المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌البحث عن مصادر الكاتب في الآداب المختلفة، وأمثلة على ذلك - الأدب المقارن - جامعة المدينة (ماجستير)

[جامعة المدينة العالمية]

فهرس الكتاب

- ‌الدرس: 1 مفهوم الأدب المقارن من خلال المعالم التاريخية والرؤى النقدية

- ‌نشأة مفهوم الأدب المقارن، وما يشمله

- ‌مفهوم الأدب المقارن من خلال الرؤى النقدية

- ‌هل يعد نشوء علم الأدب المقارن في القرن التاسع عشر مفارقةً

- ‌الدرس: 2 بحوث الأدب المقارن ومجالاته

- ‌(بحوث الأدب المقارن

- ‌دراسة جوانب التأثر والتأثير في النماذج الاجتماعية والإنسانية

- ‌الشروط التي يجب توافرها فيمن يبحث في الأدب المقارن

- ‌موضوع الترجمة والمترجمين وكتب الرحلات في الأدب المقارن

- ‌الدرس: 3 العلاقات الأدبية العالمية ظاهرة تاريخية

- ‌معنى العالمية، وارتباطها بالأدب المقارن

- ‌ما ينبغي أن يصنعه المقارن الأدبي في ضوء الاعتبارات

- ‌خصوصية الأدب القومي، وعلاقة ذلك بالأدب المقارن

- ‌الشعر والقصص

- ‌الدرس: 4 مباحث ومشكلات في ساحة الأدب المقارن في العالم العربي

- ‌دراسة كتاب (الأدب المقارن من منظور الأدب العربي مقدمة وتطبيق)

- ‌طول القصائد وقصرها بين الشعر العربي ونظيره الفارسي

- ‌التأثر والتأثير الذي تشترطه المدرسة الفرنسية في الأدب المقارن

- ‌الدرس: 5 الأجناس الأدبية وتبادل التأثير والتأثر فيها عبر الآداب العالمية

- ‌تعريف الملحمة، وملحمة المهابهاراتا الهندية

- ‌ملحمة "الإلياذة" وملحمة "الأوديسا

- ‌ملحمة (الإنياذة) وملحمة (الكوميديا الإلهية) و (رسالة الغفران)

- ‌هل يوجد في الأدب العربي ما يسمى بالملاحم

- ‌الدرس: 6 الأجناس الأدبية وتبادل التأثير والتأثر فيها عبر الآداب العالمية

- ‌التعريف بأحمد شوقي، وبمسرحياته، وتحليلها

- ‌مآخذ النقاد على إبداعات شوقي

- ‌الدرس: 7 مسرحية كليوباترا بين شوقي والآداب العالمية

- ‌قصة مسرحية كيلوباترا، وظروف تأليف شوقي لها

- ‌(مسرحية كيلوباترا) بين شكسبير وأحمد شوقي

- ‌الدرس: 8 ليلى والمجنون بين الأدبين العربي والفارسي

- ‌ليلى والمجنون في الأدب العربي

- ‌ليلى والمجنون في الأدب الفارسي

- ‌ليلى والمجنون في الآداب الإسلامية الأخرى

- ‌الدرس: 9 عزيز أباظة ومسرحه الشعري

- ‌حياة عزيز أباظة، وما ألفه من مسرحيات

- ‌مسرح عزيز أباظة الشعري، وآراء النقاد في مسرحياته

- ‌المقارنة بين مسرحية أباظة وما يناظرها في المسرح الأوربي

- ‌الدرس: 10 قصص الحيوان

- ‌مفهوم قصة الحيوان

- ‌كتاب (كليلة ودمنة) وأثره في الأدب العربي والآداب العالمية

- ‌جهد لافونتين في فن الخرافة، وصياغة أحمد شوقي لقصص الخرافات

- ‌الدرس: 11 أجناس الأدب النثرية

- ‌القصة، والملحمة

- ‌المقامة، وتأثيرها في الأدب الأوربي

- ‌الدرس: 12 تأثير (رسالة الغفران) و (التوابع والزوابع) و (حي بن يقظان) في الأدب العالمي

- ‌تأثير (رسالة الغفران)، ورسالة (التوابع والزوابع)

- ‌قصة (حي بن يقظان) وتأثيرها في الأدب العالمي

- ‌أوجه الاتفاق والتباين بين قصة (حي بن يقظان)، و (روبنسون كروزو)

