الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهدّت من قوتى، ومثّلت من قرب المنيّة لى، فإن المصائب نوائب، ومن رأى حلولها بغيره علم أنها حالّة فى نفسه ومن يتصل به، ولقد اشتد جزعى لذلك ووحشتى منه، ومن خلوّ منازلكما من الأم البرّة، والأخت الطاهرة، مع قصر أيام، وقرب مدة، وعدم سلوة، رضى الله عنكما، ولا نقص لكما عددا.
وعزيز علىّ أن أتخلّف عن حقكما، أو أمر يلزمنى فيه ما يلزم كافّة أهلكما، لكنى فى حال قد عرفتماها (1)، فإن اتسع لى العذر مع ما نازعنى فيه من أحوالكما، وإلّا فإنّ فى تفضّلكما موضع احتمال الهفوة، وتغمّد الزّلة، وإقالة العثرة، والرجوع إلى نية قد صحّت، وطويّة قد خلصت واستحكمت».
(اختيار المنظوم والمنثور 13: 313)
222 - عهد من الموفق إلى أحد الولاة كتبه ابن ثوابة
«هذا (2) ما عهد به أبو أحمد الموفّق بالله ولىّ عهد المسلمين، إلى فلان، حين ولّاه الصلاة بأهل كورة الرّىّ ودنباوند (3) ونواحيها والحرب والأحداث فيهما.
أمره بتقوى الله وطاعته، وخشيته ومراقبته، فى سرّه وعلانيته، وظاهر أمره وباطنه، والعمل بما أمر الله به، والانتهاء عما نهى عنه فيما وافقه وخالفه، وأرضاه وأسخطه، فإنه من يتّق الله يقه، ومن يعتصم به يهده، ومن يطعه يتولّه ويكفه، «إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ» .
وأمره أن يشعر قلبه خيفة الله وهيبته والتفويض إليه، والاعتماد عليه، وأن يجعل كتاب الله عز وجل له إماما، وسنّة نبيه صلى الله عليه وسلم مثالا، فإن فيهما دلالة وتبيانا، وضياء ونورا وشفاء لما فى الصدور، وهدى ورحمة للمؤمنين.
(1) فى الأصل «قد عرّفتكما» وربما كان الصواب «قد عزّفتكما إياها» .
(2)
تأثر فيه عهد المهدى السابق واقتبس منه- انظر ص 132 من الجزء الثالث.
(3)
جبل من نواحى الرى.
وأمره أن يكون أول ما يعنى به ويقدّمه، ويراعيه ويؤثره، إقامة الصلاة لمواقيها، بإتمام ركوعها وسجودها، وأداء فرض الله فيها؛ إذ كانت عماد الدين، وأفضل ما تقرّب به المؤمنون، وكان من أضاعها وقصّر فى واجبها، أشدّ تضييعا لما سواها من حقوق الله عز وجل وفرائضه ودينه وشرائعه «وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ» .
وأمره أن يلهم نفسه فى كل حال من حالاته، وصغير وكبير من أمره، ذكر الله جل ثناؤه، وقدرته عليه، وألّا يمضى أمرا إلا بعد استخارة الله عز وجل فيه، واستقضائه فى ذلك بالذى هو له أرضى، وعنده أزكى، فإن العاقبة للتقوى، وإن أفضل الأمور خيرها عاقبة، وأحمدها مغبّة، وما التوفيق إلا بالله، عليه يتوكل المتوكّلون:
وأمره أن يحسن الولاية لأهل عمله، والسياسة لمن استرعى أمره، ويكثر الجلوس لهم، والنظر فى أمورهم، ويفيض العدل والنّصفة فيهم، ويكفّ العدو الظالم عنهم، ويسوّى الحق بين كافّتهم، ولا يميل إلى شريف فى شرفه، ولا على خامل لسقوط منزلته، وأن يختار لولاية أعماله حاضرها ونائيها، وقريبها وبعيدها، ذوى العفاف والشهامة والكفاية، ويوعز إليهم فى الرفق بأهلها، والتألّف لمن حسنت طاعته، واستقامت طريقته، والشدة على من خالف الحقّ مذهبه، ولا يكون لأحد عنده إغضاء عن ريبة يشتمل عليها، وسبيل غير محمودة يسلكها، فإن فى إقامة الحق صلاحا وخيرا كثيرا، وفى التّفريط ضررا وخللا عظيما.
