الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بنفقته، وأنه بمصافاة الأبرار، تظهر طوالع الأسرار، ثم أفحمنى عن ذلك كثرة العوارض والأهوال، وكثر المماطلة وتبدل الأحوال، ومقاساة الشدائد والفتن، وكثرة الهواجس والمحن، وليس فضل الله بممتنع، وخيره سبحانه ليس بمنقطع هـ.
وفاته: تُوفِّي عام خمسين ومائة وألف رحمه الله.
554 - أبو القاسم قاضى الحضرة المكناسية وابن قاضيها سعيد بن أبي القاسم العميرى -بفتح العين نسبة لبنى عمير، فرقة من تادلا الجابرى التادلى
.
حاله: آخر أدباء وقضاة العدل بمكناس، ذو سمت حسن، وسكينة وتؤدة ووقار، علامة علم الأعلام، حجة الله على الأنام، ركن التحقيق المستلم، الجامع بين اللسان والقلم، صدر صدور المشايخ، ومن له في الفنون العقلية والنقلية القدم الراسخ، الناظم الناثر، واضح المفاخر، كثير المآثر، قاضى قضاة العصر، الطائر الصيت في كل مصر، محبوب الأنام نافذ الأحكام، ذو الفهم الثاقب، والإدراك الصائب، حسن الأخلاق، طيب الأعراق، جامع أشتات الفضائل والفواضل، ونخبة سراة الأعلام الأماثل.
ولد بفاس القرويين، ثم انتقل به والده لمكناسة الزيتون، على الطائر الميمون، فنشأ بها كما قال عن نفسه في فهرسته: في عزة أهل ورفاهية احترام، ودعة جلالة وظل إعظام وإكرام، فلم يكن من فضل الله عليه باللاهى، وإن ألهاه من الحداثة ببعض الملاهى، إذ لم يكن له راحة إلَّا في المكتب، وما مسئ من أعتب، وما زالت الأبوة الكريمة تلحظه بعين الاستصلاح، وتقابله برعايتها العميمة رغبة في الإجابة لداعى الفلاح، حتَّى تيسرت له الأسباب، وانفتحت الأبواب في وجهه لطلب العلوم الشرعية بابا بعد باب، ومهر واتسعت في الفنون عارضته، وعلت كعبه وعظمت مكانته، فولاه السلطان المولى عبد الله بن الإِمام الأعظم مولانا إسماعيل خطة القضاء بمكناس.
ثم رحل لأداء فريضة الحج وزيارة خير الأنام عام ثلاثة وأربعين ومائة وألف في رفقة والدة موليه السلطان المذكور السيدة خناتة بنت بكار المعافرية السابقة الترجمة، وحفيدها سيدي محمَّد بن السلطان المولى عبد الله، والعلامة السيد الشرقى الإسحاقى وغيرهم من الأعلام ووجهاء الأعيان، وقد أخذ في هذه الرحلة عن علماء تلك الديار المشرفة، قال الوزير السيد الشرقى المذكور في رحلته المؤلفة في وجهته هاته ما نصه: غريبة، في يومى إقامتنا ببسكرة تحاكم لدى صاحبنا الفقيه القاضي النبيه، الأديب الوجيه، السيد بلقاسم ابن الفقيه العلامة سيدي سعيد بن بلقاسم العميرى، رجلان من أعراب هذه الناحية من أولاد قسوم، في فرس أراد المشترى منهما الرجوع على بائعها بالثمن إذ هلكت بعيب قديم أقدم من أمد التبايع، وأحضر بينة، فأمره الفقيه القاضي المذكور بتزكية بعض شهود البينة، فجاء بهذا الشيخ بو الضياف مزكيًا لبعض شهود البينة، فقال له القاضي أتعرف هذا الرَّجل الشاهد؟ وسماه له فقال: نعم نعرفه رجلًا جيدًا من خيار قومه ما عندنا ما نقول فيه أغار معنا على العرب كم وكم مرة ما رأينا فيه عيبا، فانظر هذه الجهالة زكاه من حيث جرحه، وهكذا حاله هؤلاء الأعراب في العراقة في الجهل هـ.
ثم عزل المترجم بعد، ثم ولاه بمكناس أَيضًا المولى على بن السلطان الأعظم مولانا إسماعيل لما خلع العبيد مولاى عبد الله وبايعوه، وكانت توليته إياه يوم الجمعة مهل جمادى الثَّانية عام سبعة -بتقديم السين على الموحدة وأربعين ومائة وألف، بعد عزله للقاضى السيد البوعنانى المترجم فيما مر، بسبب تأخيره ذكر الصَّحَابَة عن ذكر السلطان في خطبته عسى أن ينال بذلك منزلة من السلطان وتقربا، فعامله بنقيض مقصودة، وجعل جائزته الحرمان، وتعجيل العزل له من خطة القضاء.
ثم لما خلع مولاى على وأعيدت البيعة لمولاى عبد الله عزل المترجم عن
القضاء، وولى مكانه البوعنانى المذكور، وذلك في صفر عام تسعة وأربعين ومائة وألف، ثم في أواخر جمادى الثَّانية من السنة المذكورة ولاه قضاء مكناسة سيدي محمَّد المدعو ولد عريبة وعزل البوعنانى، ثم عزل المترجم وولى مكانه سيدي محمَّد البيجرى، ثم عزل البيجرى، وولى مكانه السيد عبد الوهَّاب بن الشيخ.
قال المترجم في فهرسته:
ومن الخطأ الصراح، ما كان باح واستراح، من الأشنوعة التي كان استحدثها أولاد بو عنان، وتهافتوا فيها تهافت الذبان، واستهجنها عليهم الملائكة والإنس والجان، وذلك أنَّه لما عزلت عن خطة القضاء عام تسعة وأربعين بادروا إلى حشر من غلبوا عليه من سقط العدول وحمولهم على وضع إشكالهم على وثيقة سطروها، على قدر شهواتهم وحبهم الرياسة، وتظاهروا على تلك الضلالة، بمن كنت عزلته لكونه ظاهر الجرحة ساقط العدالة:
تمنى بأوباش فتوح مدائن
…
وذاك لعمرى ضلة وجنون
كضلة عمرو إذ تمنى مراده
…
بجيش مراد والجنون فنون
ثم لم يكتفوا بذلك حتَّى أفتوا بقتلى، وقتل من كان عونًا لي على القيام بأحكام الشريعة من حملة العلم، ولما شاع ذلك الخبر وأجمعوا على رفع ذلك لمن كانت بيده إذ ذاك الأحكام السلطانية، وأخذوا فيه بالجد سرا وعلانية، حضر لدى من حضّنى على أن أعد لهم ما استطعت من قوة، ثم ذكر ما كتبه في بطلان تلك النازلة التي تولى كبرها من ولى الأحكام الشرعية بمكناسة وفاس، وبين حرمة المؤمن وعرضه، وكفر من استحل ما حرم الله بعد علمه بتحريمه، وإلغاء شهادة الشاهد وحكم القاضى على عدوهما، ثم ذكر أن الله كفاه شرهم، ورد في نحورهم كيدهم ومكرهم.
