الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عظيمة؛ لأن مثل هذا القارئ لا يحتاج إلى التعمق والتفصيل، وقد أعدت قراءة بعضها وأنا أكتب هذا الفصل لأجدد عهدي بها ولأكتسب الحساسية المطلوبة الكتابة عنها، إذ لا بد أن يعيش الناقد في الجو الذي يريد أن يتناوله بالكتابة، فوجدتها رغم إيجازها ممتعة مفيدة، فضلًا عما تخلقه في نفس الباحث من الرغبة في متابعة الدرس بغية المزيد من التفصيل والتدقيق والتعمق، ثم إنها فوق هذا كله وقبل هذا كله تساعد على خلق الوعي المقارني بين الجمهور العريض غير المتخصص في الأدب المقارن، وهو هدف جدير بالتنبه له والاجتهاد في توفير العوامل، التي تؤدي إلى بلوغه إذ ليس بالقليل أن نفكر في الارتفاع بالذوق الأدبي، وتوسيع الأفق الثقافي بوجه عام، والمقارنة بين ما عندنا وعند الآخرين لفرز الغث من السمين، والعمل على تنقية ما نملكه، وما نفكر في استعارته أو استلهامه من الأودار والشوائب.
مفهوم الأدب المقارن من خلال الرؤى النقدية
وهاهو ذا الباحث الكوري "سي ون شانج" يقوم بالمقارنة بين أدبه القومي، وأدبنا العربي، فيقر بأنهما وإن تشابها في بعض النقاط لم تقم بينهما يومًا أية صلات، نظرًا للبعد الجغرافي واختلاف السياق الثقافي هنا وهناك، وعلى هذا فهو يقترح استعمال المنهج الأمريكي في هذه المقارنة بين الأدبين؛ نظرًا لأنه هو المنهج الذي يصلح لهذه المهمة.
يقول في مقال له على المشباك عنوانه: إمكانية الدراسة المقارنة في الأدبين العربي والكوري: إن مجال الأدب المقارن أصلًا شاسع وواسع؛ لأنه يمكن أن يتناول أدبين أو أكثر، ولعل مجال الأدب المقارن يتسع أكثر في حالة تناول أدبين ليس
بينهما تأثير وتأثر؛ لذلك فنحن مضطرون في هذا البحث إلى اختيار منهج من مناهج الأدب المقارن نراه مناسبًا للدراسة التي سنقوم بها؛ ولذلك أيضًا تم اختيار نماذج محددة من الأدب العربي والأدب الكوري للتطبيق عليهما، إن موضوع هذا البحث بالتحديد: البحث المقارن في الأدبين العربي والكوري، وستجد المقارنة بين الأدبين بمقابلتهما ببعضهما، واستخراج نطاق التشابه بينهما في الفترة الحديثة ومحاولة إثبات أن هناك شبهًا بين الأدبين في بعض ما يتميزان به من خصائص، مع أن هذا التشابه بين الأدبين قديم، ولا يقتصر وجوده على الفترة الحديثة.
وعليه يمكننا مبدئيًّا القول: إن الأدبين العربي والكوري متشابهان على الرغم من أنهما صورة للآداب غير الأوروبية أولًا، وعلى الرغم من بعد الشقة المكانية بينهما التي يكون من المستحيل معها في تلك الفترة تأثير أحد الأدبين في الآخر ثانيًا.
ربما يعود ذلك إلى تجربتهما المتشابهة تحت الاستعمار في العصر الحديث، ومنهج البحث المقارن التي تقوم عليه الدراسة يقصد دراسته في المقارنة بين الرواية في الأدبين في العصر الحديث، والمنهج الأمريكي في المقارنة الأدبية لا المنهج الفرنسي، إن المنهج المقارن الفرنسي تجري فيه المقارنة بين الآداب التي يرتبط بعضها ببعض على أساس من العلاقة الإخضاعية، وبعبارة أخرى: يذهب مؤيدو هذا المنهج إلى أنه يجب أن يكون هناك مؤثر ومتأثر، وناقل ومنقول عنه حتى تجري عملية المقارنة بين أدبين.
