الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مصرّحا أو محتالا أو متأوّلا، وأدهن فيما أعطى الله من نفسه، وفيما أخذ عليه من مواثيق الله وعهوده، وزاغ عن السبيل التى يعتصم بها أولو الرأى، فكلّ ما يملك كلّ واحد منكم ممن ختر (1) فى ذلك منكم عهده، من مال أو عقار أو سائمة أو زرع أو ضرع، صدقة على المساكين فى وجوه سبيل الله، محبوس محرّم عليه أن يرجع شيئا من ذلك إلى ماله، عن حيلة يقدّمها لنفسه أو يحتال له بها، وما أفاد فى بقية عمره من فائدة مال يقلّ خطرها أو يجلّ، فذلك سبيلها إلى أن توافيه منيّته، ويأتى عليه أجله وكل مملوك يملكه اليوم وإلى ثلاثين سنة من ذكر أو أنثى، أحرار لوجه الله، ونساؤه يوم يلزمه فيه الحنث ومن يتزوج بعدهنّ إلى ثلاثين سنة، طوالق طلاق الحرج، لا يقبل الله منه إلا الوفاء بها، وهو برىء من الله ورسوله، والله ورسوله منه بريئان، ولا قبل الله منه صرفا ولا عدلا، والله عليكم بذلك شهيد، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم، وحسبنا الله ونعم الوكيل».
(تاريخ الطبرى 11: 98)
148 - كتاب عن محمد بن عبد الله بن طاهر إلى أهل بغداد (كتبه سعيد بن حميد)
ولما بايع الأتراك المعتز بسامرّا، أمر المستعين محمد بن عبد الله بن طاهر بتحصين بغداد، فتقدّم فى ذلك، وعقد المعتزّ لأخيه أبى أحمد بن المتوكل على حرب المستعين وابن طاهر وولّاه ذلك، فسار إلى بغداد فى جمع من الأتراك والمغاربة، فصدّهم ابن طاهر وأوقع بهم ودارت عليهم الدائرة.
وأمر ابن طاهر سعيد بن حميد فكتب كتابا يذكر فيه هذه الوقعة، فقرئ على أهل بغداد فى مسجد جامعها، ونسخته:
(1) الختر: الغدر والخديعة أو أقبح الغدر، وفعله كضرب ونصر.
«بسم الله الرحمن الرحيم: أما بعد، فالحمد لله المنعم فلا يبلغ أحد شكر نعمته، والقادر فلا يعارض فى قدرته، والعزيز فلا يذلّ فى أمره، والحكم العدل فلا يردّ حكمه، والناصر فلا يكون نصره إلا للحق وأهله، والمالك لكل شىء فلا يخرج أحد عن أمره، والهادى إلى سبيل رحمته فلا يضلّ من انقاد لطاعته، والمقدّم إعذاره ليظاهر به حجّته، الذى جعل دينه لعباده رحمة، وخلافته لدينه عصمة، وطاعة خلفائه فرضا واجبا على كافّة الأمة، فهم المستحفظون فى أرضه على ما بعث به رسله، وأمناؤه على خلقه فيما دعاهم إليه من دينه، والحاملون لهم على منهاج حقّه، لئلا تتشعّب بهم الطّرق المخالفة لسبيله، والهادون لهم إلى صراطه، ليجمعهم على الجادّة (1) التى ندب إليها عباده، بهم حمى الدين من البغاة الطاغين، وحفظت معالم الحق من الغواة المخالفين، محتجّين على الأمم بكتاب الله الذى استعملهم به، ورعاة للأمر بحق الله الذى اختارهم له، إن جادلوا كانت حجة الله معهم، وإن حاربوا حكم بالنصر لهم، وإن جاهدوا كانت فى طاعة الله نصرهم، وإن بغاهم عدو كانت كفاية (2) الله حائلة دونهم، ومعقلا لهم، وإن كادهم كائد فالله من وراء عونهم، نصبهم الله لإعزاز دينه، فمن عاداهم فإنما عادى الدين الذى أعزّه وحرسه بهم، ومن ناوأهم (3) فإنما طعن على الحق الذى يكلؤه بحراستهم. جيوشهم بالرّعب (4) منصورة، وكتائبهم بسلطان الله من عدوهم محوطة (5)، وأيديهم بذبّها عن دين الله عالية، وأشياعهم بتناصرهم فى الحق غالبة، وأحزاب أعدائهم ببغيهم مقموعة (6)، وحجتهم عند الله وعند خلقه داحضة (7)، ووسائلهم إلى النصر مردودة، وأحكام الله بخذلانهم واقعة
(1) الجادة: الطريق الواضح، وندبه إلى الأمر كنصر: دعاه وحثه.