وفي يوم الخميس حادى عشر رجب عام ثلاثة وخمسين ومائة وألف قبض السلطان مولاى عبد الله على المترجم بدعوى أنَّه مع غيره من العلماء كسيدى أَحْمد الشداوى، وأبي العباس أَحْمد بن الحسن بن رحال المعدانى، وأبي العباس أَحْمد بن عبد الله المليتى وفضحهم على رءوس الأشهاد، وقال لهم: كيف تزوجون أخي المستضيء بنسائى وهن لم يخرجن من عصمتى بوجه من الوجوه الشرعية؟ ثم عفا عنهم، وقد كان المترجم احترم بحرم سيدي سعيد المَشَنْزَائى قبل مجيء السلطان، فأخرجه العبيد في الأمان، وتكلفوا له بأنه لا يرى من السلطان إلَّا الإحسان.
مشيخته: أخذ عن والده جملة وافرة من التفسير، وصحيح الإِمام البُخَارِيّ، وشفاء عياض، والشمائل، والربع من صحيح مسلم، وجملة من كبرى الشيخ السنوسى، ومن مختصره، ومن شامل بهرام، ومختصر ابن عرفة، ومن مختصر خليل، والألفية لابن مالك، وشرح الكعبية لابن هشام، ومن شرح المقصور والممدود لابن مالك، وجملة من لامية الأفعال، وسلم الأخضرى، ولامية الزقاق، وشرحها لميارة وغير ذلك.
وأخذ عن العلامة المحقق النَّحويّ البركة السيد البهلول البوعصامى المتقدم الترجمة في المحمدين قرأ عليه الألفية لابن مالك، وصدرا من شرح المرادي عليها، والسلم المرونق وانتفع به نفعا كبيرًا.
والعلامة أبي العباس أَحْمد بن أَحْمد الشدادى قرأ عليه المختصر الخليلى من أوله إلى آخرة وأعاده عليه ثانية إلَّا أنَّه لم يتيسر له ختمه.
وأبي العباس الولالى قرأ عليه منظومته في علم الكلام.
وعن أبي على بن رحال قرأ عليه المختصر الخليلي وقيد عليه تقاييد جليلة، لا يكاد يعثر عليها إلَّا بمطالعة المطولات الحفيلة.
وسيدى محمَّد بن أَحْمد المسناوى، حضر عليه مجلسا واحدًا من صحيح البُخَارِيّ بجامع الشرفاء من فاس.
وأبي الحسن على التدغى صاحب اختصار الحلية قرأ عليه جملة من المسلم.
وأبي محمَّد عبد القادر ابن شقرون، قرأ عليه الألفية والآجرومية وعليه كانت بداية قراءته.
وأخذ الطريقة الناصرية عن الشيخ سيدي المعطى بن الصالح صاحب الذخيرة، وذلك عام أربعة ومائة وألف، واستجاز آخر أمره العلامة سيدي عبد الكبير السرغينى من فاس فأجازه كتابة بالصحيح والمرشد المعين، وقال له: لا رواية لي بغير ما ذكره.
كما استجاز الإِمام المحدث المسند أَبا العباس أَحْمد بن عبد الله الغربى الرباطى فأجازه آخر ستة وستين ومائة وألف في مروياته عامة عن شيوخه بالحجاز ومصر وغيرهم، وقد أورد نصها في فهرسته، وعن غير هؤلاء ممن هو مذكور في فهرسته من أهل المشرق والمغرب.
وقد ذكر أنَّه كان أول أمره لا يكثرت بالرواية قال: حتَّى فاتنى كثير من الأشياخ بالمغرب ومن لقيته بالمشرق، فلم يجزنى أحد منهم، ولقد ندمت على ذلك، ومع ذلك فلم أحرم في الجملة من الاتصال هـ.
الآخذون عنه: أخذ عنه من لا يعد كثرة من نقاد الأعلام بمكناس وفاس وغيرهما، فمن الآخذين عنه: العلامة السيد الطيب ابن يوسف، والفقيه سيدي على بن
…
.
وأَجازهما عامة حسبما ذلك بفهرسته، وأجاز بفهرسته المذكورة العلامة أَبا محمَّد المكيّ الناصرى بعد استدعائه الإجازة بها منه وستأتى نصوص إجازته لهما في نثره.
مؤلفاته: منها شرحه على نظم العمل الفاسى، وفهرسته في جزء وسط، ومؤلف سماه التنبيه والإعلام، بفضل العلم والأعلام، والورد الندى في ترتيب ما
تضمنه شرح التسميط المحمدى، اختصر فيه مصنف الحافظ محمَّد بن عليّ بن محمَّد بن على المصري بن محمَّد بن شباط التوزرى في السيرة الذى شرح به قصيدة الشيخ البركة عبد الله بن يحيى الشقراطسى التوزرى، قال طالعته: وكنت وقفت عليه حين قفلت من الحجاز، وكان لى على طرابلس الغرب المجاز، ولم أكن رأيته قبل ذلك، ولا طرق سمعي خبره في تلك المسالك، فاغتبطت به وضممته ضم البخيل، وقلت ليت شعرى هل إلى تحصيله من سبيل؟ وإذا هو بيد من لم يسمح ولو بعاريته لاستنساخه بعد الوصول إلى الأوطان، إذ لم يمكنى نسخه على الكمال مدة الإقامة ببلده والاستيطان، وحين أَعْيَا داؤه، ونضب عنى ماؤه، شمرت عن ساعد الجد، لمدى العزم الشباة والحد، وأخذت في اختصار من شرح أبيات القصيدة، وقلت ما فات الرامى شئ إذا رمى فأصاب مصيده، إذ السيرة من جل المقصود، وأجل هاتيك القصود، وجعلت منه مقدمة وخاتمة هما بعون الله لبنة التمام، وواسطة ذلك النظام.
