم في الهواء وباقيهم طارت بهم خيولهم فلم ينزلوا إلا وراء نهر ملوية، وبقى الخليفة في نحو عشرة من خاصة فرسان غلمانه، ثم سار إلى أن لحق بتازا، ثم سار إلى أن بلغ فاسا، وتقدم الجنرال (لامور يسير) بجيشه إلى مضارب المعسكر وقد كانت بقيت به فرقة من جيش العبيد والطبجية، فأبلوا بلاء حسنا، وقتلوا من المهاجرين عددا كبيرا إلى أن غلبوا عليهم، واستأصلوهم واستولى الجنرال المذكور على المعسكر بما فيه.
وعندما وصل خبر الواقعة للمترجم وهو بمراكش فخرج يطوى المراحل طيا كى يدرك رتق الفتق قبل اتساعه، ولما بلغ ثغر الرباط بلغه أن أسطولا فرنسيا يريد الهجوم على طنجة، فبعث ولده أبا الربيع سليمان في شرذمة من الخيل لحراسة طنجة، وفى ذلك الأثناء بلغه أن الأسطول رمى طنجة بخمسة آلاف كورة في نحو ست ساعات ودمر منها أماكن كثيرة، ثم ارتحل عنها وتركها خاوية، ومن لطف الله أن كان أهلها أخلوها قبل هجوم الأسطول عليها فنقلوا أموالهم وأولادهم للفحص.
وقد عثرت على كتابين في هذا الشأن: أحدهما من القائد محمد عشعاش، والثانى من المولى سليمان يذكر فيه دخوله لطنجة وكيف وجدها بعد أن ضربها الأسطول الفرنسى ونص أولهما:
"أدام الله العز والتأييد والتمكين، والنصر والظفر والفتح المبين، لمولانا السلطان المعتصم بالله المعان، سيدنا ومولانا عبد الرحمن، زاد الله سيدنا عزا وشرفا ومكانة وتبجيلا وتعظيما، وسلام الله وتحياته ورحماته ورضوانه الطيبات المباركة على الحضرة المنيفة التركية، وبعد لثم حاشية البساط الكريم، وأداء الواجب للمقام الرفيع المبجل من التعظيم، فلا ريب أن ما فعل مراكب الفرنصيص بطنجة يوم الثلاثاء العشرين من شهر التاريخ من إطلاقهم عليها وتخريبهم بعضها لا يعزب عن كريم علم سيدنا، ولا شك أن نجل سيدنا الأسعد أنهى ذلك لكريم علم سيدنا وعليه اعتمدنا، والذي نعلم به سيدنا أن عشية يوم الخميس الثانى والعشرين من شهر التاريخ خرجت تلك المراكب عن آخرها وغاصوا في البحر الكبير، والشائع أنهم قاصدون التخريج على العرائش والرباط والصويرة، ثم يعودون لتطوان يفعلون بالجميع كفعلهم بطنجة.
ووجب أن نعلم سيدنا ليكون من أمرهم على بصيرة، ونجل سيدنا الأسعد مولانا سليمان كتب لنا أن نوجه، له الكمانية (1) فنحن نوجه له كل يوم ما يستحق له ولمحلته حفظه الله، وأقر عين سيدنا به وبإخوته، ولا حركة عند اللعين الفرنصيص في هذه الساعة للنزول في البرّ على ما بلغنا، وإنما غايته الفساد في المراسى، اللهم إن حدث شئ فالله يجعل كيده في نحره، والخفيف الذى أمر سيدنا بتوجيهه لفراجى قد وجهنا منه نحو الثلاثمائة ونحن ننتظر الإبل لنوجه له الكمال وعلى الخدمة والسلام في 23 رجب الفرد الحرام عام 1260.
الخديم محمد اشعاش وفقه الله آمين".
(1) في هامش المطبوع: "ما يحتاج إليه من التموين".
ونص الثانى:
"سيدنا الإمام، المؤيد بالله الهمام، مولانا أمير المؤمنين، وناصر الملة والدين، وبعد أداء ما يجب من الإجلال والإعظام. وإهداء رفيع السلام. لعلى ذلك المقام، فقد وافانا الأمر الشريف، والخطاب العلى المنيف، فتلقيناه بالإعظام والإجلال، والمبادرة إلى أوامره بالامتثال. فإنا بحمد الله كما يحب سيدنا ويرضى من الوقوف والأخذ بالحزم في المصادر والموارد، فالعسة داخل البلد وخارجها ليلا ونهارا على أكمل وجه من الضبط والترتيب، فالكل قائم أحسن قيام.
وقد دخلنا قبل تاريخه بيوم إلى المدينة وقصدنا النظر إلى أبراجها فظهر لنا أن إصلاحها يتيسر في أقرب مدة، لأن رمى العدو لم يعم جميعها، وإنما كان يصيب شرفات البعض فتسقط إلا ما كان من البرج الجديد الذى طريقه مارة أسفل سور البلد الموالى للمرسى والبرج المتصل به من أعلى، فقد تهدم الكثير منهما، ودخلنا مسجدها الجديد فرأينا بسوره الموالى للبحر أثرا كثيرا من رمى المدفع له، وبسقفه أيضا وأحصى ما نزل بالمسجد فألفى ستا وثلاثين كورة، والواقع خارج البلاد شئ كثير جدا.
وقد جمع الأمين الحاج أحمد الرزينى مما وقع داخل البلد بالخصوص ثلاثة آلاف، وقد رأيناه مجموعا بالبرج الذى بإزاء باب المرسى، وأما ما وقع بالأجنة وأطراف البلد فإلى الآن لم يجمع منه شئ، وسمع أهل البلد من القنصوات بعد نزولهم ورجوعهم لمنازلهم أن ما رمى به قصمه الله ينيف على ستة آلاف بكثير، ومع هذا كله فالسلامة حاصلة بفضل الله وسعادة سيدنا.
وذكر لنا الأمين المذكور أن الكور الذى اجتمع عنده كله يصلح لوجود مثل تلك المدافع التي كان يرمى بها عندهم بالمرسى، وقرأنا كتاب سيدنا الشريف على
القائد محمد بن عبد الملك وكبراء البلد من القواد والطبجية وغيرهم، ففرحوا به أشد الفرح، وظهر عليهم من السرور والنشاط ما لا مزيد عليه، وحرضناهم وذكرناهم ومنيناهم وبينا لهم بعض ما أعد الله للمجاهدين من الأجر والمثوبة، وما ادخره لهم من رفيع الدرجات فقاموا فرحين مستبشرين، ودفعنا لهم الكتاب الشريف بعد ليقرأوه على من لم يحضر منهم ليعم الفرح جميعهم.
والقائد محمد اشعاش قد بذل المجهود، وظهر منه ما هو المعهود، فمنذ وصلنا لطنجة ورسله تترادف علينا منه من الخبز والبشماط (1) ما عم جميع المحلة، فالله يعينه على خدمة سيدنا الشريفة.
وورد علينا جسوس وكيل سيدنا بجبل طارق أمس تاريخه، فتلاقينا معه بالمحبة السعيدة، وذكر أنه راجع لمحله فورا والسيد بوسلهام ورد علينا منه كتاب يخبر فيه بأنه بأحد الغربية، وأنه بنية الورود لطنجة يوم الكتب، وهذا ما وجب به إعلام سيدنا والسلام وفى 27 رجب الفرد الحرام عام 1260 سليمان وفقه الله بمنه" صح من الفتوكرافية المأخوذة من أصله الموجود بملف الفتوكرافيات بالمكتبة العامة للحكومة بأجدال من رباط الفتح.
ولما اتصل بالمترجم ما حل بطنجة تضاعف همه وغمه، وتوقع الهجوم على الثغر الرباطى، فأخذ في الاحتياطات اللازمة، وكتب لعاملى العدوتين بالاستعداد، وصمم على المقام بالرباط، فبينما هو كذلك إذ حدث ما أوجب إسراعه بالنهوض لفاس، وما استقر به الثوى بفاس حتى بلغه هجوم الأسطول على ثغر الصويرة ومقاومة أهلها له بقدر إمكانهم، وأخيرا دخلها الأعراب النازلون حولها فنهبوا وعثوا وأفسدوا، فازداد ضجرا وضاقت عليه الأرض بما رحبت، ولم
(1) في هامش المطبوع: "قطع من الخبز صغيرة مشوية في الفرن".
يكن له بد من الجنوح إلى المسلم التي جنحت إليه فرنسا، لفساد الرعية وفزعها وعدم توفر الدواعى.
ثم التفت لمنهزمة الجيش الذى كان مع خليفته ولده أبى عبد الله المذكور بوجدة فقبض على جماعة منهم وأودعهم السجون مدة، وأهان كبراء، وحلق لحاهم وقطع خراجهم مدة ثم عفا عنهم.
ولما تمت المهادنة انعقد الصلح على تسوية الحدود بين وجدة ومغنية على ما هى عليه الآن، وعلى طرد الأمير عبد القادر من حدود المغرب.
ثم بعد ذلك نهض المترجم وسار إلى أن خيم برباط الفتح، وولى عليها عبد اللطيف فرج، وأقام به أربعة أشهر، ثم نهض وسار إلى أن عبر وادى أم الربيع على مشرع بولعوان، وهنالك التقى بنجله الخليفة أبى عبد الله المذكور، إذ كان مخيما على دكالة بثلاثاء سيدى أبى النور، وأمره بالتوجه لفاس وسار هو إلى أن بلغ مراكش، وما استقر به الثوى بها حتى بلغه أن الأمير ابن محيى الدين قام في قبائل أنجاد وتبعته أعرابها وبرابرها، وقاتل طائفة من أهل قلعية، وقتل منهم نحو الثلاثمائة، وسار إلى أن وصل إلى قرب تازا عازما على التوغل في البلاد المغربية، وأنه اتفق مع بنى عامر والحشم على الملاقاة معه بضفة وادى الحياينة ودخولهم جميعا بقصد التغلب، كذا قال بعضهم.
وعند هذا الحد أظلم الجو بين المترجم والأمير عبد القادر المذكور، وساءت الظنون واتسع للأوهام المجال، وشمرت على ساق شياطين الجن والإنس للمبالغة في الإفساد، فبعث المترجف ولده الخليفة المذكور وأمره بنقل بنى عامر والحشم لداخل الإيالة، فعرض عليهم الخليفة ما لديه من الأوامر فأجابوا بالسمع والطاعة، واعتذروا بأنهم ليس عندهم ما يحملون عليه رحالهم، فالتزم لهم بإعطائهم جميع ما يحتاجون إليه، وبعث معهم خيلا توصلهم إلى الأرض التي عينت لنزولهم، ثم
لما وصلوا لخيامهم قالوا: لا ننتقل من مكاننا هذا حتى نموت عن آخرنا، وضرب واحد منهم أحد الفرسان الذين وجهوا، ولما رأوا انكباب الناس عليهم انحازوا للغابة وقاتلوا حتى قتلوا عن آخرهم، ولم ينج من القتل إلا النزر القليل، فقيدوا وصفدوا وحشدوا مع النساء والصبيان لفاس، ثم أمروا بالنزول بضفة نهر سبو.
