الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كابدته فيه، أن ينسئ (1) لك ولكافة الأحرار فى أجلك: وأن يمنّ عليك بحياطة نعمتك، وكبت (2) عدوك، والزيادة فى القدرة لك، ولا يخلى مكانك منك، والله يعلم أنى لا أحبّ أن أتحمل منّة إلا لك. ولا أعتدّ عارفة مذكورة إلا منك».
(اختيار المنظوم والمنثور 13: 384، وزهر الآداب 1: 341)
*** وله إليه آخر فصل من كتاب:
(زهر الآداب 1: 341)
82 - كتاب أبى على البصير إلى أبى العيناء
وكتب أبو على البصير إلى أبى العيناء:
سلام على المخصوصين بالسلام، من أجل حقيقة الإسلام، المؤمنين بالحلال والحرام، والفرائض والأحكام، فإنى أحمد الله إلى نفسه وأوليائه من خلقه، على ما هدانى له من دينه، وعرّفنى من حقّه، وامتنّ علىّ به من تصديق رسله، والأخذ بسننه واتّباع سبله، وصلّى الله على محمد نبى الرحمة، الداعى إلى ربّه بالحكمة.
أما بعد، فإنك الرجل الدقيق (3) حسبه، الردىء مذهبه، الدنىء مكسبه، الخسيس مطلبه، البذىّ لسانه، المقلىّ (4) مكانه، المبلوّ به إخوانه، أخصّهم بذلك
(1) أى يطيل ويمد.
(2)
كبت العدو كضرب: أخزاه وأذله ورده بغيظه.
(3)
وربما كان «الرقيق» .
(4)
قلاه كرماه ورضيه قلى: أبغضه وكرهه غاية الكراهة.
من عظمت [عنده] نعمه وتظاهر إحسانه، قد صيّرت القحة (1) جنّة، وشتم الأعراض سنّة، والاقتصاد فى ذلك منّة، عدوّك بمعزل عنك، وصديقك على وجل منك، إن شاهدته عافك، وإن غبت عنه خافك، تسأله فوق الطاقة، وترهقه عند الفاقة، فإن اعتذر إليك لم تعذره، وإن استنظرك لم تنظره (2)، وإن أنعم عليك لم تشكره، لا تزيدك السّنّ إلا نقصا، ولا يفيدك الغنى إلا حرصا، تسمو إلى الكبير، بقدر صغير، وتسفّ إلى الطّفيف، لا للتخفيف، وتعرض للناس بالسؤال، غير محتشم من الإملال، ولا كاره أن ينظر إليك بالاستقلال، حتى لقد أخرجت الأضغان، وقبّحت الإحسان، وزهّدت فى اصطناع المعروف، وإغاثة الملهوف، وعذرت الناس فى خلف العدات، ودفع ممكن الحاجات، وأغريتهم ببغض العميان دون أهل العاهات، من أطاعك فى ماله حربته (3)، ومن منعك بعذر واضح سببته، إذا عنّ لك طمع كنت عبده، بتذلّل وتخشع لمن هو عنده، وتغوى قبل إحرازه جحده، من أكرمك أهنته وتطاولت عليه، ومن أهانك استكنت (4) له ولنت فى يديه، ومن سالمك لم تسالمه، ومن ناجزك لم تقاومه، الناس منك بين أسرار تفشى، وبوائق (5) تخشى، وشناعات واردة، ونوادر باردة، تدرج (6) كلامك خوف التحصيل، وتورّى عن عيّك بالقال والقيل، معاشرتك متجنّبة، وأحاديثك متكذّبة، لا يستجنى بها فهم، ولا يستفاد منها علم، تهامس بسقوطها فلا يحشمك، وتتلقّى بالردّ لها فلا يؤلمك، تسمع كلام خيار السّلف فتدّعيه، إفسادا وإلحادا فيه، والتماسا لإبطال حجج الدين، وتشكيكا لأهل البصيرة واليقين، فإن
(1) القحة: الوقاحة. والجنة: الوقاية.
(2)
أنظره: أخره.
(3)
حربه حربا كطلبه طلبا: سلب ماله.
(4)
فى الأصل «اسكنت» .
(5)
جمع بائقة: وهى الداهية.
(6)
أى تطوى.