أما المقدمة فتعرف بها كمالات سيدنا ومولانا محمَّد صلى الله عليه وسلم في كل الفضائل وتقديمه، وأن الله تعالى حين سواه، وأيده بالنور المبين وقواه، خصه بمزايا لم يخص بها سواه.
وأما الخاتمة فقد تضمنت أحاديث الشفاعة والحوض، وما خصه الله به صلى الله عليه وسلم من ذلك يوم العرض، وقدمه به على أهل السماء والأرض لعل الله تعالى أن يجعلني ممن يحظى بشفاعته يوم القيامة، ولا يذم ببطالته لياليه وأيامه، وأتيت في هذا الموضوع بكلام الأصل على حاله إلَّا ما غيرت فيه من ترتيب المنتشر، ونظم ذلك السلك المنتثر، وسميته بـ (الورد الندى، في ترتيب ما تضمنه شرح التسميط المحمدى).
ثم جعلت له تراجم هي لأصنافه عنوان، وعلى تحسين أوصافه أعوان، فقد
كان مؤخرا فيه ما حقه التقديم، مقدمًا ما تأخيره ربما لبس على الناظر الحادث بالقديم، لأنه كان مقيدًا بتتبع أبيات النظم بذلك القصص، مقتطفا من أَجل ذلك ما تأتى له من الحصص، ولست في عهدة من تصحيف فيه، فإنِّي لست بمعطيه حقه من المقابلة ولا موفيه، لضيق نطاق السفر عن مثل هذا، فلا تقل كان ماذا، ولا لماذا، وبما توخيناه من الترتيب ونخلنا من مهيل ذلك الكثيب، تنتظم إن شاء الله فرائد الفوائد، وتتقيد أوابد الشوارد. هـ.
ومع اعتذاره بالسفر فقد رتب أبوابه، وفصل فصوله واختصره، فجاء في مجلد ضخم من القالب الكبير، وقد جمع إلى السيرة شرح ألفاظها وضبط غريب اللغة وأسماء الأماكن وتعريفها، وأخبار الفتوحات الإِسلامية، وفتح المغرب والأندلس، وكان فراغه منه أواخر شعبان من عام أربعة وأربعين ومائة وألف، وهو موجود لدينا وله غير ذلك.
شعره: من ذلك قوله مخاطبا لوالده عام تسعة وعشرين ومائة وألف وقد مرض مرضا أشفى منه على الموت:
حياتك منتهى الآمال عندى
…
فليت الموت يقتلنى فداء
أَيجمل أن أراك رهين حال
…
وآمل لا عدمتكم بقاء
ولم أصبر وأنت اليوم حى
…
فكيف إذا اتخذت ثوى ثراء
صغرت عن التحمل إن مثلى
…
وحقك لا يطيق له عناء
وكيف ولى أخيات وقلبى
…
تقسم فيك بينهم سواء
ملأت صدورهم بثا غداة
…
فعادت في مآقيهم مساء
وكم أرغمت في أنوف قوم
…
يروني في عيونهم قذاء
وما قصرت في التأديب حتى
…
رفعت لديك للعليا لواء
وإنى وإن بكيتك ملء عينى
…
فهل كان البكاء لنا غناء
ولكن أعين ناحت عليكم
…
بدمع أحسن الإغضا قضاء
فخفض إن لى ربا رءوفا
…
عطوفا سوف يمنحكم شفاء
وتفدى بالعدا من كل باس
…
يسئ وإن هم قصروا كفاء
وقوله وقد أَلم به مرض:
أمولاى هذا الداء عز دواؤه
…
على وقد أودى بعبدك ماؤه
إليك رفعت الأمر فيه براءة
…
من الحول لما أن تعدى عداؤه
فلا تقطعن عوائدك التي
…
تعودت من إحسانها ما أشاؤه
بأسمائك الحسنى تشفعت في الذى
…
تطاول من داء لديك شفاؤه
وإن كنت قد قصرت فيما أمرتنى
…
فحاشاك ربي أن يطول رجاؤه
فلا تأخذنى بالذى أنا أهله
…
وإن ساء منى عمده وخطاؤه
وعامل ولكن بالذى أنت أهله
…
فعبدك هذا حاله ولجاؤه
وأنت الذي يرجو نداك بفاقة
…
إليك عسى ينجو بذاك نداؤه
وكن لي من بعد الوفاة وقبلها
…
فما خاب داع يهتديه دعاؤه
وقوله ما دحا للشريف العلامة مولاى محمَّد بن حين المقدسيّ لما قدم من المشرق، على مولانا الجد الأعظم السلطان مولانا إسماعيل يستمطر نداه، وذاك عام ثلاثين ومائة وألف:
تاقت لمرآك منذ اليوم أشواق
…
يا طلعة ولها بالغرب إشراق
كانت مقاصرا ملاك لها فلكا
…
لكنما الأفق أحشاء وآماق
حيا محياك عناء آمل ضمنت
…
لها النجاح عداك الذم أوراق
طيف من الشعر قد زار العلا شغفا
…
يقضيك حقًا له وخد وأعناق
هي السيادة إلَّا أنها كرمت
…
أخلاقها ووسمت من قبل أعراق
وهي المجادة إلَّا أنها بلغت
…
بالخافقين له بالفضل إخفاق
لو نال بدر الدجى ما نال من شرف
…
ما أدراك البدر بعد التم إمحاق
من حبه في ضمير القلب سكنه
…
وقربه لا تزال النفس تشتاق
يا ليت شعرى لو يدري مودة من
…
أتى به الحب لا عسر وإملاق
وهو الوفى إذا جربت خلته
…
له على سنة عهد وميثاق
وقوله رادا على ابن غرسية الرسالة التي فضل فيها العجم على العرب:
أغرتك نفس يَا ابن غرسية الذى
…
به النعل زلت في الضلالة والخف
تفضل عجما كنت لا كنت منهم
…
على العرب السادات ويحك لا تهف
تقول بجهل ما تحاول فيهم
…
وتنكر نقصا للأنام به عرف
رئيسهم الأسقف لا در دره
…
مناطقهم لكن قلوبهم غلف
نصاراهم لا يعرفون بغيرة
…
يهوديهم لا تشتهى صفعه الكف
مجوسهم يرضى تزوج بنته
…
جهارا وفحل السوء ليس له وقف
فهل فوق هذا العار عار لمبتكى
