الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الدرس: 1 مفهوم الأدب المقارن من خلال المعالم التاريخية والرؤى النقدية
.
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الأول
(مفهوم الأدب المقارن من خلال المعالم التاريخية والرؤى النقدية)
نشأة مفهوم الأدب المقارن، وما يشمله
الأدب المقارن: هو فرع من فروع المعرفة يتناول المقارنة بين أدبين أو أكثر، ينتمي كل منهما إلى أمة أو قومية غير الأمة أو القومية التي ينتمي إليها الأدب الآخر، وفي العادة إلى لغة غير اللغة التي ينتمي إليها أيضًا، وهذه المقارنة قد تكون بين عنصر واحد أو أكثر من عناصر أدب قومي ما ونظيره في غيره من الآداب القومية الأخرى، وذلك بُغية الوقوف على مناطق التشابه، ومناطق الاختلاف بين الآداب ومعرفة العوامل المسئولة عن ذلك، كذلك فهذه المقارنة قد يكون هدفها كشف الصلات التي بينها، وإبراز تأثير أحدها في غيره من الآداب، وقد يكون هدفها الموازنة الفنية أو المضمونية بينهما، وقد يكون هدفها معرفة الصورة التي ارتسمت في ذهن أمة من الأمم عن أمة أخرى من خلال هدفها، وقد يكون هدفها هو تتبع نزعة أو تيار ما عبر عدة آداب إلى آخره.
وهذا التعريف قد تمت صياغته وبلورته من خلال التعاريف والمفاهيم المتعددة لهذا الفرع من فروع العلم، تلك المفاهيم والتعريفات التي تتباين حسب تباين المدرسة أو الشخصية، التي تقود هذا التيار أو ذاك من تيارات البحث المختلفة، وهو يختلف قليلًا أو كثيرًا عن التعاريف الموجودة في كتب الأدب المقارن، وقد سرني أن أجد التعريف الذي أورده كل من "ذافري ديكشنري" و"موسوعة الويكيبيديا الحرة" على المشباك متفقًا مع تعريفي هذا.
وميادين الأدب المقارن متعددة، فقد يكون ميدانه المقارنة بين جنس أدبيٍ، كالقصة أو المسرحية أو المقال أو المقامة أو القصيدة أو الملحمة أو الأنقوشة -أي: الإبيجراما- في أدبين مختلفين أو أكثر، وقد يكون ميدانه المقارنة بين الأشكال الفنية داخل جنس أدبي من هذه الأجناس في أدب ما ونظيراتها في أدب آخر، كنظام العروض والقافية أو الموشحات مثلًا.
وقد يكون ميدانه الصور الخيالية كالتشبيه والاستعارة والكناية والمجاز، وقد يكون ميدانه النماذج البشرية والشخصيات التاريخية في الأعمال الأدبية، وقد يكون ميدانه التأثير الذي يحدثه كتاب أو كاتب ما في نظيره على الناحية الأخرى، أو مجرد الموازنة بينهما لما يلحظ من تشابههما مثلًا، وقد يكون ميدانه المقارنة بين المذاهب الأدبية كالكلاسيكية والرومانسية والواقعية والرمزية والبرناسية هنا وهناك، وقد يكون ميدانه انعكاس صورة أمة ما في أدب أمة أو أمم أخرى وهكذا.
ويحتاج مصطلح الأدب المقارن -وهو في الواقع ترجمة حرفية للمصطلح الفرنسي المعروف " لا ليتارتير كومبري"- بعضًا من التحليل والتوضيح وكذلك التسويغ أيضًا، فالواقع كما هو بين ظاهر أننا هنا لسنا بصدد أدب بل فرع من فروع العلم يدرس الأدب، فكيف إذن حدث هذا، إنه الاختصار أو إذا كان يحلو لك فقل: إنه الخطأ الشائع الذي يقال في مثل هذه الحالة: إنه خير من الصواب، والصواب هو أن هذا العلم يقوم بمقارنة الآداب القومية المختلفة، والموازنة بينها
ومعرفة ما فيها من عناصر مشتركة أو مختلفة والأسباب المسئولة عن ذلك، والتعرف على الصلات التي تربطها بعضها ببعض في حالة وجود مثل تلك الصلات، والمعابر التي انتقل من خلالها عنصر أو أكثر من هذا الأدب أو ذاك إلى غيره من الآداب القومية الأخرى.
