الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(خروج زيادة الله الى المشرق)
ولما وصل الحبر إلى زيادة الله بوصول الشيعي إلى قمودة، حمل أمواله وأثقاله ولحق بطرابلس معتزما على الشرق. وأقبل الشيعي إلى إفريقية، وفي مقدمته عروبة بن يوسف وحسن بن أبي خنزير، ووصل إلى رقادة في رجب سنة ست وتسعين ومائتين وتلقاه أهل القيروان وبايعوا لعبيد الله المهدي كما ذكرناه في أخبارهم ودولتهم. وأقام زيادة الله بطرابلس سبعة عشر يوما، وانصرف ومعه إبراهيم بن الأغلب، وكان نمي عنه أنه أراد الاستبداد لنفسه بالقيروان بعد خروج زيادة الله فأعرض عنه، واطرحه، وبلغ مصر فمنعه عاملها عيسى البرشدي من الدخول إلا عن أمر الخليفة، وأنزله بظاهر البلد ثمانية أيام وانصرف إلى ابن الفرات وزير المقتدر يستأذن له في الدخول فأتاه كتابه بالمقام في الرقة حتى يأتيه رأي المقتدر فأقام بها سنة.
ثم جاءه كتاب المقتدر بالرجوع إلى إفريقية. وأمر النوشزي بإمداده بالرجال والمال لاسترجاع الدعوة بإفريقية، ووصل إلى مصر فأصابته بها علة مزمنة، وسقط شعره.
ويقال إنه سم وخرج إلى بيت المقدس ومات بها. وتفرّق بنو الأغلب وانقطعت أيامهم والبقاء للَّه وحده. والله سبحانه وتعالى أعلم.
(بقية أخبار صقلّيّة ودولة بني أبي الحسن الكلبيين بها من العرب المستبدين بدعوة العبيديين وبداية أمرهم وتصاريف أحوالهم)
ولما استولى عبيد الله المهدي على إفريقية ودانت له، وبعث العمال في نواحيها، بعث على جزيرة صقلّيّة الحسن بن محمد بن أبي خنزير من رجالات كتامة، فوصل إلى مأزر سنة سبع وتسعين ومائتين في العساكر، فولى أخاه على كبركيت، وولى على القضاء بصقلية إسحاق بن المنهال، ثم سار سنة ثمان وتسعين ومائتين في العساكر إلى ومش، فعاث في نواحيها ورجع. ثم شكى أهل صقلّيّة سوء سيرته وثاروا به
وحبسوه، وكتبوا إلى المهدي معتذرين، فقبل عذرهم وولى عليهم أحمد بن قهرب.
وبعث سرية إلى أرض قلورية فدوّخوها ورجعوا بالغنائم والسبي. ثم أرسل سنة ثلاثمائة ابنه عليا إلى قلعة طرمين المحدثة ليتخذها حصنا لحاشيته وأمواله، حذرا من ثورة أهل صقلّيّة، فحصرها ابنه ستة أشهر. ثم اختلف عليه العسكر فأحرقوا خيامة، وأرادوا قتله فمنعه العرب، ودعا هو الناس إلى طاعة المقتدر فأجابوه. وقطع خطبة المهدي وبعث الأسطول إلى إفريقية، ولقوا أسطول المهدي وقائده الحسن بن أبي خنزير فقتلوه، وأحرقوا الأسطول. وسار أسطول ابن قهرب إلى صفاقس فخرّبوها وانتهوا إلى طرابلس. وانتهى الخبر إلى القائم بن المهدي ثم وصلت الخلع والألوية من المقتدر الى ابن قهرب. ثم بعث الجيش في الأسطول إلى قلورية فعاثوا في نواحيها ورجعوا. ثم بعث ثانية أسطولا إلى إفريقية فظفر به أسطول المهدي فانتقض أمره، وعصى عليه أهل كبركيت، وكاتبوا المهدي. ثم ثار الناس بابن قهرب آخر الثلاثمائة وحبسوه، وأرسلوه إلى المهدي فأمر بقتله على قبر ابن خنزير في جماعة من خاصته. وولى على صقلّيّة أبا سعيد بن أحمد، وبعث معه العساكر من كتامة فركب إليها البحر فنزل في طرابنة، وعصى عليه أهل صقلّيّة بمن معه من العساكر فامتنعوا عليه، وقاتله أهل كبركيت وأهل طرابنة فهزمهم وقتلهم. ثم استأمن إليه أهل طرابنة فأمنهم وهدم أبوابها. وأمره المهدي بالعفو عنهم. ثم ولى المهدي