الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
271 - كتاب ابن المعتز إلى بعض إخوانه يصف سرّ من رأى
وكتب عبد الله بن المعتز إلى بعض إخوانه يصف سرّ من رأى، ويذكر خرابها، ويذمّ بغداد وأهلها، ويفضّل سامرّا (1):
«كتبت إليك من بلدة قد أنهض (2) الدهر سكانها، وأقعد جدرانها، فشاهد اليأس فيها ينطق، وحبل الرجاء فيها يقصر، فكأنّ عمرانها يطوى، وكأنّ خرابها ينشر، وقد وكّلت إلى الهجر نواحيها، واستحثّ باقيها إلى فانيها، وقد تمزّقت بأهلها الديار، فما يجب فيها حقّ جوار، فالظاعن (3) منها ممحوّ الأثر، والمقيم بها على طرف سفر، نهاره إرجاف (4)، وسروره أحلام، ليس له زاد فيرحل، ولا مرعى فيرتع، فحالها تصف للعيون الشكوى، وتشير إلى ذم الدنيا، بعد ما كانت بالمرأى القريب جنة الأرض، وقرار الملك، تفيض بالجنود أقطارها، عليهم أردية السيوف، وغلائل (5) الحديد كأن رماحهم قرون الوعول، ودروعهم زبد السّيول، على خيل تأكل الأرض بحوافرها، وتمدّ بالنّقع (6) سرادقها، قد نشرت فى وجوهها غرر (7) كأنها صحائف البرق، وأمسكها تحجيل كأنه أسورة اللّجين، وقرّطت (8) عذرا كالشّنوف، فى جيش يتلقّف الأعداء أوائله، ولم تنهض أواخره،
(1) لغة فى سر من رأى، وقد قدمنا كلمة هنا فى ص 134.
(2)
أى أنهضهم للرحيل.
(3)
أى المسافر الراحل.
(4)
أرجفوا: خاضوا فى أخبار الفتن ونحوها.
(5)
الغلائل جمع غلالة بالكسر: وهى الشعار الذى يلبس تحت الثياب مما يلى الجسد، والوعول جمع وعل كشمس وكتف: وهو تيس الجبل.
(6)
النقع: الغبار.
(7)
الغرر جمع غرة بالضم: وهى بياض فى جبهة الفرس فوق الدرهم، والتحجيل: بياض فى قواء الفرس، واللجين: الفضة.
(8)
العذر جمع عذار ككتاب: وهو من اللجام ما سال على خد الفرس: وقرط الجارية: ألبسها القرط، والشنوف جمع شنف بالفتح: وهو القرط الأعلى.
وقد صبّ عليه وقار الصبر، وهبّت له روائح النّصر، يصرّفه ملك يملأ العيون جمالا والقلوب جلالا، لا تخلف مخيلته (1)، ولا تنقض مريرته، ولا يخطئ بسهم الرأى غرض الصواب، ولا يقطع بمطايا اللهو سفر الشّباب، قابضا بيد السياسة على قطار (2) ملك لا ينتشر حبله، ولا تتشظّى عصاه، ولا تطفأ جمرته، فى سنّ شباب لم يجن مأثما، وشيب لم يراهق (3) هرما، قد فرش مهاد عدله، وخفض جناح رحمته، راجما بالعواقب الظنون، لا يطيش، عن قلب فاضل الحزم، بعيد العزم، ساعيا على الحق يعمل به، عارفا بالله يقصد إليه، مقرا للحلم ويبذله، قادرا على العقاب ويعدل فيه، إذ الناس فى دهر غافل، قد اطمأنت بهم سيرة (4) ليّنة الحواشى، خشنة المرام، تطير بها أجنحة السرور، ويهبّ فيها نسيم الحبور (5)، فالأطراف على مسرّة والنظرة إلى مبرّة، قبل أن تخبّ (6) مطايا الغير، وتسفر وجوه الحذر، وما زال الدهر مليئا بالنوائب، طارقا بالعجائب، يؤمن يومه، ويغدر غده.
