المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

هي في كل زمان ومكان لا تتغير، والعقل هو الذي - الأدب المقارن - جامعة المدينة (ماجستير)

[جامعة المدينة العالمية]

فهرس الكتاب

- ‌الدرس: 1 مفهوم الأدب المقارن من خلال المعالم التاريخية والرؤى النقدية

- ‌نشأة مفهوم الأدب المقارن، وما يشمله

- ‌مفهوم الأدب المقارن من خلال الرؤى النقدية

- ‌هل يعد نشوء علم الأدب المقارن في القرن التاسع عشر مفارقةً

- ‌الدرس: 2 بحوث الأدب المقارن ومجالاته

- ‌(بحوث الأدب المقارن

- ‌دراسة جوانب التأثر والتأثير في النماذج الاجتماعية والإنسانية

- ‌الشروط التي يجب توافرها فيمن يبحث في الأدب المقارن

- ‌موضوع الترجمة والمترجمين وكتب الرحلات في الأدب المقارن

- ‌الدرس: 3 العلاقات الأدبية العالمية ظاهرة تاريخية

- ‌معنى العالمية، وارتباطها بالأدب المقارن

- ‌ما ينبغي أن يصنعه المقارن الأدبي في ضوء الاعتبارات

- ‌خصوصية الأدب القومي، وعلاقة ذلك بالأدب المقارن

- ‌الشعر والقصص

- ‌الدرس: 4 مباحث ومشكلات في ساحة الأدب المقارن في العالم العربي

- ‌دراسة كتاب (الأدب المقارن من منظور الأدب العربي مقدمة وتطبيق)

- ‌طول القصائد وقصرها بين الشعر العربي ونظيره الفارسي

- ‌التأثر والتأثير الذي تشترطه المدرسة الفرنسية في الأدب المقارن

- ‌الدرس: 5 الأجناس الأدبية وتبادل التأثير والتأثر فيها عبر الآداب العالمية

- ‌تعريف الملحمة، وملحمة المهابهاراتا الهندية

- ‌ملحمة "الإلياذة" وملحمة "الأوديسا

- ‌ملحمة (الإنياذة) وملحمة (الكوميديا الإلهية) و (رسالة الغفران)

- ‌هل يوجد في الأدب العربي ما يسمى بالملاحم

- ‌الدرس: 6 الأجناس الأدبية وتبادل التأثير والتأثر فيها عبر الآداب العالمية

- ‌التعريف بأحمد شوقي، وبمسرحياته، وتحليلها

- ‌مآخذ النقاد على إبداعات شوقي

- ‌الدرس: 7 مسرحية كليوباترا بين شوقي والآداب العالمية

- ‌قصة مسرحية كيلوباترا، وظروف تأليف شوقي لها

- ‌(مسرحية كيلوباترا) بين شكسبير وأحمد شوقي

- ‌الدرس: 8 ليلى والمجنون بين الأدبين العربي والفارسي

- ‌ليلى والمجنون في الأدب العربي

- ‌ليلى والمجنون في الأدب الفارسي

- ‌ليلى والمجنون في الآداب الإسلامية الأخرى

- ‌الدرس: 9 عزيز أباظة ومسرحه الشعري

- ‌حياة عزيز أباظة، وما ألفه من مسرحيات

- ‌مسرح عزيز أباظة الشعري، وآراء النقاد في مسرحياته

- ‌المقارنة بين مسرحية أباظة وما يناظرها في المسرح الأوربي

- ‌الدرس: 10 قصص الحيوان

- ‌مفهوم قصة الحيوان

- ‌كتاب (كليلة ودمنة) وأثره في الأدب العربي والآداب العالمية

- ‌جهد لافونتين في فن الخرافة، وصياغة أحمد شوقي لقصص الخرافات

- ‌الدرس: 11 أجناس الأدب النثرية

- ‌القصة، والملحمة

- ‌المقامة، وتأثيرها في الأدب الأوربي

- ‌الدرس: 12 تأثير (رسالة الغفران) و (التوابع والزوابع) و (حي بن يقظان) في الأدب العالمي