(2)
وفى المنظوم والمنثور «نكاية» .
(3)
ناوأه: عاداه ويكلؤه: يحرسه ويحفظه.
(4)
وفى الطبرى «بالنصر والعز» .
(5)
وفيه «محفوظة» وأيديهم عن دين الله دافعة».
(6)
قمعه كمنعه: قهره وأذله.
(7)
دحضت الحجة كمنع: بطلت، وفى الطبرى «راخصة» وهو تحريف.
وأقداره بإسلامهم إلى أوليائه جارية، وعادته فيهم وفى الأمم السالفة والقرون الخالية ماضية، ليكون أهل الحق على ثقة من إنجاز سابق الوعد، وأعداؤه محجوجين بما قدّم إليهم من الإنذار، معجّلة لهم نقمة الله بأيدى أوليائه، معدّا لهم العذاب عند ربهم، والخزى موصول بنواصيهم فى دنياهم، وعذاب الآخرة من ورائهم، وما الله بظلّام للعبيد، وصلّى الله على نبيه المصطفى، ورسوله المرتضى، والمنقذ من الضلالة إلى الهدى، صلاة تامّة نامية بركاتها، دائما اتصالها، وسلّم تسليما، والحمد لله تواضعا لعظمته، والحمد لله إقرارا بربوبيّته، والحمد لله اعترافا بقصور أفصى منازل الشكر عن أدنى منزلة من منازل كرامته، والحمد لله الهادى إلى حمده، والموجب به مزيده، والمحصى به عوائد إحسانه، حمدا يرضاه ويتقبّله، ويوجب طوله وإفضاله، والحمد لله الذى حكم بالخذلان على من بغى على أهل دينه، وسبق وعده بالنصر لمن بغى عليه من أنصار حقه، وأنزل بذلك كتابه العزيز موعظة للباغين، فإن أقلعوا كانت التذكرة نافعة لهم، والحجّة عند الله لمن قام بها فيهم، ثم أوجب بعد التذكرة والإصرار جهادهم، فقال فيما قدّم من وعده، وأبان من برهانه: ومن «بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ» وعدا من الله حقا، نهى به أعداءه عن معصيته، وثبّت به أولياءه على سبيله، والله لا يخلف الميعاد.
ولله عند أمير المؤمنين- فى رئيس دعوته، وسيف دولته، والمحامى عن سلطانه، ومحلّ ثقته، والمتقدّم فى طاعته ونصيحته لأوليائه، والذّابّ عن حقه، والقائم بمجاهدة أعدائه، محمد بن عبد الله مولى أمير المؤمنين- نعمة يرغب إلى الله فى إتمامها، والتوفيق لشكرها، والتطوّل بمن أراد المزيد فيها، فإن الله قدّر لآبائه القيام بالدعوة الأولى لآباء أمير المؤمنين، ثم جمع له آثارهم بقيامه بالدولة الثانية، حين حاول
أعداء الله أن يطمسوا معالم دينه ويعفّوها (1)، فقام بحق الله وحقّ خليفته، محاميا عنها، ومراميا من ورائها، متناولا للبعيد برأيه ونظره، مباشرا للقريب بإشرافه وتفقّده، باذلا نفسه فى كل ما قرّ به من الله، وأوجب له الزّلفة عنده، وسيمنع الله أمير المؤمنين به وليّا مكانفا (2) على الحق، وناصرا مؤازرا على الخير، وظهيرا مجاهدا لعدوّ الدين.