إذن فنحن لسنا بصدد أدب، بل بصدد علم، اللهم إلا إذا فهمنا كلمة أدب ل،"تيراتير" أو لـ"يترتشر" بمعناها الواسع، أي: الكتابة، أو قلنا: إن ثمة كلمة محذوفة على سبيل الاختصار والتقدير دراسة الأدب المقارن، أو تاريخ الأدب المقارن أو كما في الألمانية علم الأدب المقارن. وهناك تسميات أخرى لم يكتب لها التوفيق والانتشار مثل التاريخ المقارن للآداب أو تاريخ الآداب المقارنة، أو التاريخ الأدبي المقارن، أو تاريخ الآداب المقارن، أو الآداب الحديثة المقارنة، أو الأدب العالمي أو الأدب بالمقارنة أو الأدب بطريق المقارنة، وذلك رغم ما تتمتع به بعض التسميات من اختصار ودقة، كمصطلح مقارنة الأدب، وهي التسمية التي يستعملها الأندونيسيون، أو المقارنة الأدبية الذي عنون به الدكتور أحمد كمال زكي كتابًا له في هذا الموضوع، والمقارنة بين الآداب الذي اتخذه العقاد عنوانًا لأحد مقالاته في مجلة "الكتاب" المصرية، عام ألف وتسعمائة وثمانية وأربعين للميلاد، والذي أقترح أن يختصر إلى مقارنة الآداب، طلبًا لمزيد من الخفة على الذهن واللسان، كما تقتضي طبيعة المصطلح، ومن ثم يكون أسهل تداولًا لمن يريد.
وهناك خطاب المقارنة الذي اقترحه عز الدين المناصرة في مقاله الرائد التاريخي للأدب المقارن في الوطن العربي، المنشور في كتاب (الفلسطينيون والأدب المقارن) روح الخالدي إدوارد سعيد عز الدين المناصرة حسام الخطيب.
وقد اختصر الدكتور أحمد كمال زكي مصطلح الأدب المقارن إلى كلمة واحدة فقط هي المقارن، مستعملًا النعت وحده دون المنعوت، ومن يدري فقد تشيع مع الأيام هذه التسمية وتحل الكلمة الواحدة محل الكلمتين على عادة الذهن واللسان البشري، اللذين يميلان في أمور الواقع العملي إلى الاختصار عند كثرة التكرار، وبخاصة عن طريق الاستعاضة عن النعت والمنعوت معًا بالنعت قائمًا برأسه.
أما المصطلح الإنجليزي فلا يستخدم اسم المفعول "كومبيرد" من الفعل "كومبير" أي: يقارن، كما هو الحال في المصطلح الفرنسي، بل يستخدموا صفة النسب "كومبرتيف"، وهو ما يمكن ترجمته بالأدب المقارن أو الأدب التقارني، أو أدب المقارنة.
نخلص من هذا إلى القول: بأن مصطلح الأدب المقارن الذي استعمله خليل هنداوي وفخري أبو السعود على التوالي في مقالاتهما بمجلة "الرسالة" في عام واحد، هو العام ألف وتسعمائة وستة وثلاثون ميلادية، بفارق ثلاثة أشهر تقريبًا كان هو المصطلح الذي قدر له الشيوع، بل الانتشار الكاسح على مدار هذه العقود السبعة حتى الآن على الأقل.
وقبل أن أغادر هذه النقطة أود أن أوجه الالتفات إلى أن الدكتور علي شلش، يرى أن صاحب هذا المصطلح في الحالتين هو أحمد حسن الزيات لا هنداوي ولا أبو السعود، وإن لم يقدم دليلًا قاطعًا على ذلك، بل استنتجه مجرد استنتاج قائلًا: إن الزيات قد أضاف إلى العنوان الأصيل كل من الكاتبين مصطلح الأدب المقارن.
أما الدكتور حسام الخطيب فقد عزا إلى هنداوي استخدام المصطلح لأول مرة، على حين جرد أبو السعود من قصد استخدامه بعد هذا في مقالاته في نفس
الموضوع، ناسبًا إلى الزيات أنه هو واضع ذلك المصطلح في عناوين المقالات المذكورة.
وتشترط المدرسة الفرنسية أن تكون هناك صلات تاريخية بين العملين، أو الظاهرتين أو الأدبين المراد مقارنتهما، بيد أن هذا شرط تحكمي أو قل: إنه شرط غير ملزم ولا لازم، والمهم أن تكون المقارنة بين أدبي أمتين مختلفتين، سواء كتب هذان الأدبان بلغتين مختلفتين كما هو الغالب، أو كانا يصطنعان ذات اللغة كما هو الحال مثلًا بين الأدب الإنجليزي والأدب الهندي المكتوب بلغة "جون بول"، أو بين الأدب الفرنسي والأدب الجزائري المصبوب في قالب لسان الفرنسيس إلى آخره.
