الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(الخبر عن دولة السليمانيين من بني الحسن بمكة ثم بعدها باليمن ومبادي أمورهم وتصاريف أحوالهم)
مكّة هذه أشهر من أن نعرّف بها أو نصفها، إلا أنه لمّا انقرض سكانها من قريش بعد المائة الثانية بالفتن الواقعة بالحجاز من العلويّة مرّة بعد أخرى، فأقفرت من قريش ولم يبق بها إلا أتباع بني حسن أخلاط من الناس، ومعظمهم موال سود من الحبشة والديلم. ولم يزل العمّال عليها من قبل بني العبّاس وشيعتهم والخطبة لهم إلى أن اشتغلوا بالفتن أيام المستعين والمعتز وما بعدهما، فحدثت الرئاسة فيها لبني سليمان ابن داود بن حسن المثنّى بن الحسن السبط. وكان كبيرهم آخر المائة الثانية محمد بن سليمان وليس هو سليمان بن داود لأنّ ذلك ذكره ابن حزم أنه قام بالمدينة أيام المأمون، وبين العصرين نحو من مائة سنة، سنة إحدى وثلاثمائة أيام المقتدر، وخلع طاعة العبّاسية، وخطب في الموسم فقال: الحمد للَّه الّذي أعاد الحق إلى نظامه، وأبرز زهر الإيمان من أكمامه، وكمّل دعوة خير الرسل بأسباطه لا بني أعمامه صلى الله عليه وعلى آله الطاهرين، وكفّ عنّا ببركته أسباب المعتدين، وجعلها كلمة باقية في عقبه إلى يوم الدين، ثم أنشد:
لأطلبن بسيفي
…
ما كان للحقّ دينا
وأسطونّ بقوم
…
بغوا وجاروا علينا
يعدون كل بلاد
…
من العراق علينا
وكان يلقّب بالزبيدي نسبة إلى نحلته من مذاهب الإمامية، وبقي ركب العراق يتعاهد مكة إلى أن اعترضه أبو طاهر القرمطيّ سنة اثنتي عشرة، وأسر أبا الهيجاء بن حمدان والد سيف الدولة وجماعة معه، وقتل الحجّاج وترك النساء والصبيان بالقفر فهلكوا، وانقطع الحاج من العراق بسبب القرامطة. ثم أنفذ المقتدر سنة سبع عشرة منصور الديليّ من مواليه فوافاه يوم التروية بمكّة أبو طاهر القرمطي فنهب الحاج، وقتلهم حتى في الكعبة والحرم، وامتلأ زمزم بالقتل، والحجّاج يصيحون: كيف يقتل جيران الله؟ فيقول: ليس بجار من خالف أوامر الله ونواهيه. ويتلو: إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله الآية. وكان يخطب لعبيد الله المهدي صاحب إفريقية. ثم قلع الحجر الأسود وحمله إلى الأحساء وقلع باب البيت وحمله، وطلع رجل يقلع
الميزاب فسقط ومات، فقال: اتركوه فإنه محروس حتى يأتي صاحبه يعني المهدي، فكتب إليه ما نصّه: والعجب من كتبك إلينا ممتنا علينا بما ارتكبته واجترمته باسمنا من حرم الله وجيرانه بالأماكن التي لم تزل الجاهلية تحرّم إراقة الدماء فيها، وإهانة أهلها. ثم تعدّيت ذلك وقلعت الحجر الّذي هو يمين الله في الأرض يصافح بها عباده، وحملته إلى أرضك، ورجوت أن نشكرك فلعنك الله ثم لعنك والسلام على من سلم المسلمون من لسانه ويده، وفعل في يومه ما عمل فيه حساب غده انتهى.