فإذا لم يكن مثل هذه العلاقة أو التأثير موجودًا، فهذا يعني أنه من غير الممكن أن تقام المقابلة بينهما، بينما يدرس المنهج المقارن الأدبي الأمريكي أدبين على الأقل
على أساس من التساوي بينهما، بعيدًا عن علاقة التأثير والتأثر، فيبين نقاط الالتقاء والابتعاد بين المؤلفات، وهذا هو المنهج الذي سنتبعه في الرسالة لعدم وجود علاقات التأثير والتأثر بين الأدبين العربي والكوري، نتيجة عدم وجود اتصال بينهما في تلك الفترة لأسباب جغرافية واجتماعية، على الرغم من تشابههما، ذلك أن الأدب كان في بداية القرن العشرين مهيئًا لوقوع الأدب المحلي الصادق فيه بوصفه أدبًا يحاول الهروب من الغرب وإثبات ذاته.
وعلى العموم أصبحت هذه الوجهة هي وجهة التيارات الأدبية المختلفة؛ لذلك ليس من المستغرب أن تتشابه الآداب في العالم في تلك الفترة، ويمكن أن نقول أيضًا: إننا اتبعنا هذا المنهج في الرسالة؛ لأن هذه رسالة تهدف إلى دراسة أبعاد العالم المتساوي.
انتهى الكلام.
بيد أنني أجد لزامًا علي بعد ذلك كله توضيح بأني لست من أنصار توسيع نطاق الأدب المقارن، بحيث يشمل أيضًا المقارنة بين الأدب وغيره من ألوان الإبداع والمعارف، طبقًا لما ينادي به "رينيه وليك"، وكذلك "إتش إتش رماك"، بل أرى في هذا تمييعًا للأمور، إذ من الواضح أنه لا يوجد في الواقع تجانس بين هذا اللون من الدراسة والمقارنة بين أدبين مختلفين، إننا في الأدب المقارن ندرس وجوه الاختلاف أو الاتفاق أو الصلة بين أدب وأدب، فلنبق داخل دائرة الأدب ولا نوسع الخرق على الراقع، وإلا لم تعد هناك حدود تميز هذا الميدان عن غيره من الميادين، ونحن بطبيعة الحال لا ننكر على أحد أن يدرس ما يشاء، بل كل ما نقوله: هو أننا لا نريد تمييع الحدود، حتى يكون الأدب المقارن شخصيته مثلما لكل علم آخر من العلوم المتصلة الأدب وغير الأدب شخصيته الواضحة المحددة، ولا يتحول لمثل مرقعة الدراويش، التي تتكون من قصاصات قماش متباينة الألوان والأشكال مخيط بعضها إلى بعض.
وعلى هذا، فإن مقارنة العقاد والمازني في شبابهما في عشرينيات القرن البائد مثلًا بين الشعر، وبين الفلسفة والفنون الجميلة على ما فيها من حساسية فنية وعمق في التحليل، وسعة في الأفق لا تعد في رأيي من الأدب المقارن على عكس ما يحاول الدكتور علي شلش أن يصنفها، لقد كان الدكتور شلش بإلماحته إلى العقاد والمازني وغيرهما يرد على كمال أبي ديب في دعواه بأن محاولات تجاوز تحديد الأدب المقارن بدراسة التأثر والتأثير في الغرب غير موجودة في العربية، ومع هذا فقد انتقد الدكتور حسام الخطيب ضآلة الاهتمام بين النقاد العرب بالربط بي الأدب والفنون الأخرى، بما قد يرجح أنه لم يتنبه إليه، ولا ما رد به على بلديه الدكتور كمال أبو ديب.
وقد جاء كلام الدكتور الخطيب في سياق الدعوة إلى انفتاح المقارنين على الفنون والمعارف الأخرى، طبقًا لما يدعو به "وليك" و"رماك" في أمريكا، وإذا كان الشيء بالشيء يذكر فقد يكون من المفيد أن أسجل هنا أنني أصدرت منذ أكثر من سنتين كتابًا بعنوان (التذوق الأدبي)، خصصت فيه فصلًا كاملًا من بضع عشرات من الصفحات للمقابلة بين الأدب والفنون الأخرى من خيانة ونحت وتصوير وكاريكاتير وموسيقى وعمارة، سواء من ناحية الوسائل التي يتذرع بها كل من الطرفين في التعبير عما يريد، أو من ناحية قوة التأثير والإمكانات التعبيرية التي يوفرها، ومع هذا لم يخطر ببالي قط أن أعد ما فعلته من الأدب المقارن في شيء، بل لست أجد في نفسي مطاوعة لهذا التصنيف، وأرى من الأوفق وضعه في خانة التذوق الأدبي كما عنونته، أو ربما يمكن إدخاله باب نظرية الأدب إن كان لا بد من البحث له عن ميدان آخر.
