الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
69 - رسالة الجاحظ فى بنى أمية
«بسم الله الرحمن الرحيم، أطال الله بقاءك، وأتمّ نعمته عليك، وكرامته لك، اعلم- أرشدك الله أمرك- أن هذه الأمة قد صارت بعد إسلامها، والخروج من جاهليّتها، إلى طبقات متفاوته، ومنازل مختلفة: فالطبقة الأولى: عصر النبى صلى الله عليه وسلم، وأبى بكر، وعمر رضى الله عنهما، وستّ سنين من خلافة عثمان رضى الله عنه، كانوا على التوحيد الصحيح، والإخلاص المحض، مع الألفة واجتماع الكلمة على الكتاب والسّنّة، وليس هناك عمل قبيح، ولا بدعة فاحشة، ولا نزع يد من طاعة، ولا حسد ولا غلّ ولا تأوّل، حتى كان الذى كان: من قتل عثمان رضى الله عنه، وما انتهك منه، ومن خبطهم إياه بالسلاح، وبعج (1) بطنه بالحراب، وفرى أوداجه بالمشاقص (2)، وشدخ هامته (3) بالعمد، مع كفّه عن البسط، ونهيه عن الامتناع، مع تعريفه لهم قبل ذلك، من كم وجه يجوز قتل من (4) شهد الشهادة! ؟
وصلّى القبلة، وأكل الذّبيحة، ومع ضرب نسائه بحضرته، وإقحام الرجال على حرمته، مع اتّقاء نائلة بنت الفرافصة عنه بيدها، حتى أطنّوا (5) إصبعين من أصابعها، وقد كشفت عن قناعها، ورفعت عن ذيلها، ليكون ذلك رادعا لهم، وكاسرا من غربهم (6)، مع وطئهم فى أضلاعه بعد موته، وإلقائهم على المزبلة جسده
(1) بعجه كمنعه: شقه.
(2)
فراه كرماه: شقه أيضا، والأوداج جمع ودج بالتحريك. وهو عرق فى العنق. والمشاقص جمع مشقص كمنبر: وهو النصل الطويل، أو سهم فيه ذلك يرمى به الوحش.
(3)
الهامة: الرأس، وشدخه كمنعه: كسره.
(4)
أى المسلم، أخذه من قوله صلى الله عليه وسلم فى كتابه إلى المنذر بن ساوى» فإن من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فذلك المسلم» - انظر الجزء الأول ص 45 وكان فيما قاله عثمان فى أثناء حصاره: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا فى إحدى ثلاث: رجل كفر بعد إسلامه فيقتل، أو رجل زنى بعد إحصانه فيرجم: أو رجل قتل نفسا بغير نفس» ففيم أقتل؟ - انظر تاريخ الطبرى 5: 122.
(5)
أطنوا: أى قطعوا.
(6)
من غربهم: أى حدتهم.
مجرّدا بعد سحبه! ؟ وهى الخرزة (1) التى جعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم كفئا لبناته (2) وأياماه وعقائله، بعد السبّ والتعطيش والحصر الشديد، والمنع من القوت، مع احتجاجه عليهم وإفحامه لهم، ومع اجتماعهم على أن دم الفاسق حرام كدم المؤمن، إلا من ارتدّ بعد إسلام، أو زنى بعد إحصان (3) أو قتل مؤمنا على عمد، أو رجل عدا على الناس بسيفه، فكان فى امتناعهم منه عطبه (4)، ومع اجتماعهم على ألا يقتل من هذه الأمة مولّ، ولا يجهز منها على جريح، ثم مع ذلك كله ذمروا (5) عليه وعلى أزواجه وحرمه، وهو جالس فى محرابه، ومصحفه يلوح فى حجره، لن يرى أن موحّدا يقدم على قتل من كان فى مثل صفته وحاله.
لا جرم (6) لقد احتلبوا به دما لا تطير رغوته، ولا تسكن فورته، ولا يموت ثائره، ولا يكلّ طالبه، وكيف يضّيع الله دم وليّه، والمنتقم له! ؟ وما سمعنا بدم بعد دم يحيى (7) بن زكريا عليهما السلام غلا غليانه، وقتل سافحه (8) وأدرك بطائلته، وبلغ كل محبته، كدمه، رحمة الله عليه.
ولقد كان لهم فى أخذه وفى إقامته للناس، والاقتصاص منه، وفى بيع ما ظهر من رباعه (9) وحدائقه وسائر أمواله، وفى حبسه بما بقى عليه، وفى طمره (10) حتى لا يحسّ بذكره، ما يغنيهم عن قتله إن كان قد ركب كلّ ما قذفوه به،
(1) الخرزة: الجوهرة، وفى الأصل «الجزرة» وهو تحريف.
(2)
تزوج عثمان رقية وأم كلثوم ابنتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأيامى جمع أيم، وامرأة أيم: لا زوج لها بكرا كانت أو ثيبا، والعقائل جمع عقيلة، وعقيلة كل شىء أكرمه.
(3)
أحصن الرجل: تزوج.
(4)
أى هلاكه.
(5)
الذمر: الحض والتهدد، وفعله كنصر.
(6)
لا جرم: كلمة كانت فى الأصل بمنزلة لا بد، ولا محالة، فجرت على ذلك وكثرت حتى تحولت إلى معنى القسم، وصارت بمنزله حقا، فلذلك يجاب عنها باللام كما يجاب بها عن القسم.
(7)
مات يحيى مقتولا- انظر تفصيل الخبر فى ذلك فى تاريخ الطبرى 2: 16.
(8)
سفيح دمه كقطعه: سفكه، والطائلة: الثأر.
(9)
الرباع جمع ربع: وهو المنزل.
(10)
الطمر: الخبء.
وادّعوه عليه، وهذا كله بحضرة جلّة (1) المهاجرين والسّلف المقدّمين، والأنصار والتابعين.
ولكن الناس كانوا على طبقات مختلفة، ومرانب متباينة، من قاتل، ومن شادّ على عضده، ومن خاذل عن نصرته، والعاجز ناصر بإرادته، ومطيع بحسن نيّته، وإنما الشك منّا فيه وفى خاذله، ومن أراد عزلة والاستبدال به، فأمّا قاتله والمعين على دمه والمريد لذلك منه، فضلّال، لا شكّ فيهم، ومرّاق، لا امتراء (2) فى حكمهم، على أن هذا لم يعد منهم الفجور: إما على سوء تأويل، وإما على تعمّد للشّقاء. ثم ما زالت الفتن متصلة، والحروب مترادفة، كحرب الجمل، وكوقائع صفّين، وكيوم النّهروان، وقبل ذلك يوم الزّابوقة (3)، وفيه أسر ابن حنيف (4)، وقتل حكيم بن جبلة، إلى أن قتل أشقاها (5) علىّ بن طالب، رضوان الله عليه، فأسعده الله بالشهادة، وأوجب لقاتله النار واللّعنة، إلى أن كان من اعتزال الحسن عليه السلام الحروب، وتخليته الأمور، عند انتثار أصحابه، وما رأى من الخلل فى عسكره، وما عرف من اختلافهم على أبيه، وكثرة تلوّنهم عليه، فعندها استوى معاوية على الملك، واستبد على بقية الشّورى، وعلى جماعة المسلمين من الأنصار والمهاجرين، فى العام الذى سمّوه عام (6) الجماعة، وما كان عام جماعة، بل كان عام فرقة وقهر وجبريّة وغلبة، والعام الذى تحولت فيه الإمامة ملكا كسرويّا، والخلافة غصبا قيصريا، ولم يعد ذلك أجمع الضلال والفسق، ثم ما زالت معاصيه من جنس ما حكينا وعلى منازل ما رتّبنا، حتى رد قضّية رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1) أى من عظمائهم وسادتهم وذوى الأخطار فيهم.
(2)
أى لا شك.
(3)
الزابوقة: موضع قريب من البصرة، كانت فيه وقعة الجمل أول النهار.
(4)
أى عثمان بن حنيف، وقد تقدم خبر ذلك فى الجزء الأول ص 322.
(5)
هو عبد الرحمن بن ملجم المرادى لعنه الله.
(6)
هو عام 41 هـ إذ اجتمع الناس على معاوية وبايعه أهل الأمصار كلها.
ردا مكشوفا، وجحد حكمه جحدا ظاهرا، فى ولد الفراش وما يجب للعاهر (1)، مع اجتماع الأمة أن سميّة لم تكن لأبى سفيان فراشا، وأنه إنما كان بها عاهرا، فخرج بذلك من حكم الفجّار إلى حكم الكفار، أو ليس قتل حجر (2) بن عدىّ، وإطعام عمرو بن العاص خراج مصر، وبيعة يزيد الخليع، والاستئثار بالفىء، واختيار الولاة على الهوى، وتعطيل الحدود بالشّفاعة والقرابة، من جنس جحد الأحكام المنصوصة، والشرائع المشهورة، والسنن المنصوبة! ؟ وسواء فى باب ما يستحق من الكفار، جحد الكتاب، وردّ السنّة إذ كانت السنة فى شهرة الكتاب وظهوره، إلا أن أحدهما أعظم، وعقاب الآخرة عليه أشدّ، فهذه أول كفرة كانت من الأمة، ثم لم تكن إلا فيمن يدّعى إمامتها والخلافة عليها! على أن كثيرا من أهل ذلك العصر قد كفروا بترك إكفاره، وقد أربت (3) عليهم نابتة عصرنا، ومبتدعة دهرنا، فقالت:«لا تسبّوه فإن له صحبة! وسبّ معاويه بدعة، ومن يبغضه فقد خالف السّنّة» فزعمت أن من السّنة ترك البراءة ممن جحد السنة! ثم الذى كان من يزيد ابنه، ومن عماله وأهل نصرته، ثم غزو مكّة، ورمى الكعبة (4)، واستباحة المدينة (5)، وقتل الحسين (6) عليه السلام فى أكثر أهل بيته، مصابيح الظلام، وأوتاد الإسلام، بعد الذى أعطى من نفسه، من تفريق أتباعه، والرجوع إلى داره وحرمه، أو الذهاب فى الأرض حتى لا يحسّ به، أو المقام حيث أمر به، فأبوا إلا قتله، والنزول على
(1) يعنى استلحاقه زيادا وقد تقدم خبر ذلك فى الجزء الثانى ص 34.
(2)
انظر الجزء الثانى ص 45.
(3)
أربت: زادت. والنابتة: الناشئة.
(4)
يعنى غزو مكة فى عهد يزيد. سار إليها حصين بن نمير السكونى فى جيش من أهل الشام بعد فراغهم من وقعة الحرة بالمدينة لقتال عبد الله بن الزبير سنة 64، وقد قذفوا البيت الحرام بالمجانيق وحرقوه بالنار، وأخذوا يرتجزون ويقولون.
خطارة مثل الفنيق المزبد
…
نرمى بها أعواد هذا المسجد
(والفنيق: الفحل المكرم لا يؤذى ولا يركب، لكرامته على أهله) - انظر تاريخ الطبرى 7: 14 - .
(5)
يشير إلى وقعة الحرة. انظر الجزء الثانى ص 89.
(6)
انظر الجزء الثانى ص 84.
حكمهم، وسواء قتل نفسه بيده، أو أسلمها إلى عدوه، وخيّر فيها من لا يبرد غليله إلا بشرب دمه، فأحسبوا قتله ليس بكفر، وإباحة المدينة وهتك الحرمة ليس بحجّة، كيف تقولون فى رمى الكعبة، وهدم البيت الحرام، وقبلة المسلمين؟ فإن قلتم ليس ذلك أرادوا، بل إنما أرادوا المتحرّز به (1)، والمتحصّن بحيطانه، أفما كان فى حق البيت وحريمه أن يحصروه فيه، إلى أن يعطى بيده؟ وأى شىء بقى من رجل قد أخذت عليه الأرض إلا موضع قدمه؟ واحسبوا ما رووا عليه من الأشعار، التى قولها شرك، والتمثّل بها كفر، شيئا مصنوعا، كيف تصنع بنقر القضيب بين ثنيّتى الحسين (2) عليه السلام، وحمل بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم حواسر على الأقتاب العارية (3)، والإبل الصعاب، والكشف عن عورة على بن الحسين عند الشك فى بلوغه:
على أنهم إن وجدوه وقد أنبت (4) قتلوه، وإن لم يكن أنبت حملوه، كما يصنع
(1) هو عبد الله بن الزبير.