ولما اتصل خبر الواقعة بالأمير رجع لسلوان، وأُشيع عنه التظاهر بالعداوة للمترجم والتأهب لمحاربته داخل إيالته والاستبداد عليه، فوجه المترجم إليه جيشا بقيادة شيخ بنى مالك ابن رباح القائد محمد بن سالم الأحمر المالكى، وكان من كبار الأبطال ووجوه الأعيان من العمال للنظر في شأن الأمير ومطاردته أو القبض عليه، غير أن القائد الجسور لم يحسن التدبير، ولا حسب حسابا للمصير، فبوصوله لقصبة سلوان صمد جيشه الجرار للغارة على حلل المهاجرين أتباع الأمير، وكانوا منتشرين بكارت وقلوعها (قلعية) فتوقف الأمير عن مناجزته وكتب إليه يتبرأ مما نسب إليه من البهتان، وأقسم بصدق ولاية السلطان بكل أيمان، وبرهن على أنه مستظل بحمى أمير المؤمنين، مع بقية السيف من أبناء المسلمين، وأكثرهم شيوخ وأيامى، وعجزة ويتامى، فلم يصخ القائد المذكور لكلامه ولا التفت لاستعطافه، بل هجم على دائرة الأمير فوقفت بقية الأبطال دونها يدافعون عن الحريم والمال، عملا يقول من قال:
وإذالم يكن من الموت بد
…
فعلى الحر أن يموت كريما
وبعد حرب شديدة سقط القائد الأحمر قتيلا بين الصفوف، وافترقت جيوشه، وقد تركوا بين يدى الأمير معسكرهم بما فيه من حريم وأثقال وأثاث وأموال، فجمع الأمير ما تركوه، وعين وفدا من الأشراف والعلماء وأعيان رجاله برياسة شيخ الجماعة أبى عبد الله محمد سقاط بن الشيخ المشرفى، وكان ملحوظا عند المترجم لكثرة تردده سفيرا لحضرته فيما مضى، وقدموا ما تركته محلة الأحمر
من الأخبية والأثقال والحريم والمتاع وتبرءوا واعتذروا عن الأمير واستعطفوا المترجم، وأدوا السفارة كما ينبغى، فقوبلوا بكل تجلة وإكرام، وتحقق السلطان براءة ساحة الأمير من أقوال المرجفين، وأحسن إلى بقية الجشم وبنى عامر وجمعهم وحملهم لمراكش، وأنزلهم بأخصب بلاد بالويدان من قبيلة الرحامنة من عرب حشم البلاليين إخوانهم، وانقلب الوفد إلى الأمير مغمورا بجود المترجم وكرمه.
ثم بعد هذا قضت الظروف على صاحب الترجمة بإبعاد الأمير عن حدود بلاده، ولم يكن له بد من ذلك بعد أن كانت بينهما محبة صادقة، ووصلة كاملة وإخاء، كم أمده المترجم بآلات الحرب، وأعانه بالأموال والملابس والصافنات الجياد حسبما بتحفة الزائر والحلل البهية وغيرهما.
ولكن لما كان للأحوال مقتضيات وللضرورة أحكام لم يسعه إلا تنفيذ ما وقع عليه الاتفاق إثر قضية أسلى، وارتكاب أخف الضررين، فجهز المترجم جيشا كثيفا بقيادة ولديه: المولى محمد، والمولى أحمد لإزعاج الأمير للخروج من إيالته أو الجنوح للصلح، وأمر جميع قبائل الناحية بمعاضدة الجيش ضد الأمير عبد القادر إنْ أبَى مما ذكر، ونزلت الجيوش السلطانية بتازا وأقامت بها أياما، وكانت تزيد على عشرة آلاف مقاتل.
ولما علم الأمير عبد القادر بذلك بعث خليفته البوحميدى للحضرة السلطانية يطلب الصفح والعفو عفا مضى، فلحق بالمترجم لفاسق فأكرم وفادته، واقتبله بجنان أبى الجنود الذى صار اليوم جنانا عموميا، ولما مثل بين يديه وبلغه ما أتى لأجله أجابه المترجم بقوله: إن أحب الحديث إلى الله أصدقه، وإنى لا أقبل منكم إلا أحد أمرين: الدخول لداخل الإيالة والنزول لدينا نزول عز وإكرام، أو الخروج من الإيالة وحدودها، ولا يمكن قبول غير هذا بحال، فطلب البوحميدى الإمهال
إلى أن يخابر مرسله، فأمهله صاحب الترجمة وأمنه وأبقاه في ضيافته، فبعث لمرسله الأمير بجواب المترجم له فأعرض عنه ولم يجبه.
ثم بعد ذلك نهض الخليفتان بمن معهما من الجيوش من تازا وساروا إلى أن بلغوا سلوان، ثم وقعت مناوشة بين جيوش الأمير والجند السلطانى، ثم ارتحل الأمير وسار إلى أن عبر الوادى فاقتفت أثره الجنود وانضمت إليها جميع قبائل انكاد، ووقف الجيش الفرنسى بالحدود له بالمرصاد، ولم يتركوا للأمير ملجأ ولا منجى مما قدره الله وقضاه.
وهذه نسخة بطاقة لأهل آنكاد وبنى يزناسن في ذلك نقلا عن مسودتها المحفوظة بمستودع الأوراق بالقصر السلطانى بالرباط:
"خدامنا أهل آنجاد وبنى يزناسن كافة إلخ.
وبعد: فقد وصلنا كتابكم مخبرين بما صدر من أعداء الدين من تعدى الحدود وما قابلتموهم به من الغلظة والقوة، وأبديتموه من الحمية والأنفة، وتوجيه جماعة منكم مع كتاب عاملكم ومخاطبته بالجد حتى رجع عن مراده واعترف بخطئه وتعليه وأنصف للحق وصار ما دار بينكم وبينه منا على بال، ذلك هو الظن بكم، وهو المعهود من أهل الدين المتين، المتبعين لسبيل المهتدين، فلا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون، والله معكم، والحق يعلو ولا يعلى عليه، والمؤمنون أقوياء بيقينهم، موقنون بنصر دينهم، مصدقون بوعد ربهم، وكان حقا علينا نصر المؤمنين.
واعلموا أن نزول الحاج عبد القادر ودخوله بين أظهركم هو الذى جرأ أعداء الدين عليكم، وجعل وجهتهم إليكم، ولولا هو ما طرق حماكم، ولا تعمد أذاكم، لأنا عقدنا معه الصلح الذى فيه مصلحة الإسلام، وسددنا بذلك باب الفتنة
عن الخاص والعام، فإن ذلك الفتان جر البلاء لأهل الواسطة حتى جرأ عدو الدين عليها حتى جاس خلالها، وكسر شوكة أهلها وزادهم انحياشا للكفر، وتوغلا في الشر، بإجلابه عليهم، ونهب ما أبقت لهم الفتنة من أموالهم، وحكم فيهم بحكم الطاغوت من استحلال الدماء والأموال، وانتشار الفساد إلى العيال، فإذا ظهرت له بارقة من الكفار لجأ إلى حوزكم، واحتمى بكم، وجعلكم حجابا بينه وبينهم ليجر لكم الفتنة والوبال، ويرميكم كما رمى من قبلكم بالمحنة والخبال.
وأنتم عن دسائسه ساهون، وعن مكره بكم لاهون، ولو عقلتم رشدكم، وحفظتم عهدكم، لكان أعدى الأعادى إليكم، ولعاجلتموه بالقتال والدفاع عن حوزتكم، وأخرجتموه وأتباعه عن بلادكم. ليطيب لكم العيش، ولا يطرق الرومى حِمَاكم، بعسكر ولا جيش، وحتى لو ظهر من الرومى نقض لأمددناكم بجيوشنا المنصورة، وعاجلناكم بنصرتنا المشهورة، مع أنكم تجدون في العدو من الوفاء ما لا تجدون في تلك الشرذمة الفاسدة، والفئة الكاسدة.
فلا تظنوا بهم حمية ولا دفاعا، ولا تعتقدوا فيهم نصرة ولا انتفاعا، وانظروا ما تكرر على أسماعكم من وقائع غدره، وما رمى به المنحاشين إليه من ظلمه وضره، تعلمون ما يريد بكم ولكم، وما هو جار من سخط الله إليكم، فقد كاد أن يزلزل يقينكم، ولو ساعدتموه لبدل دينكم، فإنه حملكم على مخالفة من أوجب الله عليكم طاعته وبيعته في أعناقكم، وجراكم على عدم امتثال أمره مع اعترافكم بالسمع والطاعة في حال خلافكم.
هذا من فعل الشيطان إنه عدو مضل مبين، فتيقظوا لدسائسه واستعيذوا بالله من وساوسه، وأصرموا حباله ومن معه وأخرجوهم، وضيقوا عليهم بمنع الأسواق وأحرجوهم، لتعودوا عليكم بركة الامتثال، وتفوزوا برضا الكبير المتعال" هـ.
وبعد مناوشات خفيفة ختم الأمير أعماله بالتسليم للفرنسيين على شروط، ورجعت أتباعه لأوطانها، وحمل إلى فرنسا بمن معه من العيال والأتباع في بابور وأنزل بـ (طولون) وذلك في صفر عام 1264 أربع وستين، وقيل في متم عام 1263 ثلاثة وستين ومائتين وألف، وبقى لديها في عقال ستة أعوام.
ثم سرحه نابليون الثالث وعين له مرتبا سنويا يدفع إليه من خزينة الدولة، وأباح له الذهاب حيث شاء، فاختار أخيراً سكنى دمشق بأهله، وبها كانت منيته في الساعة السابعة من ليلة يوم السبت التاسع عشر من رجب سنة ثلاثمائة وألف 1300 والرابع والعشرين من إيار سنة ثلاث وثمانين وثمانمائة 883 كما بتحفة الزائر، ودفن بجنب الشيخ محيى الدين بن عربى الحاتمى.
وكان هذا الأمير رحمه الله عالماً عاملا كاملا، راسخ القدم في الحقائق والرقائق، وكتابه المواقف اكبر دليل على تضلعه وسعة اطلاعه، ودقة مداركه.
أما الشجاعة والإقدام فهو ابن بجدتهما، وقد عرفت له فرنسا ذلك، وقدرته قدره، وما زالت الأعاظم تنزل الأعاظم منزلتها، وقد بسط صاحبا الجيش والاستقصا وغيرهما نبا وقائع الأمير الحاج عبد القادر وصاحب الترجمة في حالتى المسلم والحرب، ووقعت الإشارة لبعض ذلك في تحفة الزائر تركنا جلبها اختصارا.