…
يكل عن التعبير عن حاله الوصف
وكم إمرة كانت عليهم لمرأة
…
لها فيهم (كذا) بين المنع والصرف
متى رفعت أقدامهم لخطابة
…
منابر لا تنفك يصحبها الزحف
متى عرفوا للخيل حال ولادة
…
يميز أعوجيها منهم الطرف
متى بسطوا فيهم بساط كرامة
…
فأصبح يثنى عن مكارمهم ضيف
وتلك فعال ليس ينكرها لمن
…
زرته ببغى قومك العجم السخف
ومالك عن قوم إذا ما ذكرتهم
…
ذكرت نعيما ناله ذلك الصنف
ترى الفخر في تلك المطارف والعلا
…
بتلك الحشا يا زادها زينة سقف
وذاك لعمرى في الحقيقة حال من
…
يروقك منهن التمايل والردف
من العرب الألى عليهم تقصفت
…
حروب تحاكيها الزلازل والخسف
تشن عليهم غارة بعد غارة
…
فنال مناه فيهم الرمح والسيف
وقادت سبايا حاسرات تقدمت
…
إليهم بخيل في أعنتها الحتف
وما برحوا حتى أمالوا عروشها
…
ودق بقاياها الهزائم والزحف
وصارت ثلاثًا مسلمًا ومجدلا
…
قتيلا ومعطى جزية وبه خوف
عساكر تحمى جارها ونجارها
…
مآثرهم لا تستقل بها المصحف
فحْسبك منها في الفخار نبينا
…
له نسب فيهم يصوغ له عرف
وحسبى من نصرى لهم ما أطيقه
…
من القول إن كان ابن غرسية يجف
وقوله مجيبًا لواسطة عقد الأئمة الأعلام أبي العباس أَحْمد بن عبد القادر التستاوتى، عن معاتبة له على تأخيره الجواب عن مسائل علمية كان سأله عنها ورام معرفة الحكم الشرعي فيها:
هذا وحقك يَا ابن عبد القادر
…
لجواب شعرك ما أنا بالقادر
في القلب أشياء تحول وربما
…
هاجت إذا ناولت ما بالخاطر
إيه لقد حركت مني لوعة
…
بنتيفة ما مثلها للحاجر
وعتبتنى والعتب يحلو عندما
…
يصفو الوداد وودك اليوم غامرى
هب أنني قصرت في حق على
…
عذر وإن لم يبد فالمجد عاذرى
إذ لم أَجد نصا يعين حكمها
…
حالا وما أَمهلتنى لدفاترى
إنِّي لأرجو أن تكون مسامحى
…
لما استوى لك باطن بظواهر
وأزل جعلت فداك عتبك إننى
…
لرضاك منعطف بوجه سافر
إن كان لا يرضيك إلَّا كتبها
…
بسواد عينى في طروس محاجرى
ولذاك أيسر من عتاب كامن
…
بقريضكم بأسنة وبواتر
إن لاح منى في هواك توقف
…
عطلت من حلى المداد محابرى
وثنيت عطفى عن طلاب فضيلة
…
تركت لنا من كابر عن كابر
وتحيتى تنهى لكم ما خلفت
…
تلك المعالي أوائل لأواخر
وكتب إليه الفقيه الكاتب السيد عمر الحراق في أمر وذكر في الكتاب الحنظل وكتبه بضاد غير مشالة فكتب إليه:
الحنظل النبت شكا معشرا
…
في ضبطه ما استندوا لكتاب
يقول ما الذنب الذي جئته
…
لا يكتفى فيه بدون (الرقاب)
احترز بالنبت من الحنضل بمعنى الظل لأنه غير مشال.
وقوله متشوقا للأهل والوطن، ومعتذرا عن مفارقة ذلك المسكن وذلك لما خرج لنواحى الريف، وخيم منها بمعقل عاصم وماء بارد وظل وريف، واستقرت به الدار، وبداله في الاعتذار، فرارًا مما تأجج من نيران الفتن واضطراب الأحوال وضاق بسبب ذلك المتسع بعد وفاة مولانا الجد الأعظم السلطان المولى إسماعيل:
دعينى فوصل الغيد ليس من العدل
…
ولا تعذلى فالإذن صما عن العذل
وكيف بمن ولى عن الوطن الذى
…
توالت به الآمال في الزمن المحل
وظنى به أنَّه عف خير وإن يكن
…
جفاك فإن المرء عنك لفى شغل
بمكناسة الزيتون خلف أهله
…
وحل بقرب الريف فردا بلا أهل
حمى جانبا منها عداه وجانبا
…
مخافة قول أن يصير إلى فعل
فخليتها كى لا تسام حقادتى
…
بسوء وأنف الحُر يأنف من جهل
وقلت ولم أملك سوابق رحلتى
…
كذا فارقت أوطانها النَّاس من قبل
وإن عز بي هجرانها فلربما
…
توصل بالهجر إن صب إلى الوصل
وتصدية السيف المهند لم تزل
…
وحقك ترجو أن تعاهد بالصقل
والإفلو خيرت ما اخترت غيرها
…
قرارا وقد قرت بها العين للأجل
كأنى لم أَرشف لما لها ولم أكن
…
جنيت جناها من لدن طلعت نخلى
أمكناسة الزيتون يَا خير بلدة
…
حدائقها تجلو على الحدق النخيل
وما القول فيمن حال حال وصاله
…
فلا جعل الله الموانع في حل
إذا لاح نحو الغرب برق هوت به
…
دواعى الجوى بعد العلو إلى السفل
وإن هبت الأرواح رق وراق من
…
يسهل من أمريه ما ليس بالسهل
وإن غنت الورقاء بالأيك روعت
…
فؤادا دعاه الشوق بالجد والهزل
هل الحزن إلا يوم فارقت صبية
…
فلله ما قد حل بالفرع والأصل
ولله أشكو اليوم ما حل بيننا
…
ولله أرجو ما تعودت من فضل
فيارب فرج كربتى واكفنى أذى
…
عبيدك واجمع ما تشتت من شمل
ومن على عبد بعزك إن من
…
يعز بغير الله صار إلى الذل
وحاشاك ربي أن تخيب راجيًا
…
إليك التجا بالجزء منه وبالكل
أيا ملجأ المضطر يَا غوث من دعا
…
ويا ناصرا من لا له ناصرا مثلى