(2)
وذلك أنه لما وجه عبيد الله بن زياد آل الحسين عليه السلام إلى يزيد بدمشق، ومثلوا بين يديه، أمر برأس الحسين فأبرز فى طست، فجعل ينكت ثناياه بقضيب فى يده، ويقول:
* ليت أشياخى ببدر شهدوا .. * الأبيات.
(3)
حواسر. جمع حاسر، وكل مكشوفة الرأس والذراعين حاسر. الأقتاب: جمع قتب بالتحريك، وهو الإكاف الصغير على قدر سنام البعير.
(4)
أنبت الغلام: نبتت عانته، جاء فى تاريخ الطبرى 6:263.
«أنه لما عرض على بن الحسين على عبيد الله بن زياد، قال له: ما اسمك؟ قال: أنا على بن الحسين قال: أو لم يقتل الله على بن الحسين؟ فسكت، فقال له ابن زياد: ما لك لا تتكلم؟ قال: قد كان لى أخ يقال له أيضا على فقتله الناس، قال: إن الله قد قتله، فسكت على؛ فقال له: مالك لا تتكلم؟ قال:
«اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها» «وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ» قال: أنت والله منهم ويحك! انظروا هل أدرك؟ والله إنى لأحسبه رجلا، فكشف عنه مرى بن معاذ الأحمرى، فقال: نعم قد أدرك، فقال: اقتله، فقال على بن الحسين: من توكل بهؤلاء النسوة؟
وتعلقت به زينب عمته، فقالت: يا بن زياد. حسبك منا، أما رويت من دمائنا؟ وهل أبقيت منا أحدا؟ فاعتقته فقالت. أسألك بالله إن كنت مؤمنا إن قتلته لما قتلتنى معه، وناداه على فقال: يا بن زياد، إن كانت بينك وبينهم قرابة فابعث معهن رجلا تقيا يصحبهن يصحبة الإسلام، فنظر إليها ساعة، ثم نظر إلى القوم، فقال: عجبا للرحم! والله إنى لأظنها ودت لو أنى قتلته أنى قتلتها معه، دعوا الغلام، انطلق مع نسائك».
أمير جيش المسلمين بذرارىّ المشركين، وكيف تقول فى قول عبيد الله بن زياد لإخوته وخاصّته: دعونى أقتله، فإنه بقيّة هذا النّسل، فأحسم به هذا القرن، وأميت به هذا الداء، وأقطع به هذه المادة.
خبّرونا! علام تدلّ هذه القسوة، وهذه الغلظة، بعد أن شفوا أنفسهم بقتلهم، ونالوا ما أحبّوا فيهم؟ أتدلّ على نصب (1) وسوء رأى وحقد وبغضاء ونفاق، وعلى يقين مدخول، وإيمان مخروج، أم تدلّ على الإخلاص، وعلى حبّ النبى صلى الله عليه وسلم، والحفظ له، وعلى براءة السّاحة وصحّة السّريرة؟ فإن كان ما وصفنا لا يعدو الفسق والضلال- وذلك أدنى منازله- فالفاسق ملعون، ومن نهى عن [سبّ (2)] الملعون فملعون.
وزعمت نابتة عصرنا ومبتدعة دهرنا: أن سبّ ولاة السّوء فتنة، ولعن الجورة بدعة، وإن كانوا يأخذون السّمىّ بالسّمىّ، والولىّ بالولىّ (3) والقريب بالقريب، وأخافوا الأولياء، وأمّنوا الأعداء، وحكموا بالشفاعة والهوى، وإظهار الغدرة والتهاون بالأمة، والقمع للرعية، وأنهم فى غير مداراة ولا تقيّة. وإن عدا ذلك إلى الكفر، وجاوز الضلال إلى الجحد، فذاك أضلّ ممن كفّ عن شتمهم والبراءة منهم، على أنه ليس من استحق اسم الكفر بالقتل، كمن استحقه بردّ السنة وهدم الكعبة، وليس من استحق اسم الكفر بذلك، كمن شبّه الله بخلقه، وليس من استحق الكفر بالتشبيه كمن استحقه بالتجوير (4) والنابتة فى هذا الوجه أكفر من يزيد وأبيه،
(1) نصب له: عاداه، وأهل النصب: المتدينون ببغضة على رضى الله عنه، لأنهم نصبوا له.
(2)
فى الأصل «نهى» محل هذه الكلمه، والسياق يقتضى ما ذكرته.
(3)
يعرض بزياد ابن أبيه إذ يقول فى خطبته البتراء: «وإنى أقسم بالله لآخذن الولى بالمولى
…
» انظر جمهرة خطب العرب 2: 270 وبالحجاج إذ يقول فى كتابه إلى المهلب: «فإنى أرى أن آخذ الولى بالولى، والسمى بالسمى» انظر الجزء الثانى ص 145 من جمهرة رسائل العرب.
(4)
جوره: نسبه إلى التجوير، وفيه تعريض بغير المعتزلة، وكان المعتزلة يسمون أنفسهم أهل العدل لقولهم بعدل الله وحكمته، قال الشهرستانى فى الملل والنحل ج 1: ص 52: «واتفق المعتزلة على أن العبد قادر خالق لأفعاله خيرها وشرها، مستحق على ما يفعله ثوابا وعقابا فى الدار الآخرة، والرب-
وابن زياد وأبيه، ولو ثبت أيضا على يزيد أنه تمثّل بقو وابن الزّبعرى (1):
ليت أشياخى ببدر شهدوا
…
جزع الخزرج من وقع الأسل (2)
لاستطاروا واستهلّوا فرحا
…
ثم قالوا يا يزيد لا تشلّ (3)
قد قتلنا الغرّ من ساداتهم
…
وعدلناه ببدر فاعتدل (4)
تعالى منزه أن يضاف إليه شر أو ظلم، وفعل هو كفر ومعصية، لأنه لو خلق الظلم كان ظالما، كما لم خلق العدل كان عادلا، واتفقوا على أن الحكيم لا يفعل إلا الصلاح والخير، ويجب من حيث الحكمة رعاية مصالح العباد، وسموا هذا النمط عدلا» اهـ. وجاء أيضا فى مروج الذهب ج 2: ص 190 فى تفسير الأصول الخمسة التى يذهب إليها المعتزلة: «وأما القول بالعدل- وهو الأصل الثانى- فهو أن الله لا يحب الفساد، ولا يخلق أفعال العباد، بل يفعلون ما أمروا به ونهوا عنه، بالقدرة التى جعلها الله لهم، وركبها فيهم .... الخ» ومن ذلك ترى أنهم ينزهون الله تعالى عن أن يقدر على العبد المعصية ثم يعذبه عليها، بل العبد هو الذى يفعل أفعاله جميعا بإرادته وقدرته، ويستحق عليها الثواب أو العقاب، وهذا عدل منه تعالى.
ولا يغيب عنك أن الجاحظ كان من شيوخ المعتزلة وكبرائهم، وهو تلميذ أبى إسحق إبراهيم ابن سار النظام، المعتزلى المشهور، وقد نصر الجاحظ مذهب المعتزلة بفصاحته وكتبه البليغة حتى صار لسان المعتزلة فى زمانه، وكان رئيس فرقة منهم نسبت إليه، فسميت «الجاحظية» - انظر الملل والنحل 1: 80 وسرح العيون ص 170 ووفيات الأعيان.
(1)
هو عبد الله بن الزبعرى؛ أحد شعراء قريش المعدودين، وكان يهجو المسلمين، ويحرض عليهم كفار قريش فى شعره، ثم أسلم فقبل النبى إسلامه وأمنه يوم الفتح- انظر ترجمته فى الأغانى 14: 11 - وفى رواية أن يزيد تمثل بقول ابن الزبعرى حينما جىء إليه برأس الحسين وآله كما قدمنا- انظر بلاغات النساء ص 25 - وفى رواية أخرى أنه حين بعث إليه مسلم بن عقبة المرى برءوس أهل المدينة (بعد انتصاره عليهم فى وقعة الحرة سنة 63) وألقيت بين يديه، جعل يتمثل بقول ابن الزبعرى المذكور، فقال له رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: ارتددت عن الإسلام يا أمير المؤمنين. قال: بلى نستغفر الله، قال: والله لا ساكنتك أرضا أبدا وخرج عنه- انظر العقد الفريد 2: 257 - .
(2)
هذا البيت من قصيدة قالها ابن الزبعرى يوم أحد (وهو حينئذ مشرك) انظرها فى سيرة ابن هشام 2: 112، وشرح ابن أبى الحديد م 3 ص 382 - وكانت الغلبة يوم بدر للمسلمين. ويوم أحد للمشركين، والأسل: الرماح والنبل، والخروج: قبيلة من الأنصار.
(3)
كل من رفع صوته فقد أهل إهلالا، واستهل استهلالا، وشلت يده تشل. كتعب يتعب وأشلت وشلت مبنيين للمجهول: ببست، وهى جملة دعائية، وفى الأصل «لا تسل» وهو تصحيف- وهذا البيت من قول يزيد-.
(4)
فى سيرة ابن هشام:
فقتلنا الضعف من أشرافهم
…
وعدلنا ميل بدر فاعتدل
وفى ابن أبى الحديد: «فقتلنا النصف
…
» وفى بلاغات النساء: «فجزيناهم ببدر مثلها» .
كان تجوير النابتىّ لربه، وتشبيهه بخلقه، أعظم من ذلك وأفظع، على أنهم مجمعون على أنه: ملعون من قتل مؤمنا، متعمّدا أو متأوّلا، فإذا كان القاتل سلطانا جائرا، أو أميرا عاصيا، لم يستحلّوا سبّه ولا خلعه ولا نفيه ولا عيبه، وإن أخاف الصلحاء، وقتل الفقهاء، وأجاع الفقير، وظلم الضعيف، وعطّل الحدود والثّغور، وشرب الخمور، وأظهر الفجور! ثم ما زال الناس يتسكّعون مرة، ويداهنونهم مرة، ويقاربونهم مرة، ويشاركونهم مرة، إلّا بقيّة ممّن عصمه الله تعالى ذكره، حتى قام عبد الملك بن مروان، وابنه الوليد، وعاملهما الحجاج بن يوسف، وموه لا يزيد بن أبى مسلم، فأعادوا على البيت بالهدم (1)، وعلى حرم المدينة بالغزو (2)، فهدموا الكعبة، واستباحوا الحرمة، وحوّلوا قبلة واسط (3)، وأخّروا صلاة الجمعة إلى مغيربان (4) الشمس، فإن قال رجل لأحدهم: اتّق الله فقد أخّرت الصلاة عن وقتها، قتله على هذا القول جهارا غير ختل (5)، وعلانية غير سرّ، ولا يعلم
(1) يعنى ما كان من مقاتلة الحجاج عبد الله بن الزبير بمكة وحصره إياه ورميه الكعبة بالمنجنيق فى عهد عبد الملك بن مروان سنة 73 - انظر تاريخ الطبرى 7: 202 (والمنجنيق بفتح الميم وتكسر:
آلة ترمى بها الحجارة).
(2)
بعث عبد الملك بن مروان سنة 65 حبيش بن دلجة القيسى فى سبعة آلاف إلى المدينة فدخلها ثم خرج إلى الربذة (قرب المدينة) وقدم عليه مدد من الشام، وكتب عبد الله بن الزبير إلى عياش ابن سهل الساعدى بالمدينة أن يسير إلى حبيش فسار إليه، وقد وافاه مدد من البصرة، ونشب القتال بين الفريقين، فقتل حبيش ومن معه- انظر العقد الفريد 2: 263، وتاريخ الطبرى 7:84.
(3)
انظر ص 9 من الجزء الثالث.