وأرى أن الدكتور حسام الخطيب وغيره من المقارنين على الحق في قلقهم على مستقبل الأدب المقارن من هذه الناحية، إذ ينادي في مقال له بالمشباك عنوانه:
الأدب المقارن في عصر العولمة تساؤلات باتجاه المستقبل بوجوب حل مشكلة التسارع في توسع الأدب المقارن من ناحية المقارنة المعرفية، مع مختلف العلوم والفنون إلى درجة اهتزاز بؤرة الارتكاز فيه، وصعوبة حصوله على الاعتراف الفكري، والقوة المؤسسية في الإطار المعرفي العام، وينتج عن ذلك عادة تقذير أقسام أو برامج الأدب المقارن مقابل ما تتمتع به الآداب القومية من قوة ومكانة.
هذا، وقد وقف الدكتور طاهر مكي بشيء من الأناة عند مصطلح القومية، الذي يدخل في تعريف الأدب المقارن في قولنا: إن الأدب المقارن يقوم على المقابلة بين الآداب القومية المختلفة محاولًا أن يستكشف أبعاد هذا المصطلح، وما يمكن أن يثيره من مشكلات، وأطال وأجاد لكنه في نهاية المطاف ترك الأمر دون حسم، لقد تساءل قائلًا: ماذا نفهم من مصطلح أدب قومي؟ ما الحدود التي إذا تعديناها جاز لنا أن نتحدث عن أدب أجنبي وعن تأثر به، أو تأثير فيه؟ هل يقوم التحديد على أسس سياسية وتاريخية؟ أو على أسس لُغوية خالصة؟ ليجيب: بأنه بعد تأمل جاد يمكن القول: إن الاحتمال الثاني أقرب قربًا، وأدق منهجيةً، وأسهل تطبيقًا؛ لأن الحدود اللغوية كانت على امتداد التاريخ أكثر ثباتًا، وأقل تقلبًا مدًّا وجذرًا من الحدود السياسية.
ثم ضرب مثالًا من ألمانيا التي كان كيانًا سياسيًّا واحدًا إلى نهاية الحرب العالمية الثانية، ثم قسمت إلى دولتين بعدها، لكنهما ظلتَا مع هذا تتكلمان لغة واحدة، ومن ثم لا يمكن أن نقارن بين أدبهما بمفهوم الأدب المقارن.
إلا أنه برغم ذلك لم يتوقف عند هذه النتيجة، بل استمر يستعرض أوضاعًا أخرى تختلف عن وضع الألمانتين، منها مثلًا وضع الجزائريين الذين يكتبون أدبهم باللغة الفرنسية رغم أنهم ليسوا فرنسيين، ومنها وضع الهنود الذين
يكتبون أدبهم باللغة الإنجليزية رغم أنهم ليسوا إنجليزًا، ومنها وضع الأدباء الأمريكيين فهم يكتبون أدبهم بالإنجليزية رغم أنهم ليسوا إنجليزًا، وكذلك معظم أدباء أمريكا اللاتينية فهم يكتبون أدبهم باللغة الإسبانية رغم أنهم ليسوا إسبانًا.
ومنها أيضًا وضع الأدباء الكنديين الذين يستخدمون اللغة الإنجليزية، وهي ليست اللغة الوحيدة التي يتحدثها أو يكتب بها الكنديون، بل تشركها في ذلك اللغة الفرنسية، ومثلهم الأدباء السويسريون الذين لا يكتبون أدبهم بلغة واحدة بل بلغات ثلاث هي: الفرنسية والألمانية والإيطالية وهكذا.
وأشير هنا إلى أن عددًا من الباحثين الأمريكيين يرى أن الأدب الأمريكي والأدب الإنجليزي ليسَا أدبًا واحدًا، بل أدبين مختلفين؛ لأننا بصدد أمتين متباينتين ثقافيًّا ومن ثم أدبيًّا.