وقد علمتم ما كان كتاب أمير المؤمنين تقدّم به إليكم فيما أحدثته الفرقة الضالّة عن سبيل ربها، المفارقة لعصمة دينها، الكافرة بنعم الله، ونعم خليفته عندها، المباينة لجماعة الأمة التى ألّف الله بخلافته نظامها، المحاولة لتشتيت الكلمة بعد اجتماعها، الناكثة لبيعته، الخالعة لربقة (3) الإسلام من أعناقها، الموالى الأتراك وما صارت إليه من نصب الغلام المعروف بأبى عبد الله بن المتوكل لإمامتها (4)، عند مصير أمير المؤمنين إلى مدينة السلام، محلّ سلطانه، ومجتمع أنصاره وأبناء أنصار آبائه، وما قابل به أمير المؤمنين خيانتهم، وآثره من الأفاة فى أمرهم، ثم إن هؤلاء الناكثين جمعوا جمعا من الأتراك والمغاربة ومن ولج فى سوادهم، ودخل فى غمارهم (5) مؤاتيا للفتنة من ألفاف (6) الغىّ، ورأسوا عليهم المعروف بأبى أحمد بن المتوكل، ثم ساروا نحو مدينة السلام فى الجانب الشرقىّ، معلنين للبغى والاقتدار، مظهرين للغىّ والإصرار، فتأنّاهم (7) أمير المؤمنين، وفسح لهم فى النّظرة لهم، وأمر بالكتاب إليهم بما فيه تبصيرهم الرشد، وتذكيرهم بما قدّموا من البيعة،
(1) عفاه كدخل وعفاه: محاه.
(2)
كانفه: عاونه وساعده، والظهير: المعين.
(3)
الربقة واحدة الربق بالكسر، وهو حبل فيه عدة عرى تشد به البهم، والمراد هنا العهد.
(4)
فى الأصل «تاريخ الطبرى» : «من نصر» وفيه أيضا «لإقامتها» وهو تحريف.
(5)
ولج يلج: دخل، وسوادهم: عامتهم، وغمارهم بالضم والفتح: زحمتهم وكثرتهم.
(6)
مؤاتيا: مطاوعا، والألفاف جمع لف بالكسر وهو الحزب والطائفة، من الالتفاف.
(7)
جاء فى اللسان «تأنى فى الأمر أى ترفق وتنظر، استأنى به أى انتظر به، ويقال: تأنيتك حتى لا أناة بى» ، وفسح له كمنع: وسع، والنظرة: التاخير.
وإفهامهم ما لله عليهم وله فى ذلك من الحق، وأن خروجهم مما دخلوا فيه من بيعتهم طوعا الخروج من دين الله والبراءة منه ومن رسوله، وتحريمهم أموالهم ونساءهم عليهم، وأن فى تمسّكهم به سلامة أديانهم، وبقاء نعمتهم، والاحتراس من حلول النقم بهم، وأن يبيّن لهم ما سلف من بلائه عندهم، من أسنى المواهب، وأرفع الرغائب، والاختصاص بسنىّ المراتب، والتقدّم فى المحافل، فأبوا إلا تماديا ونفارا، وتمسّكا بالغىّ وإصرارا، فقلّد أمير المؤمنين نصيحه المؤتمن ووليّه محمد بن عبد الله مولى أمير المؤمنين تدبير أمورهم، ودعاءهم إلى الحق ما كانت الإنابة، أو محاربتهم إن جنح بهم غيّهم، وتتلّعوا (1) فى ضلالهم، فلم يألهم (2) نظرا وإفهاما، وتبيينا وإرشادا، وهم فى ذلك رافعون أصواتهم بالتوعّد لأهل مدينة السلام، بسفك دمائهم، وسبى نسائهم، وتغنّم (3) أموالهم، وقبل ذلك ما كانوا فى مسيرهم على السبيل التى يستعملها أهل الشّرك فى غاراتهم، ويميلون إليها عند إمكان النّهزة (4)، لا يجتازون بعامر إلا أخربوه، ولا بحريم (5) لمسلم ولا غيره إلا أباحوه، ولا بمسلم يعجز عنهم إلا قتلوه، ولا بمال لمسلم ولا ذمّىّ إلا أخذوه، حتى انتقل كثير ممن سبقت إليه أخبارهم ممن أمامهم عن أوطانهم، وفارقوا منازلهم ورباعهم (6)، وفزعوا إلى باب أمير المؤمنين تحصّنا من معرّتهم، لا يمزون بغنى إلا خلعوا عنه لباس الغنى، ولا بمستور إلا هتكوا عن الذّريّة والنساء ستره، لا يرقبون فى مؤمن إلّا (7) ولا ذمّة، ولا يتوقّفون عن مسلم بهتك ولا مثلة (8)، ولا يرغبون عما حرّم الله من دم ولا حرمة.