(4)
أى إلى غروبها، نقل ابن أبى الحديد فى شرحه م 3: ص 470: «كان بنو أمية يؤخرون صلاة الجمعة تشاغلا عنها بالخطبة، ويطيلون فيها إلى أن تتجاوز وقت العصر، وتكاد الشمس تصفر، فعل ذلك الوليد بن عبد الملك، ويزيد أخوه، والحجاج عاملهم، ووكل بهم الحجاج المسالح معه (والمسالح جمع مسلحة بالفتح: وهى القوم ذو وسلاح) والسيوف على رءوسهم، فلا يستطيعون أن يصلوا الجمعة فى وقتها، وقال الحسن البصرى: وا عجبا من أخيفش أعيمش، جاءنا ففتننا عن ديننا، وصعد على منبرنا، فيخطب والناس يلنفتون إلى الشمس، فيقول: ما بالكم تلتفتون إلى الشمس! إنا والله ما نصلى للشمس، إنما نصلى لرب الشمس، أفلا تقولون: يا عدو الله، إن لله حقا بالليل لا يقبله بالنهار، وحقا النهار لا يقيله بالليل؟ ثم يقول الحسن: وكيف يقولون ذلك، وعلى رأس كل واحد منهم علج قائم بالسيف» اقرأ هناك فصلا طويلا فى مقابح بنى أمية.
(5)
الختل: الخداع.
القتل على ذلك إلا أقبح من إنكاره، فكيف يكفّر العبد بشىء ولا يكفر بأعظم منه؟
وقد كان بعض الصالحين ربما وعظ الجبابرة، وخوّفهم العواقب، وأراهم أن فى الناس بقيّة ينهون عن الفساد فى الأرض، حتى قام عبد الملك بن مروان، والحجاج ابن يوسف، فزجرا عن ذلك وعاقبا عليه، وقتلا فيه، فصاروا لا يتناهون عن منكر فعلوه، فاحسب تحويل القبلة كان غلطا، وهدم البيت كان تأويلا، واحسب ما رووا من كل وجه أنهم كانوا يزعمون أن خليفة المرء فى أهله أرفع عنده من رسوله إليهم (1)، باطلا ومسموعا مولّدا، واحسب وسم أيدى المسلمين (2)، ونقش أيدى المسلمات، وردّهم بعد الهجرة إلى قراهم، وقتل الفقهاء، وسبّ أئمة الهدى، والنّصب لعترة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يكون كفرا، كيف تقول فى جمع ثلاث صلوات فيهن الجمعة، ولا يصلّون أولاهنّ حتى تصير الشمس على أعالى الجدران كالملاء المعصفر (3)، فإن نطق مسلم خبط بالسيف، وأخذته العمد، وشكّ بالرماح، وإن قال قائل: اتق الله، أخذته العزّة بالإثم، ثم لم يرض إلا بنثر دماغه على صدره، وبصلبه حيث تراه عياله.
(1) عقد صاحب العقد الفريد 19 فى أخبار الحجاج فصلا فيمن زعم أنه كان كافرا (ج 3:
ص 19) جاء فيه أنه قال فى كلام له: «ويحكم! أخليفة أحدكم فى أهله أكرم عليه، أم رسوله إليهم؟ » وجاء فى شرح ابن أبى الحديد م 3: ص 470 «وخطب الحجاج بالكوفة فذكر الذين يزورون قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله بالمدينة فقال: تبا لهم، إنما يطوفون بأعواد ورمة بالية، هلا طافوا بقصر أمير المؤمنين عبد الملك؟ ألا يعلمون أن خليفة المرء خير من رسوله! »
(2)
وجاء فى شرح ابن أبى الحديد أيضا: «وكانت بنو أمية تختم فى أعناق المسلمين كما توسم الخيل علامة لاستعبادهم، ونقشوا أكف المسلمين علامة لاسترقاقهم، كما يصنع بالعلوج من الروم والحبشة» وجاء فى تاريخ الطبرى 7: 206 «وفى سنة 74 استعمل عبد الملك الحجاج على المدينة، فكان يتعبث بأهلها ويتعنتهم، واستخف فيها بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فختم فى أعناقهم، وعن إسحق بن يزيد أنه رأى أنس بن مالك مختوما فى عنقه، يريد أن يذله بذلك، ودعا الحجاج سهل بن سعد، فقال: ما منعك أن تنصر أمير المؤمنين عثمان بن عفان؟ قال: قد فعلت، قال: كذبت، ثم أمر به فختم فى عنقه برصاص» .
(3)
أى المصبوغ بالعصفر- كبرقع وهو صبغ أصفر.
ومما يدل على أن القوم لم يكونوا إلّا فى طريق التمرّد على الله عز وجل، والاستخفاف بالدين، والتهاون بالمسلمين، والابتذال لأهل الحق، أكل أمرائهم الطعام، وشربهم الشراب، على منابرهم أيام جمعهم (1) وجموعهم، فعل ذلك حبيش ابن دلجة (2)، وطارق (3) مولى عثمان، والحجاج بن يوسف وغيرهم، وذلك إن كان كفرا كلّه فلم يبلغ كفر نابتة عصرنا، وروافض دهرنا، لأن جنس كفر هؤلاء غير كفر أولئك. كان اختلاف الناس فى القدر على أن طائفة تقول: كلّ شىء بقضاء وقدر، وتقول طائفة أخرى: كل شىء بقضاء وقدر إلا المعاصى، ولم يكن أحد يقول: إن الله يعذب الأبناء ليغيظ الآباء، وإن الكفر والإيمان مخلوقان فى الإنسان مثل العمى والبصر، وكانت طائفة منهم تقول: إن الله يرى، لا تزيد على ذلك، فإن خافت أن يظنّ بها التشبيه، قالت: يرى بلا كيف، تقزّزا من التجسيم والتصوير، حتى نبتت هذه النابتة، وتكلمت هذه الرافضة، فقالت جسيما، وجعلت له صورة وحدّا، وأكفرت من قال بالرؤية على غير التجسيم والتصوير.
ثم زعم أكثرهم أن كلام الله حسن وبيّن وحجة وبرهان، وأن التوراة غير الزّبور، والزّبور غير الإنجيل، والإنجيل غير القرآن، والبقرة غير آل عمران، وأن الله تولى تأليفه، وجعله برهانه على صدق رسوله، وأنه لو شاء أن يزيد فيه زاد، ولو شاء أن ينقص منه نقص، ولو شاء أن يبدّله بدّله، ولو شاء أن ينسخه كله بغيره نسخه، وأنه نزله تنزيلا. وأنه فصّله تفصيلا، وأنه بالله كان دون غيره، ولا يقدر
(1) وجاء فى شرح ابن أبى الحديد أيضا: «وكانت خطباء بنى أمية تأكل وتشرب على المنبر يوم الجمعة، لإطالتهم فى الخطبة، وكان المسلمون تحت منبر الخطبة يأكلون ويشربون» .
(2)
فى الأصل «حسن» وهو تحريف، وقد قدمنا لك أن عبد الملك بعثه فى جيش إلى المدينة، فلما دخلها جلس على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا بخبز ولحم فأكل، ثم دعا بماء فتوضأ على المنبر- انظر العقد الفريد 2:263.
(3)
هو طارق بن عمرو، مولى عثمان، ولاه عبد الملك المدينة سنة 73 هـ، فوليها خمسة أشهر، ثم عزله عنها واستعمل عليها الحجاج سنة 74 هـ- انظر تاريخ الطبرى 7: 205، 206.
(5 - جمهرة رسائل العرب- رابع)
عليه إلّا هو، غير أن الله مع ذلك كلّه لم يخلقه، فأعطوا جميع صفات الخلق، ومنعوا اسم الخلق.
والعجب أن الخلق عند العرب إنما هو التقدير نفسه، فلذا قالوا: خلق كذا وكذا، ولذلك قال:«أحسن الخالقين» وقال: «وتخلقون إفكا» وقال:
«وإذ تخلق من الطّين كهيئة الطّير» فقالوا: صنعه وجعله وقدّره، وأنزله وفصّله وأحدثه، ومنعوا «خلقه» وليس تأويل «خلقه» أكثر من «قدّره» ولو قالوا بدل قولهم «قدّره ولم يخلقه»:«خلقه ولم يقدّره» ما كانت المسألة عليهم إلا من وجه واحد. والعجب أن الذى منعه بزعمه أن يزعم أنه مخلوق، أنه لم يسمع ذلك من سلفه، وهو يعلم أنه لم يسمع أيضا من سلفه أنه ليس بمخلوق، وليس ذلك يهمّ، ولكن لما كان الكلام من الله تعالى عندهم على مثل خروج الصوت من الجوف، وعلى جهة تقطيع الحروف وإعمال اللسان والشفتين، وما كان على غير هذه الصورة والصفة فليس بكلام، ولمّا كنا عندهم على غير هذه الصفة، وكنا لكلامنا غير خالقين، وجب أن الله عز وجل لكلامه غير خالق، إذ كنّا لكلامنا غير خالقين، فإنما قالوا ذلك لأنهم لم يجدوا بين كلامنا وكلامه فرقا، وإن لم يقرّوا بذلك بألسنتهم، فذلك معناهم وقصدهم.
وقد كانت هذه الأمة لا تجاوز معاصيها الإثم والضلال، إلا ما حكيت لك عن بنى أمية وبنى مروان وعمّالهم، ومن لم يدن بإكفارهم، حتى نجمت النوابت، وتابعتها هذه العوامّ، فصار الغالب على هذا القرن الكفر، وهو التشبيه والجبر، فصار كفرهم أعظم من كفر من مضى فى الأعمال التى هى الفسق، وصاروا شركاء (1) من كفر منهم بتولّيهم وترك إكفارهم، قال الله عز وجل من قائل «وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ» .
(1) فى الأصل «وشركاء» .
وأرجو أن يكون الله قد أغاث المحقّين، ورحمهم، وقوّى ضعفهم، وكثّر قلّتهم، حتى صار ولاة أمرنا فى هذا الدهر الصعب، والزمن الفاسد، أشدّ استبصارا فى التشبيه من عليتنا، وأعلم بما يلزم فيه منا، وأكشف للقناع من رؤسائنا، وصادفوا (1) الناس وقد انتظموا معان (2) الفساد أجمع، وبلغوا غايات البدع، ثم قرنوا بذلك العصبية التى هلك بها عالم بعد عالم، والحميّة التى لا تبقى دينا إلا أفسدته، ولا دنيا إلا أهلكتها، وهو ما صارت إليه العجم من مذهب الشّعوبيّة (3)، وما قد صار إليه الموالى من الفخر على العجم والعرب، وقد نجمت من الموالى ناجمة، ونبتت منهم نابتة، تزعم أن المولى بولائه قد صار عربيا، لقول النبى صلى الله عليه وسلم:«مولى القوم منهم» ولقوله: «الولاء لحمة (4) كلحمة النّسب، لا يباع ولا يوهب» قال: فقد علمنا أن العجم حين كان فيهم الملك والنبوّة كانوا أشرف من العرب، ولمّا حوّل ذلك إلى العرب صارت العرب أشرف منهم، قالوا: فنحن معاشر الموالى- بقديمنا فى العجم- أشرف من العرب، - وبالحديث الذى صار لنا فى العرب- أشرف من العجم، وللعرب القديم دون الحديث، ولنا خصلتان جميعا وافرتان فينا، وصاحب الخصلتين أفضل من صاحب الخصلة، وقد جعل الله المولى- بعد أن كان عجميا- عربيا بولائه، كما جعل حليف قريش من العرب قرشيّا بحلفه، وجعل إسمعيل- بعد أن كان أعجميا- عربيا، ولولا قول النبى صلى الله عليه وسلم «إن إسمعيل كان عربيا» ما كان عندنا إلا أعجميا، لأن الأعجمى لا يصير عربيا، كما أن العربىّ لا يصير أعجميا، فإنما علمنا أن إسمعيل صيّره الله عربيا بعد أن كان أعجميا، بقول النبى صلى الله عليه وسلم، فكذلك حكم قوله «مولى القوم منهم» وقوله «الولاء لحمة» قالوا: وقد جعل الله إبراهيم عليه السلام أبا لمن لم يلد، كما جعله أبا
(1) فى الأصل: «وصارفوا» وهو تحريف.
