الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
227 - كتاب ابن أبى طاهر إلى أبى على البصير
وكتب أحمد بن أبى طاهر إلى أبى على البصير يعاتبه على مؤاخاة ابن مكرّم، معدّدا سيئاته ومثالبه:
«وفّر الله يا أخى من كل خير حظّك، وأجزل منه قسمك، وبلّغك غاية هممك، ونهاية طلبتك، ومتّع إخوانك بما منحهم منك، وأعاذهم من الغير فيك، إنه يقال- جعلنى الله فداءك-: أخوك من صدقك، وعدوّك من نافقك، وعليك لأخيك مثل الذى عليه لك، والعتاب أمارة الإشفاق، ودليل الضّنّ من الإخوان، ومن جادل نفسه فى هواه، عرف صوابه وخطأه، وعلى النّصفة ثبات المودة، ومع المشاكلة تكون الموافقة (1)، ولولا رجائى يا أخى أن تستميلك المعاتبة، وترجعك (2) المراقبة، وعلمى أن فيما أعدّد عليك، وأذكّرك به، وأتقدّم فيه إليك، ما يثنى أخلاقك، إلى ما يشبه أعراقك (3)، وأنى قد بلغت بك فى النّظرة (4) الموضع الذى يتعذّر مخرج العذر عليك منه، إلا أن تعود بالإقرار، بمقامك على الجفاء والإصرار، وما أرحع إليه من الثقة بك، وإخلاص المحبة والمقة لك، وما أعرفه من صحة ودّك، وكريم عهدك، وحسن اختيارك وتمييزك، ما عتبت عليك ولا استعتبتك، ولخلّيتك وما اخترت، ولم أنبّهك على ما أضعت؛ ولما وصلت ما قطعت، حتى يثوب إليك حازم من رأيك، وعاطف من ودك وإخائك، ولكنى ما أمسكت عن المعاتبة، وتأنيتك (5) بالمراقبة، ورأيتك قد رضيت بالمهنة (6) التى تلزمك فى الهجنة، وكنت
(1) وربما كان «المرافقة» .
(2)
فى الأصل «وتوجعك» وهو تحريف.
(3)
أى أصلك وفى الأصل «إلى ما لا يشبه» .
(4)
أى الإمهال والتأخير.
(5)
تأناه: انتظره.
(6)
المهنة: الخدمة، وامتهنه: ابتذله واحتقره، والهجنة: ما يعيب.
إلى لين استعطافك، وحسن إنصافك، أحوج منى إلى قطع أسبابك، والمقام على ترك عتابك، وكنت مستعدّا لاحتمال ما يضيمنى منك، ويتناهى إلىّ عنك، لميل النفس بالرغبة إليك، وإقبالها- وإن أدبرت عنها- عليك، لأن العدوان فى المعاملة، من شأن من يحظر عليه فى المواصلة، سيّما من قد أحلق عندك إخاؤه، ورثّ فى نفسك وفاؤه، ودعاك طول عهده إلى ملالة ودّه، لم أجد بدّا من ردّك، باستعتابك إلى ما هو أولى بك، ردّك الله إلى أجمل العادة، وما هو أولى بك فينا من النّصفة.
أأخى- أقبل الله بك إلى الواجب- أنا الخليل الذى لا يزيله عن ودّك وقديم عهدك سكر (1)، ولا يغيّر من قد بلاك وبلوته (2)، وامتحنك فاختارك واخترته، أوّلك عنده حميد، وآخرك (3) عنده جديد، مودّته لك غير مدخولة، وعشرته غير مملولة، لم تنب (4) عنك خلائقه، ولم تنشعب عنك طرائقه، يغضّ من نفسه ليرفعك، ويضرّها لينفعك، فحين نطقت بلسانك فيما ضرّنى، وتقدمت لك فيما أخّرنى، وأخدمت (5) مودتك نفسى وعرضى، وهتكت لك أدنى ومروءتى، فوددت بودّك، وصددت بصدّك، ووقفت بك حيث وقفت بنفسك، وانقدت لك حيث سلكت بى محبّتك، ولم أجشّمك الوقوف عند هواى، ولم أسمك الانصراف إلى رضاى، إلا فى أمر تسلم عاقبته، ولا تسوءك مغبّته، أوثر على محبتى ما سرّك، وأقدّم على أمرى أمرك، لا أوازنك المعاملة، ولا أقارضك المشاغلة، ما تحبّ فمضمون لك عندى، وما تكره فمصروف عنك منى، أحمل عنك الثقيل، وأتوعّر ليسهل لك السبيل، أوسّع لك فى الذّنب المنهج، إذا ضاق عليك من العذر
(1) فى الأصل «شكر» وهو تحريف، والسكر بالتحريك: الغضب والغيظ، وربما كان الأصل «شكوى» .
(2)
بلاه: اختبره.
(3)
فى الأصل «وأجرك» .
(4)
أى لم تضق.
(5)
أخدمت فلانا: أعطيته خادما يخدمه، أى جعلت نفسى وعرضى خادمين لمودتك.