على صقلّيّة سالم بن راشد، وأمده سنة ثلاث عشرة بالعساكر فعبر البحر إلى أرض أنكبردة فدوّخها، وفتحوا فيها حصونا ورجعوا. ثم عادوا إليها ثانية وحاصروا مدينة أدرنت أياما ورحلوا عنها. ولم يزل أهل صقلّيّة يغيرون على ما بأيدي الروم من جزيرة صقلّيّة وقلورية، ويعيثون في نواحيها. وبعث المهدي سنة اثنتين وعشرين جيشا في البحر مع يعقوب بن إسحاق، فعاث في نواحي جنوة ورجعوا. ثم بعث جيشه من قابل ففتحوا مدينة جنوة، ومروا بسردانية فأحرقوا فيها مراكب وانصرفوا. ولما كانت سنة خمس وعشرين وثلاثمائة انتقض أهل كبركيت على أميرهم سالم بن راشد وقاتلوا جيشه، وخرج إليهم سالم بنفسه فهزمهم وحصرهم ببلدهم. واستمد القائم فأمدّه بالعساكر مع خليل بن إسحاق، فلما وصل إلى صقلّيّة شكا إليه أهلها من سالم بن راشد واسترحمته النساء والصبيان. وجاءه أهل كبركيت وغيرها من أهل صقلّيّة بمثل ذلك فرق لشكواهم، ودس إليهم سالم بأن خليلا إنما جاء للانتقام منهم بمن قتلوا من
العسكر فعاودوا الخلاف، واختط خليل مدينة على مرسى المدينة، وسماها الخالصة. وتحقق بذلك أهل كبركيت ما قال لهم سالم، واستعدوا للحرب، فسار إليهم خليل منتصف ست وعشرين وحصرهم ثمانية أشهر يغاديهم بالقتال ويراوحهم، حتى إذا جاء الشتاء رجع إلى الخالصة، واجتمع أهل صقلّيّة على الخلاف، واستمدوا ملك القسطنطينية فأمدهم بالمقاتلة والطعام. واستمد خليل القائم فأمده بالجيش فافتتح قلعة أبي ثور وقلعة البلوط، وحاصر قلعة بلاطنو إلى أن انقضت سنة سبع وعشرين فارتحل عنها وحاصر كبركيت. ثم حبس عليها عسكرا للحصار مع أبي خلف بن هارون ورحل عنها، وطال حصارها إلى سنة تسع وعشرين فهرب كثير من أهل البلد إلى بلد الروم واستأمن الباقون فأمنهم على النزول عن القلعة.
ثم غدر بهم فارتاع لذلك سائر القلاع وأطاعوا ورجع خليل إلى إفريقية آخر سنة تسع وعشرين وحمل معه وجوه أهل كبركيت في سفينة، وأمر بخرقها في لجة البحر فغرقوا أجمعين. ثم ولى على صقلّيّة عطاف الأزدي، ثم كانت فتنة أبي يزيد، وشغل القائم والمنصور بأمره، فلما انقضت فتنة أبي يزيد عقد المنصور على صقلّيّة للحسن ابن أبي الحسن الكلبي من صنائعهم ووجوه قواده وكنيته أبو الغنائم، وكان له في الدولة محل كبير وفي مدافعة أبي يزيد غناء عظيم. وكان سبب ولايته أن أهل بليرم [1] كانوا قد استضعفوا عطافا واستضعفهم العدو لعجزه، فوثب به أهل المدينة يوم الفطر من سنة خمس وثلاثين، وتولى كبر ذلك بنو الطير منهم. ونجا عطاف إلى الحصن وبعث للمنصور يعلمه ويستمده، فولى الحسن بن علي على صقلّيّة وركب البحر إلى مأزر، وأرسى بها فلم يلقه أحد منهم. وأتاه في الليل جماعة من كتامة واعتذروا إليه عن الناس بالخوف من بني الطير. وبعث بنو الطير عيونهم عليه واستضعفوه وواعدوه أن يعودوا إليه فسبق ميعادهم ودخل المدينة، ولقيه حاكم البلد وأصحاب الدواوين واضطر بنو الطير إلى لقائه، وخرج إليهم [2] كبيرهم إسماعيل ولحق به من انحرف عن بني الطير، فكثر جمعه. ودس إسماعيل بعض غلمانه، فاستغاث بالحسن من بعض عبيده أنه أكره امرأته على الفاحشة، يعتقد أن الحسن لا يعاقب مملوكه، فتخشن قلوب أهل البلد عليه. وفطن الحسن لذلك فدعا الرجل
[1] هي بلرم وقد مرت معنا في السابق.
[2]
مقتضى السياق: خرج إليه.