- ‌تأثير (رسالة الغفران)، ورسالة (التوابع والزوابع)

- ‌قصة (حي بن يقظان) وتأثيرها في الأدب العالمي

- ‌أوجه الاتفاق والتباين بين قصة (حي بن يقظان)، و (روبنسون كروزو)

- ‌الدرس: 13 التاريخ ذو الطابع الأدبي

- ‌تعريف علم التاريخ، وأهم الأمور التي يهتم بها

- ‌منهج كتابة التاريخ الإسلامي

- ‌الدرس: 14 الصياغة الفنية التابعة للأجناس الأدبية

- ‌الصياغة الفنية للموشحات والأزجال

- ‌التأثيرات الأسلوبية بين الآداب العالمية وأهميتها في الدراسات الأدبية المقارنة

- ‌الدرس: 15 المواقف الأدبية

- ‌تعريف مصطلح "موقف" لغة واصطلاحًا

- ‌مثال في باب الموازنات الأدبية لا المقارنات، للتمييز بين الموقف والموضوع

- ‌الدكتور محمد غنيمي هلال يوضح معنى الموقف بصورة أوسع

- ‌خلاصة الموضوع عند غنيمي هلال في كتابه (الأدب المقارن)

- ‌الدرس: 16 المواقف الأدبية في مسرحيات "عطيل" و"عدو الشعب" و"فاوس" و"أديب

- ‌المواقف الأدبية في مسرحيتي "عطيل" و"عدو الشعب

- ‌المواقف الأدبية في مسرحيتي "فوست" و"أوديب

- ‌الدرس: 17 النماذج الأدبية

- ‌تعريف النموذج لغةً واصطلاحًا

- ‌بعض النماذج الإنسانية المستمدة من الأدب العربي

- ‌الدرس: 18 بعض النماذج الإنسانية العربية

- ‌شخصية عنترة العبسي

- ‌شخصية مجنون ليلى

- ‌الدرس: 19 تصوير الآداب القومية للبلاد والشعوب

- ‌أمثلة تأثر الآداب المختلفة بعضها ببعض، مع توضيح عوامل التأتثر

- ‌دور الأدب في تسجيل مشاعر الأمة وآرائها

- ‌الدرس: 20 المصادر واتصالها بالأدب المقارن

- ‌النواحي الشخصية للكاتب، واكتشاف عناصر مقوماته وتكوينه

- ‌تتعدد أنواع البحوث في المصادر على حسب موضوعاتها

- ‌البحث عن مصادر الكاتب في الآداب المختلفة، وأمثلة على ذلك

- ‌تأثر أدب شعب ما بأدب آخر أو بالآداب الأخرى مجتمعة

- ‌الدرس: 21 المذاهب الأدبية بين الشرق والغرب - دراسة مقارنة

- ‌الكلاسيكية

- ‌الرومانسية

- ‌الواقعية

- ‌الرمزية

- ‌السريالية

- ‌الدرس: 22 الصلة بين الأدب العربي والآداب الأخرى

- ‌جنس الملحمة

- ‌فن المقامة

- ‌ألف ليلة وليلة والموشحات

- ‌الشعر الغنائي

- ‌بعض مظاهر التأثير والتأثر بين كل من الأدب العربي والآداب الأخرى

الفصل: هي في كل زمان ومكان لا تتغير، والعقل هو الذي

هي في كل زمان ومكان لا تتغير، والعقل هو الذي يحدد رسالة الشاعر الاجتماعية ويعززه القواعد الفنية الأخرى، وهو عماد الخضوع للقواعد عامة، ثم إنه هو الذي يوحد بين المتعة والمنفعة، ولا يصح أن يحاكى الأقدمون إلا بقدر إتباعهم للعقل، والعقل عند الكلاسيكيين يرادف الذوق السليم والحكم السليم، ومن هذه الناحية اتخذوه وسيلة لتثبيت دعائم التقاليد والقواعد المقررة، وهم يعارضونه بالذوق الفردي ويفضلون العقل عليه لأنه ثابت غير متغير؛ إذ أساس الجمال في الأدب أن يكون صالحًا لكل زمان ومكان، وهم يترجمون العقل في النقد بخلق الجماهير التي يتوجه إليها الشاعر وبعاداتها، وهذا هو معنى التطابق بين العقل وما سموه الذوق السليم أو مراعاة ما يليق.