فانحرفت القرامطة عن طاعة العبيديّين لذلك. ثم قتل المقتدر على يد مؤنس سنة عشرين وثلاثمائة وولي أخوه القاهر، وحجّ بالناس أميره تلك السنة. وانقطع الحج من العراق بعدها إلى أن كاتب أبو علي يحيى الفاطمي سنة سبع وعشرين من العراق أبا طاهر القرمطي أن يطلق السبيل للحجّاج على مكس [1] يأخذه منهم. وكان أبو طاهر يعظّمه لدينه ويؤمّله فأجابه إلى ذلك، وأخذ المكس من الحجّاج ولم يعهد مثله في الإسلام. وخطب في هذه السنة بمكة للراضي بن المقتدر. وفي سنة تسع وعشرين لأخيه المقتفي من بعده. ولم يصل ركب العراق في هذه السنين من القرامطة. ثم ولي المستكفي بن المكتفي سنة ثلاث وثلاثين على يد توروز أمير الأمراء ببغداد فخرج الحاج في هذه السنة لمهادنة القرامطة بعد أبي طاهر. ثم خطب للمطيع بن المقتدر بمكّة مع معزّ الدولة سنة أربع وثلاثين عند ما استولى معزّ الدولة ببغداد وقلع عين المستكفي واعتقله. ثم تعطّل الحاج بسبب القرامطة وردّوا الحجر الأسود سنة تسع وثلاثين بأمر المنصور العلويّ صاحب إفريقية وخطابه في ذلك لأميرهم أحمد بن أبي سعيد. ثم جاء الحاج إلى مكّة سنة اثنتين وأربعين مع أمير من العراق، وأمير من مصر، فوقعت الحرب بينهما على الخطبة لابن بويه ملك العراق، أو ابن الإخشيد صاحب مصر، فانهزم المصريون وخطب لابن بويه، واتصل ورود الحاج من يومئذ. فلما كانت سنة ثمان وأربعين وجاء الحاج من بغداد ومصر كان أمير الحاج من العراق ومحمد بن عبيد الله [2] فأجابه إلى ذلك. ثم جاء إلى المنبر مستعدا وأمر بالخطبة لابن
[1] مكس: ج مكوس وهي الضريبة.
[2]
هكذا بياض بالأصل وفي الكامل لابن الأثير ج 8 ص 509: «وفيها- 343- وقعت الحرب بمكة بين أصحاب معزّ الدولة وأصحاب ابن طغج من المصريين فكانت الغلبة لأصحاب معز الدولة، فخطب بمكة والحجاز لركن الدولة ومعز الدولة وولده عز الدولة بختيار وبعدهم لابن طغج.» ابن خلدون م 9 ج 4
بويه فوجم الآخر، وتمت عليه الحيلة وعاقبه أميره كافور. ويقال قتله ووقع ابن بويه لمحمد بن عبيد الله باتصال إمارته على الحاج. ولما كانت سنة ست وخمسين وصل بركب العراق أبو أحمد الموسوي نقيب الطالبيّين، وهو والد الشريف الرضي ليحجّ بالناس، ونهب بنو سليم حاج مصر وقتل أميرهم. وفي سنة ست وخمسين حجّ بالناس أبو أحمد المذكور وخطب بمكة لبختيار بعد موت أبيه معزّ الدولة والخليفة يومئذ المطيع. واتصل حجّ [1] أبي أحمد بركب العراق. وفي سنة ثلاث وخمسين خطب للقرمطي بمكّة، فلما قتل أحمد وقعت الفتنة بين أبي الحسن القرمطي [2] وخلغ طاعة العبيديّين وخطب للمطيع. وبعث إليه بالرايات السود، ونهض إلى دمشق فقتل جعفر بن فلاح قائد العلويّين، وخطب للمطيع. ثم وقعت الفتنة بين أبي الحسن وبين جعفر، وحصلت بينهم دماء، وبعث المعز العلويّ من أصلح بينهم، وجعل دية القتلى الفاضلة في مال المعز، وهلك بمصر أبو الحسن فولي أخوه عيسى. ثم ولي بعده أبو الفتوح الحسن بن جعفر سنة أربع وثمانين. ثم جاءت عساكر عضد الدولة ففرّ الحسن بن جعفر إلى المدينة. ولما مات العزيز بالرملة وعاد بنو أبي طاهر وبنو أحمد بن أبي سعيد إلى الفتنة فجاء من قبل الطائع أمير علويّ إلى مكة، وأقام له بها خطبة. وفي سنة سبع وستين بعث العزيز من مصر باديس بن زيري الصنهاجي وهو أخو بلّكين صاحب إفريقية أميرا على الحاج، فاستولى على الحرمين وأقام له الخطبة، وشغل عضد الدولة في العراق بفتنة بختيار ابن عمّه فبطل ركب العراق. ثم عاد في السنة بعدها وخطب لعضد الدولة أبو أحمد الموسوي، وانقطعت بعدها خطبة العبّاسيين عن مكة، وعادت لخلفاء مصر العبيديّين إلى حين من الدهر. وعظم شأن أبي الفتوح واتصلت إمارته في مكة، وكتب إليه القادر سنة ست وتسعين في الإذن لحاج العراق فأجابه على أنّ الخطبة للحاكم صاحب مصر.