- ‌الدرس: 13 التاريخ ذو الطابع الأدبي

- ‌تعريف علم التاريخ، وأهم الأمور التي يهتم بها

- ‌منهج كتابة التاريخ الإسلامي

- ‌الدرس: 14 الصياغة الفنية التابعة للأجناس الأدبية

- ‌الصياغة الفنية للموشحات والأزجال

- ‌التأثيرات الأسلوبية بين الآداب العالمية وأهميتها في الدراسات الأدبية المقارنة

- ‌الدرس: 15 المواقف الأدبية

- ‌تعريف مصطلح "موقف" لغة واصطلاحًا

- ‌مثال في باب الموازنات الأدبية لا المقارنات، للتمييز بين الموقف والموضوع

- ‌الدكتور محمد غنيمي هلال يوضح معنى الموقف بصورة أوسع

- ‌خلاصة الموضوع عند غنيمي هلال في كتابه (الأدب المقارن)

- ‌الدرس: 16 المواقف الأدبية في مسرحيات "عطيل" و"عدو الشعب" و"فاوس" و"أديب

- ‌المواقف الأدبية في مسرحيتي "عطيل" و"عدو الشعب

- ‌المواقف الأدبية في مسرحيتي "فوست" و"أوديب

- ‌الدرس: 17 النماذج الأدبية

- ‌تعريف النموذج لغةً واصطلاحًا

- ‌بعض النماذج الإنسانية المستمدة من الأدب العربي

- ‌الدرس: 18 بعض النماذج الإنسانية العربية

- ‌شخصية عنترة العبسي

- ‌شخصية مجنون ليلى

- ‌الدرس: 19 تصوير الآداب القومية للبلاد والشعوب

- ‌أمثلة تأثر الآداب المختلفة بعضها ببعض، مع توضيح عوامل التأتثر

- ‌دور الأدب في تسجيل مشاعر الأمة وآرائها

- ‌الدرس: 20 المصادر واتصالها بالأدب المقارن

- ‌النواحي الشخصية للكاتب، واكتشاف عناصر مقوماته وتكوينه

- ‌تتعدد أنواع البحوث في المصادر على حسب موضوعاتها

- ‌البحث عن مصادر الكاتب في الآداب المختلفة، وأمثلة على ذلك

- ‌تأثر أدب شعب ما بأدب آخر أو بالآداب الأخرى مجتمعة

- ‌الدرس: 21 المذاهب الأدبية بين الشرق والغرب - دراسة مقارنة

- ‌الكلاسيكية

- ‌الرومانسية

- ‌الواقعية

- ‌الرمزية

- ‌السريالية

- ‌الدرس: 22 الصلة بين الأدب العربي والآداب الأخرى

- ‌جنس الملحمة

- ‌فن المقامة

- ‌ألف ليلة وليلة والموشحات

- ‌الشعر الغنائي

- ‌بعض مظاهر التأثير والتأثر بين كل من الأدب العربي والآداب الأخرى

الفصل: ‌البحث عن مصادر الكاتب في الآداب المختلفة، وأمثلة على ذلك

البون الشاسع بين الموقفين في ملحمة الفردوس وفي مسرحية الكاتب "البلجيكي" ولا لتوضيح الطابع الشخصي لهذا الكاتب فيما اقتبس.

وأحيانًا تقتصر استعارة الكاتب في مؤلفه على أفكار خاصة أو تعبير من التعبيرات ذات الصبغة المعينة، وقد كثرة الطبعات النقدية بكثير من المؤلفات الغربية وبينت مصادر أفكار الكاتب ما يرجع منها إلى الأدب القومي، أو إلى الآداب الأجنبية، وخير مثل على ذلك هو طبعة الرسائل الفلسفية لـ"فولتير" التي قام بشرحها والتعليق عليها العلامة "لارسن".

‌البحث عن مصادر الكاتب في الآداب المختلفة، وأمثلة على ذلك

وقد لا تقتصر دراسة المصادر على البحث عن مصدر الموضوع والتعبيرات في إنتاج الكاتب، بل يُبحث في مصادر إنتاجه كله من الآداب الأخرى، وفي هذه الحالة قد يقتصر البحث على بيان مصادر ذلك الإنتاج في أدب أجنبي واحد، بل قد لا يتعدى مجرد إحصاء وسرد لما قرأ المؤلف من ذلك الأدب، وهذا النوع من الإحصاء الدقيق كثير الرواج في ألمانيا، وله أهمية كبرى في تنوير النقود حيال الكاتب أو الشاعر، فهو يبين الجو الفكري الذي عاش فيه الكاتب وكيف اتسع أفقه قليلًا قليلًا؟ أو كيف أنه على عكس ذلك قد انطوى على نفسه؟ وكيف تركز اهتمامه حول تلك المسائل أو حول بعض الأجناس الأدبية؟ وكيف كان يتطور تبعًا لقراءته؟.