وجمهور الكلاسيكيين محدودٌ أرستقراطي، وليس أدب الكلاسيكيين أدبًا شعبيًّا، وحتى في (الملهاة) كان يقصد الكلاسيكيون إلى إرضاء السادة قبل الأرجوازيين وقبل سواد الناس، وهم يصرحون بأنه لا يتوجهون إلا إلى الخبراء بمهنة ربات الفنون، وفي ظل القواعد الكلاسيكية راج الشعر المسرحي وضعف الشعر الغنائي وانمحت الذاتية تحت سلطان المجتمع الإرستقراطي، وقد ساعد أدبهم على دعم القيم والتقاليد السائدة.

‌الرومانسية

أما الرومانسية: فهي اتجاهٌ في الفنون الجميلة والأدب يركز على العاطفة أكثر من العقل وعلى الخيال والبديهة أكثر من المنطق، ويميل الرومانسيون إلى حرية التعبير عن المشاعر أكثر من التحفظ والترتيب، وقد أظهر الفنانون والكتاب على مر العصور اتجاهات رومانسية، غير أن تعبير الحركة الرومانسية يشير عادة إلى الفترة التي بدأت من أواخر القرن الثامن عشر الميلادي إلى منتصف القرن التاسع عشر الميلادي.

ص: 572

وتلح الرومانسية على حرية الفرد، ولا تؤيد الأعراف الاجتماعية المقيدة ولا الحكم السياسي المستبد الظالم، وفي مجال الأدب يكون البطل الرومانسي عادة رجلا ثائرا وإذبان الحركة الرومانية لم يكن أغلب الكتاب راضين عن عالمهم؛ حيث كان يبدو لهم عالمًا تجاريًّا جامدًا وغير إنساني، وللهروب من الحياة الحديثة حوّل الرومانسيون اهتمامهم إلى أماكن بعيدة وخيالية، فاتجهوا نحو القرون الوسطى وإلى الفنون الشعبية والأساطير وإلى الطبيعة وعامة الناس، ويظهر في أعمال الشاعر الإنجليزي ويليم ويلز ويرث الكثير من السمات الرومانسية البحتة؛ إذ كان يفضل الذهن الخالي المستغرق في التأمل على البحث الدءوب عن المعرفة العلمية، وكان يرى أن الإنسان يتعلم من اندماجه مع الطبيعة أو الحديث مع أهل الريف أكثر مما يتعلم من قراءة الكتب، وكان يرى أيضًا أن الانسجام مع الطبيعة مصدر الفضيلة والحقيقة.

إن الرومانسية ذلك المذهب الأدبي الذي أخذ يظهر في أوروبا بعد قرن ونصف من ظهور الكلاسيكية، ولم تكن الرومانسية في الواقع ثورة على الآداب الإغريقية واللاتينية والكلاسيكية فحسب، بل كانت كذلك ثورة على جميع القيود الفنية المتوارثة التي حدّت من التطور الأدبي وحيويته، كانت ترمي إلى التخلص من كل الأصول والقيود التي أثقلت الأدب الكلاسيكي؛ لتطلق العبقرية البشرية على سجيتها دون ضابط لها سوى هدي السليقة وإحساس الطبع، وهناك قصيدة للشاعر الفرنسي ألفريد ديموسيه أجمع النفاد على أنها من روائع الرومانسية وعنوانها (ليلة أكتوبر) وتجري على صورة حوار بينها وبين ربة الشعر حول تجربة حقيقية عاشها الشاعر بكل أبعادها في حبه للكاتبة الفرنسية جورج صاند التي سافر معها إلى مدينة البندقية بإيطاليا؛ حيث سقط مريضًا

