الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
144 - كتاب المنتصر إلى محمد بن عبد الله بن طاهر
وفى سنة 248 أغزى المنتصر وصيفا التركى- أحد كبار الموالى الأتراك- بلاد الروم، وكتب إلى محمد بن عبد الله بن طاهر كتابا نسخته:
«بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله محمد المنتصر بالله أمير المؤمنين إلى محمد بن عبد الله مولى أمير المؤمنين:
سلام عليك فإن أمير المؤمنين يحمد إليك الله الذى لا إله إلا هو، ويسأله أن يصلّى على محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله.
أما بعد: فإن الله- وله الحمد على آلائه، والشكر بجميل بلائه- اختار الإسلام وفضّله، وأتمّه وأكمله، وجعله وسيلة إلى رضاه ومثوبته، وسبيلا نهجا (1) إلى رحمته، وسببا إلى مذخور كرامته، فقهر له من خالفه، وأذلّ له من عند عن حقه، وابتغى غير سبيله، وخصّه بأتمّ الشرائع وأكملها، وأفضل الأحكام وأعدلها، وبعث به خيرته من خلقه، وصفوته من عباده، محمدا صلى الله عليه وسلم، وجعل الجهاد أعظم فرائضه منزلة عنده، وأعلاها رتبة لديه، وأنجحها وسيلة إليه، لأن الله عز وجل أعزّ دينه، وأذلّ عتاة الشّرك، قال الله عز وجل آمرا بالجهاد، ومفترضا له:«انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ» .
وليست تمضى بالمجاهد فى سبيل الله حال لا يكابد فى الله نصبا ولا أذى، ولا ينفق نفقة، ولا يقارع عدوّا، ولا يقطع بلدا، ولا يطأ أرضا، إلّا وله بذلك أمر مكتوب، وثواب جزيل، وأجر مأمول، قال الله عز وجل: «ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ (2) فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً
(1) النهج: الطريق الواضح.
(2)
المخمصة: المجاعة.
يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ. وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» ثم أثنى عز وجل بفضل منزلة المجاهدين على القاعدين عنده، وما وعدهم من جزائه ومثوبته وما لهم من الزّلفى عنده فقال:«لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ، فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً، وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى، وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً» .
فبالجهاد اشترى الله من المؤمنين أنفسهم وأموالهم، وجعل جنّته ثمنا لهم، ورضوانه جزاء لهم على بذلها وعدا منه حقّا لا ريب فيه، وحكما عدلا لا تبديل له، قال الله عز وجل:«إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ، وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ، فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ، وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» وحكم الله عز وجل لأحياء المجاهدين بنصره، والفوز برحمته، وأشهد لموتاهم بالحياة الدائمة، والزّلفى لديه، والحظ الجزيل من ثوابه، فقال:
وليس من شىء يتقرب به المؤمنون إلى الله عز وجل من أعمالهم، ويسعون به فى حطّ أوزارهم، وفكاك (1) رقابهم، ويستوجبون به الثواب من ربهم، إلّا والجهاد عنده أعظم منه منزلة، وأعلى لديه رتبة، وأولى بالفوز فى العاجلة والآجلة، لأن
(1) فكاك الرهن بالفتح ويكسر: ما يفتك به.
أهله بذلوا لله أنفسهم، لتكون كلمة الله هى العليا، وسمحوا بها دون من وراءهم من إخوانهم وحريم المسلمين وبيضتهم، ووقموا (1) بجهادهم العدوّ.
وقد رأى أمير المؤمنين- لما يحبّه من التقرب إلى الله بجهاد عدوه، وقضاء حقّه عليه فيما استحفظه من دينه، والتماس الزّلفى له فى إعزاز أوليائه، وإحلال البأس والنّقمة بمن حاد عن دينه، وكذّب رسله، وفارق طاعته- أن ينهض «وصيفا» مولى أمير المؤمنين فى هذا العام إلى بلاد أعداء الله الكفرة الرّوم غازيا، لما عرّف الله أمير المؤمنين من طاعته ومناصحته، ومحمود تعبئته، وخلوص نيّته فى كل ما قرّبه من الله ومن خليفته.
وقد رأى أمير المؤمنين- والله ولىّ معونته وتوفيقه- أن يكون موافاة «وصيف» فيمن أنهض أمير المؤمنين معه من مواليه وجنده وشاكريّته (2) ثغر ملطية (3)، لا ثنتى عشرة ليلة تخلو من شهر ربيع الآخر سنة ثمان وأربعين ومائتين، وذلك من شهور العجم للنّصف من حزيران، ودخوله بلاد أعداء الله فى أول يوم من تموز.
فاعلم ذلك واكتب إلى عمالك على نواحى عملك بنسخة كتاب أمير المؤمنين هذا، ومرهم بقراءته على من قبلهم من المسلمين، وترغيبهم فى الجهاد وحثّهم عليه، واستنفارهم إليه، وتعريفهم ما جعل الله من الثواب لأهله، ليعمل ذوو النيّات والحسبة والرغبة فى الجهاد على حسب ذلك فى النهوض إلى عدوّهم، والخفوف إلى معاونة إخوانهم، والذّياد عن دينهم، والرمى من وراء حوزتهم، بموافاة عسكر «وصيف»
(1) أى أذلوا وقهروا.
(2)
الشاكرى: الأجير والمستخدم.
(3)
قال ياقوت فى معجمه «ملطية» بفتح أوله وثانيه وسكون الطاء وتخفيف الياء، والعامة تقوله بتشديد الياء وكسر الطاء: بلدة من بلاد الروم مشهورة مذكورة تتاخم الشام».