وقد عثرت للأمير على رسالة بعثها وهو بفرنسا إلى صاحبه البوحميدى يصف فيها حالته في الاعتقال ومقامه بتلك الديار، ويدعو فيها للسلطان المترجم بالتوفيق والإعانة ويعذره عما صدر منه في حقه، ويستغفر الله مما كان ونصها:
"من عبد القادر بن محيى الدين، كان الله له ولإخوته آمين، إلى أخى سيدى محمد بن أحمد البوحميدى السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: فإنا نسأل عن أحوالك ونرجو أن تكون في نعمة مثلنا، فإننا في نعم لا نحصوها، وخيرات لا نستقصوها، وحصل لنا من صفاء الوقت والبسط
وانشراح الصدر ما لا نقدر قدره، ولا نكيف أمره، نسأل الله أن تكون كذلك، وحمد الله واجب علينا لا سيما حين جرت علينا المقادير باللطف والرأفة، وسيق كل منا لما قدر له وعليه محفوفا بالعناية، فإنا لو حاولنا غير ما نحن فيه واستظهرنا بالجن والإنس والملائكة ما كان غير ما هو كائن، فلنطب نفسا ونعلم يقينا أننا في عافية، فإنها غير محصورة فيما صورته صورتها، والحق تعالى إنما أذن لعباده في الأسباب وجعل لهم الكسب وصورة الاختيار قبل ظهور مراده.
أما بعد إبداء قضائه وقدره، فليس لهم إلا تلقف مواقع القدر شريعة وحقيقة، وإرادتهم غير إرادة الله قريبة من الكفر، أو هى الكفر، ومراد الحق تعالى أن يتعرف لنا فى كل شئ حتى لا نجهله في شئ.
اللهم أشعرنا لطفك حيثما أقمتنا حتى نكون بك ولك.
وإنه تعالى أوجب ما أراده فينا مثل ما أوجبه فيما أراده منا، فكما يجب علينا قبول هذا يجب قبول ذاك.
وأن عيالك وأولادك في خير، ويصلك كتابهم مع هذا الكتاب، وأننا وقت التاريخ اطلب وزير الحرب يجمعهم معنا وأنه لا يخيب ظننا ولا يرد كلمتنا إن شاء الله، فكن على هناء منهم في القراءة وغيرها مثل أنفسنا، وإذا تسرحنا إلى الشرق إن شاء الله نطلب تسريحهم أو ذهابهم معنا إلى الشرق وأن تسريحنا قريب إن شاء الله، فإن الجنرال ذو لا منسيار صار من عظماء الدولة وهو حبيبنا حارص على تعجيل تسريحنا.
وما أقعدنا هذه الأيام إلا ما كتبه الله لنا من الماء والطعام، فإننا في أيام الدولة السابقة حين وصلنا إلى طولون، واسترحنا من تعب البحر، وعزموا على سفرنا، وأخذوا في أهبة السفر وقع ما وقع من التبديل، ولما جلس في دار الإمارة
من جاء بعدهم كاتبونى وقالوا لى: إنك عندنا في ضيافة الإكرام، وقد وقع هذا التبديل فأقبل عذرنا في تأخير سفرك حتى يستقيم أمر الدولة ونسرحك لبر الإسلام، وقد استقامت أمورهم وصلحت أحوالهم، فتسريحنا قريب بحول الله وقوته، وجميع ما قصدناه أو ظنناه في الفرنصيص من الخير والإحسان والاحترام فعلوه معنا، وزادوا فوق ما ظنناه، فنحن اليوم ملوك على الحقيقة، فقد أنزلونا في منزل سلطانهم في قصر يحار فيه الطرف، ويقصر دونه الوصف، وفرش وطية، ومآكل شهية، وملابس بهية، مع التعظيم التام، من الكبير والصغير والخاص والعام، ورفقتنا ما بين تال وذاكر ومدرس ومتعلم صار الشهر عندهم كاليوم وتيقنوا بحسن اختيار الله لهم، وقد بلغنا أن لك وجها عند السلطان وفقه الله للخير وأعانه عليه وأصلحه وعلى يديه، وهذا دعاؤنا له اليوم والأمس وغدا ونعذره في حقنا، ونستغفر الله في حقه، فإنى ما أُبرئ نفسى وستبلى السرائر، وتجزى كل نفس بما تسعى.
فإن كان ما بلغنا حق فاسع في تسريح ابننا الصادق، فإن والده قد احترق صدره، وعيل صبره، وسرى لنا ذلك جميعا، وما كان يخطر ببالنا أن السلطان يبقيه لهذا الوقت، والأمر لله، وعليك السلام من الوالدة ومن محمد وأمه ومن السيد الحاج مصطفى بن التهامى، ومن السيد قدور بن محيى الدين، ومن قاره محمد، ومحمد بن البشير، وبعض من جاء معنا إلى فرنسا مفترقا معنا كمحمد ابن الخير وعن قريب يقع لهم التخيير بين المجئ عندنا وبين التسريح أينما أرادوا.
وقد خبرنا أنك شممت كافورة ومسكة فبالرفاء والبنين والكيس الكيس، ولا تكثرت بالحادثات، وسلم تسلم وتسترح وهو جنة الدنيا، وإنى أعلم أن أهم شئ عندك قراءة الأولاد فكن مستريح القلب منهم بعد جمعهم معنا إن شاء الله، ولا
تنسانا عند ضريح الدرياق المجرب، مولانا إدريس، وعند غيره من أهل الله أحياء وأمواتا، وفى عاشر ذى القعدة الحرام عام 1264" من كناش موثوق بما فيه.
هذا وإن مولانا الجد السلطان ابن هشام كان للأمير عبد القادر عضدا معاضدا. وساعدا مساعدا. ومعينا ماديا وأدبيا، أعان بالعين والسلاح وجياد الخيل وفاخر الملابس، سرا وعلنا ضد محاربيه.
قال في الابتسام عن دولة ابن هشام:
إن الأمير ابن محيى الدين كان يخاطب السلطان ابن هشام بالوالد ورسائله لا تنقطع عنه، وخطب به وبعث له بالبيعة، وكان يقول إنما أنا نائب عن مولانا عبد الرحمن بن هشام، كان السلطان ابن هشام كان يخاطبه بالولد البار وأورد كتاب أصدره المولى ابن هشام للأمير المذكور ونصه بعد الحمدلة والصلاة:
"محل الولد البار الأحظى، المجاهد الأرضى، السيد عبد القادر بن محيى الدين، أمدك الله بالعون واليقين، ونظمنا جميعا في سلك عباد الله المتقين، وسلام الله الأتم، ورضوانه الشامل الأعم، يتوالى لديك في المواقف، ويخصك بتواتر الأمداد الربانية والعوارف، ورحمة الله تعالى وبركاته تترى وتتوالى.
هذا وقد وصلنا كتابك الذى فاح نشرا، وأهدى بشارة وبشرى، مخبرا بما رزق الله المجاهدين من شحذ العزائم، وما توالى على الكفر وشيعته من النكبات والهزائم، فالحمد لله حمدا يليق بجلاله، ويؤذن بزيادة النصر واتصاله، فقد سعدتم والله وفزتم، وحزتم من الأجر الوافر ما حزتم، لقيامكم بفرض الجهاد المتعين، وسبقيتكم لهذا الفضل البين، فاحمدوا الله أن جعلكم ردءا للإسلام وأهله، وخصكم بالجهاد في هذا الزمان، وألبسكم رداء فضله، واشكروه على ما هيأه لكم من السعادة، وكتب لكم من الحسنى والزيادة، فإن الجهاد مما شرف الله
به في صدر الإسلام الصحابة، وتلاهم أهل الخير والإصابة، وجعلكم الله زهرة وعصابه، ألبسكم لبوس التقدم وأعطاكم نصابه، فنلتم شرفا ضخما وأجرا عميما، يا ليتنى كنت معكم فأفوز فوزا عظيما.
فإن الجهاد كما علمتم فضله، نغبط فيه أهله، لأنه كميا السعادة، ومفتاح الرحمة في الغيب والشهادة، وحسبك ما أعد الله للمجاهدين في الدنيا والآخرة، وما خصهم به من المراتب العلية والمنازل الفاخرة، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ
…
} [التوبة: 111] الآية.