ص: 573

فعاده طبيب إيطالي وقعت جورج صاند في حبه وهجرت موسيه ليعود وحده إلى باريس كسير القلب، وفي خلال تلك المحنة أتته ربة الشعر فجرى بينهما الحوار التالي الذي أورده الدكتور محمد مندور في كتابه (فن الشعر):

الشاعر: لقد تبدد الألم الذي أضناني كما تتبدد الأحلام حتى لا تشبه ذكراه البعيدة ما يبعث الفجر من ضباب خفيف يتطاير وندى الصباح

ربة الشعر: ما بك إذًا يا شاعري، ما هذا الألم الخفي الذي أقصاك عني حتى ما أزال أشقى به، ما هذا الألم الذي خفي عني وإن طالما أبكاني

الشاعر: كان ألمًا مبتذلا مما يصيب الجميع، ولكننا نحسب دائمًا لخبرنا الجدير بالرحمة أن ما يتسرب إلى قلوبنا من ألم لم يتسرب مثله إلى قلب أحد سوانا

ربة الشعر: لا، ما في الألم من مبتذل إلا ألم نفس مبتذلة، دعْ عزيزي هذا السر ينطلق من فؤادك، افتح لي نفسك، وتكلم واثقًا من أمانتك فإن الصمت أخ للموت، ولكم شكى متألم ألمه فتعزى عنه، ولكم نجى القول قائله من وخزات الضمير.

الشاعر: إذا كان لا بد من الكلام عن ألمي، فو الله لا أدري بأي اسم أسميه، أكان حبًّا أم جنونًا أم كبرياء أم محنة، وما أدري من سيفيد من سماعه وأنا بعد قاصٌّ عليك نبأه، وقد خلونا إلى أنفسنا في جلستنا هذه إلى جوار الموقد، خذي قيصارتكِ وتعالي إلى جانبي ثم أيقظي ذكرياتي بعذب نغماتك.

ولا شك أن ذلك المعاني الذاتية لا تلاءم إلا الشعر الغنائي؛ حيث يجد فيه الشعر المنطلق الرحيب، إلا أن الرومانسيين لا يقتصروا على الشعر الغنائي فحسب، وإنما كانت لهم مشاركات في الأدب الموضوعي، وبخاصة الأدب التمثيلي، وبرزت في هذا الأدب أسماء لامعة وكانت مسرحياتهم روائع خارزة في المذهب

ص: 574

الرومانسي من أمثال ديموسيه وفيكتور هيجو الذي قام بترجمة مسرحية ويليم شكسبير إلى الفرنسية وأخذ في دراستها واستنباط خصائصها ومهاجمة الكلاسيكية خلال تلك الدراسة كما في مقدمة مسرحيات كرومويل التي هاجم فيها وحدة الزمان والمكان في المسرحية عند الكلاسيكيين؛ إذ المقصود من وحدة الزمان جعل المسرحية مشاكلة للحياة وكأنها صورة منها؛ ومن الأجدر إذا كان ذلك كذلك أن تحدد بساعتين أو ثلاث وهو الزمن الذي يستغرقه تمثيل المسرحية لا بأربع وعشرين ساعة، كما هاجم مبدأ فصل الأنواع الذي يقتضي في المسرحية الكلاسيكية عدم اجتماع مشاهد المأساة إلى جوار مشاهد الملهاة في المسرحية متحججًا بأن هذا المبدأ لا وجوه له في واقع الحياة؛ إذ الحياة كثيرًا ما تنقلب من جد إلى هزل ومن هزل إلى جد، وتنقلب معه عواطف الناس ومشاعرهم تبعًا لها الانقلاب.