إن المراد هو تمكين العلاقات الأدبية بين الأمم والشعوب المختلفة، واكتشاف أوجه التشابه والاختلاف لديها في الذوق والإبداع، وتتبع المسارات التي انتقلت عن طريقها التأثيرات الأدبية من أمة إلى أخرى في حالة وجودها وإمكان تتبعها، وإذا كانت المدرسة الفرنسية في الأدب المقارن تركز بوجه عام على الصلات التي ثبت وجودها فعلًا بين الأمم والشعوب، فهل هناك ما يمنع أن نمد هذا الاهتمام إلى المستقبل، فنستشرف وجود مثل هذه الصلات أو نعمل على خلقها خلقًا؟ بل هل هناك ما يقطع بعدم وجود علاقة بين عملين أو ظاهرتين أو تيارين أدبيين لم يتضح لنا أنه كانت بينهما يومًا هذه العلاقة؟ لا أظن.
ذلك أن من الممكن جدًّا أن يكون "موليير" على سبيل المثال قد سمع ببخلاء الجاحظ بطريقة أو بأخرى، حين ألف مسرحيته الشهيرة "البخيل"، وأن يكون "لامارتين" على علم بطريقة أو بأخرى بقصيدة المتنبي أو البحتري عن البحيرة، كأن يكون قد سمعها أو سمع أبياتًا منها مترجمة إلى الفرنسية ولو شفويًّا، أو على الأقل سمع بموضوعها أو أسلوبها الفني مجرد سماع من أحد المستشرقين أو العرب، وأن هذا أحد البواعث التي دفعته إلى نظم قصيدته فيها، وبخاصة أنه كان مفتونًا بالشرق العربي، وزار سوريا وفلسطين ولبنان وسجل هذه الرحلة في كتاب من أربعة أجزاء هو "فوياج أونريو"، وتمنى لو بقي في بلاد الأرز -أي: لبنان- طول حياته، بل لقد قيل: إنه ذو أصول عربية، وقد يكون تأثر في نظمه تلك القصيدة بشاعر آخر فرنسي، أو غير فرنسي كان قد تأثر بدوره بإحدى القصيدتين العربيتين، أو بهما معًا.
ربما كان تأثير المتنبي أو البحتري سلبيًّا بمعنى أن الشاعر الفرنسي لم يستحسن الطريقة التي تناول بها الشاعر العربي موضوعه، أو بعض صوره الخيالية أو السياق الذي نظم فيه عمله، أو الجو النفسي الذي سيطر عليه، أو الغرض الذي نظم قصيدته من أجله إلى آخره.
تُرى هل كان هناك قبل "آسيون بلاسيوس"، بل إلى ما بعد وفاة ذلك المستشرق الأسباني بضعة أعوام، مَن كان يعرف أن قصة المعراج قد ترجمت إلى عدة لغات أوروبية منها اللاتينية قبل أن يكتب الدانتي كوميدياه الإلهية؟ لقد تعرض "بلاسيوس" لهجوم شديد ومعارضة عنيفة، عندما طلع على الناس بأن "دانتي" قد تأثر بتلك القصة إلى أن اكتشف أحد المستشرقين بعد رحيله بسنوات خمس لا غير أن تلك القصة قد ترجمت فعلًا قبل وضع "دانتي" عمله المذكور، مما يؤكد أنه قد قرأها قبل إبداعه لذلك العمل، ولنفترض أننا كنا موقنين تمام الإيقان أنه لم تكن هناك قط مثل تلك العلاقة، ولو
على سبيل الاحتمال، أفلا تستحق المقارنة بين الذوقين والأسلوبين، وتقويم العناصر الفنية في الأثرين الأدبيين أن نقوم بمثل تلك المقارنة، على الأقل تنشيطًا لعملية الأخذ والرد بين الأدبين، وتلقيحًا لكل منهما بعناصر القوة والجمال في الآخر، وإغناء لعملية الإبداع والتذوق بهذه الطريقة، ومن ثم قيام صلات أدبية بينهما تخلق خلقًا من هذا السبيل، واستكشافًا للعوامل التي تقف خلف نقاط القوة أو الضعف؟ وهل هي راجعة إلى ظروف المبدع الشخصية أو هي بالأحرى ترجع إلى خصائص البيئة والأمة التي ينتسب إليها؟