قال بعض المفسرين في إيقاع اشترائه تعالى على أنفس المؤمنين وأموالهم غاية التشريف لهم، لأنهم قالوا: إن نفاسة السلعة تعرف بثلاثة أشياء: بعظم المشتري لأن العظيم القدر في العادة لا يباشر إلا شراء الأشياء العظيمة، وبجلالة الواسطة يجل قدر المتوسط فيه ويعظم الثمن، فإن من أعطى الجنة في الثمن أعطى فوق الأمنية، فبان بهذا غاية شرف المجاهدين عند الله تعالى، ومن شرفهم الحياة الأبدية، والكرامة السرمدية، قال تعالى:{وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169)} [آل عمران: 169]، وفى الصحيح: أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تسرح في أشجار الجنة. وقال عليه السلام، وقد سئل عن أفضل الأعمال، فقال: الجهاد في سبيل الله. وقال: من مات ولم يغز ولم ينو الغزو مات ميتة جاهلية. وقال: لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية وقال: ما أحد يخرج من الدنيا له عند الله خير فيتمنى الرجوع إليها إلا الشهيد لما يرى من فضل الشهادة ولوددت أنى أُقتل في سبيل الله ثم أحيى ثم أُقتل ثم أحيى ثم أقتل. وقال: والله لن تلج النار عين حرست في سبيل الله وعين بكت من خشية الله وعين غضت عن محارم الله. وقال: والله لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في جوف مسلم أبدا. وقال عليه السلام: يأتى الشهيد يوم القيامة وجرحه يثعب دما اللون لون الدم والربح ريح المسك. وقال عليه السلام: رباط يوم خير
من الدنيا وما فيها. فهنيئا لكم يا معشر المجاهدين وبشرى بما لكم عند الله من الخير العظيم، والأجر الجسيم، فإن أنفاسكم وخطواتكم حسنات. وسائر أفعالكم عند الله درجات. قال الله سبحانه: {
…
... ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ
…
} [التوبة: 120] الآيات. فأيقنوا بنصر الله. وصمموا عزائمكم على إنجاز ومحمد الله. ولا يهولنكم ما يزخرف به العدو على ألسن شياطينه من كثرة الحشود والجموع. وما يظهره من قوة ويهدد من خنوع. فإنما ذلك ترهات باطلة وتمويهات كاذبة {
…
. . لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ
…
....} [المجادلة: 10] مع أنه بلغنا على ألسن الثقات أنه يكترى العسكر من صبانية وغيرهم ليهول بكثرة العدد والعدد، وذلك كله كسراب لا طائل تحته، وكيف يرد المزية أو يقف للموت من هذه صفته، مع أن المسلمين المجاهدين ثبتهم الله أعدادهم موفورة، وعزائمهم على قتال العدو مظفورة، وقلوبهم بما عند الله مسرورة، وهم يقاتلون على دينهم وبلادهم {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76)} [النساء: 76] فتأملوا قوله سبحانه: {
…
. كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249] وقوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا} [آل عمران: 173] إلى قوله: {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ
…
} إلى (مُّؤْمِنِينَ)[عمران: 173 - 175]. وقد وهن الله كيد الكافرين فقال سبحانه: {ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (18)} [الأنفال: 18] وقال سبحانه: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ
…
...} [الأنفال: 65] الآية. فكان في صدر الإسلام لما بدا الواحد لا يفر من عشرة والعشرون لا تفر من مائتين والمائة لا تفسير من الألف، فلما أكثر المسلمون خفف
الله سبحانه فقال: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ
…
. .} [الأنفال: 66] الآية. ويحرم على المسلم الفرار من كافرين والله مع الصابرين بالعكان والتأييد ولعل هذه الخرجة آخر خرجاته لهذا البر فلا نشك أن الله يجعل تدميره في تدبيره فقد عول قبحه الله وأخزاه على الخروج من ثلاث طرق، من وهران ومن مستغانم ومن قسنطينة في يوم واحد وساعة واحدة على ما بلغنا وذلك بحول الله سبب خذلانه وتمزيقه، وتوهين كيده وتفريقه، فإن عادة الله في هذا العدو الأصفر مهما طغى وتمرد وتعجب في نفسه يوبقه الله سبحانه ببغيه. ويورده موارد شقائه وغيه. كما وقع له في مصر وغيرها وأذكرك غزوة وادى المخازن على عهد السعديين فإن أعداء الله خرجوا في مائة ألف فارس وخمسة وعشرين ألفا وكان إذ ذاك مولاى عبد المالك لمرض كان به حين حمى الوطيس وكان أخوه مولاى أحمد مدبر أمره فهزم الله الكافرين وقتلوا وسبوا وغرقوا ولم يفلت إلا النزر اليسير ومات محمد المسلوخ الذى أتى بهم وطاغيتهم بستيان وغنم المسلمون وكراعهم وفل حد البرطقيز من يومئذ حتى الآن ونسأل الله أن يجعل هذه الغزوة نظيرتها على هذا العدو الكافر، فالصبر ثم الصبر فإن الشجاعة، صبر ساعة، وفى الحديث: الصبر عند الصدمة الأولى، وليس للكفار كبتهم الله إلا الحملة الأولى ثم يفشل ريحهم وتضعف عزائمهم، والصبر والثبات، يكسران الوثبات، ولم يكن الصحابة والتابعون رضوان الله عليهم يقاتلون بكثرة عدد ولا عدد وإنما كانوا يقاتلون باليقين لإعلاء كلمة الله ورجاء لما عند الله حتى انتشر الدين في المشارق والمغارب فاصبروا وصابروا ورابطوا وأبشروا وبشروا، وأيقنوا أن الله متم نوره وناصر دينه إنجازا لوعده الصادق، وقضائه السابق، قال سبحانه: {
…
. . وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف: 8] وقال صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتى ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم
حتى تقوم الساعة وهم بالغرب" وفى رواية بالمغرب نسأل الله سبحانه أن يجعلنا وإياكم منهم، فقد كان الدين عند ابتدائه غريبا فأظهره الله على الدين كله وأقسم سبحانه بنصر من ينصره فقال: {
…
وَلَيَنصُرَنَّ اللَّه مَن يَنصُرُهُ
…
(40)} [الحج: 40] فهو تعالى المتكفل بإعزازه وإعلائه، والممد بالظهور والنصر لأوليائه، فعلينا امتثال أمره، وعليه سبحانه إمدادنا بنصره، فلا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون، والسلام.
قال صاحب الابتسام: انتهت هذه الرسالة من خط ابن إدريس وعلى هذا المساق الرسائل التي كان يبعث له منذ ظهر إلى أن غبر وانقطع منه الأثر هـ لفظه.
ومن تأمل بإنصاف تصريحات المرحوم المنعم الأمير أبى عبد الله محمد نجل الأمير عبد القادر المذكور في مؤلفه تحفة الزائر صحيفة 206. وصحيفة 207.
وصحيفة 317: علم علما يقينا صِدْقَ ما ذكرناه، ولم يبق له أدنى ريب في حسن نوايا الجد ابن هشام وإخلاصه للأمير عبد القادر وموازرته له وطهارة سريرته نحوه، وإبدائه النصائح لسموه وسعيه في إزالة ما ينشأ من خلف أو سوء فهم بينه وبين غيره من المجاهدين المدافعين، ولكن لما رأى استيلاء الأجنبى على بلدان المغرب الأوسط واحدة تلو الأخرى حتى اضطر الأمير عبد القادر إلى الفرار من بلده والحلول بأطراف إيالة المغرب الأقصى ومد الأجنبى بسب ذلك يد العداء والانتقام في بعض الثغور المغربية وأطراف الإيالة السلطانية، وألجأ ذلك الجد ابن هشام إلى مناشبة الحرب مع الجند الفرنسى، وكان له الظهور على الجند المغربى لعدم تكافؤ القوتين، وعدم اتحاد القلوب، وغير ذلك من الأسباب التي لا تكاد تعزب عن المطالع اللبيب.
وهجمت بوارج فرنسا على ثغرى طنجة والصويرة، وقذفت أفواه مدافعها الكور عليهما على حين غفلة، واحتلت وجدة وضيقت على سلطنة المغرب برا وبحرا، وصمم الجيش الفرنسى على اقتفاء أثر الأمير عبد القادر حيث ما حل
وارتحل، والأمير عبد القادر إذ ذاك حال بتخوم الإيالة السلطانية على مقربة من فاس، وفرنسا تعلن استرعاءها على أمير البلاد مشددة في مطاردة الأمير أو الإيذان بالحرب.
وتحقق السلطان العجز، وأن لات حين مناص، وليس بعد العيان بيان طلب أولا من الأمير الجنوح إلى الصلح حسبما في تحفة الزائر، وأبدى له نصائح وإرشادات وتكفل له بكل ما يضمن راحته وراحة أتباعه، فأبى الأمير ذلك كل الإباية، كما في تحفة الزائر.
ثم طلب منه بعد ذلك مبارحة إيالته التي أصبحت في خطر عظيم، تهددها القوة الأجنبية برا وبحرا وفى هذه الظروف الحرجة صدر من المهاجرين من بنى عامر -الذين كانوا ارتحلوا لبلاد السلطنة المغربية مغاضبين فأواهم السلطان وأكرم وفادتهم ونزلهم وأقطعهم أرضا للحراثة ذات أهمية كبرى وبسائط خصبة- ما صدر من مقابلتهم الإحسان بالإساءة، ووقع الهرج والمرج بسبب ذلك داخل الإيالة وفى أطرافها والقلوب مندملة، وفتنة الودايا ومن شاكلهم حديثة عهد، واتسع للمرجفين ومن في قلبه مرض المجال.
فلم يبق والحالة ما ذكر لأمير البلاد بد من القيام على ساق في إعمال اللازم في إطفاء ما تأجج من نيران الفتن، ودفع الضرر المحقق لحوقه لقطره المغربى، ورعيته المسئول عنها قبل أن يحيق بهما ما حاق بجيرانها أهل تلمسان وغيرهم، وقد تحقق من نفسه ومن إيالته عدم القوة في ذلك الوقت على التسرع للحرب، وأن الإقدام على ذلك والحالة ما ذكر غير جائز سياسة وعقلا وشرعا.
قال ابن يونس في ديوانه الذى قيل فيه إنه مصحف المذهب .. التسرع في غير قوة يورث النكث، أخّر الحرب ما استطعت، فإن النفقة فيها من النفوس هـ.
وقد اضطر سلطان المغرب لما ذكر، وشرح للمهادنة وعقد الصلح مع فرنسا وقبول شروطها فيه، إذ يتعين على المكلف بالنظر في مصالح المسلمين الاهتمام بدرء المفاسد أكثر من الاهتمام بجلب المصالح وسد أبواب الخرق الذى يتسع على الراقع، ولا خلاف في جواز الصلح مع العدو وإن كان طالبا إذا دعت الضرورة لذلك إبقاء على المسلمين وبلادهم، وأن الشاهد يرى ما لا يرى الغائب.
وقد نقل الشيخ بنانى في الفتح الربانى لدى قول خليل المبين لما به الفتوى: وللإمام المهادنة لمصلحة ما نصه ابن عرفة المازرى، لا يهادن الإمام العدو بإعطائه مالا لأنه عكس مصلحة شرع أخذ الجزية منهم إلا لضرورة التخلص منه خوف استيلائه على المسلمين، وقد شاور عليه السلام لما أحاط القبائل بالمدينة سعد بن معاذ وسعد بن عبادة في أن يبذل للمشركين ثلث الثمار، فلو لم يكن ذلك جائزا عند الضرورة ما شاور فيه هـ إلخ. ومقتضى الاستثناء في قول ابن عرفة أن لا محذور في المهادنة مع الضرورة، قاله سيدى عيسى السجستانى في أجوبته هـ.
ومن قواعد مذهبنا المالكى الضرورات تبيح المحظورات، وما شرحناه هو حقيقة الواقع، والحق أبلج، وقد ذهب المغرضون في نشر هذه الأحدوثة التي هى من أعظم المواقف في تاريخ المغربين كل مذهب، وعند الحق الذى يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور، تجتمع الخصوم وتنكشف الحقائق ويقتص من الظالم والمظلوم.
هذا وفى عام 1260 كتب له بما نصه من أصله:
"المقام الذى أعلى الله قدره. وشرف في العالمين ذكره، مولانا الإمام. خلاصة آل الرسول عليه الصلاة والسلام، جلى المناقب، وجميل العواقب، أمير المؤمنين. المجاهد في سبيل رب العالمين، محل اليمن والأمان، ومعدن الخير
والإحسان. سيدنا ومولانا عبد الرحمن، لا زالت مواهب الله على قلبه هائمة الانسجام، وعوارف معارفه دائمة الازدحام، وسلام على تلك الحضرة العالية بالله ورحمة الله وبركاته وتحياته دائمة متوالية.
هذا وقد وصل كتاب مولانا الشريف. العلى القدر المنيف، فاستفدنا منه سلامة سيدنا التي تحمد وتشكر، وتذكر ولا تنكر، أدام الله وجودكم للمسلمين، وأبقاكم رحمة للعالمين، وما ذكر سيدنا من قدومنا وانتداب المسلمين للجهاد فما قصرنا في ذلك بوصولنا تلاقينا مع هؤلاء القبائل، وقرأنا عليهم أمر سيدنا وأجابوا بالسمع والطاعة، وشرعوا يتهيئون للحركة، وبعثنا أمر سيدنا لزيان، وكنا في انتظارهم فنحن على ذاك، إذ سمعنا بخروج سيدنا من الرباط، فلم أدر ما السبب في ذلك؟ والتبس علينا الأمر، وبلغنا خبر جيش وجدة، وكذلك خبر الصويرة وما حل بأهلها، فتأسفنا على ذلك الغاية، والحمد لله على سلامة ولد سيدنا سيدى محمد ففى سلامته سلامة المسلمين، والعاقبة للمتقين.