أغثنى أَغثنى يَا مغيث فإننى
…
وأهلى وحال الكل يغنى عن السؤل
وأنت إلى المستضعفين دريئة
…
فأحسن خلاصى بالنبى وبالرسل
وقوله من قطعة مجيبًا قاضى غمار، وواحد تلك العمارة. الفقيه الذكى الألمعى النزيه السيد أَحْمد المدعو أبو سلام الحميدى، عن أبيات كان ودعه بها، وكان من أعيان من لقيه بتلك الوجهة:
أَبا العباس لو يجدى فؤادى
…
حنين طال بعدكم حنين
ولو أن الأنين يعيد شيئا
…
لما في القلب ما فتر الأنين
ولكن للنوى أمر إليه
…
تناهى أمره وبه يهون
سأرعى ودكم ما دمت حيا
…
وحقك لا أخون ولا أمين
وعهدكم متى ضاعت عهود
…
عليه من الوفاء به أمين
تعين على النوائب إن ألمت
…
وتحمل كلها أيا تكون
وتلقى الضيف بالبشرى وتقرى
…
غواشيه وقد لزمت مئون
ومهما اعتاص في علم سؤال
…
فاحمد بالجواب به فطين
نقى عرضه من كل سوء
…
يساء به ومن شين يشين
وتلك مكارم لاقعب ماء
…
ببيت شابه لبن حقين
فآمل أن تعود لنا قريبا
…
على خير وحاسدكم حزين
وتؤتى خير ما ترجو وتحظى
…
بما ترضى وأنت به قمين
ودونك من صنيع الفكر نظم
…
تقر لحسن موقعع عيون
فلما وصلت أبيات الجواب. للحميد المجاب. كتب له قصيدة أخرى يقول
فيها:
وإن غاب عنا العلم من صدور الد
…
فقد حازه من بعده ولد صدر
ولا عجب إن قيل أَنْتَ تفوقه
…
فإن ضياء الشَّمس يسبقه الفجر
تسل عن الهم المبرج بالحشا
…
فرب عسير كان في طيه يسر
وإن جاء عباس من الخطب هائل
…
ففي أثره الضحاك يعقبه بشر
وإن لفكم جور من الدهر برهة
…
فلا بد بعد السلف أَن يحصل النشر
فأجابه أبو القاسم بقصيدة يقول فيها:
نزعت إلى حسن بنظم تظاهرا
…
به ساحران للنهي الطرس والسطر
قواف تجلت للخيل ووزنه
…
وحسن من حسانها النظم والنثر
وجربها ذيل الكمال جريرها
…
فغاظ سجول الموصلى ذلك الجر
تباهى زهيرا في مزينة وإليها
…
بمصر وليلياته ما بدا فجر
فلو نافست باع البديع ولامست
…
حرير الحريرى ما جرى لهما ذكر
ولو نالها وإلى الكتيبة ما بدا
…
بها للوا الإنشاء طى ولا نشر
ولو وصلت يومًا لمنطق واصل
…
تكلف نطق الراء من فمه الثغر
إلى أن قال:
وإن قصرت بي عن جوابك همة
…
فمنك وقيت الهم يلتمس العذر
فكيف ولى قلب تقسم فانثنى
…
لمكناسة شطر وعندكم شطر
وقوله متوسلا بأسماء الله الحسنى، ومحصيا لها نظما سنيا أسنى:
ورب بأسمائك أدعوك عسى
…
أكفى مئونة الصباح والمسا
يَا خير من نيط به الرجاء
…
وخير من إليه الالتجاء
كن لي لا على يَا الله
…
بحق لا إله إلَّا الله
أعوذ من عداء كل عاد
…
بك ومن شماتة الأعادى
يَا أول سواك لا يعول
…
عليه والأيام فينا دول
يَا آخر يَا باطن يَا ظاهر
…
تعاظم الأمر ولا مظاهر
ويا غنى بك صرت ذا غنى
…
فجد بما أَملت فيك من منى
يَا صمد يَا قادر يَا وال
…
قنى أذى الولاة والموالى
يَا مؤمن يَا مالك الخلق الرءوف
…
لا تسلمنى ما بقيت لمخوف
بك استاجرت يَا معز يَا عزيز
…
طوبى لمحتم بجرزك الحريز
ظني جميل بعلاك يَا حليم
…
ويا عفو يا حفيظ يا عليم
من استشاط غضبا بما يخيف
…
فالعبد منه في حماك يَا لطيف
إن جار أَنْتَ الجار يَا رحمن
…
من كل ما كاد به الزمان
حاشاك ربي بهضيمة يسام
…
من بك عاذ من بنى حام وسام
إن قبل إنِّي لغريب ضائع
…
بالامتناع قلت ربي المانع
فإنَّه العدل الجليل النافع
…
القابض الباسط للمنافع
يَا حى يَا قيوم عجل بالفرج
…
وخلصن عبدك من كل حرج
يَا نور كل شيء يَا صبور
…
عظيم يَا خبير يا شكور
كن لذنوبى يَا غفور غافرا
…
يَا واحد وللعيوب ساترا
وكلما ثقلت الأوزار
…
يَا مالك أَنْتَ لها غفار
ويا على منَّ يَا وهاب
…
على بالتوبة يَا تواب
يَا بر وارحم صبية صغارا
…
سيموا على صغرهم صغارا
لك رفعت أمرهم وأمرى
…
آذاهم بعض ولاة الأمر
أَخرجنى من بينهم لما احتكم
…
وأنت فيما بيننا نعم الحكم
ويا قوى يَا متين يَا مجيد
…
يَا محص أَنْتَ لي وكيل وشهيد
أشكو إليك يَا ولى يَا متعال
…
أَنْتَ الذي تنصف سافلا من عال
عز على يَا مذل من علا
…
يبغى مساءة لنا بين الملا
يا مغن يا كبير يا مغيث
…
يا محيى يا حسيب يا مميت
يَا خالق يَا بارئ يَا واجد
…
يَا متكبر رحيم ماجد
لك العلي يَا خافض يَا رافع
…
بفضلك اجمع شملنا يَا جامع
رد علينا نعما يَا ذا الجلال
…
حقا والإكرام فأنت خير وال
يَا مبدئ ويا معيد يَا رقيب
…
يَا واسع أنت الودود والمجيب
قدرت يَا مقتدر بديع
…
قدوس يَا بصير يَا سميع
ففك أسرى من يد اغتراب
…
وامنن على بنى باقتراب
يَا مقسط يَا حق واحكم بينى