والدكتور طاهر مكي بهذا، وإن بدأ بجعل اللغة هي الفيصل في تحديد الهوية القومية، وهو ما قاله قبلًا الدكتور محمد غنيمي هلال الذي يؤكد: أن الحدود الأصيلة بين الآداب القومية هي اللغات، فالكاتب أو الشاعر إذا كتب بالعربية عَدَدْنَا أدبه عربيًّا مهما كان جنسه البشري، الذي انحدر منه وما زال يقول به كذلك المقارنون العرب عمومًا، كالدكتور محمد سعيد جمال الدين مثلًا، الذي يقرر ما قرره المرحوم هلال من أن الحدود الأصلية بين الآداب القومية هي اللغات، فالكاتب أو الشاعر إذا كتب بالعربية عددنا أدبه عربيًّا مهما كان جنسه البشري الذي انحدر منه؛ ولذلك يعد ما كتبه المؤلفون الفرس الذين دونوا مدوناتهم ومؤثراتهم باللغة العربية داخلًا في دائرة الأدب العربي لا الفارسي.
أقول: إن الدكتور الطاهر مكي بهذا قد عاد فتركنا في حيرة من أمرنا، بل ربما في عماية منه حين أثار المشكلات السالفة الذكر دون أن يجيب على الأسئلة الشائكة
التي طرحها. إن الأدباء العرب على سبيل المثال الذين يصطنعون في إبداعهم لغة القرآن، لا يمثلون -فيما أتصور- أدنى مشكلة في تطابق اللغة والقومية، فنحن كلنا ندين بدين واحد ونصطنع لغة واحدة في كتابتنا، وفي حياتنا اليومية على السواء، بل إن الأقليات التي لها لغة أخرى إلى جانب العربية تتكلم هي أيضًا لغة يعرب، فضلًا عن أن التاريخ القريب والبعيد واحد أو متشابه على الأقل، وبالمثل فإن العادات والتقاليد هي أيضًا واحدة إن لم يكن من أجل شيء، فمن أجل أنها في معظمها مستمدة من الإسلام، كما أننا نعيش في منطقة واحدة متلاصقين لا متقاربين فقط، إلى جانب أننا جميعًا نتطلع إلى أن تكون بيننا في يوم من الأيام وحدة تجمعنا وتقوينا، وتكفل لنا الاحترام الدولي مثلما كان الحال من قبل، حين كانت هناك دولة واحدة أو عدة دول تخضع ولو خضوعًا اسميًّا لخليفة واحد.
وفوق كل ذلك فإن الإسلام الذي ندين به يدعونا، ويلحف في الدعاء إلى أن نعتصم بالتعاون والتساند والتواصل والأخوة الدينية، وأن نبتعد عن أي شيء يمكن أن يهدد هذه الوحدة أو يلحق بها الضرر، ونحن -بحمد الله- ما زلنا نستمسك بديننا رغم وجود أقلية دينية هنا أو جماعة تختلف في اتجاهاتها الفكرية أو السياسية عن التيار العام الهادر هناك، مما لا يمكن أن يخلو منه أي بلد؛ لأن النقاء مستحيل، وبخاصة في هذا العصر الذي زاد فيه تجاور الاتجاهات الثقافية، وتعايش الديانات داخل حدود الوطن الواحد.
هذا عن الأدباء العرب الذين يعيشون في الوطن العربي، ويبدعون أدبهم باللغة العربية لكن ماذا عن العرب الذين يعيشون في أمريكا مثلًا، ويكتبون أدبهم باللغة الإنجليزية؟ أو في فرنسا، ويكتبون أدبهم باللغة الفرنسية؟ وماذا عن الكرد الذين
يعيشون في العراق مثلًا، ويبدعون أدبهم باللغة الكردية؟ أو البربر الذين يعيشون في بلاد المغرب العربي، ويكتبون أدبهم بالأمازيغية؟ وماذا عن الفرس الذين يكتبون أدبهم باللغة العربية؟ إن المسألة في كل حالة من هذه الحالات تحتاج إلى تأن في التحليل ومرونة في التفكير، وربما لم نصل بعد ذلك كله إلى حل مرض، إذ دائمًا ما توجد على الحدود الفاصلة بين المفاهيم والمبادئ حالات تشكل علامة استفهام وقلق، ولا يصل الباحث بشأنها إلى شيء حاسم.
