الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
معتب (1)، وأكون أفضل شاكر، ولعلّ الله أن يجعل هذا الأمر سببا لهذا الإنعام، وهذا الإنعام سببا للانقطاع إليكم، والكون تحت أجنحتكم، فيكون: لا أعظم بركة، ولا أنمى بقيّة، من ذنب أصبحت فيه، وبمثلك- جعلت فداك- عاد الذنب وسيلة، والسيئة حسنة، ومثلك من انقلب به الشرّ خيرا، والغرم غنما.
من عاقب فقد أخذ حظّه، وإنما الأجر فى الآخرة، وطيب الذّكر فى الدنيا، على قدر الاحتمال، وتجرّع المرائر، وأرجو الّا أضيع وأهلك فيما بين كرمك وعقلك، وما أكثر من يعفو عمن صغر ذنبه وعظم حقه! وإنما الفضل والثناء:
العفو عن عظيم الجرم، ضعيف الحرمة، وإن كان العفو عظيما مستطرفا من غيركم، فهو تلاد فيكم، حتى ربما دعا ذلك كثيرا من الناس إلى مخالفة أمركم، فلا أنتم عن ذلك تنكلون (2)، ولا على سالف إحسانكم تندمون، وما مثلكم إلا كمثل عيسى بن مريم عليه السلام حين كان لا يمرّ بملإ من بنى إسرائيل إلا أسمعوه شرا وأسمعهم خيرا، فقال له شمعون الصفا: ما رأيت كاليوم! كلما أسمعوك شرا سمعتهم خيرا! فقال «كل امرئ ينفق مما عنده» وليس عندكم إلا الخير، ولا فى أوعيتكم إلا الرحمة، «وكل إناء بالذى فيه ينضح» .
(سرح العيون ص 175)
60 - كتاب له فى الاستعطاف
«زيّنك الله بالتقوى، وكفاك ما همّك فى الآخرة والأولى، من عاقب- أبقاك الله تعالى- على الصغيرة عقوبة الكبيرة، وعلى الهفوة عقوبة الإصرار، فقد تناهى فى الظلم، ومن لم يفرّق بين الأسافل والأعالى، والأدانى والأقاصى، فقد قصّر، والله لقد كنت أكره سرف الرّضا، مخافة أن يؤدّى إلى سرف الهوى،
(1) أعتبه: أرضاه.
(2)
نكل عنه كضرب ونصر وعلم: نكص.
فما ظنّك بسرف الغيظ وغلبة الغضب، من طيّاش، عجول فحّاش، ومعه من الخرق بقدر قسطه من التهاب المرّة (1) الحمراء، وأنت روح كما أنت جسم، وكذلك جنسك ونوعك، إلا أن التأثر فى الرّقاق أسرع، وضدّه فى الغلاظ الجفاة أكمل، ولذلك اشتدّ جزعى عليك من سلطان الغيظ وغلبته، فإذا أردت أن تعرف مقدار الذنب إليك، من مقدار عقابك عليه، فانظر فى علّته، وفى سبب إخراجه إلى معدنه الذى منه نجم، وعشّه الذى منه درج، وإلى جهة صاحبه فى التسرع والثبات، وإلى حلمه عند التعريض، وفطنته عند التوبة، فكلّ ذنب كان سببه ضيق صدر من جهة القبض (2) فى المقادير، أو من طريق الأنفة، وغلبة طباع الحميّة من جهة الجفوة، أو من جهة استحقاقه فيما زيّن له عمله أنه مقصّر به فى حقه، مؤخّر عن رتبته، أو كان مبلّغا عنه مكذوبا عليه، أو كان ذلك جائزا فيه غير ممتنع عنه، فإذا كانت ذنوبه من هذا الشكل، فليس يقف عليها كريم، ولا ينظر فيها حليم، ولست أسمّيه بكثرة
(1) المرة والخلط (بالكسر وجمعه أخلاط) والمزاج (بالكسر أيضا وجمعه أمزجة): واحد، وهو ماركب عليه البدن من الطبائع الأربع: الدم والمرتين الصفراء والسوداء والبلغم. وجاء فى العقد الفريد 3: 287 فى باب طباع الإنسان: «زعم علماء الطب أن فى الجسد من الطبائع الأربع اثنى عشر رطلا، فللدم منها ستة أرطال، وللمرة الصفراء والسوداء والبلغم ستة أرطال
…
(2)
فى الأصل «الفيض» .
معروفه كريما، حتى يكون عقله غامرا لعلمه، وعلمه غالبا على طباعه، كما لا أسمّيه بكفّ العقاب حكيما، حتى يكون عارفا بمقدار ما أخذ وترك، ومتى وجدت الذنب بعد ذلك لا سبب له إلا البغض المحض، والنّفار الغالب، فلو لم ترض لصاحبه بعقاب دون قعر جهنّم، لعذرك كثير من العقلاء، وصوّب رأيك عالم من الأشراف، والأناة أقرب من الحمد، وأبعد من الذم، وأنأى من خوف العجلة، وقد قال الأول:
«عليك بالأناة، فإنك على إيقاع ما تتوقعه أقدر منك على ردّ ما قد أوقعته» وليس يصارع الغضب أيام شبابه شىء إلا صرعه، ولا ينازعه قبل انتهائه إلا قهره، وإنما يحتال له قبل هيجه، فمتى تمكن واستفحل، وأذكى ناره وأشعل، ثم لاقى من صاحبه قدرة، ومن أعوانه سمعا وطاعة، فلو استبطنته بالتوراة، وأوجرته (1) بالإنجيل، ولددته (2) بالزبور، وأفرغت على رأسه القرآن إفراغا، وأتيته بآدم شفيعا، لما قصّر دون أقصى قوّنه، ولن يسكن غضب العبد إلا ذكّره غضب الرّبّ.
فلا تقف- حفظك الله- بعد مضيّك فى عتابى التماسا للعفو عنى، ولا تقصّر عن إفراطك من طريق الرحمة بى، ولكن قف وقفة من يتّهم الغضب على عقله، والشيطان على دينه، ويعلم أن للكرم أعداء، ويمسك إمساك من لا يبرّئ نفسه من الهوى، ولا يبرئ الهوى من الخطأ، ولا تنكر لنفسك أن تزلّ، ولعقلك أن يهفو، فقد زلّ آدم صلى الله عليه وسلم، وقد خلقه بيده، ولست أسألك إلا ريثما تسكن نفسك، ويرتدّ إليك ذهنك، وترى الحلم وما يجلب من السلامة وطيب الأحدوثة، والله يعلم- وكفى به عليما- لقد أردت أن أفديك بنفسى فى مكاتباتى، وكنت عند نفسى
(1) وجرته الدواء، وأوجرته إياه: جعلته فى فيه، والوجور كصبور: الدواء يوجر فى وسط الفم.
(2)
اللدود كصبور، وككريم: ما يصب بالمسعط من الدواء فى أحد شقى الفم، وقد لده إياه وألده.