الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
2 - كتاب المعتصم إلى عبد الله بن طاهر
وروى صاحب العقد الفريد قال:
كتب المعتصم إلى عبد الله بن طاهر:
«أعزز علىّ بأن أراك عليلا
…
أو أن يكون بك السّقام نزيلا
فوددت أنّى مالك لسلامتى
…
فأعيرها لك بكرة وأصيلا
فتكون تبقى سالما بسلامتى
…
وأكون مما قد عراك بديلا
هذا أخ لك يشتكى ما تشتكى
…
وكذا الخليل إذا أحبّ خليلا» (1)
(العقد الفريد 1: 230)
3 - كتاب المعتصم إلى الآفاق عند القبض على بابك الخرمى
وهذه نسخة كتاب كتب بها عن المعتصم، إلى ملوك الآفاق من المسلمين، عند قبض الأفشين حيدر بن كاوس على بابك الخرّمىّ (2)، وهى:
«أما بعد، فالحمد لله الذى جعل العاقبة لدينه، والعصمة لأوليائه، والعزّ لمن نصره، والفلج (3) لمن أطاعه، والحقّ لمن عرف حقّه، وجعل دائرة السّوء على من عصاه وصدف عنه (4)، ورغب عن ربوبيّته، وابتغى إلها غيره، لا إله إلا هو وحده لا شريك له، يحمده أمير المؤمنين حمد من لا يعبد غيره، ولا يتوكّل إلا عليه، ولا يفوّض أمره إلا إليه، ولا يرجو الخير إلا من عنده، والمزيد إلا من سعة فضله،
(1) أقول: الظاهر أن المعتصم كتب إليه هذا الكتاب، قبل أن يلى الخلافة.
(2)
قدمنا لك فى الجزء الثالث ما كان من أمر بابك الخرمى فى خلافة المأمون (انظر ص 444) فلما ولى المعتصم الخلافة وجه لحربه سنة 220 الأفشين التركى- وكان من أجل قواده- ونشبت بينه وبينه وقعات وحروب، كانت خاتمتها أن فتحت البذ- مدينة بابك- ودخلها المسلمون واستباحوها، وأسر الأفشين بابك، وقدم به على المعتصم بسر من رأى، فقتل وصلب بها سنة 223 هـ.
(3)
الفلج: الظفر والفوز.
(4)
صدف عنه كضرب: أعرض.
ولا يستعين فى أحواله كلّها إلا به، ويسأله أن يصلّى على محمد عبده ورسوله وصفوته من عباده، الذى ارتضاه لنبوّته، وابتعثه بوحيه، واختصّه بكرامته، فأرسله بالحق شاهدا ومبشّرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، والحمد لله الذى توجّه لأمير المؤمنين بصنعه، فيسّر له أمره، وصدّق له ظنّه، وأنجح له طلبته، وأنفذ له حيلته، وبلغ له محبّته، وأدرك المسلمون بثأرهم على يده، وقتل عدوّهم، وأسكن روعتهم (1)، ورحم فاقتهم، وآنس وحشتهم، فأصبحوا آمنين مطمئنين مقيمين فى ديارهم، متمكّنين فى أوطانهم، بعد القتل والخوف والتشريد وطول العناء، وتتابع البلاء، منّا من الله عز وجل على أمير المؤمنين بما خصّه به، وصنعا له فيما وفّقه لطلبه، وكرامة زادها فيما أجرى على يده، فالحمد لله كثيرا كما هو أهله، ونرغب إلى الله فى تمام نعمه، وداوم صنعه، وسعة ما عنده بمنّه ولطفه.
ولا يعلم أمير المؤمنين- مع كثرة أعداء المسلمين، وتكنفّهم (2) إياه من أقطاره، والضغائن التى فى قلوبهم على أهله، وما يترصّدونه من العداوة، وينطوون عليه من المكايدة، إذ كان هو الظاهر عليهم (3)، والآخذ منهم- عدوّا كان أعظم بليّة، ولا أجلّ خطبا، ولا أشدّ كلبا (4)، ولا أبلغ مكايدة، ولا أرمى بمكروه، من هؤلاء الكفرة الذين يغزوهم المسلمون، فيستعلون عليهم، ويضعون أيديهم حيث شاءوا منهم، ولا يقبلون لهم صلحا، ولا يميلون معهم إلى موادعة، وإن كان لهم- على طول الأيام، وتصرف الحالات، وبعض ما لا يزال يكون من فئات ولاة الثغور- أدنى دولة من دولات الظفر، وخلسة من خلس الحرب، كان بما لهم من خوف العاقبة فى ذلك منغّصا لما تعجّلوا من سروره، وما يتوقعون من الدوأر بعد، مكدّرا لما وصل إليهم من فرحة.