…
وبين من رماهم ببينى
قهرت بالعزة يَا قهار
…
ما اعتقباه الليل والنهار
لحكمة فعلك يَا منتقم
…
مهيمن مؤخر مقدم
أَنْتَ الحميد الضار بل والباعث
…
والباقي بعد خلقه والوارث
وليس في الإمكان يَا جبار
…
يكون إلَّا ماله تختار
رزاق يَا فتاح يَا كريم
…
رشيد يَا مصور حكيم
منك السلامة سألت يَا سلام
…
يَا هادى واهدنى إلى دار السلام
أَحصيت أسماءك وهي الحسنى
…
إحصا تعلق سنى أسنى
أَرجو به بلوغ كل أمل
…
يَا رب واختم لى بخير عمل
ثم الصلاة مسكة الختام
…
على النبى لبنة التمام
والآل والصحب هداة قادة
…
للدين من ألقى لهم مقاده
وقوله:
تباعدت يا مكناسة فتقربى
…
ليهنا عيون فيك لى فتقر بى
فترعى بمرعاك الشهى مطيتى
…
وتحمد اسآدى بها وتأوبى
فقد طال ما بيني وبين أحبتى
…
وطال بعادى منهم وتغربى
وقوله يرثى أخاه العلامة أَبا الحسن على السالف الترجمة:
لا تله غيرك أربع وعقار
…
وتمتع بمناكح وعقار
فالدهر لا يبقى على حى ولا
…
فيما جناه تدرك الأوتار
ثارت لفقدك يَا أَبا الحسن الرضا
…
زفرات مصدور لها آثار
أسفا عليك لما بدا وتلهفا
…
لورود أمر ما له إصدار
ألقيت نفسك في مها وقد هوت
…
بالعلم مذ رخص له أسعار
ضيعت عمرك في الفضول ألم تكن
…
تزهو ببهجة علمك الأمصار
ما كان خصك حين كنت بمجلس
…
ترتاده الأسماع والأبصار
وترى محاسنك التي لم تحتمل
…
إحصاءها الأفواه والأسطار
غرتك بالمألوف بارقة المنى
…
حتَّى قضيت وما انقضت أوطار
ولطالما قطعتك عنا غيبة
…
في غير شيء كانت الأسفار
فإذا تراءتك العلوم استرجعت
…
وتراجعت من صفوفها الأكدار
لله ما حملته في شقة
…
شقت لها الأطواق والأزرار
راعيت ذمة من خدمت ولم يكن
…
يرعى الذي تختار ما يختار
نظرت لك الآمال شزرا منهم
…
وعداك منها الجهر والإسرار
قصرت لديهم عنك كل شفاعة
…
وتباعد التقريب والإيثار
ولكم شفعت وما انتفعت بشافع
…
ما هكذا تتكافأ الأحرار
أولى فأولى أن يقال وللعلى
…
تتطاول الأشباه والأنظار
إن يقتلوك فإن قتلك لم يكن
…
عارا عليك ورب قتل عار
إن يقتلوك أخي فتلك شهادة
…
شهدت بصادق وعدها الآثار
هب أنهم عدوا لمثلك زلة
…
أفلا يقال لمن يحب عثار
ما ضرهم فيما أتوا لو أنهم
…
منوا ولو قبلوا بدت أعذار
لكن مقالة حاسديه أَوجبت
…
ما كان لا البينات والإقرار
بشر مباشرة بقول لم يزل
…
يسمو بشهرته لذاك منار:
(شلت يمينك إن قتلت لمسلما
…
حلت عليك) بمن قتلت النار
غابت بواكى ميت في غربة
…
وجفاه من يغشاه والزوار
وكذلك الدنيا متى ما أقبلت
…
ولت لها الإقبال والإدبار
لو شاء ربى لم يكن شئ ولا
…
شمت العدا لما بدا الإضرار
ولرب مسرور بمصرعه الذى
…
من قبله حكمت به الأقدار
إن يشتفى أنى له بالأمن من
…
تلك المصارع أم له أنظار
والله يفعل ما يشاء في ملكه
…
بالحق وهو الفاعل المختار
وهو المؤمل أن يصير أخى إلى
…
جنات عدن تحتها الأنهار
وهو الذي يرجى لكل عظيمة
…
ومن استجار به فنعم الجار
وهو الذي رفعت إليه ضراعتى
…
في غفر ذنبى إنه غفار
وهو الذي عم الورى إحسانه
…
ما غاضه الإلحاح والإكثار
وهو الذي ما زلت أرجو فضله
…
لا نال ما أهوى وما أختار
وهو الذي أن جيئته أَلفيته
…
ما دون ما أملته أستار
وبه ندافع ما نخاف من الأذى
…
لا ما تحاوله لنا الْأَنصار
وبه العناية في المطالب كلها
…
ما صرحت أولا به الأشعار
نثره: من ذلك ما كتبه تقريظا لشرح صاحبه أبي مدين الفاسى على مؤلف ابن فارس في السيرة النبوية (1) بعد الحمدلة:
"طالعت هذا المصنف، المقرط المشنف، واستقريت مسائله إلَّا ما شذ، وسبرت وسائله فإذا هو في فعناه فذ، بيانه سحر، وتبيانه شذور نضار يتلألأ منه
(1) في هامش المطبوع: مسودته من ذخائر المكتبة الزيدانية، عليها تقاريظ جلة علماء ذلك العصر بخطوطهم.
نحو وسحر، توشح بصحاح الأنقال، وترشح لحمل أعباء تلك الأنقال، فامتازت رموز مشروحه، وتمايزت كنوز صروحه ومزجه به فازدادا طربا، وذلك لا محالة شاهدا باتساع عارضة الواضع، وعائد عليه بحسن الذكرى في معارضة تلك المواضع، وقد بين الصبح لذى عين، ما قرت به العين:
ونفرح بالمولود من آل برمك
…
ولا سيما كان من ولد الفضل
فلا يستغرب أحد استحداثه، في سن الحداثة، ولا ميراثه، في هذه الوراثة، فإن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، وعلى حد السواء حال من ركب فيه إليه كحال من مشى، والله يرقيه مراقى سلفه الصالح، ويقيه حسد من يرى المفاسد في المصالح، آمين" هـ صح من خطه مباشرة.