(1) المتتلع: الشاخص للأمر والرافع رأسه للنهوض والمتقدم.
(2)
ألا يألو: قصر.
(3)
اغتنمه وتغنمه: عده غنيمة.
(4)
النهزة: الفرصة.
(5)
حريمك: ما تحميه وتقاتل عنه.
(6)
الرباع جمع ربع بالفتح: وهو المنزل.
(7)
الإل: العهد.
(8)
مثل به بالتخفيف مثلة، ومثل به بالتشديد تمثيلا: نكل.
(16 - جمهرة رسائل العرب- رابع)
ثم تلقّوا التذكرة بالحرب، وقابلوا الموعظة بالإصرار على الذنب، وعارضوا التبصير بالاستبصار فى الباطل، فدلفوا (1) نحو باب الشمّاسيّة، وقد رتّب محمد بن عبد الله مولى أمير المؤمنين بذلك الباب والأبواب التى سبيلها سبيله من أبواب مدينة السلام الجيوش فى العدّة الكاملة، والعدّة المتظاهرة، معاقلهم التوكّل على ربهم، وحصونهم الاعتصام بطاعته، وشعارهم التكبير والتهليل أمام عدوهم، ومحمد بن عبد الله مولى أمير المؤمنين يأمرهم بتحصين ما يليهم، والإمساك عن الحرب ما كانت مندوحة (2) لهم، فباداهم الأولياء بالموعظة، وبدأهم الغواة الناكثون بحربهم، وغادوهم أياما بجموعهم وعدادهم، مدلّين بعدّتهم ومقدّرين أن لا غالب لهم، ولا يعلمون بالله أنّ قدرته فوق قدرتهم، وأن أقداره نافذة بخلاف إرادتهم، وأحكامه عادلة ماضية لأهل الحق عليهم، حتى إذا كان يوم السبت للنّصف من صفر، وافوا باب الشماسية بأجمعهم، قد نشروا أعلامهم، وتنادوا بشعارهم، وتحصّنوا بأسلحتهم، وبدا الأمر منهم لمن عاينهم، ليس لهم وعيد دون سفك الدماء، وسبى النساء، واستباحة الأموال، فبدأهم الأولياء بالموعظة فلم يسمعوا، وقابلوهم بالتذكرة فلم يصغوا إليها، وبدءوا بالحرب منابذين لها، فتسرّع الأولياء عند ذلك إليهم، واستنصروا الله عليهم، واستحكمت بالله ثقتهم، ونفذت به بصائرهم، فلم تزل الحرب بينهم إلى وقت العصر من هذا اليوم، فقتل الله من حماتهم وفرسانهم ورؤسائهم وقادة باطلهم جماعة كثيرا عددها، ونالت الجراحة المثخنة (3) التى تأتى على من نالته أكثر عامّتهم، فلما رأى أعداء الله وأعداء دينه أن قد أكذب ظنونهم، وحال بينهم وبين أمانيّهم، وجعل عواقبها حسرات عليهم، استنهضوا جيشا من «سامرّا» من الأتراك والمغاربة: فى العتاد (4) والعدّة والجلد والأسلحة،
(1) دلفت الكتيبة فى الحرب كضرب: تقدمت.