وأمره أن يتفقّد من معه من موالى أمير المؤمنين وأوليائه، ويحسن صحبتهم وعشرتهم ويتفقّد أمورهم ومصلحتهم، ويراعى أحوالهم فى طاعتهم ومناصحتهم ومذاهبهم فيما يصرّفهم فيه، ويهيب (1) بهم إليه، وينزلهم منازلهم على حسب ما يحمد ويذمّ منهم، ليزداد محسنهم فى إحسانه، وينزع مقصّرهم عن تقصيره.
(1) أهاب به: دعاه.
وأمره أن يقدّم أهل الفضل والصلاح والمشايعة والموالاة والنصيحة للسلطان ويدنيهم ويقرّبهم، ويسمع منهم، ويعرف لهم ما سدّوا، ويظهر من نصائحهم، ويحمد من حالاتهم، حتى يدعو من فعله بهم غير هم إلى سلوك مناهجهم، والاقتداء بهم، واللزوم لهديهم، وأن يتخذ أهل العفة والرأى والسّنّ والورع جلساءه وبطانته ويشاورهم فى أمره، ويستعين بآرائهم فيما هو مصدره، حتى يكون ما يمضى وينفذ منه بحسب ما يجتمعون عليه، ويرونه موافقا للحق والعدل، ومجانبا للظلم والجور.
وأمره أن تكون أحكامه فيما ينفرد بالنظر فيه، وإقامته من الحدود وما أشبهها، بما يجب لله عليه فى ذلك، من اتّباع محكم تنزيل، أو مأثور سنّة، أو رأى يتّفق عليه نبيل (1) محسن ومن يليه من الفقهاء وذوى المعرفة، وألّا يقدم على سفك دم، ولا تخلية سبيل محبوس، ولا قطع مستحقّ للقطع، حتى يكتب إليه باسم من وجب ذلك عليه، واسم أبيه وقصّته، فى إقرار إن كان منه، أو بيّنة إن قامت عليه، وأسماء تلك البينة، وما تعرف به فى أنسابها ومواضعها، وما شهدت به، وعدلها فيمن هى منه، ليأتيه الأمر فيه يتمثله، فإن هذين الجدّين من أجلّ الأحكام منزلة، وأعظمها تبعة، وأولاها بالحظر، إلى أن يوقف على حقيقة ما يجب فيها، ويأمر السلطان- أعزه الله- بما يوفّقه الله فى إقامتها إن شاء الله.
وأمره ألّا يأخذ أحدا من الرّعية بقرفة (2) ولا إحنة، ولا يعرض لأحد من أهل البراءة والسلامة والاستقامة، ولا يلحق بهم جرائر أهل النّطف (3) والرّيبة، وأن يشرف على أهل الدّعارة والفساد فى عمله. ويقمعهم ويردعهم، فيشرّد بهم، ويعاقب من استحق العقوبة منهم بقدر جرمه، وبحسب ما حدّ فى مثله، من غير أن يبلغ بأحد ممن لا يجب عليه الحدّ حدّا، فإن لكل شىء قدرا، ولن يستطيع الرأى فيمن
(1) فى الأصل «سبيل» وأراه محرفا، والنبيل: الذكى النجيب، والواو فى «ومن» للمعية.
(2)
قرفه بسوء: رماه به واتهمه، والقرفة بالكسر: التهمة، والإحنة: الحقد.