ولما تُوفِّي أبوه نشأ بينه وبين أخيه أبي العباس أَحْمد المترجم في الأحمدين شحناء نالت من كل منهما فكتب المترجم إليه:
"ألا إن لله تعالى ألطافا موطأة الأكناف، كفيلة بالائتلاف بلا خلاف، تقوض أوتاد الفتن، وتحسم شأفة هاتيك الإحن، وحيتئذ فحظ أخيك، منك حظ من عاوده الشباب، بعد أَن هرم وشاب، فهل لك في الحسنى، والسبق إلى ما هو أسنى، تميل إليك الأهواء، وتغتبط بك الآراء، ولو لم يكن فيه، الأسد فيه، وقد أسمع المكروه غير مرة، وتجرع من سخف القول حلوه ومره. لكان كافيًا أن تطوى عنه تلك الشقة. وأن يغلق إذا لم تكن مما فات كل ما عليه حقه، إلى ما خص به من بني جنسه، مما لو فصل لقيل يقرئك السلام مادح نفسه.
على أنى إن صدعت بالحق فلى أسوة حسنة في النبى الصالح يوسف بن يعقوب بن إبراهيم في قوله اجعلني على خزائن الأرض إنِّي حفيظ عليم، وما ظنك بمن تراه أعاديه في نحورها شجى يغص به منهم الظاعن والمقيم، وفى داخل
عيونها قذى معوجا لا يكاد يستقيم، فرأيك في الرجوع إلى التناصف موفق إن شاء الله، ومتعين يصلح به المرء دينه ودنياه، عدولا عن أحدوثة نزع إليها البين وشيعها. والرحم كما علمت تدعو على من قطعها، ثم إنك وإن خاطبتك الخطط الإمامية، واختصت بإيثارك الحظوة الهمامية، لا جرم أن الله أراد دون عمرو خارجة، فغير لائق أن تنافس في داخلة أو خارجة، لكن المباهاة بما يخوله الإنسان بطر. والإعجاب به معرضة لانتباه القضاء والقدر، وإلا فكيف أحسده الاستنان بذلك المضمار، وقد علمت أنَّه معصم لم يكن الله ليدعه بغير سوار.
مع أنى عبد الله ضربت لا محالة في ذلك بسهم على أنف من يأباه ورغم، ومن البُخَارِيّ على السنة العامة، وأمثالهم السائرة المطردة العامة، قولهم من أخذ بالإصبع فقد أخذ بكل اليد، وما خالف قط في هذا أحد، هذا ولم يجدنى في رتبة فأقامنى منها، ولا في خطة فعزلنى عنها، ففيم الرجم بالغيب، والغضب من لا شيء غاية العيب بلا ريب.
فتلاف قبل التلف أوامرك، ولا تخذل بعد المصيبة بالسلف ناصرك، فأخوك أخوك لا تغرك الأصحاب، وابن أبيك لا تجد سواه لمواطن صعبة المسالك ضيقة الرحاب، فبعد النوم الانتباه، وبعد السكر الصحو الرافع للاشتباه، فشد عليه يد الضنين، واحرص عليه حرص اللثيم على تحصيل العين:
بع بين النَّاس فإنى
…
خلف ممن تبيع
واتخذنى لك درعا
…
قلصت عنه الدروع
وارم بى كل عدو
…
إننى السهم السريع
فمثلك من دعى إلى مكرمة فأجاب، وكشف ظلمة هذا الليل المنجاب، وبقاؤك على هذه الحال، القائدة لحوادث شديدة المحال، والاستماع لكثرة القيل والقال، شأن ضعفة العقول من النساء والرجال، مما يفسد السريرة، ويطمس
البصيرة؛ وفيه مع النساء والرجال، مما يفسد السريرة، ويطمس البصيرة، وفيه مع ذلك على كلنا أو جلنا مطعن غير خفي، ومغمز لا يرضاه مؤمن تقى، وبالجملة ما أرى لي ولك مثلا إلَّا قول شاعر بنى زبيد:
أُريد حياته ويريد قتلى
…
عذيرك من خليلك من مراد
وانظر ما أوصى به عبد الملك بنيه، الفائزين بشرف الخلافة دون سائر ذويه:
أنفوا الضغائن بينكم وتواصلوا
…
عند الأباعد والحضور المشهد
فصلاح ذات البين طول بقائكم
…
ودماركم بتقاطع وتهدد
فلمثل هذا البين أَلْف بينكم
…
بتعاطف وتراحم وتود
حتَّى تلين جلودكم وقلوبكم
…
لمسود منكم وغير مسود
إن القداح إذا جمعن فرامها
…
بالكسر ذو حنق وبطش أيد
عزت فلم تكسر وإن هي بددت
…
فالوهن والتكسير للمتبدد
ثم كتابي هذا وإن كان جهم المحيا لا يهمك أمره، فقد حسنت طويته وانطلق بعد بشره، وغير جميل أن يرى مضيع الحقوق، مقابلا بره بعقوق، وربنا سبحانه هو المسئول في جبر هذا الصدع، واستصلاح ما في هذه الأرجام من الفرع، بقوته وحوله، ومنته وطوله. والسلام".
قال: فاستمر على حاله يتكاشح ويتكاشر، ويعبس في وجه الرَّحم الموصولة ولا يتباشر، فلما زال ما بينهما قال:
ثم إن الله تعالى أَلْف بينى وبينه. وأقر بالألفة عينى وعينه، إلى أن صار إلى رحمة الله تعالى والقلوب سليمة من المخائف، وشتان ما بين الآمن من تلك القطيعة والخائف، وكانت وفاته رحمه الله بعد وفاة أخى سيدى على بنحو الشهر.
وفراق الأحباب من أعظم مصائب الدهر، فعظم بفقدهما المصاب، وتجرع سائر ذويهما من ذلك الحادث العلقم والصاب، إلَّا أن المصيبة كانت بسيدى على أشد، فإنَّه رحمه الله بلغ منه الامتحان الأشد، انقطع لبعض الملوك، وانتهج لخدمته سيباق المسلوك، وذلك بعد أن كان يعد في عمار مساجد الله بتدريس العلم، وممن حلاه سبحانه بزينة القبول فيه ورونق الجمع بين بهجة الحفظ وجودة الفهم، ثم جرى عليه قدر أدى إلى قتله، وأفضى إلى حطه عن مراتب مثله، فتنفست الصعداء. وسوت الوحشة منه بين القرباء والبعداء." ثم ذكر مرثيته الرائية السابقة.