واستحلفه على دعواه، وقتل عبده فسر الناس بذلك، ومالوا عن الطبري وأصحابه، وافترق جمعهم وضبط الحسن أمره، وخشي الروم بادرته فدفعوا إليه جزية ثلاث سنين. وبعث ملك الروم بطريقا في البحر في عسكر كبير إلى صقلّيّة، واجتمع هو والسردغرس. واستمدّ الحسن بن علي المنصور فأمدّه بسبعة آلاف فارس وثلاثة آلاف وخمسمائة راجل، وجمع الحسن من كان عنده وسار برا وبحرا. وبعث السرايا في أرض قلورية، ونزل على أبراجه فحاصرها وزحف إليه الروم فصالحه على مال أخذه، وزحف إلى الروم ففروا من غير حرب. ونزل الحسن على قلعة قيشانة فحاصرها شهرا وصالحهم على مال ورجع بالأسطول إلى مسينى فشتى بها. وجاءه أمر المنصور بالرجوع إلى قلورية فعبر إلى خراجة فلقي الروم والسردغرس فهزمهم، وامتلأ من غنائمهم، وذلك يوم عرفة سنة أربعين وثلاثمائة. ثم سار إلى خراجة فحاصرها حتى هادنه ملك الروم قسطنطين. ثم عاد إلى ربو [1] وبنى بها مسجدا وسط المدينة، وشرط على الروم أن لا يعرضوا له، وأن من دخله من الأسرى أمن.
ولما توفي المنصور وملك ابنه المعز سار إليه الحسن، واستخلف على صقلّيّة ابنه أحمد، وأمره المعز بفتح القلاع التي بقيت للروم بصقلية فغزاها، وفتح طرمين وغيرها سنة إحدى وخمسين، وأعيته رمطة فحاصرها فجاءها من القسطنطينية أربعون ألفا مددا. وبعث أحمد يستمد المعز فبعث إليه المدد بالعساكر والأموال مع أبيه الحسن. وجاء مدد الروم فنزلوا بمرسى مسينة وزحفوا إلى رمطة، ومقدم الجيوش على حصارها الحسن بن عمار وابن أخي الحسن بن علي فأحاط الروم بهم.
وخرج أهل البلد إليهم وعظم الأمر على المسلمين فاستماتوا وحملوا على الروم وعقروا فرس قائدهم منويل فسقط عن فرسه، وقتل جماعة من البطارقة معه. وانهزم الروم وتتبعهم المسلمون بالقتل، وامتلأت أيديهم من الغنائم والأسرى والسبي. ثم فتحوا رمطة عنوة وغنموا ما فيها، وركب فلّ الروم من صقلّيّة وجزيرة رفق في الأسطول ناجين بأنفسهم، فأتبعهم الأمير أحمد في المراكب فحرقوا مراكبهم، وقتل كثير منهم، وتعرف هذه الوقعة بوقعة المجاز، وكانت سنة أربع وخمسين وأسر فيها ألف من عظمائهم ومائة بطريق. وجاءت الغنائم والأسارى إلى مدينة بليرم، حاضرة صقلّيّة،
[1] هي ريو وقد مرت معنا في السابق.
وخرج الحسن للقائهم، فأصابته الحمى من الفرح فمات، وحزن الناس عليه، وولي ابنه أحمد باتفاق أهل صقلّيّة بعد أن ولى المعز عليهم يعيش مولى الحسن فلم ينهض بالأمر، ووقعت الفتنة بين كتامة والقبائل، وعجز عن تسكينها. وبلغ الخبر إلى المعز فولى عليها أبا القاسم علي بن الحسن نيابة عن أخيه أحمد. ثم توفي أحمد بطرابلس سنة تسع وخمسين واستبد بالإمارة أخوه أبو القاسم علي، وكان مدلا محبا. وسار إليه سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة ملك الفرنج في جموع عظيمة، وحصر قلعة رمطة وملكها، وأصاب سرايا المسلمين. وسار الأمير أبو القاسم في العساكر من بليرم يريدهم، فلما قاربهم خام عن اللقاء ورجع، وكان الأفرنج في الأسطول يعاينونه فبعثوا بذلك للملك بردويل فسار في اتباعه وأدركه فاقتتلوا، وقتل أبو القاسم في الحرب. وأهم المسلمين أمرهم فاستماتوا، وقاتلوا الفرنج فهزموهم أقبح هزيمة، ونجا بردويل إلى خيامه برأسه، وركب البحر إلى رومة. وولى المسلمون عليهم بعد الأمير أبي القاسم ابنه جابر فرحل بالمسلمين لوقته راجعا، ولم يعرج على الغنائم. وكانت ولاية الأمير أبي القاسم اثنتي عشرة سنة ونصفا. وكان عادلا حسن السيرة. ولما ولي ابن عمه جعفر بن محمد بن علي بن أبي الحسن، وكان من وزراء العزيز وندمائه استقامت الأمور، وحسنت الأحوال. وكان يحب أهل العلم ويجزل الهبات لهم.