(2)
المعان: المباءة والمنزل.
(3)
هم محتقرو أمر العرب.
(4)
اللحمة: القرابة.
لمن ولد، وجعل أزواج النبى أمّهات المؤمنين (1) - ولم يلدن منهم أحدا- وجعل الجار والد من لم يلد فى قول، وغير هذا كثير قد أتينا عليه فى موضعه، وليس أدعى إلى الفساد، ولا أجلب للشرّ من المفاخرة، وليس على ظهرها إلا فخور- إلا قليل- وأىّ شىء أغيظ من أن يكون عبدك يزعم أنه أشرف منك- وهو مقرّ أنه صار شريفا بعتقك إياه-؟ .
وقد كتبت- مدّ الله فى عمرك- كتبا فى مفاخرة قحطان، وفى تفضيل عدنان.
وفى ردّ الموالى إلى مكانهم من الفضل والنقص، وإلى قدر ما جعل الله تعالى لهم بالعرب من الشرف، وأرجو أن يكون عدلا بينهم، وداعية إلى صلاحهم، ومنبهة عليهم ولهم، وقد أردت أن أرسل بالجزء الأول إليك، ثم رأيت ألا يكون إلا بعد استئذانك واستئمارك (2)، والانتهاء فى ذلك إلى رغبتك، فرأيك فيه موفّق إن شاء الله عز وجل وبه الثقة»:
«رسالة للجاحظ فى بنى أمية (3)» .
70 -
رسالة أبى العاص (4) بن عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفى إلى الثقفى
«بسم الله الرحمن الرحيم: أما بعد، فإن جلوسك إلى الأصمعى (5)، وعجبك بسهل بن هرون، واسترجاحك إسمعيل بن غزوان، وطعنك على مويس بن عمران، وخلطتك (6) بابن مشارك، واختلافك إلى ابن التّوءم، وإكثارك من ذكر المال وإصلاحه، والقيام عليه واصطناعه، وإطنابك فى وصف الترويج والتثمير (7)،
(1) قال تعالى: «النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ» .
(2)
الاستثمار: المشاورة.
(3)
رسالة مخطوطة محفوظة بدار الكتب المصرية رقم 1855 أدب.
(4)
ذكره صاحب الأغانى فى خلال ترجمة محمد بن مناذر- إذ كان أخوه عبد المجيد بن عبد الوهاب صديقا حميما لابن مناذر- انظر ج 17: ص 12.
(5)
هو الراوية المشهور، وكان بخيلا، توفى سنة 216 هـ.
(6)
الخلطة بالكسر: العشرة (وبالضم: الشركة).
(7)
ثمر ماله: نماه وكثره.
وحسن التعهّد والتوفير، دليل على خبىء سوء، وشاهد على عيب وإدبار، بعد أن كنت تستثقل ذكرهم، وتستشنع فعلهم، وتتعجّب من مذهبهم، وتسرف فى ذمّهم، وليس يلهج بذكر الجمع (1) إلا من قد عزم على الجمع، ولا يأنس بالبخلاء إلا المستوحش من الأسخياء، وفى تحفّظك قول سهل بن هرون: فى الاستعداد فى حال المهلة، وفى الأخذ بالثقة (2)، وأن أقبح التفريط ما جاء مع طول المدة، وأن الحزم كلّ الحزم، والصواب كلّ الصواب، أن تستظهر على الحدثان (3)، وأن تجعل ما فضل عن قوام الأبدان، ردءا (4) دون صروف الزمان، وأنّا لا ننسب إلى الحكمة، حتى نحوط أصل النعمة، بأن نجعل دون فضولها جنّة (5)، شاهد (6) على عجبك بمذهبه، وبرهان على ميلك إلى سبيله، وفى استحسانك رواية الأصمعى فى:«أن أكثر أهل النار النساء والفقراء، وأن أكثر أهل الجنة البله والأغنياء، وأن أرباب الدّثور هم الذين ذهبوا بالأجور (7)» برهان (8) على صحة حكمنا عليك، ودليل على صواب رأينا فيك، وفى تفضيلك (9) كلام ابن غزوان حين قال: تنعمتم بالطعام الطيّب، وبالثياب الفاخرة، وبالشراب الرقيق، وبالغناء المطرب، وتنعمنا بعز الثروة، وبصواب النظر فى العاقبة، وبكثرة المال، والأمن من سوء الحال، ومن ذل الرغبة إلى الرجال، والعجز عن مصلحة العيال، فتلك لذّتكم، وهذه لذتنا، وهذا رأينا فى التسلّم من الذم، وذاك رأيكم فى التعرّض للحمد، وإنما ينتفع بالحمد
(1) أى جمع الأموال.
(2)
أى بادخار ما يمكن ادخاره حتى يثق المرء بقدرته على مكافحة الخطوب إن نزلت به.
(3)
تستظهر: تستعين، والحدثان: حوادث الدهر ونوبه.
(4)
الردء: العون والمادة.
(5)
الجنة: الوقاية.
(6)
مبتدأ خبره «فى تحفظك» .
(7)
جاء فى لسان العرب: «وروى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قيل له: ذهب أهل الدثور بالأجور، قال أبو عبيد: واحد الدثور دثر بالفتح، وهو المال الكثير، يقال: هم أهل دثر ودثور، ومال دثر» .
(8)
مبتدأ خبره: «فى استحسانك» .
(9)
معطوف على الخبر السابق.
السليم الفارغ البال، ويسرّ باللذات الصحيح الصادق الحس، فأما الفقير فما أغناه عن الحمد، وأفقره إلى ما به يجد طعم الحمد، والطعام الذى آثرتموه يعود رجيعا (1)، والشراب يصير بولا، والبناء يعود نقضا (2)، والغناء (3) ريح هابّة، ومسقط للمروءة، وسخافة تفسد، ورنّة تسير (4)، فلذّتكم فيما حوى لكم الفقر ونقض المروءة، ولذّتنا فيما حوى لنا الغنى وبنى المروءة، فنحن فى بناء، وأنتم فى هدم، ونحن فى إبرام، وأنتم فى نقض، ونحن فى التماس العز الدائم مع فوت بعض اللذة، وأنتم فى التعرض للذل الدائم مع فوت كل مروءة، وقد فهمنا معنى حكايتك، وما لهجت به من روايتك، والدليل على انتقاض طباعك، وإدبار أمرك، استحسانك ضدّ ما كنت تستحسن، وعشقك لما لم تزل تمقت، فبعدا وسحقا. ولا يبعد الله إلا من ظلم، والشاعر أبصر بكم حيث يقول:
فإن سمعت بهلك للبخيل فقل
…
بعدا وسحقا له من هالك مودى (5)
تراثه جنّة للوارثين إذا
…
أودى وجثمانه للتّرب والدّود
وقال آخر:
تبلى محاسن وجهه فى قبره
…
والمال بين عدوّه مقسوم
والحمد لله الذى لم يمتنى حتى أرانيك وكيلا فى مالك (6)، وأجيرا لوارثك، وأمّا أنت فقد تعجّلت الفقر قبل أوانه، وصرت كالمجلود فى غير لذة، وهل تزيد حال من أنفق جميع ماله، ورأى المكروه فى عياله، وظهر فقره، وشمت به عدوّه، على أكثر من انصراف المؤنسين عنه، وعلى بغض عياله، وعلى خشونة الملبس وخشونة
(1) الرجيع: الروث.
(2)
النقض: المنقوض، وهو البناء المهدوم.
(3)
فى بعض النسخ «والثناء» .
(4)
أى تذهب فى الهواء وتزول.
(5)
أودى: هلك.
(6)
أى وكيلا فى مالك لورثتك، لا تنتفع به انتفاع المالك.
المأكل، وهذا كلّه مجتمع فى مسك (1) البخيل، ومصبوب على هامة (2) الشحيح، ومعجّل للئيم، وملازم للمنوع، ألا إنّ المنفق قد ربح المحمدة، وتمتّع بالنعمة، ولم يعطّل المقدرة (3)، ووفّى كلّ خصلة من هذه حقّها، ووفّر عليها نصيبها، والممسك معذّب بحصر نفسه، وبالكدّ لغيره، مع لزوم الحجّة، وسقوط الهمة، والتعرّض للذم والإهانة، ومع تحكيم المرّة (4) السوداء فى نفسه، وتسليطها على عرضه، وتمكينها من عيشه وسرور قلبه. ولقد سرى إليك عرق (5)، ولقد دخل أعراقك جور (6)، ولقد عمل فيها قادح (7)، ولقد غالها غول، وما هذا المذهب من أخلاق صميم ثقيف، ولا من شيم أعرقت (8) فيها قريش، ولقد عرض لك إقراف (9)، ولقد أفسدتك هجنة (10)، ولقد قال معاوية:«من لم يكن من بنى عبد المطلب جوادا فهو دخيل (11)، ومن لم يكن من آل الزبير شجاعا فهو لزيق (12)، ومن لم يكن من بنى المغيرة تيّاها فهو سنيد (13)» . وقال سلم بن قتيبة: «إذا رأيت الثقفىّ يعزّ من غير إطعام (14)، ويكسب لغير إنفاق، فبهرجه (15) ثم بهرجه ثم بهرجه» وقال
(1) المسك: الجلد، والمراد النفس.
(2)
الهامة: الرأس، والجمع هام.
(3)
أى لم يعطل المقدرة على فعل الخير وكسب الثناء.
(4)
المرة: المزاج، والمزاج الأسود: هو المزاج المضطرب الكثير المخاوف والوساس.
(5)
أى اندس فى أعراق نفسك عرق خسيس ليس منها.
(6)
المراد بالجور هنا الابتعاد عن الطريق القويم.
(7)
القادح: أكال يقع فى الشجر والأسنان، والقادح: العفن، يقول: أصيبت هذه الأعراق والصفات بعلة قضت عليها.
(8)
صارت عريقة فى الكرم.
(9)
المقرف: من كانت أمه عربية وأبوه أعجمى، والمراد بالإقراف هنا ما يشبه الإقراف: أى كأنك لم تكن عربيا صميما.
(10)
الهجنة: أن تكون الأم غير عربية والأب عربيا.
(11)
الدخيل: من يعيش بين القوم وليس منهم.
(12)
من لزق بنسب قوم وليس منهم.
(13)
السنيد: الدعى، وهو من ينتمى إلى غير أهله.
(14)
المعنى: دون أن يعنى بإطعام الفقراء ومساعدة المحتاجين. وفى الأصل «طعام» .
(15)
بهرجه: أهمله.
ابن أبى بردة: «لولا شباب ثقيف وسفهاؤهم، ما كان لأهل البصرة مال (1)» إن الله جواد لا يبخل، وصدوق لا يكذب، ووفىّ لا يغدر، وحليم لا يعجل، وعدل لا يظلم، وقد أمرنا بالجود، ونهانا عن البخل، وأمرنا بالصدق ونهانا عن الكذب، وأمرنا بالحلم، ونهانا عن العجلة؛ وأمرنا بالعدل، ونهانا عن الظلم، وأمرنا بالوفاء، ونهانا عن الغدر، فلم يأمرنا إلا بما اختاره لنفسه، ولم يزجرنا إلّا عمّا لم يرضه لنفسه وقد قالوا بأجمعهم إن الله أجود الأجودين، وأمجد الأمجدين، كما قالوا: أرحم الراحمين، وأحسن الخالقين، وقالوا فى التأديب لسائليهم، والتعليم لأجوادهم: لا تجاودوا (2) الله فإن الله جل ذكره أجود وأمجد، وذكر نفسه جل جلاله وتقدّست أسماؤه، فقال:
ذو الفضل العظيم (3)» وقال «ذى الطّول لا إله إلّا هو» وقال: «ذو الجلال والإكرام» وذكروا النبىّ صلى الله عليه وسلم فقالوا: لم يصع درهما على درهم، ولا لبنة على لبنة، وملك جزيرة العرب فقبض الصدقات، وجبيت له الأموال ما بين غدران العراق إلى شحر عمان (4)، إلى أقصى مخاليف (5) اليمن، ثم توفّى وعليه دين، ودرعه مرهونة ولم يسأل حاجة قطّ فقال: لا، وكان إذا سئل أعطى، وإذا وعد أو أطمع كان وعده كالعيان (6)، وإطماعه كالإنجاز، ومدحته الشعراء بالجود، وذكرته الخطباء بالسّماح، ولقد كان يهب للرجل الواحد الضاجعة (7) من الشاء، والعرج (8) من الإبل وكان أكثر ما يهب الملك من العرب مائة بعير فيقال: وهب هنيدة (9)، وإنما
(1) أى لكثرة ما ينفقون فى البصرة ويبذلون.
