الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ما ينبغي أن يصنعه المقارن الأدبي في ضوء الاعتبارات
والآن ما الذي ينبغي أن يصنعه المقارن الأدبي في هذا السياق؟
الواقع أن المقارن الغربي ينبغي أن يعلو فوق مثل تلك الاعتبارات لو أراد أن يكون مقارنًا محترمًا، فيبحث عن الإبداعات غير الغربية ويسلط عليها الضوء دون أن يقيم للاعتبارات، التي تناولناها لتونا أية أهمية، بل يعتمد على ما يمليه ضميره المخبي، وذوقه الفني، وميزانه الإنساني المستقيم، وإذا وجد إبداعًا راقيًا أشاد به بغض النظر عن أي شيء آخر، إذ لا ينبغي أن يكون لديه ابتداء أي مانع من أن يكون الإبداع غير الغربي أفضل من نظيره الغربي المشابه له.
ومن جهة أخرى نبه الدكتور محمد غنيمي هلال إلى معنًى مهم حين قال: إن عالمية الأدب في معناها الذي شرحناه، وهو خروج الآداب من حدودها القومية؛ طلبًا لما هو جديد مفيد تخدمه وتتغذى به، واستجابة لضرورة التعاون الفكري والفني بعضها مع بعض، لها أسسها العامة، والتي تحدد سيرها. ثم مضى يذكر أهم تلك الأسس، ومنها أنه ينبغي للأديب المتأثر البحث أثناء عملية الاختيار، التي يقوم بها بُغية النهوض والتقدم عما يساعده في بلوغ هذا الهدف، ويعصبه من التردي فيما يضيره، ومنه الحفاظ على اللغة القومية، والخصائص العبقرية للأدب القومي، فلا يكون نقد الأدب القومي عن الآداب الأخرى تقليدًا أعمى، يمحو أصالته ويربطه برباط التبعية والعبودية لتلك الآداب.
وهو يرى أنه لا بد من التلاقح مع الآداب الأخرى؛ لأن أي أدب قومي لا يمكنه الاستقلال التام عن الآداب الأخرى، بل لا بد له من العطاء والأخذ وإلا أصابه الركود والعطل.
وفي ذات الوقت ينبه الدكتور هلال إلى أنه ينبغي للأدباء والنقاد والقراء، ألا يتطرفوا في أي من الاتجاهين: اتجاه الحرص المبالغ فيه على التقاليد، أو اتجاه التطرف والتمرد على كل قديم، ونحن نوافقه في هذا، وعلى أهل كل أدب أن يزنوا الأمور في هذه الحالة بميزان العقل المستقيم، والذوق السليم متسلحين بالثقة بالنفس وسعة الأفق، والحرص على الذاتية التي تميز الأدب القومي التمييز الذي يفتخر به، دون تعصب مطلق لكل ما فيه حتى لو ثبت ضرره، وكذلك دون التعبد لما عند الآخرين لمجرد أنه غربي؛ حتى لو ثبت أنه خالٍ من القيمة، وهذا يجرنا إلى الحديث عن المثاقفة بين الآداب، أي: أخذ الثقافات والآداب بعضها عن بعض؛ بُغية التجديد والتطوير والتحسين، ومعروف أنه لو بقي الماء في مكانه دون حركة ودون تجدد لصار راكدًا تعافه النفس، بل ضارًّا يؤذي، وهذه المثاقفة من شأنها أن توسع الأفق، إذ ترينا كيف أن الأذواق والأوضاع والقيم الأدبية تختلف من أدب إلى آخر، ومن أمة إلى أخرى، رغم أن هناك أشياء مشتركة كثيرة أيضًا.
وهذا الاختلاف دليل على ثراء الحياة وعلى غنى القدرة الإلهية المبدعة التي لا تنفد ولا يعجزها شيء في الأرض ولا في السماء، وفي القرآن الكريم آية تقول عن البشر:{وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} (هود: 118، 119) وهذه الآية وإن كانت تتعلق بالأديان واختلافها، واختلاف الناس بشأنها، من ثم من الممكن الاستشهاد بها هنا، فالاختلاف بين البشر لا يقتصر على الأديان، بل يشمل كل شيء يتعلق به، إنه سنة بشرية مثلما التشابه في بعض الجوانب سنة بشرية أخرى، ولا شك أن اطلاعنا على ما عند غيرنا، وتحققنا من أنه يختلف كثيرًا أو قليلًا عما عندنا، جدير أن يعمق فهمنا للحياة والأحياء، ويوسع مداركنا ويجعلنا نتقبل الآخرين، ونتفهم حقيقة اختلافهم عنا فنكون أرحب صدرًا، وأقدر على
التسامح مع تمسكنا بما لدينا في ذات الوقت، وإلا تحول الأدب المقارن نقمة وأذى إذا كانت ثمرته تمييع مواقفنا، والانتهاء بنا إلى العجز عن اتخاذ موقف ثابت نابع من إيمان حقيقي بفائدة ما في أيدينا وصحته وحقيته.
هذا، ويحرص الغرب على نشر ثقافته وآدابه في العالم على حساب الثقافات والآداب الأخرى، وهو ما يسمى بالاختراق الحضاري، أي: العمل على غزو الشعوب الأخرى غزوًا ثقافيًّا وأدبيًّا لطبعها بطابع غربي؛ كي يسهل انقيادها وشعورها بأنها تابعة للغرب، فلا تبدي مقاومة لمخططاته في إخضاعها سياسيًّا وعسكريًّا واقتصاديًّا، ومن ثم لا يحتاج إلى جيوش يجيشها، وأموال ينفقها وجنود وضباط تزهق أرواحهم في المواجهة بين المقاومة الوطنية وجيوش احتلاله.
يقول الدكتور حسام الدين الخطيب: إنه ينبغي الاعتراف بأن الذي تغير اليوم هو الوعي العالمي العام؛ لأن النموذج الغربي متفوق حقًّا في مختلف مجالات الثقافة والعلم والإنتاج، والقوة المادية والاتصال وغزو الفضاء، ولكن له مشكلاته ونقائصه وتناقضاته، ولا سيما بين المثل الأعلى المعلن والمثل غير الأعلى للهيمنة والسيطرة والاستلاب؛ ولذلك ينبغي أن يكون الموقف منهم حذرًا وانتقائيًّا، وغير مبني على الانبهار والتسليم الأعمى، كما أن هناك شيئًا آخر مهمًّا قد تغير في مجال المقارنة مع المركزية الأوربية، وهو الاعتراف الضمني أو الصريح بعظمة حضارات العالم القديم في أفريقيا وآسيا، والتسليم بما قدمته هذه الحضارات، ومنها الحضارة العربية الإسلامية من إسهام مباشر أو غير مباشر في مسيرة الحضارة الإنسانية.
وهنا أيضًا يقتضي الإنصاف منا الإشارة إلى أن عددًا لا يستهان به من مثقفي الغرب، وعلمائه وأدبائه أسهموا في دعم هذه الفكرة ونشرها، وإلى جانبها فكرة أصالة الإنتاج الفني والأدبي الراهن في بلدان العالم القديم، أو بلدان