الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فى عداد الموتى، وفى حيّز الهلكى، فرأيت أن من الخيانة لك، ومن اللؤم فى معاملتك، أن أفديك بنفس ميّتة، وأن أريك أنى قد جعلت لك أنفس ذخر، والذخر معدوم، وأنا أقول كما قال أخو ثقيف «مودة الأخ التالد وإن أخلق، خير من مودة الأخ الطارف وإن ظهرت مساعيه، وراقت جدّته» سلّمك الله، وسلّم عليك، وكان لك ومعك».
(سرح العيون ص 176)
61 - كتابه إلى بعض إخوانه فى ذم الزمان
وكتب الجاحظ إلى بعض إخوانه فى ذم الزمان:
«بسم الله الرحمن الرحيم: حفظك الله حفظ من وفقّه للقناعة، واستعمله بالطاعة، كتبت إليك وحالى حال من كثفت غمومه، وأشكلت عليه أموره، واشتبه عليه حال دهره، ومخرج أمره، وقلّ عنده من يثق بوفائه، أو يحمد مغبّة (1) إخائه، لاستحالة زماننا، وفساد أيامنا، ودولة أنذالنا: وقدما كان من قدّم الحياء على نفسه، وحكّم الصدق فى قوله، وآثر الحقّ فى أموره. ونبذ المشتبهات عليه من شئونه، تمّت له السلامة، وفاز بوفور حظّ العافية، وحمد مغبّة مكروه العاقبة، فنظرنا إذ حال عندنا حكمه، وتحوّلت دولته، فوجدنا الحياء متّصلا بالحرمان، والصدق آفة على المال، والقصد فى الطلب- بترك استعمال القحة (2)، وإخلاق العرض من طريق التوكل- دليلا على سخافة الرأى، إذ صارت الحظوة الباسقة (3)، والنعمة السابغة، فى لؤم المشبئة، وسناء (4) الرزق، من جهة محاشاة الرّخاء (5)، وملابسة معرّة العار.
(1) المغبة: العاقبة.
(2)
القحة والوقاحة: قلة الحياء
(3)
الحظوة بالضم والكسر: المكانة، والحظ من الرزق، والباسقة: العالية، ونعمة سابغة:
أى تامة.
(4)
السناء: الرفعة.
(5)
أى من جهة التباعد عن أسباب الرخاء، وذلك بالقعود عن العمل، والإخلاد إلى الراحة والكسل.
(4 - جمهرة رسائل العرب- رابع)
ثم نظرنا فى تعقّب المتعقّب لقولنا، والكاشر (1) لحجّتنا، فأقمنا له علما واضحا، وشاهدا قائما، ومنارا بيّنا، إذ وجدنا من فيه السّفوليّة الواضحة، والمثالب (2)، الفاضحة، والكذب المبّرح، والخلف المصرّح، والجهالة المفرطة، والرّكاكة المستخفّة، وضعف اليقين والاستثبات، وسرعة الغضب والجراءة قد استكمل سروره واعتدلت أموره وفاز بالسّهم الأغلب (3) والحظّ الأوفر، والقدر الرفيع، والجواز الطائع، والأمر النافذ، إن زلّ قيل حكم، وإن أخطأ قيل أصاب، وإن هذى فى كلامه وهو يقظان قيل رؤيا صادقة، من نسمة (4) مباركة.
فهذه حجتنا والله على من زعم أن الجهل يخفض، وأن النّوك (5) يردى، وأن الكذب يضرّ، وأن الخلف يزرى.
ثم نظرنا فى الوفاء والأمانة والنّبل والبلاغة وحسن المذهب وكمال المروءة وسعة الصدر، وقلة الغضب، وكرم الطبيعة، والفائق فى سعة علمه، والحاكم على نفسه، والغالب لهواه، فوجدنا فلان بن فلان، ثم وجدنا الزمان لم ينصفه من حقه، ولا قام له بوظائف فرضه. ووجدنا فضائله القائمة له قاعدة به، فهذا دليل أن الطّلاح (6)، أجدى من الصلاح، وأن الفضل قد مضى زمانه، وعفت آثاره، وصارت الدائرة عليه، كما كانت الدائرة على ضده، ووجدنا العقل يشقى به قرينه، كما أن الجهل والحمق يحظى به خدينه (7)، ووجدنا الشّعر ناطقا على الزمان، ومعربا عن الأيام حيث يقول:
(1) الكاشر: من كشر له إذا تنمر له، ورأى صوابه «والكاسر» بالسين.
(2)
المثالب: المعايب، جمع مثلبة بفتح الميم مع فتح اللام وضمها، والمبرح: الشديد، والمصرح:
المنجلى الخالص، من صرحت الخمر تصريحا: أى انجلى زبدها فخلصت.
(3)
يقال: هضبة غلباء: أى عظيمة مشرفة، وعزة غلباء كذلك على المثل.
(4)
النسمة: النفس.
(5)
النوك بالضم والفتح: الحمق.
(6)
الطلاح: ضد الصلاح.
(7)
الخدين والخدن بالكسر: الصاحب.