(3)
نطف كفرح وعنى نطفا بالتحريك ونطافة ونطوفة: اتهم بريبة وتلطخ بعيب وفسد.
أشكل عليه مقدار تأديبه، ومن لا يصلحه إلا المبالغة فى عقوبته، ويكتب بحاله وشرح جريمته، ليأتيه الرأى فيه بما يعمل به إن شاء الله.
وأمره أن يصرف عنايته إلى النواحى التى تصاقب (1) عمله، من نواحى الأعداء المكتنفة له، ويرتّب بإزائها من يسدّ خللها، ويرتق فتقها، ويراعيهم بإشرافه وتفقّده، ويعاجل من يحتاج إلى معاجلته ممن نجم (2) وينجم بها، ويخاف عاديته وشرّته، ويناهضه بنفسه وبكافّة الأولياء الذين معه، ويستعمل فى أمره ما يدفع الله به مكروهة ومعرّته، مؤثرا فى ذلك اليقظة على الغفلة، والجدّ على الفتور، فإن مراعاة أولئك الأعداء وكفّ عاديتهم، من أهم الأمور التى يتقلّدها، ويؤمّل عنده الكفاية لها، وأن يتقدّم إلى من قبله من التجار وغيرهم ألّا يجاوزوا شيئا من عمله إلى شىء من تلك النواحى بالمير (3) والأسلحة، ولا يحملوا تلك المير إليها، ويظهر النداء فيهم، فمن تجاوز أمره وتعداه تقدّم فى حبسه وكتب باسمه واسم أبيه وإحصاء ما وجد معه من أصناف المير وغيرها، ليأتيه الأمر بما يمتثله إن شاء الله.
وأمره أن يتفقّد طرف عمله ومسالحه (4) بالضّبط لها، وبذرقة (5) السّابلة المختلفة فيها، ويبلغ فى ذلك المبلغ الذى يرجو معه بإذن الله أمنها وسلامتها، ويرتّب فيها الثقات من أصحابه، وأهل الجلد من جنده وأعوانه، ويأمرهم بمراعاة ما يوكّلهم به منها، ورفع مئوناتهم عمن يجتاز بها، حتى لا يلزمهم جناية بسبب ثأر ولا غيره، وألّا يحمّل أحدا منهم كلفة ولا نائبة (6)، فإن فى ذلك رفقا بهم، وصلاحا لهم،
(1) صاقبه: قاربه.
(2)
أى ثار، من نجم النبات: إذا ظهر وطلع.
(3)
جمع ميرة بالكسر: وهى الطعام.
(4)
المسالح جمع مسلحة بالفتح: وهى الثغر، والقوم ذوو سلاح.
(5)
البذرقة: الخفارة، فارسية معربة، والمبذرق: الخفير.
(6)
فى الأصل «ياسه» والنائبة: ما ينوب الإنسان أى ينزل به من المبهمات والحوادث.
وعمارة لطرقهم، ودرورا لتجاراتهم، ووصولا للنفع إلى البلدان التى يقصدونها للتجارات، وأمنا من انقطاعها عنها بإذن الله.
وأمره أن يحسن معونة أحمد بن محمد، المتقلّد لأعمال الخراج والضّياع قبله، على ما استعانه عليه، مما فيه زجاء (1) الخراج، ودرور جبايته، ويزيح علّته (2) فيمن يحتاج إلى إشخاصه اليوم (3) من الممتنعين والمدافعين بما يجب عليهم، وفى سائر ما يلتمس منه المعونة عليه، وأن يضمّ إليه من الأعوان العدّة التى لم تزل تضمّ إلى المتولّى لما قلّده، ويعمل على أن ذلك من أولى ما قدّمه وآثره، واستفرغ فيه وسعه، للصلاح العائد به، والحظّ الراجع فيه إن شاء الله.