(2)
مندوحة: أى سعة.
(3)
أنحن فى العدو: بالغ الجراحة فيهم.
(4)
العتاد: العدة.
فى الجانب الغربىّ طالبين المعرّة، ومؤمّلين أن ينالوا نيلا من أهله، باشتغال إخوانهم فى الجانب الشرقىّ بأعدائهم، وقد كان محمد بن عبد الله مولى أمير المؤمنين شحن الجانبين جميعا بالرجال والعدّة، ووكّل بكل ناحية من يقوم بحفظها وحراستها، ويكفّ عن الرعية بوائق (1) أعدائهم، ووكّل بكل باب من الأبواب قائدا فى جمع كثيف، ورتّب على السّور من يراعيه فى الليل والنهار، وبثّ الرجال ليعرف أخبار أعداء الله فى حركاتهم ونهوضهم، ومقامهم وتصرّفهم، فيعامل كل حال لهم بحال يفتّ الله فى أعضادهم (2) بها، فلما كان يوم الأربعاء لإحدى عشرة ليلة بقيت من صفر، وافى الجيش الذى أنهضوه من الجانب الغربى الباب المعروف بباب فطربّل (3)، فوقفوا بإزاء الناكثين المعسكرين بالجانب الشرقىّ من دجلة، فى عدد لا يسعه إلا الفضاء، ولا يحمله إلا المجال الفسيح، وقد تواعدوا أن يكون دنوّهم من الأبواب معا، لشغل الأولياء بحربهم من الجهات، فيضعفوا عنهم، ويغلبوا حقّهم بباطلهم، أملا كادهم الله فيه غير صادق، وظنّا خائبا لله فيه قضاء نافذ، وأنهض محمد بن عبد الله نحوهم محمد بن أبى عون وبندار بن موسى الطبرى مولى أمير المؤمنين وعبد الله بن نصر بن حمزة من باب قطربّل، وأمرهم بتقوى الله وطاعته، والاتّباع لأمره، والتصرف مع كتابه، والتوقّف عن الحرب حتى تسبق التذكرة الأسماع، وتنزل الحجة بالتتابع منهم والإصرار، فنفذوا فى جمع يقابل جمعهم، مستبصرين فى حق الله عليهم، مسارعين إلى لقاء عدوهم، محتسبين خطاهم ومسيرهم واثقين بالثواب الآجل، والجزاء العاجل، فتلقاهم ومن معهم أعداء الله قد أطلقوا نحوهم أعنتّهم، وأشرعوا (4) لنحورهم أسنّتهم، لا يشكّون أنهم نهزة المختلس، وغنيمة المنتهب، فنادوهم بالموعظة نداء مسمعا فمجّتها أسماعهم، وعميت عنها
(1) البوائق جمع بائقة: وهى الداهية.
(2)
فت فى عضده: أضعفه.
(3)
اسم قرية بين بغداد وعكبرا ينسب إليها الخمر.
(4)
أشرع نحوه الرمح والسيف وشرعهما: أقبلهما إياه وسددهما له.