امتحنت بدون ما ادّعيت، أحجمت وتعاديت (1)، وإن كلّفت مضاهاته هذيت وعويت، ظاهر إسلامك تقيّة، وسريرته مدخولة رديّة، تضغث (2) فى الخبر عن الرسول، وتدفع المعروف منه بالمجهول، ودّك تخلّق، وشكرك تملّق، ولطفك متعسّف، وظرفك متسكلّف، أعظم المصائب عندك نيل حرمته، لا تحفل مع إدراكه بشىء عدمته، إرثك عن أبيك السّعاية، ونقل الأخبار والوشاية، لا يعرف له غيرها طعمة (3)، ولم يكن له إلّا بها نعمة، مشهور بذلك فى مصره، غير مرتاب من أمره، ثم أنت تبسط لسانك فى الأحرار، وتتطاول على ذوى المروءات والأقدار، فلا أصل راسخ، ولا فرع شامخ، ولا نسب معروف، ولا أدب موصوف، أغراك حلمنا [عليك بالتطاول](4) علينا، وإبطاؤنا عنك بالتسرّع إلينا، فتأنّيناك (5) وراقبناك، واحتججنا عليك [فلم تنكر معتذرا] ولم تقصر مزدجرا، بل (6) لم تجبنى عن واحد منها، تعابيا (7) بها وعجزا عنها ثم أوهمت أخلاطا من الناس أهل جهل بالتمييز والقياس- لا ينظرون بفهم. ولا يحكمون بعلم، ولا ينزلون الأمور منازلها، ولا يعرفون حقّها وباطلها، يظنّون البلاغة فى الهذر (8)، ويكتفون بالمنظر من الخبر- أنك مترفّع (9) عن جوابى. وغير محتفل بعتابى، ومنّتك نفسك-
(1) تعادى: تباعد.
(2)
ضغث الحديث كمنع: خلطه، وفى الأصل «تصعث» وهو تصحيف.
(3)
الطعمة: وجه المكسب.
(4)
ما بين القوسين بياض بالأصل، وقد أتممت الجملة بما يناسب المقام.
(5)
تأنيته: انظرته وتأخرت فى أمره ولم أعجل، وفى الأصل هكذا «فتأنيناك» .
(6)
فى الأصل: «ولم تقصر مزدجرا بتالم تجبنى عن واحد منها
…
» ويظهر أنه قد سقط من الناسخ هنا كلام، بدليل أن الضمير فى «منها» لم يتقدم له مرجع، وأن كلمة «بتا» إن صحت فليس لها موقع فى معنى العبارة.
(7)
عىّ بالأمر وعي كرضى وتعايا واستعيا وتعيا: ولم يهتد لوجه مراده، أو عجز عنه ولم يطق إحكامه.
(8)
الهذر: سقط الكلام.
(9)
فى الأصل «متوقع» وهو تحريف.
وقديما ما أغرتك، فجنت عليك وضرّتك- أنّى أعذرك فيما تركت، وأمسك عنك ما أمسكت، وأقف عند أول هذا الأمر دون آخره، وأكتفى بباطنه من ظاهره، وهيهات لظنّك الكاذب، وتبّا لرأيك العازب (1)، كلّا والله دون أن أغصّك بالريق، وأضطرّك إلى المضيق، وأهدم ما أسّست، وأكشف ما لبّست (2)، وأظهر ما جمجمت، وأبطل ما أوهمت، وأبين (3) الشريف منك، وأخذّل (4) اللفيف عنك، حتى تعود إلىّ وتنزع عن غيك، وتقيم جورك، ولا تعدو طورك، وحتى تتعطف الناس فى حوائجك إليهم، وتدع العنف بهم والتّسحّب (5) عليهم.
وسيقرأ كتابى هذا الكاتب الأديب، والفقيه اللبيب، والشاعر الأريب، والمصقع (6) الخطيب، والظريف الممتع، والحصيف المقنع، وكلّ هؤلاء وكيلى عليك فى طلب الجواب، من طريق التطوّع والاحتساب، محمودين مأجورين، مسئولين غير مأمورين.
وقد نفذت لى إليك رسالة العتاب، على مخرج ألفاظ الكتّاب، ظلمتك فى المطالبة بالإجابة عنها، وبهظتك (7) بما حمّلتك منها، وتناولتك بالشعر وأنت مفحم (8)، وأنا لك فى ذلك أظلم، وقد ملت إلى السجع على علمى بخساسة حظّه، وركاكة
(1) تباله. أى ألزمه الله هلاكا وخسرانا، العازب. أى الغائب البعيد عن الصواب.
(2)
التلبيس: التخليط والتدليس، وفى الأصل ما لبثت» وهو تحريف. والجمجمة: إخفاء الشىء فى الصدر.
(3)
أى أقطعه عنك، وفى الأصل «وأبين للشريف منك» وهو معنى صحيح أيضا: أى أظهر له مساوئك فيتجنب مخالطتك.
(4)
فى الأصل «واحدل» وهو تصحيف.
(5)
تسحب عليه: تدلل.
(6)
المصقع: البليغ، أو العالى الصوت، أو من لا يرتج عليه فى كلامه ولا يتتعتع، وحصف ككرم: استحكم عقله، فهو حصيف.
(7)
بهظه الأمر: كمنع، غلبه وثقل عليه وبلغ به مشقة.
(8)
المفحم: العي، ومن لا يقدر أن يقول شعرا.