ومن نثره أيضا قوله في إجازته للسيد الطيب بن يوسف ولفظه:
الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمَّد نببيه وعبده، وعلى آله وأصحابه، وأشياعه وأحزابه، حملة الشريعة من بعده، وبعد فإن أبهى ما اتسم به الإنسان، وتحلى بتعاطيه القلم واللسان، هذا العلم الذي رفع الله به من أوتيه درجات، وجعل مدار الحق عليه فصار إكسير النجاة.
وإن الفقيه النبيه الألمعى الذكى، السيد الطيب بن يوسف ممن كان توخى المثول بين يدي، وأَخذ لهذا العهد من جملة من أخذ على، ثم تاقت نفسه الأبية. وهمته السنية. لطلب الإجازة، لينخرط بذلك في سلك من استجاز شيخه فأجازه، فأسعفته وأنا معترف بالتقصير، عارف بفضل الطَّويل على القصير، ولم يعذرنى بكونى لست في هذا الأمر من هذا القبيل، ولا ممن يجرى سلوك قارعة هذا السبيل، ولما لم تنظر عين رضاه مني هذا الخلل، قلت مكره أخاك لا بطل.
فقد أجزته في جمع مقروآتى ومروياتى ومسموعاتى من الشيوخ، الذين كان لهم تقدم في علوم الشريعة ورسوخ، إجازة تامة، مطلقة عامة، على الشرط المقرر. والقانون المحرر، وقد عاينت منه قابلية حصلت له شروط الطلب وأسبابه وجودة قريحة، ونباهة نبهت على فضله صحيحة صريحة، فسلك سبيل من سعد
بعلمه، وتصدى لإصلاح فاسد ثلمه، وتمسك بشريف تلك الأذيال، وفاز بأزهى وأبهى مما احتوت عليه أيدى الإقبال، وأخذ بأثر صالحى الأمة. وصلة في تبليغ دين الله القويم عن جملة الأئمة. والله سبحانه يلهمنا وإياه لتلك المراشد، ويمدنا جميعًا بالتوفيق الراشد هـ.
وقوله في إجازة له أُخرى لفظها: الحمد لله المنفرد بالعظمة والكبرياء والجلالة التي أعشت أشعة صمديتها مرآة بصائر الخواص من الأولياء، والصلاة والسلام على سيدنا محمَّد المقتعد بعزته القعساء حقا ذورة الكمال والعلياء، والمبتعث للفوز إكسيرا وللسعادة كيمياء، وعلى الآل والأصحاب ومن انبسط به بسيط تلك الأفنية والرحاب، خير هذه الأمة، ومصابيح دياجيها المدلهمة، حتَّى لو لم يختم الله على النبوة لكان كثير منهم أنبياء، والرضا عن كل من هو لهم تابع، وعقد على عروة هذا الدين المحمدى الوثقى عقد الأصابع، فلهم المنة العظمى بما تناقلوه من أنواره إلى يوم الختم والانتهاء، وبعد فإن هذا الفقيه الجليل القدر، الحسن الذكر، الأجل الأفخم الأوحد الصدر. سيدي على بن
…
(1) له ذكاء ثاقب واعتناء أعرب في مباديه عن العواقب، كان ممن توخى قبل هذه الأزمنة المثول بين يدي، وتصدى فيمن في سالفها للقراءة بمجلس الدرس لدى.
ولهذا العهد تاقت إلى طلب الإجازة له نفس أَبيه، لم تزل على تحصيل حاصل الأمانى حريصة بهمة سنية، فكنت فيمن ألح عليه فيه، وأشار إليه بكلتا يديه وفيه، واستدعى ذلك بما قدم أعلاه، ورقم من ذلك النسيج المحبر في أولاه، وجنى على غراسة أزاهر حديقته، ونظم من نثر بدائعه جواهر حقيقته، فجر على بني جنسه ذيل الإعجاب، وكشف جلباب الإحسان عن خفي مفاخره فانجاب.
وكيف وقد عكف منذ أيام طوال، وواظب على طلب العلم مدا أزمان خوال، حتَّى امتطى للمعارف غاربها وسنانها. وأيقظ لاقتناء الفضائل جفونا كان
(1) مكان النقط بياض بالأصل.
الكسل عن نيل المرام أنامها، فانثنى وهو حميد الوصف، كريم المساعى بما تصعد إليه على شفا ذلك الجرف.
فليكن لى بذمامه عرفان، ولزمام مواخاته ومصافاته طرفان، وبحسب ذلك تعين على من عين التوفية بالجواب، والحر لو دعى إلى طعنة لأجاب، وإلا فما أنا وذاك، وما كان أحقه أن يقال، له في حق نفسي لقد أبعدت مرماك، فقد استسمنت غير سمين، واستمسكت بعرى حبل غير متين، وآويت منه إلى ركن غير حصين.
ولما لم يعفنى مما طلب، وكلفنى فوق الطاقة بما غلب. وعاينت حسن ظنه وجميله، وعين الرضا عن كل عيب كليلة، وأنى لي بعبور ذلك المجاز، وأنا لست بأهل لأن أُجاز، على الحقيقة لا المجاز. تمثلت بقول القائل:
ولست بأهل أن أُجاز وإنما
…
قضى الوقت يرقى الدون مرقى الأكابر
وقلت إسعافا لمراده الذي لا يخالف، قد أجزته ولكن على الشرط المألوف المتعارف، إجازة تامة، مطلقة عامة، في كل ما سمعه منى وفى غيره من مسموع ومقروء ومروى مما سمعته وقرأته ورويته عن مشايخى، الذين كان وقف عليهم الاختيار، وقضى بتقدمهم وتقديمهم التمحيص والاختبار، والله يجعلنا وإياه ممن سعد بعلمه، ووسعه من الله سبحانه دائرة حلمه، ويختم على الجميع بالحسنى، ويجعل مآبنا ومثابنا المقر الأسنى.
ولادته: كانت ولادته كما قال هو عن نفسه في فهرسته بفاس القرويين في يوم الخميس لخمس بقين من شهر شعبان سنة ثلاث ومائة وألف.
وفاته: تُوفى بمكناس يوم الجمعة تاسع عشرى جمادى الثَّانية، عام ثمانية وسبعين ومائة وألف، ودفن بضريح أبي العباس أَحْمد بن خضر، عن خمس وسبعين سنة رحم الله الجميع بمنه.