(1) أى فزعهم.
(2)
تكنفوه: أحاطوا به.
(3)
أى الغالب لهم.
(4)
من كلب الزمان والشتاء كفرح: أى اشتد.
فأمّا اللعين بابك وكفرته، فإنهم كانوا يغزون أكثر مما يغزون، وينالون أكثر مما ينال منهم، ومنهم المنحرفون عن الموادعة، المتوحّشون عن المراسلة، ومن أديلوا (1) من تتابع الدول، ولم يخافوا عاقبة تدركهم، ولا دائرة (2) تدور عليهم وكان مما وطّأ ذلك ومكنه لهم، أنهم قوم ابتدءوا أمرهم على حال تشاغل السلطان، وتتابع من الفتن، واضطراب من الحبل، فاستقبلوا أمرهم بعزّة من أنفسهم، وضعف واستئارة ممن باراهم، فأجلوا من حولهم لتخلص البلاد لهم، ثم أخربوا البلاد ليعزّ مطلبهم، وتشتدّ المؤنة، وتعظم الكلفة، ويقووا فى ذات أيديهم، فلم يتواف إليهم قوّاد السلطان إلا وقد توافت إليهم القوة من كل جانب، فاستفحل أمرهم، وعظمت شوكتهم، واشتدت ضروراتهم، واستجمع لهم كيدهم، وكثر عددهم واعتدادهم، وتمكّنت الهيبة فى صدور الناس منهم، وتحقّق فى نفوسهم أن كلّ ما يعدهم الكافر ويمنّيهم أخذ باليد، وكان الذى بقى عندهم منه كالذى مضى وبدون هذا ما يختدع الأريب، ويستنزل العاقل، ويعتقل الفطن، فكيف بمن لا فكرة له ولا روية عنده!
هذا مع كل ما يقوم فى قلوبهم من حسد أهل النعم، ومنافستهم على ما فى أيديهم، وتقطّعهم حسرات فى إثر ما خصّوا به، وأنهم إن لا يكونوا يرون أنفسهم أحقّ بذلك، فإنهم يرون أنهم فيه سواء.
ولم يزل أمير المؤمنين قبل أن تفضى إليه الخلافة، مادّا عنقه، موجّها همّته، إلى أن يولّيه الله أمر هؤلاء الكفرة، ويملّكه حربهم، ويجعله المقارع (3) لهم عن دينه، والمناجز لهم عن حقه، فلم يكن يألوا (4) فى ذلك حرصا وطلبا واحتيالا، فكان أمير المؤمنين- رضى الله عنه- يأبى ذلك لضنّه به، وصيانته بقربه،
(1) الإدالة: الغلبة، أداله الله من عدوه.
(2)
الدائرة: الهزيمة.
(3)
المقارعة: المناضلة.
(4)
ألا، يألو: قصر.
مع الأمر الذى أعدّه الله له وآثره به، ورأى أن شيئا لا يفى بقوام الذين، وصلاح الأمر.
فلما أفضى الله إلى أمير المؤمنين بخلافته، وأطلق الأمر فى يده لم يكن شىء أحبّ إليه، ولا آخذ بقلبه، من المعاجلة للكافر وكفرته، فأعزّه الله، وأعانه الله، فله الحمد على ذلك وتيسّره، فأعدّ من أمواله أخطرها، ومن قوّاد جيشه أعلمهم بالحرب، وأنهضهم بالمعضلات، ومن أوليائه وأبناء دعوته ودعوة آبائه- صلوات الله عليهم- أحسنهم طاعة، وأشدّهم نكاية، وأكثرهم عدّة، ثم أتبع الأموال بالأموال، والرجال بالرجال، من خاصّة مواليه وعدد غلمانه، وقبل ذلك ما اتّكل عليه من صنع الله جل وعز، ووجّه إليه من رعيته. فكيف رأى الكافر اللّعين وأصحابه الملاعين؟ ألم يكذب الله ظنونهم، ويشف صدور أوليائه منهم؟ يقتلونهم كيف شاءوا فى كل موطن ومعترك، ما دامت عند أنفسهم مقاومة.