على أنها- وإن جفيت- معشوقة السّكنى، حبيبة المثوى (7)، كوكبها يقظان، وجوّها عريان (8)، وحصباؤها جوهر، ونسيمها معطّر، وترابها مسئك أذفر (9)، ويومها غداة، وليلها سحر، وطعامها هنىء، وشرابها مرىء، وتاجرها مالك، وفقيرها فانك (10)، لا كبغدادكم الوسخة السماء، الومدة (11) الهواء، جوها
(1) المخيلة: الظن، والمريرة: العزيمة.
(2)
القطار فى الأصل: أن تقطر الإبل بعضها إلى بعض على نسق واحد، وتشظى العود: تطاير شظايا جمع شظية كغنية: وهى الفلقة (بالكسر) من العصا ونحوها.
(3)
أى ولم يقارب الهرم والشيخوخة، يقال: دخل مكة مراهقا: أى مقاربا لآخر الوقت حتى كاد يفوته التعريف، وراهق الغلام: قارب الحلم.
(4)
السيرة بالكسر: اسم من السير أى الذهاب.
(5)
الحبور: السرور.
(6)
الخبب بالتحريك: ضرب من العدو وبابه رد، وسفرت المرأة كضرب: كشفت عن وجهها.
(7)
المثوى: المنزل.
(8)
أى صحو خلو من الغيوم.
(9)
مسك أذفر وذفر كفرح: جيد إلى الغاية، من الذفر بالتحريك: وهو شدة ذكاء الريح، والغداة:
البكرة، أو ما بين صلاة الفجر وطلوع الشمس.
(10)
فنك بالمكان كنصر: أقام به، أى أنه، لا يرحل عنها إلى سواها، إذ يجدبها ما يسد عوزه.
(11)
الومد بالتحريك: أن نسكن الريح مع شدة الحر.
نار، وأرضها خبار (1)، وماؤها حميم، وترابها سرجين، وحيطانها نزور (2)، وتشرينها تموز، فكم من شمسها من محترق، وفى ظلّها من غرق، ضيّقة الديار، قاسية الجوار، ساطعة الدخان، قليلة الصّيفان، أهلها ذئاب، وكلامهم سباب، وسائلهم محروم، ومالهم مكتوم، لا يجوز إنفاقه، ولا يحلّ خناقه (3)، حشوشهم مسايل، طرقهم مزابل، وحيطانهم أخصاص، وبيوتهم أقفاص، ولكل مكروه أجل، وللبقاع دول، والدهر يسير بالمقيم، ويمزج البؤس بالنعيم، وبعد اللّجاجة انتهاء: والهمّ إلى فرجة، ولكل سائلة قرار، وبالله أستعين. وهو المحمود على كل حال.
غدت سرّ من را فى العفاء،
…
«قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل (4)»
وأصبح أهلوها شبيها بحالها
…
«لما نسجتها من جنوب وشمأل (5)»
إذا ما امرؤ منهم شكا سوء حاله
…
(معجم البلدان 5: 18 و 2: 241 وزهر الآداب 1: 207)
(1) الخبار: مالان من الأرض واسترخى، والحميم: الماء الحار، وفى رواية «وماؤها طين» والسرجين والسرقين بكسرهما: الزبل.
(2)
النز بالفتح وبكسر: ما يتحلب من الأرض من الماء، وتشرين وتموز: شهران من الشهور الرومية، وتشرين من أشهر البرد (يبتدئ تشرين الثانى من 14 نوفمبر) وتموز من أشهر الحر (يبتدئ من 14 يوليو).
(3)
الخناق: الحبل يخنق به، والحشوش جمع حش مثلث الحاء: وهو الكنيف وموضع قضاء الحاجة.
(4)
الأشطار الثانية فى الأبيات الثلاثة مقتبسة من معلقة امرئ القيس المشهورة، والعفاء:
الدروس والامحاء.
(5)
الشمأل: ريح الشمال.