أم ترى ينبغي أن ننتظر قيام مثل تلك الصلات أولًا، حتى إذا قامت وتيقنا من قيامها ووقوع التأثير والتأثر بين الطرفين، فعندئذٍ وعندئذٍ فقط يمكننا أن نتقدم ونقوم بعملية المقارنة. أما أنا فأحبذ مبادرة الأمور والعمل على خلق مثل تلك الصلات عن طريق المقارنات الاستباقية هذه، ومن ثم لا أجد أية غضاضة فيما صنعه شفيق جبري مثلًا في مقالاته في مجلة "الثقافة" المصرية، عام ألف وتسعمائة وتسعة وثلاثين ميلادية، من المقارنة النقدية بين بحرية كل من البحتري و"لامرتين" والأخرى، وبين بخلاء الجاحظ وبخيل "موليير"، ولا ما صنعه الدكتور صفاء خلوصي من المقارنة بين البحيرتين العربية والفرنسية، ولا ما صنعه الدكتور عبد الرزاق حميدة في كتابه (الأدب المقارن) حين وازن بين (رسالة الغفران) للمعري و (الكوميديا الإنسانية) لـ"دانتي"، مقارنة جمادية خالصة، فلا حديث عن تأثر أو تأثير بين العملين.
ثم ألا يستحق البحث عن السر في وجود تشابه بين عملين أدبيين دون أن يكون بينهما أية صلة عناء المقارنة بينهما، تأكيدًا بأن هناك ضروبًا بين التشابه بين
البشر على اختلاف بيئاتهم وثقافاتهم وأجناسهم، لقد كان المرحوم محمد غنيمي هلال وأنور لوقا مثلًا من المتشيعين للمنهج الفرنسي في الأدب المقارن، وما زال هناك من يأخذ بوجهة نظر هذه المدرسة لا يرى مما عداها شيئًا، ومنهم الدكتور محمد سعيد جمال الدين، كما يتبدى ذلك في كتابه الأدب (المقارن دراسة تطبيقية في الأدبين العربي والفرنسي)، وهناك على العكس من هذا من يتشيع للمنهج الأمريكي متمثلًا فيما كتبه "رينيه وليك"، الذي وسع دائرة ذلك الحقل، كما تعكسها الفصول الخاصة بهذا الموضوع في كتابه (مفاهيم نقدية).
فلم يقصرها على مجالات التأثير والتأثر، التي تقتضي وجود صلات تاريخية بين طرفي المقاومة، وغالبًا ما يكون التشيع الذي من هذا القبيل مجرد تعصب للمدرسة التي سبقت معرفة الدارس لها أو درس على يد أحد أعلامها مثلًا، والأجدر بنا ألا تكون هجيرانا التعصب لهذا أو لذاك لمجرد التعصب، بل أن نفكر بأنفسنا لأنفسنا مستعينين بما بلغه السابقون من أمتنا، ومن خارج أمتنا، ومجتهدين أن يكون لنا رأينا، وموقفنا المتميز لا لمجرد إثبات الذات، بل لعرض ما نحن مقتنعون به، ومطمئنون إليه مشاركة منا في النشاط الفكري العالمي بحيث لا يكون كل ما نعمله هو ترديدًا لما يقوله الآخرون ونشره.
إن ما يقوله هذا أو ذاك من الباحثين الغربيين ليس قرآنًا مقدسًا ينبغي أن نخر عليه صمًّا وعميًا وبكمًا، بل إن القرآن نفسه لا يطالب البشر بأن يخروا عليه مؤمنين دون تفكير أو إعمال عقل، فما بالنا بنظريات في الأدب والنقد هي من نتاج العقل البشري غير المعصوم، وعلى هذا فإني لا أقصر مجال الأدب المقارن على الأدبين اللذين قد ثبت أن بينهما صلات تاريخية، بل أنادي بتمديده ليشمل دراسة أي أدبين بينهما وجه أو أكثر من وجوه الشبه أو الاختلاف؛ لمعرفة
الأسباب التي تكمن وراء هذا التشابه، أو ذلك الاختلاف، أو على الأقل أوافق على مثل هذا التمديد، كما أرى أيضًا توسيع آفاقه؛ ليشمل مثلًا الموازنة الأدبية بين عملين من أعمالهما، وتحليل كل واحد منهما، ومحاولة التعرف على إلى سر ما بينهما من نواحي المشاكلة والمباينة، والاجتهاد في تذوق كل منهما لتوسيع مجال الاستمتاع الأدبي والنقدي عند الدارس، والقارئ جميعًا.