ولما وصل كتاب سيدنا زال اللبس علينا وها نحن بصدد القدوم مع المجاهدين، وانتداب من طابت نفسه من المسلمين للمحل الذى أمر به سيدنا بإثره عاجلا إن شاء الله، مستعينا بالله وعلى محبتكم وودكم، سائلا دعاكم وملتمسا رضاكم حالا ومآلا، والسلام على سيدنا ورحمة الله، وفى 9 رمضان المعظم عام 1260.
محبكم ابن داوود بن العربي لطف الله به".
ومما كتب به للبعض من إيالته في الموضوع أصله بملف أوراق الحدود المغربية الموجود بمستودع الأوراق بالحضرة السلطانية، من الرباط، نصه بعد الحمدلة والصلاة والطابع:
"خدامنا الطرافى الباقين مع جماعة المسلمين، وفقكم الله وسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
وبعد: فقد بلغنا انحراف إخوانكم عن الإسلام ودخولهم في حزب الكفر وشيعته، واختيارهم للكفر عن الإيمان، نعوذ بالله من الضلال بعد الهدى، وركوب ما يجلب سخط الله اليوم وغدا.
وقد كتبنا لكم هذا الكتاب غيرة على جانبكم وموعظة لكم ولإخوانكم، فإذا قرأتموه تقدموا لإخوانكم بالتذكرة والموعظة، وحذروهم سطوة الله وغضبه النازل على من والى الكفر وشيعته، وبالغوا في تذكيرهم ووعظهم لعل الله أن ينفعهم بذلك فيستيقظوا من غفلتهم ويرجعوا من ضلالتهم، ففى الحديث: لأن يهدى الله بك رجلا خير لك مما طلعت عليه الشمس، وإياكم أن يستفزكم العدو الكافر بخداعه، فإنما ذلك كالسراب سيضمحل عن قريب، فعضوا على دينكم بالنواجذ، وأخلصوا النية في جهاد عدوكم بحسن يقين بنصر الله وإعلاء دينه على الدين كله بوعده الصادق، وقوموا على ساق الجد في مقاطعة الكافر، ومصارمة أهل شيعته، قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ
…
. .} [المائدة: 51] وقال عز وجل: {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56)} [المائدة: 56].
ونأمركم أن تكونوا يدًا واحدة، ونفسا متحدة مع البركة السيد الشيخ بن الطيب البكرى، فإن المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص، يشد بعضه بعضا، وقد أمرناه أن يصلح بينكم وبين إخوانكم قبائل الصحراء، حتى تكونوا معهم يداً واحدة على أعدائكم كما كنتم من قبل، لتربحوا وتنجحوا، ولا تقصروا في إرشاد إخوانكم حتى يرجعوا إليكم ويعمروا البلاد معكم، فإن الفرنصيص لا يأنفون من هذا ولا يكرهونه ولا يتعدون الحدود، ولا يطمعون فيمن هو من إيالتنا وإيالة أسلافنا قدسهم الله، وذلك لما جددنا معهم من الهدنة وعقدنا من المصالحة والسلام وفى 3 رمضان المعظم عام 1261".
وفى عام 1261 كتب لمجاط بما نصه بعد الحمدلة والصلاة والطابع الكبير:
"خدامنا قبيلة مجاط كافة وفقكم الله، وسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
وبعد: فقد كان أخبرنا خديمنا ابن حد الشعيوى، بأن الخارجين عليه من إيالته رغبوا في الرجوع إليه، والبعض من إيالة وصيفنا الجيلانى بن بوعز ذبحوا عليه راغبين في الدخول في ولايته، فوجهنا كتابنا صحبة وصيفنا المعطى الزعرى لاختبار صحة ذلك من عدمه، لأنا يزيد لكم الصلاح والسكينة وما يعود عليكم بانتظام الأمر وحسن الخدمة وصلاح الأحوال، ولو علمتم ما نحب لكم من الخير ونؤمله لكم من الصلاح لبذلتم أنفسكم وأولادكم في الطاعة والخدمة، وعليه فها نحن أقررنا وصيفنا الباشا المذكور على من كان في ولايته، ومن رغب في الانحياش لإيالته منكم، وأبقينا خديمنا القائد محمد بن حد الشعيوى على من بقى معه حسبما بالرسم المشهود عليكم، ونأمر الكل بالسمع والطاعة وحسن الخدمة والاستقامة، ومن حاد منكم عن الخدمة ورام نقض ما شهد به عليه فلا يَلُمْ إلا نفسه، ولا يضر إلا رأسه، وفقكم الله والسلام وفى 28 محرم الحرام فاتح عام 1261".
وكتب للفقيه القاضى سيدى محمد بن عبد الهادى في شأن شراء الأصول بتافيلالت بالطابع الصغير بداخله "عبد الرحمن بن هشام الله وليه" بما نصه:
"ابن عمنا الفقيه سيدى محمد بن عبد الهادى أعانك الله، وسلام عليك ورحمة الله.
وبعد: فقد بلغت موجبات بيع المواضع التي أراد مولاى اليمنى بلغثى وحفيده بيعها وتقويمها بسوم الوقت صحبتهما، ولم نشتر شيئا من ذلك، إذ لا
يشترى الأصل من لم يكن عنده من يقوم بصيانته وحفظه وخدمته، فقد بلغنا ما يقع في أصلنا هناك من تفريط الخدام والوصفان فيه وعدم خدمته وتعريضه للتلف وضياع غلته، وليس من الرشد أن نعمد إلى شراء أصل آخر ونعرضه للتلف أيضا، فإنما يشترى الأصل ويغتبط بزيادته من عنده من يقوم على حفظه وخدمته من ولد أو ابن عم أو خديم أو وصيف حازم، والله يعينك والسلام في 3 رمضان عام 1261 ".
وفيها اخترع العسكر على الهيئة المنظمة وضمه إلى جيوشه وكلف بتنظيمه على نسق النظام التركى عامليه اشعاش وازطوط، ولكن لم يتم بذلك أمر لأنفة الناس مما لم يألفوه، وما انتظم في ذلك السلك غير من لا يؤبه من أخلاط الرعاع، فارتكبوا ما هو من شأنهم من كل شنيع، فاغتاظ المترجم بذلك وأمر بتركه وإبطال العمل به.
وفيها وجه عامله على ثغر تطاوين سفيراً لفرنسا، وفى معيته جماعة من أعيان الثغر المذكور، ووجه معه وحوشا وخيلا وطرفا واحتفلوا لمقدمه بباريس احتفالا عظيما، وبالغوا في إكرامه، وقاموا بضيافته أتم قيام، وأطلعوه على معامل السلاح والمقومات الحربية، ثم بعد قضاء المأمورية التي توجه من أجلها وأوبته للحضرة السلطانية ورد باشدور فرنسا لرد الزيارة والسلطان يومئذ بمراكش، وكان نزول الباشدور المذكور بثغر الجديدة في مقدمه هذا سادس عشرى قعدة عام اثنين وستين، ووصوله لعاصمة الجنوب في الثانى عشر من ذى الحجة، وورد في معيته من أهل طنجة والجزائر خمسة عشر رجلا، ومن الفرنسيين تسع وعشرون، ومن اليهود عشرة، فأكرم وفادته وأنزله بالبستان المعروف إلى اليوم بالمأمونية، ورتب له جراية وافية مياومة أربعة رءوس من الضأن، ونصف ثور، ومائتى خبزة، وخمسين
دجاجة، وثمانية أرطال من الشمع، وما يناسب ذلك من السمن والزيت والخضر والحليب والزبد.
وفى اليوم الثالث من أيام وصوله صدر إليه الإذن بلقى السلطان، وفيه كان اقتباله له أمام قبة الصويرة الشهيرة بعاصمة الجنوب، والمترجم ممتط ظهر جواده، والجيوش والوزراء وأعيان الدولة مصطفة عن اليمين والشمال، ثم تقدم السفير وقدم ما أتى به من الهدية ستة مدافع نحاسية من الطراز الجديد محمولة على كراريط مزخرفة، وما يحتاج إليه كل مدفع من الإقامة، وأربعة أفراس من إناث الخيل العتاق، ثم ناول الكتاب الذى أتى به للحضرة السلطانية فناوله السلطان لقائد مشوره ففتحه وناوله للترجمان فقرأه أمام صاحب الترجمة، ولما ختمه وأحاط المترجم علما بما حواه كان من جملة ما شافهه به أن قال له: سنكون معكم على ما كان عليه أسلافنا وأنتم جيراننا لكم علينا حفظ الجوار، وقد كنا قبل نسمع عنكم ما لا يليق، أما اليوم فقد تحققنا صدق محبتكم في جانبنا.
وإننا مستعدون لقضاء شئونكم، ثم دخل جنانه، ورجع السفير قال نزوله، هذا ملخص ما أفاده بعض من شاهد ما ذكر من حذاق الكتاب في مقيداته، وكان إبحار هذا السفير من ثغر السويرة، كذا قال بعض كتاب الدولة العبد الرحمانية في بعض مقيداته.
وفى عام 1262 كتب لأبناء عمه بما نصه بعد الحمدلة والصلاة والطابع:
"أبناء عمنا الأشراف، أهل قصبة سيدى ملوك، وفقكم الله وسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
وبعد: فقد وصلنا كتابكم، وعرفنا مضمنه وما ذكرتم من حطنا من قدركم، وأنا لم نجركم مجرى أسلافنا الكرام قدسهم الله من الاعتناء بكم، والدفاع عن
حوزتكم، فمعاذ الله أن يصدر ذلك منا، وحاشا الله أن نسلمكم أو نهملكم مع أنكم من خيار أبناء عمنا وأرضاهم وأحظاهم لدينا، وما طلبتم من أمرنا الشريف بتقويم بلادكم لتبيعوها لجانبنا العالى بالله، وتنتقلوا منها لسكنى مراكشة حيث تخيرتموها لشبهها بالصحراء، فاعلموا أن بلادكم لا تصلح إلا لكم، وعن قريب ينجلى هذا الغبار، ويأخذ الله أهل الفساد الفجار، ويرجع المخزن إلى نصابه، والصلاح إلى أحزابه، فإن مع العسر يسراً، إنَّ مع العسر يسرًا، والسلام وفى 24 ربيع الأول عام 1262".
وفى عام 1263 كتب لولده الخليفة بما نصه بعد الحمدلة والصلاة والطابع الكبير:
"ولدنا الأبر الأرضى، سيدى محمد أصلحك الله ورعاك، وسلام عليك ورحمة الله تعالى وبركاته.
وبعد: فيرد عليك كتابان لولد الشبلى في شأن خديمنا الحسين الجروانى، طالعهما لتكون على بصيرة في أمره، فقد عجز الذين معه عن مقاومة بعض زمور ولم يقوموا به، فكيف بعداوة بنى مطير! والعاقل لا يرتكب ما لا يقدر عليه، ولا يسعى فيما يجر الغلبة إليه، فلا بدّ اسعَ في إطفاء نار الفتنة الثائرة بين القبيلتين، وباشر الصلح بينهما حتى تضع الحرب أوزارها، وتذهب الشحناء بين الفئتين.