(2)
أى لا تحاولوا أن تصلوا فى الجود إلى مثل جود الله.
(3)
الإفضال والإنعام.
(4)
ساحل البحرين، بين عمان وعدن.
(5)
المخلاف: الكورة، بلغة أهل اليمن.
(6)
مصدر عاين الشىء: أبصره. والمعنى: أن وعده فى الوثوق بتحققه كالشىء المشاهد.
(7)
الضاجعة: الغنم الكثيرة.
(8)
العرج بالفتح والكسر من الإبل: ما بين السبعين إلى الثمانين، وقيل: هو ما بين الثمانين إلى التسعين، وقيل مائة وحمسون وفويق ذلك، وقيل من خمسمائة إلى ألف.
(9)
هند وهنيدة: اسم للمائة من الإبل خاصة.
يقال ذلك إذا أريد بالقول غاية المدح- ولقد وهب (1) لرجل ألف بعير فلما رآها تزدحم فى الهوادى (2)، قال: أشهد أنك نبىّ، وما هذا مما تجود به الأنفس، وفخرت هاشم على سائر قريش فقالوا: نحن أطعم للطّعام، وأضرب للهام، وذكرها بعض العلماء فقالوا: أجواد أمجاد، ذوو ألسنة حداد. وأجمعت الأمم كلّها بخيلها وسخيّها وممزوجها (3)، على ذم البخل وحمد الجود، كما أجمعوا على ذمّ الكذب وحمد الصدق، وقالوا: أفضل الجود الجود بالمجهود (4)، وحتى قالوا فى جهد المقلّ (5) وفيمن أخرج الجهد وأعطى الكلّ (6)، وحتى جعلوا لمن جاد بنفسه فضيلة على من جاد بماله، فقال الفرزدق:
على ساعة لو كان فى القوم حاتم
…
على جوده، ضنّت به نفس حاتم (7)
ولم يكن الفرزدق ليضرب المثل فى هذا الموضع بكعب بن مامة، وقد جاد بحوبائه عند المصافنة (8)، فما رأينا عربيّا سفّه حلم حاتم لجوده بجميع ماله، ولا رأينا
(1) أى النبى صلى الله عليه وسلم.
(2)
الهادية والهادى: العنق، والهادية من كل شىء: أوله وما تقدم منه، وفى النسخ «القوادى» ولا معنى: لها.
(3)
أى من امتزج فيه السخاء بالبخل، فكان وسطا بين الكريم والبخيل.
(4)
المجهود هنا: الجهد، أى الجود بقدر الجهد والطاقة ولو كان المعطى مقلا.
(5)
أى قالوا فى الثناء على الفقير الذى يجود بما يستطيع، ففى الأثر:«أفضل العطية جهد المقل» . وقالوا: «جهد المقل أفضل من غنى المكثر» .
(6)
أى وقالوا فيمن بذل جهده على إقلاله، وفيمن خرج عن كل ماله فى بذل المعروف.
(7)
كان الفرزدق قد صافن رجلا من بنى العنبر بن عمرو بن تميم. فطلب منه العنبرى أن يؤثره على نفسه ففعل (والمصافنة فى السفر: أن يقاسم الرفيق رفيقه الماء حتى لا يغبن أحدهما الآخر) ويروى البيت:
على ساعة لو أن فى القوم حاتما
…
على جوده ما جاد بالماء حاتم
بكسر ميم حاتم على أنه بدل من الضمير فى جوده.
(8)
الحوباء: النفس. وكان كعب بن مامة الإيادى أحد أجواد العرب الذين ضرب بهم المثل فى الجود، فقيل:«أجود من كعب بن مامة» . ومن حديثه أنه خرج فى ركب فيهم رحل من النمر ابن قاسط فضلوا فتصافنوا ماءهم، فقعدوا للشرب، فلما دار القعب فانتهى إلى كعب أبصر لنمرى يحدد النظر إليه فآثره بمائه، وقال للساقى: اسق أخاك النمرى، فشرب النمرى نصيب كعب ذلك اليوم من الماء، ثم نزلوا من غدهم المنزل الآخر فتصافنوا بقية مائهم، فنظر إليه النمرى كنظره أمسه، فقال كعب كقوله-
أحدا منهم سفّه حلم كعب على جوده بنفسه، بل جعلوا ذلك من كعب لإياد مفخرا، وجعلوا ذلك من حاتم طيّئ مأثرة لعدنان على قحطان، ثم للعرب على العجم، ثم لسكّان جزيرة العرب ولأهل تلك البرّيّة على سائر الجزائر والتّرب، فمن أراد أن يخالف ما وصف الله جلّ ذكره به نفسه، وما منح من ذلك نبيّه صلى الله عليه وسلم، وما فطر على تفضيله العرب قاطبة، والأمم كافّة، لم يكن عندنا فيه إلا إكفاره واستسقاطه، ولم نر الأمة أبغضت جوادا قطّ ولا حقرته، بل أحبّته وأعظمته، بل أحبّت عقبه وأعظمت من أجله رهطه، ولا وجدناهم أبغضوا جوادا لمجاوزته حدّ الجود إلى السّرف ولا حقرته، بل وجدناهم يتعلمون مناقبه، ويتدارسون محاسنه، وحتى أضافوا إليه من نوادر الجميل (1) ما لم يفعله، ونحلوه (2) من غرائب الكرم ما لم يكن يبلغه، ولذلك زعموا أن الثناء فى الدنيا يضاعف كما تضاعف الحسنات فى الآخرة، نعم وحتى أضافوا إليه كلّ مديح شارد، وكلّ معروف مجهول الصاحب. ثم وجدنا هؤلاء بأعيانهم (3) للبخيل على ضد هذه الصّفة، وعلى خلاف هذا للذهب، وجدناهم يبغضونه مرة، ويحقرونه مرة، ويبغضون بفضل بغضه ولده، ويحتقرون بفضل احتقارهم له رهطه، ويضيفون إليه من نوادر اللؤم ما لم يبلغه، ومن غرائب البخل ما لم يفعله، وحتى ضاعفوا عليه من سوء الثناء بقدر ما ضاعفوا للجواد من حسن الثناء، وعلى أنّا لا نجد الجوائح (4) إلى أموال الأسخياء
أمس، وارتحل القوم، وقالوا: يا كعب ارتحل، فلم يكن به قوة للنهوض، وكانوا قد قربوا من الماء، فقيل له: رد- كعب- إنك رواد، فعجز عن الجواب ومات عطشا، فقال أبوه مامة يرثيه:
أوفى على الماء كعب ثم قيل له
…
رد كعب إنك وارد فما وردا
«مجمع الأمثال 1: 123» وقوله «ولم يكن الفرزدق ليضرب المثل» أى ليتشبه بكعب بن مامة- لأنه آثر هو أيضا العنبرى على نفسه- وفى الكلام حذف، والتقدير: لم يكن ليفعل ذلك إلا لبلوغه الغاية فى كرم النفوس.
(1)
أى الفعل الجميل.
(2)
نحلوه: نسبوا إليه.
(3)
فى النسخ «بأنعاتهم» .
(4)
جمع جائحة: وهى الآفة.
أسرع منها إلى أموال البخلاء، ولا رأينا عدد من افتقر من البخلاء أقلّ، والبخيل عند الناس ليس هو الذى يبخل على نفسه فقط، فقد يستحقّ عندهم اسم البخيل، ويستوجب الذمّ، من لا يدع (1) لنفسه هوّى إلا ركبه، ولا حاجة إلا قضاها، ولا شهوة إلا ركبها، وبلغ فيها غايته، وإنما يقع عليه اسم البخيل إذا كان زاهدا فى كل ما أوجب الشكر، ونوّه بالذكر، وادّخر الأجر، وقد يعلّق البخيل على نفسه من المؤن، ويلزمها من الكلف، ويتخذ من الجوارى والخدم، ومن الدوابّ والحشم (2)، ومن الآنية العجيبة، ومن البزّة (3) الفاخرة، والشّارة (4) الحسنة، ما يربى (5) على نفقة السّخىّ المثرى، ويضعف (6) على جود الجواد الكريم، فيذهب ماله وهو مذموم، ويتغيّر حاله وهو ملوم، وربما غلب عليه حبّ القيان (7)، واشتهر (8) بالخصيان، وربما أفرط فى حبّ الصيد، واستولى عليه حبّ المراكب (9)، وربما كان إتلافه فى العرس والخرس (10) والوليمة، وإسرافه فى الإعذار (11) وفى العقيقة (12) والوكيرة (13)، وربما ذهبت أمواله فى الوضائع (14) والودائع، وربما كان شديد
(1) فى بعض النسخ «ولا يدع» .
(2)
الحشم: الخدم.
(3)
الهيئة، يقال: هو حسن البزة.
(4)
الشارة هنا: الزينة واللباس.
(5)
يقال: أربى الشىء على كذا أى زاد عليه.
(6)
ضعف يضعف من باب كرم: زاد، وفى الحديث «تضعف صلاة الجماعة على صلاه الفذ خمسا وعشرين درجة» أى تزيد عليها.
(7)
جمع قينة: وهى الأمة البيضاء، مغنية أو غير مغنية.
(8)
أى اشتهر بحيازة الخصيان، وذلك ضرب من البذخ.
(9)
جمع مركب: وهو ما يركب من الخيل ونحوها.
(10)
الخرس بالضم والخراس بالكسر: طعام يصنع ابتهاجا بالولادة.
(11)
الإعذاز والعذار (بالكسر) والعذير والعذيرة: وليمة الختان، وطعام البناء.
(12)
الشاة تذبح فى اليوم السابع من ولادة المولود ابتهاجا به، وأصل العقيقة: الشعر الذى يكون على رأس الصبى حين يولد، وإنما سميت تلك الشاة التى تذبح فى تلك الحال عقيقة، لأنه يحلق عنه ذلك الشعر عند الذبح.
(13)
الطعام يتخذه الرجل ويدعو إليه عند انتهاء ما كان يبنيه.
(14)
جمع وضيعة: وهى ما يرفعه الدائن عن المدين من الدين.
البخل شديد الحبّ للذّكر، ويكون بخله أوشج، ولؤمه أقبح، فينفق أمواله، ويتلف خزائنه، ولم يخرج كفافا (1) ولم ينج سليما، كأنك لم تر بخيلا مخدوعا (2)، وبخيلا مضعوفا (3)، وبخيلا مضياعا، وبخيلا نفّاجا (4)، وبخيلا ذهب ما له فى البناء، وبخيلا ذهب ماله فى الكيمياء (5)، وبخيلا أنفق ما له فى طمع كاذب، وعلى أمل خائب، وفى طلب الولايات، والدخول فى القبالات (6)، وكانت فتنته بما يؤمّل من الإمرة، فوق فتنته بما قد حواه من الذهب والفضة، قد رأيناه ينفق على مائدته وفاكهته ألف درهم فى كل يوم، وعنده فى كل يوم عرس (7)، ولأن يطعن طاعن فى الإسلام أهون عليه من أن يطعن طاعن فى الرغيف الثانى، ولشقّ عصا الدين أهون عليه من شقّ رغيف، لا يعدّ الثّلمة (8) فى عرضه ثلمة، ويعدّها فى ثريدته من أعظم الثّلم، وإنما صارت الآفات إلى أموال البخلاء أسرع، والجوائح عليهم أكلب (9)، لأنهم أقلّ توكّلا، وأسوأ بالله ظنا. والجواد إما أن يكون متوكلا، وإما أن يكون أحسن بالله ظنا، وهو على كل حال بالمتوكّل أشبه، وإلى ما أشبه أنزع (10)، وكيفما دار أمره، ورجعت الحال (11) به، فليس ممن يتّكل على حزمه، ويلجأ إلى كيسه،
(1) الأصل فى معنى الكفاف ما يكف عن سؤال الناس ويغتى، ومعنى لم يخرج كفافا هنا:
لم يخرج خاليا من الذم.