ومحاولة تقويم كل منهما فنيًّا ومضمونيًّا، والوصول إلى معرفة أي منهما أجمل وأقوى وأشد تأثيرًا من الآخر، ولماذا؟ وذلك من أجل اكتساب نظرة أكثر رحابة وأوسع إنسانية، وأعمق حكمًا وأحرى أن تكون أقوى انفتاحًا على ما عند الآخرين من آثار الخير والجمال والجلال.
ولقد كان المنهج الإيطالي مثلًا في ميدان الأدب المقارن في بداية أمره أواسط القرن التاسع عشر كما يقول الدكتور عطية عامر قائمًا على الموازنات الأدبية، والكشف عن عناصر الاتفاق والاختلاف بين ظواهر الأدب المشتركة، ثم انتهى به التطور إلى أن يكون وسيلة بسيطة من وسائل تاريخ المصادر، أما المدرسة الألمانية فكانت تقصر الأدب المقارن على آداب أوربا الغربية وحدها؛ لبيان الاتفاق والاختلاف في التقاليد الأدبية لأمم ذلك الشطر من العالم، وإن ضم هذا الاتجاه العام عدة أطياف مختلفة، فمن الدارسين من اهتم بدراسة التأثير والتأثر بين هذه الآداب، ومنهم مَن اعتنى ببيان النماذج الأدبية المشتركة بينها، ومنهم مَن قام بدراسة المحتوى الثقافي والعقائدي المتماثل في هذه الآداب، ومنهم من أخذ على عاتقه الكشف عن تناسق الحركة الموسيقية والصوتية في صورها الشعرية إلى آخره.
ثم لدينا المدرسة الأمريكية التي أخذت أولًا بالاتجاه التاريخي، كما هو معروف عند المقارنين الفرنسيين، ثم انتهى به الحال على يد "رينيه وليك" إلى توسيع نظرتها لهذا التخصص، والمناداة بأن يكون الهدف منه إبراز القيم الجمالية وعلاقاتها داخل أدب واحد أو أكثر، والاستعانة في ذلك بالنقد الأدبي أي: أن التركيز هنا على الجانب التذوقي، وبغض النظر عمن هو على صواب أو على خطأ بين أصحاب هذه المناهج، فالمهم الالتفات إلى أنهم في الغرب يجتهدون، ويختلفون ويغيرون مواقفهم وآراءهم، ولا يجدون حرجًا أو غضاضة في هذا، وهو ما نريده لأنفسنا أن نجتهد ولا نظن أن الصواب دائمًا حليف القوم، وأن كل ما ينبغي لنا أن نفعله أو على الأقل أن كل ما يمكننا عمله هو متابعتهم دائمًا على ما يقولون، إذ هم لا يقولون شيئًا واحدًا وللأبد كما رأينا، أنكون ملكيين إذن أشد من الملك نفسه، وأعترف هنا أنني كنت من المرددين لما يقوله جمهور المقارنين الفرنسيين.
ولا أستطيع أن أتصور أن هناك صوابًا آخر لا لشيء، إلا لأنني أنا وزملائي في الدراسات العليا حين بدأنا التعرف على الأدب المقارن في السنة التمهيدية للماجستير في آداب القاهرة عام 70، و71 مع الدكتور شكري عياد قد اعتمدنا على كتب "فانتين" و"جويار" ومحمد غنيمي هلال، فبدا لنا أن هذا هو المنهج السليم وما عداه مناهج متسيبة غير منضبطة، إلا أن هذا كان منذ خمسة وثلاثين عامًا ويزيد، وقد جرت مياه كثيرة من ذلك الحين في النهر، ولم يعد ماء النهر هو ماءه القديم، ولسوف نرى أن فخري أبا السعود مثلًا في مقالاته التي كتبها في الثلاثينيات من القَرْن المُنصرم عن الأدب المقارن، إنما ينطلق من رؤية أفسح وأرحب وأجلى من الرؤية التي تنطلق منها المدرسة الفرنسية بوجه عام، وأنه كما لاحظ الدكتور
عطية عامر قد سبق بصنيعه هذا "رينيه وليك" الأستاذ السابق بالأدب المقارن بالجامعات الأمريكية، وإن لم يعد دكتور طاهر مكي تلك المقالات من الأدب المقارن في شيء أصلًا، رغم إقراره بأنها تتفق مع المنهج الأمريكي على كل حال.