وتوفي سنة خمس وسبعين وثلاثمائة وولي أخوه عبد الله فاتبع سيرة أخيه إلى أن توفي سنة تسع وسبعين وثلاثمائة، وولي ابنه ثقة الدولة أبو الفتوح يوسف بن عبد الله بن محمد بن علي بن أبي الحسن، فأنسى بجلائله وفضائله من كان قبله منهم إلى أن أصابه الفالج، وعطل نصفه الأيسر سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة. وولي ابنه تاج الدولة جعفر بن ثقة الدولة يوسف، فضبط الأمور وقام بأحسن قيام وخالف عليه أخوه علي سنة خمس وأربعمائة مع البربر والعبيد، فزحف إليه جعفر فظفر به وقتله، ونفى البربر والعبيد، واستقامت أحواله. ثم انقلبت حاله واختلت على يد كاتبه ووزيره حسن بن محمد الباغاني فثار عليه الناس بسببها، وجاءوا حول القصر، وأخرج إليهم أبو الفتوح في محفة فتلطف بالناس، وسلم إليهم الباغاني فقتلوه، وقتلوه حافده أبا رافع، وخلع ابنه ابن جعفر، ورحل إلى مصر، وولى ابنه ابن جعفر سنة عشرة واربعمائة ولقبه بأسد الدولة بن تاج الدولة. ويعرف بالأكحل فسكن الاضطراب واستقامت الأحوال، وفوّض الأمور إلى ابنه ابن جعفر وجعل مقاليد الأمور بيده
فأساء ابن جعفر السيرة، وتحامل على صقلّيّة ومال إلى أهل إفريقية. وضج الناس وشكوا أمرهم إلى المعز صاحب القيروان، وأظهروا دعوته، فبعث الأسطول فيه ثلاثمائة فارس مع ولديه عبد الله وأيوب، واجتمع أهل صقلّيّة وحصروا أميرهم الأكحل، وقتل وحمل رأسه إلى المعز سنة سبع عشرة وأربعمائة. ثم ندم أهل صقلّيّة على ما فعلوه وثاروا بأهل إفريقية، وقتلوا منهم نحوا من ثلاثمائة وأخرجوهم. وولوا الصمصام أخا الأكحل فاضطربت الأمور، وغلب السفلة على الأشراف. ثم ثار أهل بليرم على الصمصام وأخرجوه، وقدموا عليهم ابن الثمنة من رءوس الأجناد، وتلقب القادر باللَّه واستبد بمازر ابنه عبد الله قبل الصمصام، وغلب ابن الثمنة على ابن الأكحل فقتله واستقل بملك الجزيرة إلى أن أخذت من يده. ولما استبد ابن الثمنة بصقلية تزوج ميمونة بنت الجراس، فتخيل له منها شيء فسقاها السم. ثم تلافاها وأحضر الأطباء فأنعشوها، وأفاقت فندم واعتذر فأظهرت له القبول، واستأذنته في زيارة أخيها بقصريانة، وأخبرت أخاها فحلف أن لا يردّها، ووقعت الفتنة. وحشد ابن الثمنة فهزمه ابن جراس فانتصر ابن الثمنة بالروم. وجاء القمص وجاز ابن ينقر بن خبرة ومعه سبعة من إخوته وجمع من الإفرنج، ووعدهم بملك صقلّيّة فداخل في بيع مية. وقصد قصريانة وحكموا على مروا من المنازل، وخرج ابن جراس فهزمه ورجع إلى إفريقية عمر بن خلف بن مكي فنزل، وولي قضاءها. ولم يزل الروم يملكونها حتى لم يبق إلا المعاقل. وخرج ابن الجراس بأهله وماله صلحا سنة أربع وستين وأربعمائة. وتملكها رجار كلها وانقطعت كلمة الإسلام منها ودولة الكلبيين وهم عشرة ومدّتهم خمس وتسعون سنة. ومات رجار في قلعة مليطو من أرض قلورية سنة أربع وتسعين، وولي ابنه رجار الثاني وطالت أيامه. وله ألف الشريف أبو عبد الله الإدريسي كتاب نزهة المشارق في أخبار الآفاق [1] وسماه قصار رجار علما عليه معروفا به في الشهرة والله مقدر الليل والنهار.
[1] هو كتاب نزهة المشتاق في اختراق الآفاق، صنفه لريشار الثاني صاحب صقلّيّة. قسم منه فيه صفة المغرب وأرض السودان ومصر والأندلس ومعه مقدمة وترجمة وفهرس الأسماء وشرح الكلمات الاصطلاحية الموجودة فيه وكلها باللغة الفرنسية باعتناء الاستاذين دوزي ودي غويه. وسمي الكتاب صفة المغرب والسودان (معجم المطبوعات العربية) .