وقد تواتر لدينا من كتب العمال ولد الشبلى وغيره، ارتكابه للخوض والسعى في إثارة الغوغة على العمال ومواعدة فسدة القبائل بالولاية، حتى تشوف لذلك كل قاطع ومارق، وأن الواقع في بنى حسن، إنما هو بسببه لسعيه في ولاية العامرى بن إدريس وتسريحه، وقد كان حاول ذلك لما كان هنا وتكلم حتى في هذا أخ عق أرح الذى وجهنا، ولم نساعده على شئ من ذلك، ولما قدم وجد فيك محل قبول لذلك ومساعدة، ونحن لم نكره ولاية العامرى، واستقامة بنى
حسن معه، لأنه ولد الدار وله، ولسلفه صالح خدمة ونصيحة وقدم صدق في الحزم والنجدة، غير أنه خلط ولم يتبع سيرة سلفه وتخلق بأخلاق البربر وآثرهم على العربية، وأراد جعل قدمهم على رقاب بنى حسن، وسعى في وطئهم بهم، وجعلهم مخزنا عليهم مع فسادهم، وخصهم بإعطاء جيد خيل بنى حسن وتفريق مال الله الذى جمع عليهم، وجعلهم وزره وحاميته، حتى أعلام المخزن التي كانت عنده أعطاها لزمور، ورضى بالدنية لهم التي لم يرضها أسلافه من قبل، حتى عقد حلف الطاطة معهم، الذى لا يرضى فعله ذو نفس أبية، وهمة عربية، من ارتكاب عادتهم الجاهلية في ذلك من الاجتماع معهم على طعام مخصوص، والمشى إليهم حافيا عارى الرأس، ليكمل العقد ويطمئنوا إليه، ويصير من جملتهم، وقد اقتدى به إخوانه وغيرهم، وتخلقوا بهذا الخلق السيئ الشيطانى، وقد كان بنى حسن أشداء على عداوة البربر، ساعين في قمعهم، مثابرين على قتالهم، لا يرضون بجعل العافية معهم فضلا عن مؤاخاتهم ومحالفتهم، وبذلك صلاح زمور واستقامتهم، فانظر إلى ما رجعوا إليه اليوم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم، مع أنه من المعلوم المجرب أن ولايته عليهم لا تعقب إلا بالفتنة والاضطراب، كالواقع الآن وسعى الجروانى في هذا وشبهه ليس فعل عمال النصيحة وولاة الصلاح.
وقد سرى ذلك حتى دخل في الغرب، فقد لقيه الحباسى بمكناسة، وأهدى له بغلة ووعده بالولاية، وصار يشنع ذلك ويشيعه في آذان العامة مع سكون أهل الغرب ورضاهم بولاية عاملهم لما مسهم من الراحة وعمهم من العفة وحسن الملكة، وأعلمناك بهذا كله لتكون على بصيرة، وتنظر فيه بحسن النظر، وتتنبه لما وقع وصدر، وتكشف عن حقيقة ذلك وصحته من عدمها، ونحن الآن نراعى أمر الفتان الحاج عبد القادر، فقد بلغنا استفحال أمره، وانتشار ضره، ونريد من يسعى
في أمر الألفة والجماعة ما أمكن، ليكون ذلك عونا على ما يحاول من اجتثاث أصله، وحسم مادة إفساده، ولا شئ أعون على ذلك من إصلاح القبائل، واستقامة خدمتها، وهذا الحباسى لا يبعد وقوع هذا منه لخفته وطيشه.
فبوصول كتابنا هذا إليك، وجه عليه كأنك احتجته لغرض، ووجهه موكلا به من يحفظه من غير كبل ليد اشعاش لتطوان، ومره بتثقيفه كما كان عبد الله بن القرشيّ عنده وعند والده من قبل، وهذا الأمر لا تظهره للجروانى، ولا يشم له رائحة، إذ ربما يسوء ظنه لأن طبعه جاف يأبى قبول النصح ويشمئز منه، إنما أردنا بهذا كله تبصرتك وتنبيهك لتتفطن وتكون على بال، والسلام في فاتح جمادى الثانية عام 1263".
ثم كتب له بما نصه بعد الحمدلة والصلاة والطابع الكبير:
"ولدنا الأبر الأرضى، سيدى محمد أصلحك الله ورعاك، وسلام عليك ورحمة الله تعالى وبركاته.
وبعد: فقد وصلنا كتابك مخبرا بسلامة تلك النواحى وسكون قبائلها وانتفاء ما كان من الخوض والاضطراب فيها، فالحمد لله، فهذه النواحى كذلك، زاد الله المسلمين صلاحا وألهمهم رشدا ونجاحا آمين، وقد وصل كتاب ولد أب محمد مخبرا بما أعقب قتال فسدة غياثة من دخول الرعب في قلوبهم وقلوب جيرانهم، حتى قدموا عليه راغبين في معونة المحلة لظهور ثبات الجيش السعيد، وإقدامه وفتكه في المتجاسرين عليه، وعلمنا من جوابه عتابك له على الواقع، ولعل ذلك خير، فإن غياثة لئام لا ينبغى إلا أن يقابلوا بالجد والقوة، وأن يهانوا ولا يكرموا، وليسوا أهل مكرمة، إن قوبلوا بالبشاشة واللين رجعوا وراعوا بل عند ذلك يزدادون جسارة وتعنتا:
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته
…
وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا
وإنما اللائق هو مقابلتهم بالشدة، وأخذهم بالعنف، ليلزموا طورهم، ويعرفوا قدرهم، فقد جربناهم وخبرناهم، وتعرفنا ذلك من طباعهم أهلكهم الله، ومع هذا النازل بهم ورغبتهم في الصلح لا تركن لما أظهروا ولا تغتر بسكون الفتان، وخذ الأهبة والاستعداد بعمارة تازة وشحنها بالرماة النفاعة، التي تكون حامية ومنعة، مثل رماة العرب دخيسة مائة، وأولاد نصير مائة، وذوى منيع خمسون، والشجع خمسون وثلاثمائة أو أربعمائة من رماة الجبل إيالة الصنهاجى وفرجى.
ورتب لهم الكفاية، فإن الرماة أكثر معونة وأقل مئونة، حتى إن كان الطول يملهم اجعل لهم الإدالة يتبدلون بعد الشهر أو الشهرين، ولا يلحقهم ملل ولا ضجر، وهذا العسكر النظامى حيث ظهر ثباته وإقدامه ونكايته في العدو استكثر منه على قانونه وإعداد عدته، وقد أخبر ولد أبي محمد أن سبب اضطراب تلك القبائل هو ما ألقاه الوزغ ولد بوزيان مما كنا منيناه به، حين كان بحضرتنا الشريفة، وذلك إنما كان منا على وجه المدافعة والوعد، حيث أكثر الإلحاح والرغبة، وإلا فأى فائدة ظهرت على يد الكرارمة، وأى عائدة عادت على الدولة منهم حتى يجابوا لما طلبوا! وما أفسد قلوب تلك القبائل وكفرهم في المخزن إلا ولايتهم لما يرتكبونه فيهم من العسف والظلم والبغى الخارق للعوائد حتى يختاروا الكفر عن عودهم لولايتهم، فكيف بالدخول في حزب الفتان! فذلك أيسر عليهم من تحمل أعباء ولايتهم.
وانظر ما نتج منهم من كثرة الإرجاف وإلقاء الرعب في القلوب مما سودوا به الصحائف، وطولوا وهولوا وخوفوا من أمر الفتان، وأنه قادم لتازة لا محالة، وطلبهم للمدد والخيل والعدة والمعونة بالعسكر وغيره.
وقولهم في مكاتبهم: إنه قال لهم إن أردتم الخير لأنفسكم تنحوا عن الطريق، وإلا فسيحل بهم ويحل، وذلك فتٌّ في عضد المخزن وشيعته وإرجاف، حتى كأنهم ينادونه هلم فليس هناك من يلقاك، أهلكهم الله وزادهم ذلا وهوانا، فلا أضر على الدولة منهم، فإنهم الذين ربوا هذه الفتنة بإيواء الفتان ودائرته، وإظهار الإشفاق عليه والترغيب في الإحسان إليه، وأن ليس مراده في شئ إلا الحماية والمعيشة وهو يسر حسوا في ارتغاء، حتى برز منه ما برز ولحقهم من شؤمه ونحسه ما صيرهم عالة {. . . وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ. . . (18)} [الحج: 18].
وما ذكر على شأن الجيلانى بن العواد والشافعى وعدم نجح سعيهما في تلك الناحية، فالأمر كذلك، فالأول قائد فتنة لا زال لم يغسل عارها، وسبب محنة أصلاه نارها مع خبث لسانه وعدم إحسانه، وأما الشافعى فلا يعرف صرف أهل تلك الناحية ولا الكلام معهم، لأن صرف الشاوية وكلامهم بخلاف هؤلاء، والموجه لهم ينبغى أن يكون به عارفا.
واندب لكل مهم أهل بلواه.
وفى تكليف ولد أب محمد بذلك غنية فإنا نعرفه في حال الخلافة خيرًا دينا مع محبة وصدق لهجة، فهو أولى بالمباشرة وأحق بالتكليف، وقد مارس قبائل تلك الناحية وعرف أهلها وصرفها وحمد مسعاه وحنكته التجارب، والله ولى التوفيق والسلام في 6 رمضان المعظم عام 1263".
وفى سنة 1266 كتب بعض أولاد سيدى الشيخ للقائد حميدة الشجعى يخبره بحالة قبائل الحدود بما نصه ومنه تعلم بعض الأسباب التي اضطرت المترجم إلى ارتكاب ما قدره الله وقضاه:
"محبنا الأرضى، الرئيس الأعز المرتضى، القائد السيد حميدة بن علي، أعانك الله، وسلام عليك ورحمة الله تعالى وبركاته ورضوانه الأعم وتحياته.
وبعد: فإننا والحمد لله بتمامه لازلنا على عهدكم ومحبتكم، نسأل عنكم ونحبكم وندعو لكم، لكن بقى القلب متعلقا من أجلكم حيث لم يأتنا من لدنكم كتاب ولا جواب مع قربكم منا ومحبتنا معك راسخة لا يفصمها عارض من العوارض. . . . وأما خبر هذه الناحية فالسكوت عنه خير من الخوض فيه، فقد تراكمت أهوالها واشتدت أزمة الفتن حتى وصلت حدها، وخافت الناس سطوة العدو الكافر دمره الله، وهابوه لذلك لا سيما حيث أمنوا انتقام المخزن وعدم قيامه لديهم، فجدوا في الفساد واتخذوه سبيلا، وامتلأت بلاد الله بغيا وفسادا، وأكل القوى الضعيف، ولم يبق خوف ولا حياء إلا من الكافر لا غير، فلما ثار ذلك وشاع لديهم ذهب ميعاد المهاية بفرسهم وهديتهم للكافر يطلبون الأمان لأنفسهم، فتبعهم كثير من القبائل كبنى حمليل، وبنى بوحمدون وغيرهم، فأمنهم الكافر وأجابهم بما يقتضيه ظاهره، كما كانت عادته وباطنه على دغل يترقب الفرصة وينتهزها مهما وجدها، والناس في وجل منه، والفساد بينهم لا حدّ له.