إذ قال: إنها لا تزيد عن أن تكون مجرد ألوان من الموازنات بين موضوعات قد تتشابه أو تختلف عرضًا في الأدبين العربي والإنجليزي، ولعلها جاءت صدى لبعض أفكار المدرسة الأمريكية، التي تجيز شيئًا من هذه الموازنات جاعلًا بهذا للمدرسة الأمريكية السبق على كتبه ناقدنا المصري، على عكس ما يقول الدكتور عطية عامر.
وبالمثل نرى العقاد بما كتبه عن المعري في رجعة أبي العلاء قد انطلق من ذات الرؤية، وإن لم يشِر إلى أنه بصدد كتابة بحث في الأدب المقارن على عكس ما هو مثبت في رءوس مقالات أبي السعود، إذ تخيل أن حكيم المعرة عاد إلى الأرض في زماننا هذا، وأنه كان رفيقه في جولته بالعالم الحديث، وبما يضطرب فيه من فكر وفلسفات ومذاهب، فكان كلما رأى شيئًا يظنه رفيقه الأسوني الجديد عليه سارع هو، فقال: إنه قد سلف أن تحدث عنه في شعره حين قال كذا وكذا، وكأن العقاد يريد أن يقول: إن أبا العلاء كان بعيد النظر، واسع مدارك الفكر والفن والخيال، فسبق بذلك عصره، وإن بين الإنسانية الكثير من الموافقات رغم اختلاف أوطانها وعصورها وأوضاعها الثقافية والاجتماعية، كل هذا دون أن يحاول العقاد التدليل على أنه كانت هناك صلات بين فكر المعري وأصحاب هذه الآراء والاتجاهات السياسية والفلسفية من الأوربيين، بل دون أن يفكر مجرد تفكير في ذلك.
وكان طه حسين في الفصل الخاص بهميروس من كتابه (قادة الفكر)، الذي صدر في منتصف عشرينيات القرن الماضي قد تحدث عن جاهلية رينيه والجاهلية العربية
حديثَ المقارنة، رغم أنه لم يثبت أن ثمة علاقة تاريخية بين الجاهليتين، ورغم أنه لم يقل أيضًا: إنه إزاء دراسة في الأدب المقارن، وهذا إن كان واعيًا أصلًا بوجود مثل ذلك التخصص في تلك المرحلة المبكرة من حياته الفكرية والنقدية، وعلى نفس هذا المنوال قارن الدكتور إبراهيم سلامة في كتابه (التيارات الأدبية في الشرق والغرب، دراسة في الأدب المقارن) بين الأدبين العربي والإغريقي في كل الفنون تقريبًا، حتى ما لم يكن بين الأدبين فيه صلة أو في أقل تقدير لم يثبت أنه كانت هناك بينهما تلك الصلة، كما في فن الملحمة والشعر التعليمي الحكمي.
وعلى نفس المنوال أيضًا ضمن الدكتور جمال الدين الرمادي كتابه (فصول مقارنة بين أدب الشرق والغرب) عددًا من المقالات عن مقارنة هذا الموضوع أو ذاك، بين الأدب العربي وبعض الآداب الأوروبية، فتحدث مثلًا عن فصول السنة الأربعة واحدًا واحدًا، وكذلك عن الليل والقمر والبحر والحرب والموت والظهور والرومانسية وفن القصة والمسرح، في أدبنا وفي أدب الإنجليز وغيره من الآداب الأوروبية أحيانًا، وإمارة الشعر بين شوقي و"دريدن"، وهو من شعراء القرن السابع في بريطانيا، كما قارن بين اللورد "بيرن" وشاعر الغزل الأموي عمر بن أبي ربيعة، سواء في حياتهما الأسرية والشخصية أو في منحاهما الغزلي، وبين خليل مطران و"ألفريد دي موسيه"، وهي فصول شائقة وكاشفة ومثيرة للخيال رغم إيجازها واكتفائها ببعض الخطوط العامة، وعدم وجود صلات معروفة بين الأدبين المذكورين في الموضوعات التي تناولها المؤلف.
بل رغم عدم اهتمامه ونفسه في تحري هذه النقطة أصلًا، ومن شأن هذه الفصول وأشباهها أن تدفع إلى مزيد من الدرس والتعمق والانطلاق إلى آفاق أرحب ودراسات أكثر تفصيلًا وإحاطة، أما بالنسبة للقارئ العام، فإنها ذات قيمة