وكان الأدب العربي الحديث له أيضًا حظه ونصيبه من الرومانسية التي على أساسها قام فيه عدد من المدارس الأدبية كمدرسة الديوان ومدرسة أبولو ومدرسة المهجر، بل إن مدرسة الديوان ممثلة في زعمائها الثلاثة "العقاد والمازني وعبد الرحمن شكري" قد صدرت في نقدها لمسرحيات شوقي وشعره ونثر المنفلوطي عن الرومانسية ومبادئها وتعاليمها، متأثرة في ذلك بالرومانسية الإنجليزية، وتحت رايات هذه المدارس الأدبية في أدبنا العربي الحديث سطعت نجوم في سماء الشعر الرقيق الحالم من الأستاذ الدكتور إبراهيم ناجي وعلي محمود طه وأبو القاسم الشابي وعمر أبو ريشة وصالح جودت وميخائيل نعيمة، ومن قبل هؤلاء جميعا خليل مطران، حسبما جاء في مادة الرومانسية في (الموسوعة العربية

ص: 575

العالمية) وفي كتاب (الأدب ومذاهبه في الأدب والنقد) للدكتور محمد مندور وفي كتاب (الرومانتيكية) للدكتور محمد غنيمي هلال.

هذا في الشعر، أما في ميدان القصص فعندنا مصطفى لطفي المنفلوطي وجبران خليل جبران وإبراهيم المازني وطه حسين وكرم ملحم كرم ومحمد عبد الحليم عبد الله ويوسف السباعي، وكانت الرومانسية هي صرعة العصر في وقت من الأوقات، قبل أن تترك الساحة للواقعية عند انتشار الفكر اليساري في البلاد العربية، وبخاصة بعد اتخاذ ثورة يوليو المصرية الخط الاشتراكي سياسة لها.

وبرغم خلو آدابنا القديمة من الرومانسية مذهبًا يتخذه الأدباء عن وعي وقصد تبعًا لفلسفة يعتنقونها وظروف تدفع جموعهم إليها كما هو الحال في تاريخ الآداب الأوروبية، فمن السهل على من لديه معرفة بتاريخ الشعر العربي بالقديم أن يمدّ يد إلى أي عصر أدبي بدءً من العصر الجاهلي ذاته، فيقتطف بكل سهولة باقةً من الشعر الفوّاح بعبق الرومانسية.

أليست الرومانسية في جانب من جوانبها ثورة على العقل وسلطانه وعلى الأصول والقواعد السائدة في الكلاسيكية والاجتهاد في تقليدها ومحاكاتها؟

أليس الأدب الكلاسيكي هو أدب العقل والصنعة الماهرة وجمال الشكل والمواضيع الإنسانية العامة واتباع الأصول الفنية القديمة، ثم جاءت الرومانسية لتشيد بأدب العاطفة والحزن والألم والخيال والتمرد الوجداني والفرار من الواقع والتخلص من استعباد الأصول التقليدية للأدب؟

ألم يظهر الفنانون والأدباء على مر العصور اتجاهاتهم الرومانسية رغم أن مصطلح الحركة الرومانسية يشير عادة إلى الفترة التي بدأت في أوروبا من أواخر القرن الثامن عشر الميلادي إلى منتصف القرن التاسع عشر الميلادي؟

ص: 576

فلنأخذ مثلًا قصيدة "عبد يغوث" التي نظمها وقد وقع أسيرًا في يد أعداء قبيلته، فقيدوه وشدوا لسانه بنسعة كي لا يقول شعرًا في هجائهم فيفضحهم بين القبائل، وأسروا على أن يقتلوه بفارس من فرسانهم سقط في معركة دارت رحاها بينها وبين قبيلة الشاعر الذي كان قائدًا قومه أو واحدًا من كبار قادتهم، ففي هذه القصيدة يسود جو من الأسى والألم وترفرف راية الموت السوداء وتنثال الذكريات على الشاعر حزينة تلذّع قلبه تلذيعًا، وبخاصة بعدما تبين له أنه لا فائدة ترجى من المفاوضات إلتي حاول أن يديرها بينه وبين آسريه عارضًا فيها دفع ما يريدون من دية حتى لو استغرقت ماله كله وتركته حريبًا -أي فقيرًا فقرًا مدقعًا لا يملك شرو نقير-.