وبعث الحاكم إلى ابن الجرّاح أمير طيِّئ باعتراضهم، وكان على الحاج الشريف الرضي وأخوه المرتضى، فلاطفهم ابن الجرّاح وخلّى سبيلهم على أن لا يعودوا. ثم
[1] مقتضى السياق: ركب
[2]
العبارة مبتورة وغير واضحة وفي الكامل لابن الأثير ج 8 ص 612 وفي حوادث 359 هـ: «وفيها كانت الخطبة بمكة للمطيع للَّه والقرامطة الهجريّين، وخطب بالمدينة للمعز لدين الله العلويّ، وخطب ابو أحمد الموسوي والد الشريف الرضي خارج المدينة للمطيع للَّه» .
اعترض حاج العراق سنة أربع وتسعين الأصيغر الثعلبيّ عند ما ملك الجزيرة فوعظه قارئان كانا في الركب. ثم اعترضهم في السنة بعدها أعراب خفاجة ونهبوهم. وسار في طلبهم عليّ بن يزيد أمير بني أسد فأوقع بهم سنة اثنتين وأربعمائة. ثم عادوا إلى مثل ذلك من السنة بعدها فعاد عليّ بن يزيد وأوقع بهم، وسما له بذلك ذكر، وكان سببا لملكه وملك قومه. ثم كتب الحاكم سنة اثنتين وأربعين إلى عمّاله بالبراءة من أبي بكر وعمر، ونكر ذلك أبو الفتوح أمير مكّة، وانتقض له وحمل الوزير أبو القاسم المغربي على طلب الأمر لنفسه. وكان الحاكم قتل أباه وأعمامه فخطب أبو الفتوح لنفسه، وتلقّب الراشد باللَّه، وسار الى مدينة الرملة لاستدعاء ابن الجرّاح أمير طيِّئ لمغاضبة بينه وبين الحاكم. ثم سرّب الحاكم أمواله في بني الجرّاح فانتقضوا على أبي الفتوح وأسلموه، وفرّ الوزير المغربي إلى ديار بكر من أرض الموصل ومعه ابن سبابة.
وفرّ التهامي إلى الري وكان معه. وقطع الحاكم الميرة عن الحرمين، ثم راجع أبو الفتوح الطاعة فعفا عنه الحاكم وأعاده إلى إمارته بمكّة. ولم يحج من العراق في هذه السنين أحد. وفي سنة اثنتي عشرة حجّ بأهل العراق أبو الحسن محمد بن الحسن الأفساسي فقيه الطالبيّين، واعترضهم بنو نبهان من طيِّئ، وأميرهم حسّان بن عديّ، وقاتلوهم فهزموهم وقتل أميرهم حسّان. وخطب في هذه السنة للظاهر بن الحاكم بمكّة ولما كان الموسم سنة ثلاث عشرة وأربعمائة ضرب رجل من قوم مصر الحجر الأسود بدبوس فصدعه وثلمه، وهو يقول: كم تعبد كم تقبل [1] فتبادر إليه الناس فقتلوه، وثار أهل العراق بأهل مصر فنهبوهم وفتكوا فيهم. ثم حجّ بركب العراق سنة أربع عشرة النقيب بن الأفساسي وخشي من العرب، فعاد إلى دمشق الشام، وحجّ في السنة التي بعدها وبطل حجّ العراق. ولمّا بويع القائم العبّاسي سنة اثنتين وعشرين رام أن يجهّز الحاج فلم يقدر لاستيلاء العرب وانحلال أمر بني بويه. ثم خطب بمكة للمستنصر بن الظاهر. ثم توفي الأمير أبو الفتوح الحسن بن جعفر بن محمد ابن سليمان رئيس مكّة وبني سليمان، سنة ثلاثين وأربعمائة لأربعين سنة من إمارته وولي، بعده إمارة مكّة ابنه شكر، وجرت له مع أهل المدينة خطوب ملك في أثنائها المدينة وجمع بين الحرمين وعليه انقرض دولة بني سليمان سنة ثلاثين بمكة،
[1] هكذا الأصل وفي الكامل ج 9 ص 332: «إلى متى يعبد الحجر الأسود، ومحمد وعلي؟ فليمنعني مانع من هذا، فاني أريد ان أهدم البيت!»