فلما ذلّوا وقلّوا، وكرهوا الموت، صاروا لا يتراءون إلا فى رءوس الجبال، ومضايق الطّرق، وخلف الأودية، ومن وراء الأنهار، وحيث لا تنالهم الخيل، حصنا للمطاولة، وانتظارا للدوائر، فكادهم الله عند ذلك، وهو خير الكائدين، واستدرجهم حتى جمعهم إلى حصنه معتصمين فيه عند أنفسهم، فجعلوا اعتصامهم لحين (1) لهم، وصنع لأوليائه، وإحاطة منه به تبارك وتعالى، فجمعهم وحصرهم لكيلا تبقى منهم بقية، ولا ترجى لهم عاقبة، ولا يكون الدين إلا لله، ولا العاقبة إلا لأوليائه، ولا التعس والنّكس إلّا لمن خذله.
فلما حصرهم الله، وحبسهم عليهم، ودانتهم (2) مصارعهم، سلّطهم الله عليهم كيد واحدة، يختطفونهم بسيوفهم، وينتظمونهم (3) برماحهم، فلا يجدون
(1) الحين: الهلاك.
(2)
دانتهم: أى قاربتهم.
(3)
انتظمه بالرمح: أختله.
ملجأ ولا مهربا، ثم أمكنهم من أهاليهم، وأولادهم، ونسائهم، وحرمهم، وصيّروا الدار دارهم، والمحلّة محلّتهم، والأموال قسما بينهم، والأهل إماء وعبيدا، وفوق ذلك كله ما فعل بهؤلاء وأعطاهم من الرحمة والثواب، وما أعدّ لأولئك من الخزى والعقاب، وصار الكافر بابك لا فيمن قتل، فسلم من ذلّ الغلبة ولا فيمن نجا، فعاين فى الحياة بعض العوض، ولا فيمن أصيب، فيشتغل بنفسه عن المصيبة بما سواه، لكنه سبحانه وتعالى أطلقه وسدّ مذاهبه، وتركه متلدّدا (1) بين الذل والخوف، والغصّة والحسرة، حتى إذا ذاق طعم ذلك كلّه وفهمه، وعرف موقع المصيبة، وظنّ مع ذلك كلّه أنه على طريق من النجاة، فضرب الله وجهه، وأعمى بصره، وسدّ سبيله، وأخذ بسمعه وبصره، وحازه إلى من لا يرقّ له، ولا يرثى لمصرعه. فامتثل ما أمر به الأفشين «حيدر بن كاوس (2)» مولى أمير المؤمنين فى أمره، فبثّ له الحبائل، ووضع عليه الأرصاد، ونصب له الأشراك، حتى أظفره الله به أسيرا ذليلا موثقا فى الحديد، يراه فى تلك الحالة من كان يراه ربّا، ويرى الدائرة عليه من كان يظن أنها ستكون له.
فالحمد لله الذى أعزّ دينه، وأظهر حجّته. ونصر أولياءه، وأهلك أعداءه، حمدا يقضى به الحقّ، وتتمّ به النّعمة، وتتصل به الزيادة، والحمد لله الذى فتح على أمير المؤمنين وحقّق ظنّه، وأنجح سعيه، وحاز له أجر هذا الفتح وذخره وشرفه، وجعله خالصا لتمامه وكماله، بأكمل الصّنع وأحسن الكفاية، ولم ير بؤسا فيه ما يقذى عينه، ولا خلا من سرور يراه، وبشارة تتجدّد له عنه، فما يدرى أمير المؤمنين ما متّع فيه من الأمل، أو ما ختم له من الظفر، فالحمد لله أولا، والحمد لله آخرا، والحمد لله على عطاياه التى لا تحصى، ونعمه التى لا تنسى، إن شاء الله تعالى».
(صبح الأعشى 6: 400)
(1) تلدد: تلفت يمينا وشمالا؟ وتحير متبلدا، وتلبث.
(2)
هكذا فى تاريخ الطبرى (10: 307) وفى زهر الآداب (1: 324) وفى صبح الأعشى «حيدر بن طاوس» الطاء.