فأما في حالة الكرد الذين يكتبون أدبهم باللغة الكردية، فأرى أن يطلق على ما يكتبون الأدب الكردي، حيث تتطابق في حالتهم اللغة والعرق، ومثلهم في ذلك البربر الذين يكتبون أدبهم بالأمازيغية، فيسمى هذا بالأدب الأمازيغي، لكن الأمر يختلف في حالة العرب الذين يعيشون في فرنسا ويصطنعون لآدابهم الفرنسية، ولكنهم لا يكتبون إلا عن بلادهم الأولى، ومشاكل المجتمعات التي وفدوا منها، ولا ينتمون إلى القومية الفرنسية ولا يشعرون من الناحية السياسية أنهم فرنسيون حتى لو تجنسوا بالفرنسية.
والدليل على هذا أن أعمالهم إنما تتناول أوطانهم وأوضاع شعوبهم التي نزحوا منها، سواء كان ذلك النزوح نزوحًا أبديًّا أو مؤقتًا، إن العبرة هنا بمضمون الأدب وروحه وطعمه وتوجهاته واهتماماته، وعلى هذا نقول عن ذلك اللون من الكتابة: إنه أدب عربي مكتوب بالفرنسية، وهذا الأدب يمكن أن يكون محل دراسة مقارنة مع الأدب الفرنسي، ولكن من ناحية أخرى هدفها التعرف إلى مدى اختلاف أسلوب الكاتب عن الأسلوب الفرنسي الأصيل، أو اتفاقه معه في نكهته ومفرداته وتراكيبه وعباراته وصوره، ومثله ما يكتبه الأدباء الهنود أو أدباء جنوب أفريقيا في بلادهم بالإنجليزية، إذ إن أعمالهم في هذه الحالة إنما ترتبط
ببلادهم، ومجتمعاتها، وتاريخها، وتطلعاتها ومشاكلها، وعاداتها، وتقاليدها، وأديانها، وحياتها اليومية لا ببلاد "جون بول".
ولكن إذا كان الأديب من هذا النوع يعيش في فرنسا مثلًا أو بريطانيا، واندمج اندماجًا تامًّا في الوسط الجديد، وأضحى يعتنق ما يعتنقه أصحاب ذلك الوسط ويردد آراءهم، ويتخذ مواقفهم، وينطلق من رؤيتهم الحضارية والقومية، وينصبغ بصبغتهم الاجتماعية، ونسي وطنه وقوميته القديمة ولم يعد يهتم بمشكلات الأمة، التي كان ينتسب إليها من قبل إلى آخره، فعندئذٍ فالمنطق يقتضي إلحاقه بالأدب الذي يصطنع لغته إذن.
أما أمريكا التي يُدرس أدبها عادةً على أنه جزء من الأدب الإنجليزي، فهناك من باحثيها كما رأينا مَن يناضل ضد الفكرة القائلة: بأن ما يكتبه الأمريكان والإنجليز هو أدب واحد؛ لأننا بصدد أمتين متباينتين سلكتَا منذ القرن التاسع عشر طريقًا ثقافيًّا، وبالتالي أدبيًّا متباعدًا تمامًا، ويرون أن إنتاجهم الأدبي يدخل في مجال الأدب المقارن على الرغم من أنهما مكتوبان باللغة نفسها، ولا شك أن أمامنا في هذه الحالة قوميتين مختلفتين لا تتطلعان إلى قيم واحدة بينهما، إن لم يكن بسبب أي شأن آخر، فبسبب المسافة الشاسعة التي تفصل بين الشعبين، كما أن بينهما تاريخًا من الصراع والحروب فضلًا عن اختلاف مضمون الأدبين وروحيهما، واهتمامات كل منهما، وطعمه مما عليه المعول الأكبر في مثل هذا التمييز كما قلنا من قبل.
ومثل أمريكا في ذلك الأمر القارة الأسترالية.
باختصار نخرج من هذا: بأنه في حالة تطابق اللغة والقومية أو الوطن، فحينئذٍ فلا مشكلة أما إذا كان ثمة تعارض فالعبرة بالشعور القومي للكاتب، واتجاهاته وهمومه، وبمضمون العمل الإبداعي والروحي، لكن هل تراني قلت الكلمة الفصل في هذا السبيل؟ لا أظن. بل هي مجرد وجهة نظر ينبغي أن تُدرس وتحلل، وتبدى فيها الآراء وهذا كل ما أستطيع أن أقوله ولا أزيد.