وأمره أن يتفقّد من فى الحبس قبله، ويكثر عرضهم والنظر فى أمورهم، والأسباب التى حبسوا بها، ولا يقصد لإطالة حبس من لا يجب ذلك عليه، ولا لإطلاق ما يوجب الحقّ تخليده، ويعمل فى أمورهم ومشاورة أهل الفقه فيهم، وإقامة التأديب والحدود عليهم، بما حدّ فى أمثالهم إن شاء الله.
وأمره ألّا يقسم على أهل عمله قسمة بسبب نزل (4) ولا غيره، مما كان شرار العمّال يوظّفونه ويقسمونه على أهل أعمالهم، ويتجنّب الطّعم (5) الشائنة، والمكاسب الرديئة، ويحذر أن يعرض لشىء منها، أو يطلقة لأحد من كفاته، فيرد عليه من النّكير ما هو حرىّ بتوقّيه والتصوّن عنه.
وأمره أن يتقدّم فى تعريف ما يوجد من الضوالّ (6) فى عمله والإشادة بذكرها، فإن عرف أحد ضالّة منها، وأوضح ملكه إياها بما يوضّح به مثله، سلّمت إليه،
(1) زجا الخراج يزجو زجاء: تيسرت جبايته.
(2)
فى الأصل «ويرتج عليه» وهو تصحيف.
(3)
كذا فى الأصل، والأظهر أنه «إلينا» .
(4)
النزل كعنق وقفل: ما هيىء للضيف أن ينزل عليه.
(5)
الطعم جمع طعمة بالضم: وهى وجه المكسب.
(6)
الضوال جمع ضالة: وهى الحيوان الضائع لا يعرف له رب، وقد تطلق الضالة على المعانى.
وأشهد بها عليه، وإن لم يحضر لها طالب، وأشفق من ضياعها، باعها فى أسواق المسلمين بأقصى أثمانها، وأحوط ما يعمل به فى أمرها، وسلّم ثمنها إلى عامل الخراج قبله، ليجعله عزلا (1) فى بيت المال، فإن استحقّه مستحقّ بعد ذلك دفعه إليه إن شاء الله.
وأمره أن يحبس من ظفر به من أبّاق (2) أرقّاء المسلمين والمعاهدين ويستوثق منهم، ويسأل عن أسمائهم وأسماء مواليهم ومواضعهم، ويكتب بذلك إلى العمال الذين هم فى أعمالهم، ويدفع كل عبد منهم أو أمة إلى مولاه، إذا قامت البيّنة العادلة على أنه رقّ له، أبق منه، ويشهد بذلك عليه إن شاء الله.
وأمره أن يتخيّر للحسبة على أهل الأسواق وسائر أصحاب الصناعات والبياعات (3) فى عمله، من يعرف بالقصد فى مذهبه، والسّتر فى نفسه، والعفاف فى طعمته، واستيفاء الحق فيما يقلّده ويستكفى القيام به، ويتقدّم إليه فى أخذ كل طبقة من أهل الطبقات التى يقع فى الحسبة فيها، بتصحيح المعاملة، ورفع الغش، وتجنّب كل ما عاد بمضرّة على المسلمين وتحيّف (4) لهم، وتعيير (5) المكاييل والموازين فى سائر عمله، وإقامتها على الوفاء والعدل، وختمها بالرّصاص، وحمل المبتاعين فيها وغيرهم عليها، والإشراف على ما يرسمه ويتقدم بامتثاله فى سائر وجوه الحسبة، حتى لا يخالف شىء منه إلى غيره، ومعاقبة من عسى أن يقدم على مخالفته فيه، يردعه ويعظ من سواه، فإن الله عز
(1) العزل: ما يورد بيت المال تقدمة غير موزون ولا منتقد.
(2)
جمع آبق: وهو الهارب.
(3)
البياعات جمع بياعة بالكسر وهى السلعة، وفى الأصل «الساعات» وهو تحريف.
(4)
تحيفه: تنقصه من حيفه، والحيف كعنب: النواحى جمع حيفة بالكسر.
(5)