(2)
يتخيل الكاتب أن المخاطب منكر دعواه لما فيها من الغرابة فهو يتجه إليه قائلا: كأنك لم تر بخيلا مخدوعا الخ.
(3)
المضعوف: ضعيف الرأى.
(4)
النفاج: المدعى المتباهى بما ليس فيه.
(5)
الكيمياء فى زعمهم تحويل المعادن الخسيسة بالصناعة إلى معادن نفيسة.
(6)
القبالة: اسم لما يلتزمه الإنسان من عمل ودين ونحوهما، والقبيل: الكفيل والضامن، وقد قبل به كنصر وسمع وضرب.
(7)
العرس: من معانيه الوليمة.
(8)
الثلمة: الشق.
(9)
أشد.
(10)
أميل.
(11)
تشابهت الحوادث عليه.
ويرجع إلى جودة احتياطه، وشدة احتراسه، واعتلال البخيل بالحدثان (1)، وسوء الظن بتقلّب الزمان، إنما هو كناية عن سوء الظن بخالق الحدثان، وبالذى يحدث الأزمان وأهل الزمان، وهل تجرى الأحداث إلا على تقدير المحدث لها؟ وهل تختلف الأزمنة إلّا على تصريف من دبّرها؟ أولسنا وإن جهلنا أسبابها فقد (2) أيقنّا بأنها تجرى إلى غاياتها؟ والدليل على أنه ليس بهم خوف الفقر، وأنّ الجمع والمنع إمّا أن يكون عادة منهم، أو طبيعة فيهم، أنّك قد تجد الملك بخيلا، ومملكته أوسع، وخرجه أدرّ، وعدوّه أسكن، وتجد آخر أكثر منه جودا (3)، وإن كانت مملكته أضيق، وخرجه أقلّ، وعدوّه أشدّ حركة، وقد علمنا أن الزّنج أقصر الناس مرّة (4) ورويّة، وأذهلهم عن معرفة العاقبة (5)، فلو كان سخاؤهم إنما هو لكلال حدّهم (6)، ونقص عقولهم، وقلة معرفتهم، لكان ينبغى لفارس أن تكون أبخل من الرّوم، وتكون الروم أبخل من الصّقالبة (7)، وكان ينبغى فى الرجال- فى الجملة- أن يكونوا أبخل من النساء- فى الجملة- وكان ينبغى للصّبيان أن يكونوا أسخى من النساء، وكان ينبغى أن يكون أقلّ البخلاء عقلا أعقل من أشد الأجواد عقلا، وكان ينبغى للكلب- وهو المضروب به المثل فى اللؤم- أن يكون أعرف بالأمور من الديك المضروب به المثل فى الجود (8)، وقالوا هو أسخى من
(1) أى بالخوف من حوادث الدهر.
(2)
الفاء زائدة.
(3)
فى بعض النسخ «وتجد أحزم منه جوادا» .
(4)
المرة: العقل والأصالة والإحكام، وفى الأصل «مدة» وهو تحريف.
(5)
أى وهم مع ذلك أسخياء.
(6)
كلال الحد: أصله فى السيف والسكين ونحوهما، والمراد هنا قلة الذكاء.
(7)
الصقالبة: جيل تتاخم بلادهم بلاد الخزر (فى الروسيا الآن) - وبحر الخزر بالتحريك هو بحر قزوين-.
(8)
وصف الديك بالجود لأن من عادته أن يدعو الدجاج ويثير لها الحب.
لافظة (1)، وألأم من كلب على جيفة (2)، وألأم من كلب على عرق (3)، وقالوا:
أجع كلبك يتبعك (4)، ونعم كلب فى بؤس أهله (5)، وسمّن كلبك يأكلك (6)
(1) من أمثال العرب «أسمح من لافظة» قال الميدانى. «قد اختلفوا فيها فقال بعضهم: هى الديك لأنه يأخذ الحبة بمنقاره فلا يأكلها ولكن يلقيها إلى الدجاجة- والهاء فيها للمبالغة هاهنا- وقال بعضهم: هى العنز التى تشلى للحلب فتجىء لافظة بجرتها فرحا بالحلب. وقال بعضهم: هى الحمامة، لأنها تخرج ما فى بطنها لفرخها، وقال بعضهم. هى الرحى، لأنها تلفظ ما تطحنه أى تقدف به، وقال بعضهم هى البحر، لأنه يلفظ بالدرة التى لا قيمة لها (أى لنفاستها) قال الشاعر:
تجود فتجزل قبل السؤل
…
وكفك أسمح من لا فظة
- انظر مجمع الأمثال 1: 238 - .
(2)
أورده الميدانى فى مجمع الأمثال 1: 154 «أحرص» .
(3)
ورد فى مجمع الأمثال 2: 138 والعرق العظم أكل لحمه أو لم يؤكل.
(4)
ويروى «جوع» مثل يضرب فى معاشرة اللئام وما ينبغى أن يعاملوا به، وأول من قال ذلك ملك من ملوك حمير. كان عنيفا على أهل مملكته يغصبهم أموالهم ويسلبهم ما فى أيديهم وكانت الكهنة تخبره أنهم سيقتلونه فلا يحفل بذلك. وسمعت امرأته أصوات السؤال فقالت: إنى لأرحم هؤلاء لما يلقون من الجهد، ونحن فى العيش الرغد، وإنى لأخاف عليك أن يصيروا سباعا، وقد كانوا لنا أتباعا، فرد عليها: جوع كلبك يتبعك، وأرسلها مثلا، فلبث بذلك زمانا، ثم أغزاهم فغنموا ولم يقسم فيهم شيئا، فلما خرجوا من عنده قالوا لأخيه وهو أميرهم: قد ترى ما نحن فيه من الجهد، ونحن نكره خروج الملك منكم أهل البيت إلى غيركم، فساعدنا على قتل أخيك واجلس مكانه، وكان قد عرف بغيه واعتداءه عليهم فأجابهم إلى ذلك، فوثبوا عليه فقتلوه، فمر به عامر بن جذيمة وهو مقتول وقد سمع بقوله «جوع كلبك يتبعك» فقال: ربما أكل الكلب مؤدبه، إذا لم ينل شبعه، فأرسلها مثلا- مجمع الأمثال 1:111.
(5)
ويروى «نعيم الكلب فى بؤس أهله» و «فى بؤسى أهله» وذلك أن الجدب والبؤس يكثر الموتى والجيف، وذلك نعيم الكلب. قيل أصله أن بعض الأعراب كان له بعير يكريه فينتفع بما يعود منه، وله كلب يقصر فى إطعامه فهو يتلف جوعا، فمات البعير، فرجع الرجل إلى سوء حال، والكلب إلى خصب، يضرب مثلا للرجل ينتفع بضرر غيره، مجمع الأمثال 2: 195 وجمهرة الأمثال 2: 234 - .
(6)
ويروى «أسمن» قالوا: أول من قال ذلك حازم بن المنذر الحمانى. وذلك أنه مر بمحلة همدان فإذا هو بغلام ملفوف فى ثوب خلق مبتذل، فرحمه وحمله على مقدم سرجه حتى أتى به منزله، وأمر أمة له أن ترضعه فأرضعته حتى فطم، وأدرك وراهق الحلم فجعله راعيا لغنمه، وكان لحازم ابنة، فهويت الغلام وهويها، وكان ذا منظر وجمال، فكانت تتبعه إلى موضع الكلأ فيتغازلان، ولبثا على ذلك أياما، ثم إن أباها افتقدها يوما وفطن لها فرصدها حتى إذا خرجت تبعها، فانتهى إليهما وهما على سوءة، فلما رآهما قال. سمن كلبك يأكلك، فأرسلها مثلا، وأفلت العلام ولحق بقومه همدان واختنقت الفتاة فماتت. وقيل:
إن رجلا من طسم ارتبط كلبا، فكان يسمنه ويطعمه رجاء أن يصيد به، فاحتبس عليه يطعمه يوما فدخل عليه صاحبه فوثب عليه فافترسه- مجمع الأمثال 1:226.
وأحرص من كلب على عقى (1) صبى، وأجوع من كلبة حومل (2)، ولهو أبذأ من كلب (3) وحشّ فلان من خرء الكلب (4)، واخسأ، كما يقال للكلب (5)، وكالكلب فى الآرىّ (6)، لا هو يعتلف، ولا هو يترك الدابة تعتلف، وقال الشاعر:
سرت ما سرت من ليلها ثمّ عرّست
…
على رجل بالعرج ألأم من كلب (7)
وقال الله جل ذكره: «فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث» وكان ينبغى فى هذا القياس أن يكون المراوزة (8) أعقل البريّة، وأهل خراسان أدرى البرية (9)، ونحن لا نجد الجواد يفرّ من اسم السّرف إلى الجود،
(1) مجمع الأمثال 1: 154 والعقى: أول حدث الصبى، وفى النسخ «عقبى ظبى» وهو تحريف.
(2)
حومل: امرأة من العرب كانت تجيع كلبة لها، فكانت تربطها بالليل للحراسة، وتطردها بالنهار، وتقول: التمسى لنفسك لا ملتمس لك، فلما طال ذلك عليها أكلت ذنبها من الجوع، قال الكميت يذكر بنى أمية ويذكر أن رعايتهم للأمة كرعاية حومل لكلبتها:
كما رضيت جوعا وسوء رعاية
…
لكلبتها فى سالف الدهر حومل
(3)
أى أفحش، وبذاءة الكلب هنا: كثرة هريره لسبب ولغير سبب.
(4)
حش المال: كثره، أى كثر فلان ماله من أدنأ الوجوه التى تشبه خرء الكلب.
(5)
أى وقالوا لمن يطرد اخسأ كما يقال للكلب.
(6)
الآرى: محبس الدابة. وحبل تشد به الدابة فى محبسها.
(7)
الضمير يعود إلى الناقة، والتعريس: نزول المسافر فى آخر الليل للاستراحة، والعرج: بلدة باليمن، وواد بالحجاز ذو نخيل، وموضع ببلاد هذيل، ومنزل بطريق مكة.
(8)
المراوزة: أهل مرو الشارهجان: أشهر مدن خراسان وقصبتها؛ جمع مروزى، نسبة إلى مرو على غير قياس، كأشاعرة جمع أشعرى- انظر معجم البلدان 8:33.
(9)
أى لأنهم أشد الناس بخلا، وقد عقد الجاحظ فى كتاب البخلاء (ص 14) فصلا طويلا فى وصف بخلهم قال فيه: «نبدأ بأهل خراسان، لإكثار الناس فى أهل خراسان، ونخص بذلك أهل مرو بقدر ما خصوا به، قال أصحابنا: يقول المروزى للزائر إذا أتاه، وللجليس إذا طال جلوسه، تغديت اليوم؟ فإن قال نعم، قال: لولا أنك تغديت لغديتك بغداء طيب، وإن قال لا، قال: لو كنت تغديت لسقيتك خمسة أقداح، فلا يصير فى يده على الوجهين قليل ولا كثير، وكنت فى منزل ابن أبى كريمة- وأصله من مرو- فرآنى أتوضأ من كوز خزف، فقال: سبحان الله، تتوضأ بالعذب، والبئر لك معرضة! قلت: ليس بعذب، إنما هو من ماء البئر، قال: فتفسد علينا كوزنا بالملوحة! فلم أدر كيف أتخلص منه.