فأهل أنجاد يشنون الغارات على أطراف وجدة وبنى مطهر أكلوا مال بنى وكيل وبعض مال المزاوير معه بوترفاس بنفسه ولم يبق حسن ولا محسن، والجهة التي تلى الحدود كلها التجأت لإيالة الرومى ما عدا بنى يعلى مع أنهم بقوا في حيرة من عدم الملتجأ، فهذا وجه ما عليه الناس في نواحينا كافة، نسأل الله السلامة لديننا ودنيانا آمين، وحامله الطيب الطرشى منا وإلينا استوص به خيرًا بارك الله فيك وأعانك، وعلى محبتك وعهدك والسلام في 28 ذى الحجة الحرام متم عام 1266، ويسلم عليك أخونا كاتبه صح منه حمزة بن الطيب لطف الله به" من ملف أوراق الأمير عبد القادر المحفوظ بمستودع الأوراق بالقصر السلطانى بالرباط.
وفى عام 1266 أحدث المترجم المكس أولا في الجلود فقط بفاس وغيره من الأمصار، وذلك على يد المصطفى بن الجيلانى الدكالى، والمكى القباج ثم أحدثه في البهائم ثم تفاحش أمره من بعده.
وفى عام 1267 أصدر ظهيرا نصه بعد الحمدلة والصلاة والطابع الصغير:
"يعلم من كتابنا هذا أسماه الله وأعز أمره أننا أمضينا للتاجر الحاج قاسم حصار السلوى وشريكه ولد المسعودى بيع كنطردة الثيران التي يسقها جنس اللنجيز من طنجة وتطوان حرسهما الله تعالى مدة من عام واحد، يأتى من تاريخه على أن يؤديا لبيت المال عمره الله عشرة آلاف مثقال، الحق بالطرة وشريكه ولد المسعودى والسلام في 11 ربيع الأول عام 1267".
وفيها كتب بعضهم للقائد فرجى باشا فاس الجديد واحد وصفان السلطان سليمان الممتازين كان بمثابة أحمد مولى إتاى، وكان له نفوذ شاسع ومكانة عالية في الدولة العبد الرحمانية، ونص الكتاب بلفظه بعد الحمدلة والصلاة:
"أدام الله سعادة الباشا الأمجد، الفارس الأنجد، الوجيه النزيه، الأفضل النبيه، الماجد الأكمل القائد فرجى أدام الله عزك بوجود مولانا المنصور بالله، وسلام تام شامل عام عليكم ورحمة الله عن خير مولانا نصره الله وأبد ملكه.
وبعد: فليكن في كريم علم مولانا أدام الله عزه أننا لما توجهنا لهذه الناحية ما رأينا إلا الخير الكبير ببركة وجود مولانا أعزه الله، حتى وصلنا لعيون سيدى ملوك فالتقوا بنا كبار بنى يوناسن والنجع وهوارة وفرحوا بنا كلهم فرحا كبيرا، ومانونا مئونة جيدة، وسرنا لوجدة فلما دخلنا والتقوا بنا أهلها سلموا علينا ومانونا مئونة ضعيفة ونفروا منا نفورا تاما خاصتهم وعامتهم، فغفلنا عنهم حتى ننظر مرادهم.
فلما كان بعد وصولنا بثلاثة أيام قدم (1) كبار بنى يزناسن وشيخهم الحاج ميمون ليسمعوا أوامر مولانا المنصور بالله، فلما دخلوا عندنا اجتهد (2) أهل في إقامة الفتنة وساروا يترددون في الهجوم علينا وعليهم حتى لصبيحة غد خرج للسوق بعض من قدم معهم من أهل وجدة الفارين من البلد، فدفعوا عليه وهجموا على القصبة عن آخرهم بالعدة والسلام والبارود، وطلعوا على الأسوار واستولوا على القصبة، والتجار ينادون بالشرع ويستغيثون، ونحن نطفئ ذلك بأنفسنا، حتى قدم بعض من أشياخ العرب، فركبوا وركبنا، وخرجناهم سالمين، وحضر لطف الله في الدماء والأموال والحمد لله، ولما وقع ذلك اجتمعوا بنى يزناسن وجميع عرب آنكاد وتعاهدوا على أن من حاد منهم عن خدمة المخزن يحرقوه أو يقتلوه واجتمعوا أيضا أهل وجدة وتعاهدوا على الفساد والعصيان، وساروا يكاتبون الرومى دمره الله بما لا يليق، وهذا بإشهاد جميع التجار وغيرهم من أهل العدل والصلاح وهذا ما وجب به إعلام مولانا أدام الله عزه والسلام وفى 3 شعبان الأبرك عام 1267".
وفى عام 1268 كتب بما نصه وهو يدل على اهتمامه بكل شئ بعد الحمدلة والصلاة والطابع الصغير:
"وصيفنا الأفلح بريك الحبشى، وفقك الله وسلام عليك ورحمة الله.
وبعد: فيرد عليك صحبة حامله اثنتان وثلاثون جلاسية (3) من الخليع البقرى، فيها ثلاث من البطون، فنأمرك أن تدفع لولدنا مولاى سليمان ثمان جلاسيات، ولمولاى عبد الله أربعا، ولمولاى الحسين أربعا، ولابنتنا زوجة سيدى
(1) في المطبوع: "قدموا".
(2)
في المطبوع: "اجتهدوا".
(3)
في هامش المطبوع: "أوانى خزفية معروفة".
المهدى بن العربى ثلاثا، ولأختها زوجة مولاى الظاهر ثلاثا، والباقى وهو عشر جلاسيات ادفعهم لدارنا بآبار، واجعل ذوات البطون في عددها لا في عدد ما أمرنا بإعطائه، وحظ مولاى عبد الله ومولاى الحسين ادفعه لهما ولا يتصرفان فيه، بل أبقه تحت يدك حتى يدخل كل واحد لمحله، لأن مئونتهما اليوم من دارنا، كما يرد عليك صحبة الحامل المذكور أربعة قناطير من الزيت، ادفعها للدار تكون بالخزين أيضا، ومنه تكون عولة مولاى سليمان والسلام في 25 صفر عام 1268".
وفيها كتب القائد محمد بن عبد الصادق للمترجم بما نصه بعد الحمدلة والصلاة:
"بعد تقبيل بساط سيدنا المنيف، ولثم قدمه الشريف، ثم الإعلام لمولانا أن الرومى دمره الله لما كتبت له قبل ورود الأمر الشريف، وطلبت منه أن لا يترك عساكره هناك، وأن ينهض من محل نزوله امتثل، لكن عدو الدين لا يؤمن بقى بمحله بعد بعث من حيز عليه من غير مضرته لشئ وقوله لا ينهض حتى يتلاقى مع عبد مولانا، ويجعل معه العقدة التي يكون فيها الصلاح للدولتين، ثم بقى على حاله المذكور إلى يوم الثلاثاء السادس والعشرين من شعبان الأبرك ونهض لمرس قربه من قبيلة بنى يزناسن، إلى أن وصل ولم يجد الحال حينئذ من أهل القبيلة المذكورة بالمرس المذكور إلا شرذمة قليلة من بنى خالد وبنى منقوش نحو المائتين، ومنعوه النهب من المرس المذكور وقاتلوه قتالا عظيما وردوه على عقبه، ومات من الجانبين من مات وانجرح من انجرح، ورجع لمحل نزوله.
ويوم الأربعاء من شهر الله رمضان وافانا نجل مولانا السعيد مولانا العباس بالمحلة السعيدة لتفرسيت، ولاقيناه بالفرح والسرور الواجب وكثرة المئونة، وساعة وصوله ورد علينا رقاصيص في وجدة وبنى يزناسن يطلبون التعجيل بقدومنا
لناحيتهم لما أصابهم من القلق ووفور الوجل، ونحن ما ظهر لنا توجه لتلك الناحية بالمحلة السعيدة ما دام عدو الدين قربها، إلا أن أذهب بنفسى خاصة في نحو مائة فارس وبعض أعيان قبائلنا الريفية بعد تركى المحلة السعيدة في قبائلنا الريفية ناعمة بحمد الله بوفور المؤنة ونئوب عاجلا لقبض الواجب من القبائل الريفية التي هى آكد التقديم، وفى ذلك مصلحتان: إحداهما لئلا ينسب الرومى لنا إعانة الرعية، الثانية التقديم منهم لأن النفع فيهم أكثر من غيرهم من القبائل الوجدانية ولراحة المحلة أيضا، ثم الإعلام أيضا لسيدنا أن بنى يزناسن آخذون في خواطرهم ذاكرون أن مولانا سمع فيهم كلام غيرهم وقبض مساجنهم، وامتنع من تسريحهم، لأن الأشجاع إخوانهم وتحت كفالتهم، وكذلك من معهم من الثلاثة نفر لأنهم إخوانهم، ولم يكن بوجدة إلا سكناهم، وهم الآن مجموعون في سجن فاس، وقد طلبوا منا الشفاعة فيهم المرة بعد المرة، وجوابى لهم أن الطاعة لا تكون بالشرط، وحتى الآن تعين علينا الكلام وظهر لنا أن الشفاعة في شأنهم فيها مصلحة، حيث القبيلة المذكورة زرب الطرف قابضة على دينها وإيمانها أفضل من غيرها، فالمطلوب من سيدنا أن يجبر خواطرهم بتسريح المساجين المذكورين، وينفى عنهم الشك الواهى من أنهم فيهم غرض أهل وجدة، وهم الآن إخوان وذات واحدة وهم عمارة وجدة، ما عدا ابن زعيم، لا كلام لنا فيه.
والنظر في هذا كله لمولانا والعبد على الخدمة طالبا من سيده صالح الأدعية والسلام وفى 5 رمضان المعظم 1268، مقبل الأرض بين يدى سيدنا، محمد بن عبد الصادق أمنه الله" صح من أصلها الموجود بمستودع الأوراق الرسمية بالقصر السلطانى من رباط الفتح.
ثم كتب أيضا بما نصه بعد الحمدلة والصلاة والطابع الكبير:
"خديمنا الأرضى القائد محمد بن عبد السلام بن عبد الصادق الريفى، وفقك الله، وسلام عليك ورحمة تعالى وبركاته.
وبعد: فقد وصلنا كتابك مراجعا فيما أمرناك به من إسقاط الواجب هذه السنة عن فرقتى بنى منقوش وبنى خالد جبرا لحالهم، وإعانة على ما ضاع لهم، فذكرت أنك طالعت كبراء القبيلة كالخديم الأنصح الحاج ميمون وأشباهه، فنشطوا لذلك وفرحوا برد البال لهم، وكون الخاطر معهم، ثم ذكروا أن الذى تقتضيه المصلحة هو عدم الإسقاط عنهم وأحرى حيث ألفاك الحال قبضت منهم لا يناسب الرد لهم، لأن القبيلة تتشوف لمثل ذلك لكون الجهاد وقع من الكل إلى آخر ما ذكرت.