أبصارهم، وصدقهم أولياء الله فى لقائهم بقلوب مستجمعة لهم، وعلم بأن الله لا يخلف وعده فيهم؛ فجالت الخيل بهم جولة، وعاودت كرّة بعد كرة عليهم، طعنا بالرماح، وضربا بالسيوف، ورشقا بالسهام، فلما مسّهم ألم جراحها، وكلمتهم (1) الحرب بأنيابها، ودارت عليهم رحاها وصمّم عليهم أبناؤها، ظمأ إلى دمائهم، ولّوا أدبارهم ومنح الله أكتافهم، وأوقع باسه بهم، فقتلت منهم جماعة لم يحترسوا من عذاب الله بتوبة، ولم يتحصّنوا من عقابه بإنابة (2)، ثم ثابت ثانية فوقفوا بإزاء الأولياء، وعبر إليهم أشياعهم الغاوون من عسكرهم بباب الشماسية ألف رجل من أنجادهم (3) فى السفن، معاونين لهم على ضلالتهم، فأنهض محمد بن عبد الله خالد بن عمران والشاه ابن ميكال مولى طاهر نحوهم، فنفذوا ببصيرة لا يتخوّنها فتور، ونيّة لا يلحقها تقصير، ومعهما العباس بن قارن مولى أمير المؤمنين فلما وافى الشاه فيمن معه أعداء الله وكّل بالمواضع التى يتخوّف منها مدخل الكمناء، ثم حمل ومن توجّه معه من القواد المسمّين ماضين لا يعوقهم (4) الوعيد، ولا يشكّون من الله فى النصر والتأييد، فوضعوا أسيافهم فيهم، تمضى أحكام الله عليهم، حتى ألحقوهم بالمعسكر الذى كانوا عسكروا فيه وجاوزوه، وسلبوهم كلّ ما كان من سلاح وكراع (5) وعتاد الحرب، فمن قتيل غودرت جثته بمصرعه، ونقلت هامته (6) إلى مصير فيه معتبر لغيره، ومن لاجىء من السيف إلى الغرق، لم يجره الله من حذاره، ومن أسير مصفود (7) يقاد إلى دار أولياء الله وحزبه، ومن هارب بحشاشة (8) نفسه، قد أسكن
(1) كلمه كضرب: جرحه.
(2)
فى الأصل «بأمانة» والظاهر أنها «بإنابة» لتناسب قوله قبل «بتوبة» .
(3)
أنجاد جمع نجد، والنجد كشمس وكتف ورجل: الشجاع الماضى فيما يعجز غيره.
(4)
فى الأصل «لا يغويهم» وأراه محرفا وصوابه «لا يعوقهم» .
(5)
الكراع: اسم يجمع الخيل.
(6)
الهامة: الرأس.
(7)
صفده كضربه: شده وأوثقه كأصفده وصفده.
(8)
الحشاشة: بقية الروح فى الجريح والمريض.
الله الخوف قلبه، فكانت النّقمة بحمد الله واقعة بالفريقين: من وافى الجانب الغربىّ قادما، ومن عبر إليهم من الجانب الشرقى منجدا لم ينج منهم ناج، ولم يعتصم منهم بالتوبة معتصم، ولا أقبل إلى الله مقبل، فرقا أربعا يجمعها النار» ويشملها عاجل النّكال، عظة ومعتبرا لأولى الأبصار، فكانوا كما قال الله عز وجل:
«أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ (1)، جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ» ولم تزل الحرب بين الأولياء وبين الفرقة التى كانت فى الجانب الشرقىّ، والقتل محتفل (2) فى أعلامهم، والجراح فاشية فيهم، حتى إذا عاينوا ما أنزل الله بأشياعهم من البوار، وأحلّ بهم من النّقمة والاستئصال، ما لهم من الله من عاصم، ولا من أوليائه ملجأ ولا موئل، ولّوا منهزمين مفلولين منكوبين، قد أراهم الله العبر فى إخوانهم الغلوية، وطوائفهم المضلة، وضلّ ما كان فى أنفسهم، لما رأوا من نصر الله لجنده، وإعزازه لأوليائه، والحمد لله رب العالمين، قامع الغواة الناكبين عن دينه، والبغاة الناقضين لعهده والمرّاق الخارجين من جملة أهل حقه حمدا مبلّغا رضاه. وموجبا أفضل مزيده، وصلّى الله أولا وآخرا على محمد عبده ورسوله الهادى إلى سبيله، والداعى إليه بإذنه، وسلّم تسليما».
وكتب سعيد بن حميد يوم السبت لسبع خلون (3) من صفر سنة 251
(تاريخ الطبرى 11: 106، واختيار المنظوم والمنثور 13: 284)
(1) البوار: الهلاك.
(2)
من احتفل: أى اجتمع.
(3)
هكذا فى الأصل وأراه خطأ وصوابه «بقين» لأن الوقعة استمرت إلى «يوم الأربعاء لإحدى عشرة ليلة بقيت من صفر» كما جاء فى هذه الرسالة.