وقال ثمامة: لم أر الديك فى بلدة قط إلا وهو لاقط، يأخذ الحبة بمنقاره ثم يلفظها قدام الدجاجة إلا ديكة مرو، فإنى رأيت ديكة مرو تسلب الدجاج ما فى مناقيرها من الحب، قال: فعلمت أن بخلهم شىء-
كما نجد البخيل يفرّ من اسم البخل إلى الاقتصاد، ونجد الشجاع يفرّ من اسم المهزم، والمستحى يفرّ من اسم الخجل، ولو قيل لخطيب ثابت الجنان «وقاح (1)» لجزع فلو لم يكن من فضيلة الجود إلا أن جميع المتجاوزين لحدود أصناف الخير يكرهون اسم تلك الفضلة (2) إلا الجواد، لقد كان فى ذلك ما يبين قدره، ويظهر فضله، المال فاتن، والنفس راغبة، والأموال ممنوعة، وهى (3) على ما منعت حريصة، وللنفوس فى المكائرة علّة معروفة، لأن من لا فكرة له ولا روية، موكّل (4) بتعظيم ذى الثروة، وإن لم تكن منه منالة (5)، وقد قال الأول:
وزادها كلفا بالحبّ أن منعت
…
وحبّ شىء إلى الإنسان ما منعا
وفى بعض كتب الفرس: كلّ عزيز تحت القدرة فهو ذليل.
وقالت معاذة العدوية: كل مقدور عليه فمقلىّ (6) أو محقور، ولو كانوا لأولادهم يجمعون، ولهم يكدّون، ومن أجلهم يحرصون، لجعلوا لهم كثيرا مما يطلبون، ولتركوا محاسبتهم فى كثير مما يشتهون، وهذا بعض ما بغّض بعض المورّثين إلى الوارثين، وزهّد الأخلاف (7) فى طول عمر الأسلاف، ولو كانوا لأولادهم يمهّدون،
- فى طبع البلاد وفى جواهر الماء، فمن ثم عم جميع حبوانهم، فحدثت بهذا الحديث أحمد ابن رشيد فقال:
كنت عند شيخ من أهل مرو، وصبى له صغير يلعب بين يديه، فقلت له- إما عابئا وإما ممتحنا-: أطعمنى من خبزكم، قال: لا تريده، هو مر، فقلت: فاسقنى من مائكم، قال: لا تريده، هو مالح، قلت: هات من كذا وكذا، قال: لا تريده هو كذا وكذا، إلى أن عددت أصنافا كثيرة، كل ذلك يمنعنيه ويبغضه إلى، فضحك أبوه، وقال: ما ذنبنا، هذا من علمه ما تسمع؟ يعنى أن البخل طبع فيهم وفى أعراقهم وطينتهم
…
».
(1)
الرجل الصلب الذى قل حياؤه.
(2)
أى الزيادة فى الفضيلة وتجاوز الحد فيها.
(3)
أى النفس.
(4)
أى جاعل تعظيم ذى الثروة من شغله كأنه مولع به مفتون.
(5)
النال والمنالة والمنال مصدر نلت أنال، ويقال: نلت له بشىء أى جدت.
(6)
قلاه يقليه قلى وقلاء، ويقلاه لغة طيء: أبغضه غاية البغض، قال ابن السكيت ولا يكون فى البغض إلا قليت، وفى النسخ «فمقلو» .
(7)
أخلاف جمع خلف بالتحريك: وهم أبناء الإنسان الذين يخلفونه بعد موته.
ولهم يجمعون، لما جمع الخصيان الأموال، ولما كنز الرّهبان الكنوز، ولاستراح العاقر من ذلّ الرغبة، ولسلم العقيم من كدّ الحرص، وكيف ونحن نجده بعد أن يموت ابنه الذى كان يعتلّ به، والذى من أجله كان يجمع، على حاله (1) فى الطّلب والحرص، وعلى مثل ما كان عليه من الجمع والمنع، والعامّة لم تقصّر فى الطلب والحكرة (2)، والبخلاء لم يحدّوا شيئا من جهدهم (3)، ولا عفّوا بعد قدرتهم (4)، ولا قصّروا فى شىء من الحرص والحصر (5)، لأنهم فى دار قلعة (6)، وتعرّض نقلة (7)، حتى لو كانوا بالخلود موقنين لأغفلوا تلك الفضول، فالبخيل مجتهد، والعامّىّ غير مقصر، فمن لم يستعن على ما وصفنا (8) بطبيعة قوية، وبشهوة شديدة، وبنظر شاف، كان إما عامّيّا، وإما بخيلا شقيّا، ففيم اعتلالهم بأولادهم، واحتجاجهم بخوف التلوّن من أزمنتهم؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لوافد كذب عنده كذبة- وكان جوادا-: «لولا خصلة (9) ومقك الله عليها، لشرّدت بك من وافد قوم» وقيل للنبى صلى الله عليه وسلم: هل لك فى بيض النساء وأدم الإبل (10)؟ قال:
ومن هم؟ قال: بنو مدلج، قال:«يمنعنى من ذاك قراهم الضيف، وصلتهم الرّحم» وقال لهم أيضا: «إذا نحروا ثجّوا (11)
، وإذا لبّوا عجّوا (12)» وقال للأنصار: من
(1) متعلق الجار والمجرور مفعول ثان لنجد.
(2)
اسم من الاحتكار.
(3)
فى النسخ «لم يجدوا» والصواب «لم يحدوا» أى لم يحبسوا جهودهم فى جمع الأموال.
(4)
فى النسخ «ولا عفوا» بالنصب، والصواب «ولا عفوا» أى عن الكد، والكدح بعد قدرتهم على العيش بما تجمع لديهم من مال.
(5)
الحصر: البخل.
(6)
يقال: الدنيا دار قلعة، أى انقلاع وارتحال.
(7)
أى إن الدنيا دار يتعرض فيها المرء للانتقال.
(8)
وهو تمكن البخل والجشع فى النفوس.
(9)
ومققه: أحبه.
(10)
الأدم جمع آدم وأدماء، والأدمة فى الإبل بالضم: لون مشرب سوادا أو بياضا أو هو البياض الواضح. والتقدير: هل لك فى قوم بيض النساء
…
(11)
ثجوا: أسالوا دماء الذبائح فى الحج.
(12)
التلبية فى الحج: قول لبيك اللهم لبيك، وعج يعج بالكسر والفتح: صاح ورفع صوته.
(6 - جمهرة رسائل العرب- رابع)
سيدكم؟ قالوا الحرّ (1) بن قيس، على أنه بزنّ (2) فينا ببخل، فقال:«وأىّ داء أدوأ من البخل؟ » ثم جعله من أدوإ الداء، وقال للأنصار:«أما والله ما علمتكم إلا لتكثرون عند الفزع، وتقلّون عند الطمع» وقال: «كفى بالمرء حرصا ركوبه البحر» وقال: «لو أن لابن آدم واديين من مال لا بتغى ثالنا، ولا يشبع ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب» وقال: «السخاء من الحياء، والحياء من الإيمان» وقال: «إن الله جواد يحبّ الجواد» وقال: «أنفق يا بلال ولا تخش من ذى العرش إقلالا (3)» وقال: «لا توك فيوكى عليك (4)» وقال: «لا تحص فيحصى عليك» وقالوا: لا ينفعك من زاد ما تبقّى (5)، ولم يسمّ الذهب والفضة بالحجرين إلا وهو يريد أن يضع من أقدارهما، ومن فتنة الناس بهما، وقال لقيس ابن عاصم:«إنما لك من مالك ما أكلت فأفنيت، وما لبست فأبليت، أو أعطيت فأمضيت، وما سوى ذلك فللوارث» وقال النّمر بن تولب:
وحثّت على جمع ومنع، ونفسها
…
لها فى صروف الدهر حقّ كذوب (6)
وكائن رأينا من كريم مرزّا
…
أخى ثقة طلق اليدين وهوب (7)
شهدت وفاتونى، وكنت حسبتنى
…
فقيرا إلى أن يشهدوا وتغيبى (8)
أعاذل إن يصبح صداى بقفرة
…
بعيدا نآنى صاحبى وقريبى (9)
(1) هكذا فى العقد الفريد، وفى النسخ» جد بن قيس».
(2)
يزن: يظن ويتهم.
(3)
فى العقد: «أنفق بلالا، ولا تخش من ذى العرش إقلالا» .
(4)
أوكى السقاء: شد فمه بحبل. والمعنى: لا نحبس الخير عن الناس فيحبس عنك.
(5)
أى ما زاد على حاجتك.
(6)
الضمير فى حثت يعود على زوجته، يقول حثتنى على جمع الأموال ومنع السائلين وقد كذبتها نفسها حقا عند ما صورت لها الخوف من صروف الدحر وأحداثه.
(7)
المرزأ: الكريم يصاب من ماله كثيرا.
(8)
يقول. قد شهدتنى وغاب عنى هؤلاء الكرماء، وكنت أظنى فى حاجة إلى أن يخضرونى لأنهم على شاكلتى فى الكرم والجود وتغيبى عنى لأنك تأمريننى بما لا يلائم شيمتى من الجمع والمنع.
(9)
جاء فى لسان العرب: «قال أبو العباس المبرد: الصدى على ستة أوجه أحدها: ما يبقى من الميت فى قبره، وهو جثته. قال النمر بن تولب:
أعاذل إن يصبح صداى بقفرة
…
بعيدا نآنى ناصرى وقريبى
-
ترى أنّ ما أبقيت لم أك ربّه
…
وأن الذى أمضيت كان نصيبى (1)
وذى إبل يسعى ويحسبها له
…
أخى نصب فى رعيها ودءوب (2)
غدت وغدا ربّ سواه يسوقها
…
وبدّل أحجارا وجال قليب (3)
وقال أيضا:
قامت تباكى أن سبأت لفتية
…
زقّا وخابية بعود مقطع (4)
وقريت فى مقرى قلائص أربعا
…
وقريت بعد قرى قلائص أربع (5)
أتبكّيا من كل شىء هيّن؟
…
سفه بكاء العين ما لم تدمع (6)
فإذا أتانى إخوتى فدعيهم
…
يتعلّلوا فى العيش أو يلهوا معى (7)
- فصداه: بدنه وجثته، وقوله: نآنى: أى نأى عنى» (ثم قال: والصدى: الذكر من البوم.
وكانت العرب تقول: إذا قتل قتيل فلم يدرك به الثأر خرج من رأسه طائر كالبومة، وهى الهامة والذكر الصدى، فيصيح على قبره اسقونى اسقونى، فإن قتل قاتله كف عن صياحه) - وقد أورد المبرد معانى الصدى مفصلة فى شرحه لهذا البيت فى كتابه الكامل ج 1: ص 178 - وقال صاحب اللسان أيضا فى مادة نأى: «قال المبرد: ناآنى فيه وجهان: أحدهما أنه بمعنى أبعدنى كقولك زدته فزاد ونقصته فنقص والوجه الآخر فى ناآنى أنه بمعنى نأى عنى، قال أبو منصور: وهذا القول هو المعروف الصحيح» وجاء فى الكامل: «تأويل قوله ناآنى يكون على ضربين: يكون أبعدنى. وأحسن ذلك أن يقول أنا آنى، وقد رويت هذه اللغة الأخرى وليست بالحسنة، وإنما جاءت فى حروف، يقال: غاض الماء وغضته، ونزحت البئر ونزحتها، وهبط الشىء وهبطته- وبنو تميم يقولون أهبطته- وأحرف سوى هذه يسيرة، والوجه فى فعل أفعلته نحو دخل وأدخلته، ومات وأماته الله، فهذا الباب المطرد، ويكون نآنى فى موضع نأى عنى، كما قال الله عز وجل «وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ» أى كالوا لهم ووزنوا لهم».
(1)
لم أك ربه: أى لم أك صاحبه، وإنما هو مال الوارث.
(2)
«فى رعيها» رواية المبرد، وفى الأصل «فى شقها» .
(3)
أحجارا: أى أحجار القبر، والجال: ناحية القبر وجانبه، والقليب: البئر، والمراد هنا القبر.