أو أنك بعد ما أردت الشروع فيما أمرناك به من الكلام مع الرومى على الحقوق التي قبلهم ومحاججته ردك عن ذلك أعيان القبيلة مخبرين أن المصلحة في عدم المراجعة الآن للعلة التي ذكروا، وأن مثل ما صدر هو كثير الوقوع من الجانبين من قديم، ثم يقع الصلح في ذلك ووجهوا كتابهم بهذا، وأن ترحيل الشيخ سليمان العطياوى من المحل الذى هو به لا يناسب لما في بقائه هناك من المصلحة، فاعلم أرشدك الله أن الذى يبلغنا ويظهر لنا نكتب لكم والعامل الناصح العاقل السديد الرأى يتأمل القضايا على مقتضى مصلحة الرعايا، ثم ما يرى المصلحة في تنفيذه ينفذه، وما يرى المصلحة في عدم تنفيذه يراجع فيه، ونحن لا نكره. المراجعة.
والآن حيث اقتضى النظر عدم الإسقاط عن الفرقتين المذكورتين، وعدم الرد لهم فاترك ما قبضت منهم تحت يدك وأضفه إلى غيره، ولا ترد لهم شيئا، فإنا ما أمرنا بذلك إلا جبرًا لحالهم، وأما الجهاد فهو فريضة وفضيلة يتعين على كل أحد حيث يفجأ العدو، ثم حيث أشار أعيان خدامنا بنى يزناسن وفرهم الله بعدم الكلام الآن مع الرومى وأن الرأى تأخير ذلك، واستصوبت أنت إشارتهم فاترك الكلام معه، ولا تخاطبه فإن الحاضر بصيرة ويرى الشاهد ما لا يرى الغائب.
وكذا الشيخ سليمان البطياوى حيث كانت المصلحة في بقائه بمحله فاتركه فيه ولا تنقله منه، وأنت بصيرة ما يناسب فإنا نكتب على مقتضى ما يبلغنا، فما يكون صوابا وسداد نفذه، وما تأملته وكان الأمر على خلاف ما بلغنا فيه راجعنا، فإنك أصلحك الله من أهل العقل والتجربة والعراقة في الخدمة، زادك الله توفيقا وإرشادا آمين، وما كان على خلاف الصواب ونفذته فالعهدة فيه عليك، والله يوفقك والسلام في 25 قعدة الحرام عام 1268".
وفى عام 1270 كتب بما نصه بعد الحمدلة والصلاة والطابع:
"ولدنا الأبر الأرضى سيدى محمد أصلحك الله ورضى عنك، وسلام عليك ورحمة الله تعالى وبركاته.
وبعد: فيصلك طى هذا كتاب وجهه الطالب عبد السلام بن عبد الكريم جوابا عما قدمناه له من كتاب الزكاة، أخبر فيه عن حال القبيلة بما تراه فيه، ولا شك أن الزكاة فرع عما يزكى، وحيث كان حال القبيلة كما شرح، فمن كان عنده نصاب شرعى من زرع أو ماشية فليطالب بها على قدر ما عنده، ومن ليس عنده نصاب فلا يطالب بشئ.
وعلى هذا يكون العمل في شأنهم لكن إن صرحنا لهم بذلك تشوف له غيرهم من جيرانهم، لأن تلك النواحى كلها هذا العام ضعيفة، والآن تأمره مشافهة حين يكون عندك في العيد بأن يخاطبهم بأن من كان عنده شئ فليزكّ على ما عنده، ومن ليس عنده شئ يقول لهم: أنا أؤدى عنكم، ولا يطالب بعد بشئ من ذلك، وإنما يفرغه لهم في هذا القالب للعلة المذكورة لأن أهل الغرب لا يقصرون إن كان عندهم ما يعطون، فينبغى الآن الرفق بهم والسعى في جبر حالهم، لأن ذلك الظالم تركهم لحما على وضم كما يصلك بطيه أيضا كتاب وجهه عبد الكبير بن المدنى في شأن ما كلفناه به من قبض ما تراه فيه من عند
رجلين ظننا أنهما معا بإيالته، فبوصوله إليك مُرْ عبد السلام بن عبد الكريم بالقبض على ولد أخت الشافعى وأخيه المذكورين فيه وتوجيههما إليك، ثم وجههما لعاملها المذكور ليستخرج منهما متاع بيت المال، هذا وقد وصلنا كتابك وعلمنا ما فيه وتصفحنا ما أجاب به ابن عبد الصادق في القضية المعهودة، وعلمنا من كتابه الذى وجهت سابقا ما أخبر به من رد الولد النصرانى لأهل ملته، وما ذكره في شأن العداوة بين الريف والصبنيول، وأن لا خير في الهدنة بينهما، فذلك هو المقصود، لكن لو كانوا يقتصرون على مقابلة السيئة بمثلها مع الصبنيول فقط.
وأما ما يفعلونه بالإنجليز وغيره من الأجناس البعيدة عنهم، فإنهم يجرون به كثرة الكلام والهرج.
وما ذكرت على الشريف الذى جاء يعرض بيع أملاك له باكحيك، فإن لنا هناك أصولا، فاكتب لوصيفنا الحبشى يقومها، ويوجه لك رسم التقويم ومواجب البيع، وادفع ثمنها للبائع أو بوكيله بعد تسليم الموجبات شرعا، وما طلبه مقدم الشيخ أبى يعزى من زليج البديع على المثال الذى كانت مزخرفة به القبة، فادفع له من الزليج الموجود في الوقف لا غير، لأن الترقيع ليس كالبناء.
وما ذكرت في شأن مجاط الذين قبضهم الطالب عبد السلام بن عبد الكريم الشعيوى ومن معه، فهؤلاء كانوا نازلين هنالك بالإذن قديما، فأمره بتسريحهم وإبقائهم هنالك، ونحن لما ألح علينا إخوانهم هؤلاء بالطلب في جلب الفارين أجبناهم لذلك، ومن كان له إذن كهؤلاء فليسوا منهم، وعلمنا ما ذكرت من توقف مولاى عبد الهادى فيما توجهه إليه من أمر الأصول على الإذن من قبلنا، فها نحن كتبنا له بذلك، وها كتابه يصلك طى هذا، فاختم عليه ووجهه له.
وأما الحطوشى فقد قدمنا لك أنه لا يوثق به، لأنه يقبض من البائع والمشترى ولا عليه.
وما ذكرت في شأن الولد المقبوض في جرح وصيف سمار من وصفاننا فانظر في أمره، فإن كان من أهل الدعارة والفساد فألقه بالسجن ورتب له ما يقتات به، وإن كان لم يصدر منه إلا الجرح المذكور فهذا حق لنا قد سامحناه فيه فسرحه والسلام، ألحق بطرته مشافهة حين يكون عندك في العيد، بعد تسليم الوجبات شرعا صح به في 1 ذى الحجة عام 1270 الحق بين أسطره شرعى صح به" صح من أصله.
وفى عام 1271 كتب أيضا بما نصه بعد الحمدلة والصلاة والطابع:
"ولدنا الأبر الأرضى، سيدى محمد أصلحك الله ورضى عنك، وسلام عليك ورحمة الله تعالى وبركاته.
وبعد: فقد وصلنا كتابك وعرفنا ما فيه، ووصل زمام أمناء فاس بصائر الشهر الفارط، وعلمنا ما ذكرت من صدق الحشم فيما ادعوه من ساقية الجديدة، كما علمنا كتبك لمولاى الصادق بما قدمناه لك وإعادتك الكتب له بعد ورود كتابه الذى وجهت بطيه، وقد تصفحناه وكتبنا له بما تراه طى هذا، فاختم عليه ووجهه له، والله يوفقه للقبول، ويصلك زمام رسوم 4 وبطائق 3 كانت تحت يد الأمناء تضمنت ما بذمم المذكورين فيها من صائرنا الموفر بالله، فأما ما بذمة دخيسة وأولاد نصير وذوى منيع فكلف عمالهم باقتضائه والإتيان به.
وأما ما بذمة بوزيان فعهدى أنى كنت أمرت بحيازة بلاده في ذلك، فإن كانت حيزت فذاك، وإلا فأمر بحيازتها، وكان بذمته وبذمة إخوته أكثر من ذلك، فقد كنا سلفنا له لما كنا بحركة عين زورة أكثر من ألفين، فباحث الأمناء لعلهم أن يجدوا ذلك في كناش الأمين الذى كان معنا وقتئذ.
وأما ما بذمة ابن المانع فإن كان ما يحاز منه فحزه، وأمر الأمناء أن يجعلوا لعبد الله العلج الذى بباب دارنا العالية بالله هنالك الوارد من المشرق كسوة تناسبه
من كساوى المخازنية، وأن يدفعوا له خمسة عشر مثقالا، كما يصلك كتاب لابن عبد المالك الريفى، وآخر لقونصو الفرنصيص تطلع منهما على قضية وقعت بطنجة، وكنا كتبنا للخطيب لما ورد علينا كتاب ابن عبد المالك أن يحتج عليهم بأن هذا الرجل هم أتوا به من بلادهم بعد ما صدر منه معهم ما صدر، فهم يعرفونه ويعرفون حالته وأنزلوه عندهم وأجروا عليه مئونتهم حتى صدرت منه هذه الواقعة، وكان من حقهم حيث أتوا به مع معرفتهم بحاله أن يسلموه لعامل البلد في كبله فيعلمنا به، وننقله من هنالك ونعرف ما نسلك في أمره حتى لا يصدر منه هذا ولا شبهه، فصاروا هم المتسببين في قتل ذلك المسلم فهم المطالبون بدمه.
وأمرناه أن يسلك معهم في القضية ما ينقطع به الكلام حتى إن رأى أنهم لا يريدون إلا القصاص، وأن لا محيد عنه، فليكتب لابن عبد المالك أن يقتص منه، لأنه قتل مسلما عمدًا، ثم بعد ختمه ورد كتابه في القضية فاستدركنا له في الكتاب المذكور، أن الذى يكون عليه العمل هو أن يحتج عليهم أولًا بما ذكر، فإن لم يفد فليسلك معهم مسلك الشرع، وما حكم به عليه العمل إن أذعنوا لذلك وإلا فليخبرنا، ولا شك أن الشرع لا يقتل مسلما بكافر لكن هذا قتل مسلما عمدا عدوانا ومصالحا يجر بقتله ضررا على المسلمين، فعلى كل حال استحق القصاص بقتل المسلم، وإذا كان كذلك فنخرج من باب واسع.
وقد ورد أخوك مولاى العباس أصلحه الله ومن معه، ووصلنا كتابك صحبتهم، وعلمنا تنفيذك لهم ما يحتاجونه لسفرهم وللطلبة ما أنعمنا به عليهم أصلحك الله ورضى عنك، ويصلك كتاب للطالب أحمد اللب وجهه له مع ظهير والسلام في 25 جمادى الأخيرة عام 1271" صح من أصله.