المخرج، أطلعك على مكنون سرى، وأظهرك على باطن أمرى، لا أقول هذا تمنّنا، ولا أعتدّ به تبجّحا (1)، ولا أقتضيك عليه شكرا، إذ كنت أرى أنى أؤدّى به فرضا واجبا، وأقضى به حقّا لازما، ولكنى أذكّرك ما نسيت، وأنبّهك على ما أضعت، وأحتجّ عليك إذ قصّرت، وقدّمت علىّ فى إخائك من ليس من أكفائى ولا أكفائك، المقلىّ المذمّم، المهين «ابن مكرّم» ، العاقّ لأبيه، والمنتفى من أخيه، والقاذف لأمه، والقاطع لرحمه، المهتوك الحرمة، الوضيع الهمّة، الضيّق الصدر، القريب القعر، السريع إلى الصديق، البطىء عن الحقوق، المشهور بالزّناء (2)، المعروف بالبغاء .... (3)، العاكف على ذنبه، (4) الصادف (5) عن ربه، الوضيع فى خلائقه، العاتى (6) على خالقه، الدائم البطنة، النّطف (7) الدّين والجيب، الدّنس العرض والثوب، عدوّه آمن من غائلته، وصديقه خائف من بائقته، جهله جهل الصّبيان، وضعفه ضعف النّسوان، سهك (8) الرّيح، ثقيل الرّوح، خفيف العقل والوزن، خبيث الفرج والبطن، جليسه بين نتن وأذى، وقذر وبذى (9)، من استخفّ به أكرمه، ومن وصله صرمه، غثّ الخلقة، رثّ الهيئة، وسخ المروءة، يحلف ليحنث، ويعهد لينكث، ويعد ليخلف، ويحدّث ليكذب، إن تكلّم ملأ الأسماع عيّا، والأنف نتنا، وإن سكت قرى (10) العيون قبحا، والقلوب مقتا،
(1) تبجح به: فخر.
(2)
فى الأصل «المشهور إليه» هكذا. والزنا والزناء بالقصر والمد.
(3)
حذفنا فقرتين هنا لما فيهما من البذاءة.
(4)
فى الأصل «على دينه» وهو تصحيف.
(5)
أى المعرض.
(6)
عتا: استكبر وجاوز الحد.
(7)
نطف كفرح وعنى: تلطخ بعيب واتهم بريبة.
(8)
السهك محركة: ريح كريهة ممن عرق، سهك كفرح فهو سهك.
(9)
البذاء: السفه والإفحاش فى المنطق، وقد قصره من مد.
(10)
أى قدم إليها، من قرى الضيف يقريه إذا أحسن إليه- وهو تهكم.
إسناده عن المخنّثين، وبلاغته فى ذم الصالحين، وطرفه قذف المحصنات (1)، وسعيه فى كسب السيئات وخلوته لاقتراف السّوءات وتمنّى الشهوات، أحسن عنده من مدحه الأفراط فى ذمّه، كما أنه أجمل من وصله المقام على صرمه (2).
هذا قليل من كثير ما أعرف عنه، ويسير فى (جنب ما (3)) يوصف منه، فأنى يا أخى اخترته؟ ولأىّ شىء علىّ آثرته؟ ....... (4) وأىّ أموره استلنت؟
أتنديده بالإخوان (5)، أم محافظته على الخوان (6)، أم أنسه بالخيانة، أم شتمه الصحابة، أم مؤاكلته الكلاب، أم مقامه على الاغتياب، أم نتن رائحته، أم سوء معاشرته، أم ملاله وضجره، أو وضره وبخره (7)؟ أم وصلته حين قطعته، واخترته حين اطّرحته؟ .
وإن مما حقّق ظنى بك فيه، أنك لم تكن له زوّارا فواظبت عليه، وكنت عنه متثاقلا فأسرعت إليه، وله ذامّا فلسانك رطب بمدحه، حتى كأنك إلى غاية مكروهى أجريت فى أمره، وإلا فكيف أنست بالجانب الوحشىّ من الثّقة، وأوحشت الجانب المعمور لك بالأنس والمقة، وقد تظاهرت عليه بما قلت الشهادة، وهتفت به الألسن من كل ناحية، وتحاماه كل ذى دين ومروءة، فأعطيت المودة غير أهلها، ومنحت الجفوة غير مستحقّها، ووصلت من قطعك، وقطعت من وصلك.
(1) المحصنة: العفيفة أو المتزوجة، قال ثعلب: كل امرأة عفيفة فهى محصنة بفتح الصاد وكسرها وكل امرأة متزوجة فهى محصنة بالفتح لا غير.
(2)
أى قطعه.
(3)
ما بين القوسين بياض بالأصل، وقد تممت به الجملة.
(4)
بياض بالأصل.
(5)
ندد به: صرح بعيوبه وشهره وسمع به، وفى الأصل «أتنديدا على الإخوان» والذى فى كتب اللغة تعدية هذا الفعل بالباء.
(6)
الخوان: كغراب وكتاب: ما يؤكل عليه الطعام، والمراد به الطعام.
(7)
وضره: أى وسخه وقذره، وأصل الوضر: وسخ الدسم واللبن، والبخر: نتن الفم.