(4)
تباكى: أى أسفا لكثرة ما أبذل للضيوف، وسبأ الخمر كجعل: شراها. والزق والخابية:
وعاءان، والعود: المسن من الإبل، والمقطع: البعير قام من الهزال.
(5)
قرى الضيف كرمى قرى بالكسر: أضافه وأحسن إليه (وهو هنا على معنى أطعمت)، والمقرى بفتح الميم: مكان القرى (وبالكسر: الجفنة) والقلائص جمع قلوص كصبور وهى الناقة الشابة القوية، والمعنى: أطعمت أضيافى قلائص أربعا ثم قريتهم بعد ذلك.
(6)
قصد بالتبكى هنا التباكى: وهو تكلف البكاء.
(7)
يتعللوا بالعيش: يتشاغلوا ويتلهوا به، وفى الأصل «فى العيش» .
لا تطرديهم عن فراشى، إنه
…
لا بدّ يوما أن سيخلو مضجعى (1)
هلّا سألت بعادياء وبيته
…
والخيل والخمر التى لم تمنع (2)
وقال الحارث بن حلّزة:
بينا الفتى يسعى ويسعى له
…
تاح له من أمره خالج (3)
يترك ما رقّح من عيشه
…
يعيث فيه همج هامج (4)
لا تكسع الشّول بأغبارها
…
إنك لا تدرى من الناتج (5)
وقال الهذلىّ:
إن الكرام مناهبو
…
ك المجد كلّهم فناهب (6)
أخلف وأتلف، كلّ شى
…
ء ذرّعته الريح ذهب (7)
(1) أى سأموت.
(2)
عادياء: أبو السموءل، ورواية صاحب اللسان «والخل» بدل «والخيل» .
(3)
تاح له الشىء يتوح ويتيح: تهيأ. خالج: قالع منتزع.
(4)
الترقيح والثرقح: إصلاح المعيشة. والهمج: الرعاع من الناس والهمل الذين لا نظام لهم، وهامج توكيد له كقولهم يوم أيوم وليل أليل وليل لائل وليلة ليلاء ووتد واتد.
(5)
الشائلة من الإبل: ما أتى عليها من حملها أو وضعها سبعة أشهر فجف لبنها، جمعها شول على غير قياس، وأغبار جمع غبر بالضم: وهو بقية اللبن فى الضرع، وكسع الناقة بغيرها كمنع: ترك فى خلفها بقية من اللبن يريد بذلك تغزيرها، وهو أشد لها، وإذا ولى الإنسان ناقة أو شاة ما خضا حتى تضع قبل نتجها نتجا من باب ضرب، فالإنسان كالقابلة لأنه يتلقى الولد ويصلح من شأنه، فهو ناتج والبهيمة منتوجة والولد نتيجة، وأورد صاحب اللسان بعد هذا البيت بيتا آخر وهو:
واحلب لأضيافك ألبانها
…
فإن شر اللين الوالج
قال «والوالج: أى الذى يلج فى ظهورها من اللبن المكسوع، يقول: لا تغزر إبلك تظلب بذلك قوة نسلها، واحلبها لأضيافك فلعل عدوا يغير عليها فيكون نتاجها له دونك» وقال المبرد فى الكامل- ج 1: ص 180 - «قوله* لا تكسع الشول بأغبارها* فإن العرب كانت تنضح على ضروعها الماء البارد ليكون أسمن لأولادها التى فى بطونها، والغبر بقية اللبن فى الضرع، فيقول: لا تبق ذلك اللبن لسمن الأولاد فإنك لا تدرى من ينتجها فلعلك تموت فتكون للوارث أو يغار عليها» .
(6)
ناهبه: باراه فى العدو، مناهبوك المجد: أى مسابقوك فى إحرازه.
(7)
ذرعته: حركته، وفى البيان والتبيين: زعزعته الريح، ونسب الشعر إلى المسعودى.
وقالت امرأة:
أنت وهبت الفتية السّلاهب
…
وإبلا يحار فيها الحالب (1)
وغنما مثل الجراد الهارب
…
متاع أيام، وكلّ ذاهب (2)
وقال تميم بن مقبل:
فأخلف، وأتلف، إنما المال عارة
…
وكله مع الدهر الذى هو آكله (3)
وقال أبوذرّ: «لك فى مالك شريكان: الوارث والحدثان» وقال الحطيئة:
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه
…
لا يذهب العرف بين الله والناس
وجاء فى الأثر: «إن أهل المعروف فى الدنيا أهل المعروف فى الآخرة» وفى المثل: «اصنع الخير ولو إلى كلب» وفى الحث (4) على القليل- فضلا عن الكثير- قال الله جل ذكره: «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ (5) ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ» وقالت عائشة فى حبّة عنب: «إن فيها لمثاقيل ذر» ولذلك قالوا فى المثل «من حقر حرم (6)» وقال سلم بن قتيبة: «يستحى أحدهم من تقريب القليل من الطعام، ويأبى أعظم منه» وقال: «جهد المرء أكثر من عفوه (7)» وقدّم رسول الله صلى الله عليه وسلم جهد المقلّ على عفو المكثر، وإن كان مبلغ جهده قليلا، ومبلغ عفو المكثر كثيرا، وقالوا:«لا يمنعك من معروف صغره» وقال النبى صلى الله عليه وسلم:
(1) السلاهب مفعول ثان لو هبت جمع سلهب كجعفر، وهو من الخيل ما عظم وطال عظامه. وحيرة الحالب فى الإبل: كناية عن كثرتها أو غزارة لبنها.
(2)
أى وهذه متاع أيام قليلة.
(3)
العارة: العارية، وهى الشىء يستعار ثم يرد إلى صاحبه.
(4)
فى النسخ «وقال فى الحث» وفيها «فضلا على الكثير» .
(5)
المثقال هنا: المقدار والزنة.
(6)
أى من حقر القليل الذى لديه فلم يبذله حرم كثيرا من ذوى الحاجة، وقال الميدانى فى تفسيره «أى من حقر يسيرا ما يقدر عليه ولم يقدر على الكثير. ضاعت لديه الحقوق» .
(7)
أى ما يبذله المرء عن جهد وقلة أكثر ثوابا مما يبذله عن زيادة وسعة.
«اتقوا النار ولو بشقّ (1) تمرة» وقال: «لا تردّوا السائل ولو بظلف محرق (2)» وقال: لا تردّوه ولو بفرسن (3) شاة» وقال: «لا تحقّروا اللقمة فإنها تعود كالجبل العظيم (4)» ، لقول الله جل ذكره. «يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ» وقال:
«لا تردّوه ولو بصلة حبل (5)» وقالت العرب. «أتاكم أخوكم يستتمّكم (6) فأتمّوا له» وقالوا. «مانع الإتمام ألوم» وقالوا. «البخيل إن سأل ألحف (7) وإن سئل سوّف» وقالوا. «إن سئل جحد، وإن أعطى حقد» وقالوا. «يردّ قبل أن يسمع، ويغضب قبل أن يفهم» وقالوا. «البخيل إذا سئل ارتزّ (8)، وإذا سئل الجواد اهتزّ» وقال النبى صلى الله عليه وسلم. «ينادى كلّ يوم مناديان من السماء يقول أحدهما. اللهم عجّل لمنفق خلفا، ويقول الآخر: اللهم عجّل لممسك تلفا» وقالوا: «شرّ الثلاثة المليم (9)، يمنع درّه (10) ودرّ غيره» وقال الله جل ذكره: «الّذين يبخلون ويأمرون النّاس بالبخل» وقالوا فى المثل: «إذا ألجأك الدهر إلى بخيل، شرّ ما ألجأك إلى مخّة عرقوب (11)» وقال النبى صلى الله عليه وسلم: «قل العدل، وأعط الفضل» وقال النبى صلى الله عليه وسلم: «أنهاكم
(1) الشق: النصف.
(2)
الظلف: ظفر كل ما اجتر، وهو للبقر والشاء والظباء، وشبهها بمنزلة القدم للإنسان.
(3)
الفرسن. طرف خف البعير، وقد يستعار للشاة.
(4)
أى يعود ثوابها يوم القيامة فى عظمه كالجبل العظيم.
(5)
أى ولو بصلة من حبل.
(6)
يستتم: يطلب تمام ما يحتاج إليه.
(7)
ألحف: ألح.
(8)
ارتز: أمسك وبخل.
(9)
الثلاثة: هم الآخذ والمعطى ومن يلوم المعطى، وألام: أتى ما يلام عليه.
(10)
الدر: اللبن، والمراد هنا الخير عامة.
(11)
ألجأك: اضطرك، ويروى فى القاموس «شرما أجاءك إلى مخة عرقوب» وفى مجمع الأمثال «شرما يجيئك
…
» - مضارع أجاء- قال الميدانى: ويروى «ما يشيئك» والشين بدل من الجيم وهذه لغة تميم، يقال: أجأته إلى كذا: أى ألجأته، والمعنى: ما ألجأك إلى مخة عرقوب إلا شر أى فقر وفاقة! وذلك أن العرقوب لا مخ له وإنما يحوج إليه من لا يقدر على شىء، يضرب للمضطر جدا يطلب من اللئيم.
عن عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنع وهات» وقال الله عز وجل «وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً» وقال «لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ» وقال «وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ، وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» وقالوا: فى الصبر على النائبة وفى عاقبة الصبر:
«عند الصباح يحمد القوم السّرى (1) وقالوا: «الغمرات، ثم ينجلين (2)» وقال الخزيمى:
ودون النّدى فى كل قلب ثنيّة
…
لها مصعد حزن ومنحدر سهل (3)
وودّ الفتى فى كل نيل ينيله
…
(إذا ما انقضى) لو أن نائله جزل (4)
وقالوا: خير الناس خير الناس للناس، وشر الناس شر الناس للناس» وقالوا:
«خير مالك ما نفعك» وقالوا: «عجبا لفرط الكبرة مع شباب الرّغبة (5)» وقال الراجز:
(1) أول من قال ذلك خالد بن الوليد لما بعث إليه أبو بكر رضى الله عنهما وهو باليمامة: أن سر إلى العراق، فأراد سلوك المفازة، فقال له رافع الطائى: قد سلكتها فى الجاهلية، هى خمس للابل الواردة (والحمس بالكسر من أظماء الإبل، وهى أن ترعى ثلاثة أيام وترد الرابع) ولا أظنك تقدر عليها إلا أن تحمل من الماء، فاشترى مائة شارف (والشارف: المسن الهرم من الإبل) فعطشها ثم سقاها الماء حتى رويت. ثم كتبها (أى ختم حياءها) وكعم أفواهها (أى شدها) ثم سلك المفازة، حتى إذا مضى يومان وخاف العطش على الناس والخيل، وخشى أن يذهب ما فى بطون الإبل، نحر الإبل واستخرج ما فى بطونها من الماء فسقى الناس والخيل ومضى، فلما كان فى الليلة الرابعة قال رافع: انظروا، هل ترون سدر اعظاما (والسدر بالكسر: شجر النيق) فإن رأيتموها وإلا فهو الهلاك، فنظر الناس فرأوا السدر فأخبروه فكبر وكبر الناس ثم هجموا على الماء فقال خالد من أبيات:
عند الصباح يحمد القوم السرى
…
وتنجلى عنهم غيابات الكرى
يضرب للرجل يحتمل المشقة رجاء الراحة.
(2)
يروى «الغمرات» وكأنه قال: هى الغمرات، أو القصة الغمرات تظلم ثم تنجلى. ويروى «غمرات». أى هذه غمرات وهى الشدائد جمع غمرة لأنها تغمر الواقع فيها بشدتها: أى تقهره، والمثل للأغلب العجلى، يضرب فى احتمال الأمور العظام والصبر عليها.
(3)
الثنية: المكان المرتفع الصعب المطلع، أى إن الكرم شاق على النفس- لأن الفضيلة شاقة ولولا مشقتها لاد الناس جميعا.
(4)
الجزل: العظيم.
(5)
أى عجبا لامرىء هرم فان ورغبته فى الجمع والكدح فتية.