أليس هذه القصيدة تخلو من نهج القصيدة التي ذكر ابن قتيبة أنه واجب الاتباع بحذافيره من بدئها بالوقوف على الأطلال ثم التثنية بركوب البعير والانطلاق في رحلة الصحراء والتثليث بوصف كل ما يمر به الشاعر في رحلته تلك التي أمضى فيها بعيره وأرهق نفسه وصفًا لا بد من التزامه التزامًا صارمًا، دون أي خروج عنه في اشد التفاصيل دقة، تُرى أي فرق بين تلك القصيدة وبين أية قصيدة رومانسية مما نعرف من شعر العصر الحديث، وبحق يكتب أحدهم في بعض المنتديات المشباكية قائلًا:

قريبة إلى نفسي هذه الياء التي اختتمت بها قصيدة عبد يغوث بن وقاص تجربة الشاعر الجاهلي اليمني عبد يغوث كانت عند هزيمة قومه حينما يجره سوء حظه إلى أن يقع أسيرًا في صفوف أعدائه بعد أن كان قائدا لقومه مذحج، ويحاول الأسير أن يفدي نفسه ولكن أني له ذلك وقد تمادت تميم في حرصها عليه بل أبت إلا قتله بالنعمان بن جساس قتيلهم في يوم القلاب الثاني، وهو موضع أسر عبد يغوث بن وقاص الحارثي، ولم يكن عبد يغوث قاتله، ولكن تميمًا تنتهي بالرأي

ص: 577

إلى إجماع الرغبة على قتله كفارس مذكور في قومه وشاعر ذائع الصيت بينهم، وكانوا قد شدوا لسانه لئلا يقدم على هجائهم أو التعريض بهم أو رصد مثالبهم، ولما ذاق الفارس الأسير أنه مقتول لا محالة طلب إليهم أن يطلقوا لسانه لعله يذم أصحابه. ممن تركوه وغدروا به أو لعله يرثي نفسه قبل موته، كما طلب منهم أن يختاروا له قتلة كريمة تليق بمكانته وفروسيته، فأجابوه إلى رغبته وسقوه الخمر وقطعوا له عرقًا يقال له الأكحل، وتركوه ينزف حتى مات، ويقال: أنه نظم يائيته المشهورة وقد جُهّز للقتل، فراح من خلالها يحكي قصة ألمه إزاء ما كان من قومه وقد تركوه حين هزموا ولو شاء الفرار لسهل عليه أمره، ولنجا من مأزق أسره، ولكنه آثر الثبات من أجل حماية قومه، فإذا به في موقف لا يحسد عليه بين مهادنة ومذلة يترجمها موقف نساء تميم منه وهن يهزأن به ويسخرن منه ويراودنه عن نفسه.

وهناك كذلك رثاء الخنساء لصخر أخيها ذلك الرثاء التي وقفت حياتها كلها عليه، لا تريد أن تتوقف أبدًا عنه رغم تمادي الزمن، ومنه كذلك أشعار العذريين وكثير عزى، المفعمة بالحرمان والعذاب والعكوف على المشاعر الباطنية يجترها الشاعر في ألم لا يعدله ألم صارخًا حيث لا يسمع صريخه ولا يمد يده إليه أحد، ولا ننسى مثلا أبيات ابن خفاجة في وصف الجبل المتوحد في قلب الصحراء؛ حيث لجأ إليه ذات ليلة ومد أذنه ليسمع الكثير من أخبار ماضيه وما مر به من أحداث وناس ومفارقات، فسمع حديثًا عجبًا، أو أبيات البحتري في وصف الربيع وهو يستيقظ من رقدته الشتوية مختالًا ضاحكًا ابتهاجًا بما حباه الله به من الحسن والجمال، حتى أوشك أن ينطق من الفرح والابتهاج.

ص: 578