ربما ينظر بعض الناس إلى مثل هذه الإحصاءات على أنها جهد قليل القيمة؛ لكن لا؛ لأننا لا نستطيع أن ننطلق فنقوم دراساتنا في الأدب المقارن ما لم يكن هؤلاء الذين قاموا بتلك الإحصاءات قد مهدوا لنا الطريق وصلتوا الضوء على

ص: 551

الأركان المظلمة، التي لولا انكشافها أمام عيوننا في هذا الضوء الوهاج، لما استطعنا أن نعرف ماذا نفعل؟ ولا إلى ما نتجه.

وإذا تَجَاوزت الدراسة الإحصاء إلى شيء من التفصيل، يبين فيه الباحث تأثير كل مصدر من مصادر الكاتب في مؤلفاته ففي هذه الحالة قد يقتصر على دراسة وتأثر الكاتب بأدب واحد من الآداب الأجنبية، فمثلًا يمكن أن يدرس تأثر شوقي بالأدب الفرنسي في مؤلفاته، كما درس تأثر فولتير في الأدب الإنجليزي، وعلى الباحث في هذه الحالة أن يدرس أولًا المؤلف نفسه دراسة دقيقة، ثم يقرأ من الأدب الأجنبي ما يمكن أن يكون قد أثر في إنتاج ذلك المؤلف.

ويبدأ بقراءة ما اعترف المؤلف بقراءاته من ذلك الأدب، ثم بالموضوعات المشابهة للموضوعات التي عالجها المؤلف، وربما يُسفر كل ذلك عن آفاق جديدة أمام الباحث تنير له السبيل، وقد تجعله يعثر على ما له قيمة جديدة في تعرف نواحي الكاتب وتأثره بالأدب الأجنبي الذي استعار منه.

وأوسع دراسات المصادر وأكثرها أهمية هو ما يبحث فيه عن مصادر الكاتب في الآداب المختلفة، وعن مبلغ ما استفاد منها في مؤلف واحد من مؤلفاته أو في مؤلفاته كلها، وهذه الدراسات خير ما يلقي الضوء على مواهب الكاتب وعلى نواحي نشاطه المختلفة.

وقام "فيرد ناند براد روسيه" بمثلًا طيب في ذلك حين درس المصادر المختلفة للكاتب الفرنسي "بلزاك" وبين في دقة وتعمق كيف استفاد بلزاك من مختلف الآداب التي أتيح له أن يتطلع عليها في فترات متعاقبة من حياته؟ وكيف لم يطغ ذلك على الطابع الشخصي للكاتب، وعلى دقة ملاحظته؟

وكذا قام الباحث "سي تولو" بمثل هذه الدراسة بحثًا عن مصادر "ألفريد ديفينيه".

ص: 552

ويدهش القارئ إلى هذه البحوث حين يرى تعدد قراءات كبار الكتاب وسعة آفاقهم، ثم حين يرى كيف أخرجت تلك الموسوعة الكبرى من مختلف ثقافاتهم وإطلاعاتهم ثمارًا متنوعة مختلفة الألوان يرجع كل لون منها إلى أصله، ويعجب كيف انتظمت كل هذه الألوان لتألف وحدة منسجمة كحديقة غناء أبدعت فيها يد التنسيق فألفت بين زهورها وأشجارها على الرغم من اختلاف ألوانها وتنوع ورودها.

وليس في هذا أي عجب، فنحن عندما نبني بيوتنا نأتي بالرمل من مكان وبالظلط من مكان آخر، ومن أسمنت من مكان ثالث، وقد نستورد أشياء من بلاد مختلفة، ثم إذا بهذا كله ينتظم في أيدي البناء بناء جميلًا متناسقًا عليه طابع شخصيته وشخصية المهندس الذي صممه، وهكذا.

وفي مكتبتي كتب من أماكن مختلفة من قرية من القرى في المنوفية، ومن مدينة من المدن، وبعضها من لندن وبعضها من باريس، وبعضها جاءني من إفريقيا، وبعضها من الإنترنت، وكل ذلك أقرأه وأهضمه وأتمثله ثم أخرجه كتب مختلفة عليها طابع شخصيتي، صحيح أن الميدان هنا ميدان النقد الأدبي والتاريخ الأدبي وما إلى ذلك، ولكن هو مثال يستطيع به الطالب أن يتعرف من خلاله على ما يحدث في عالم الإبداع الأدبي.

يضرب الدكتور هلال مثلًا فيه شيئًا من التفصيل فيما يختص بمصادر شوقي الفرنسية والإنجليزية في مسرحيته "مصرع كليوباترا"، وأول ما يلاحظه في مسرحية شوقي أنها قد توافر لها وحدة الزمن، ذلك أنها تبدأ بعد موقعة "أكتيوم" بمدة تهيئ فيها لكليوباترا أن تصل مصر بعد فرارها من ميدان الحرب بأسطولها، وأن تُشيع وصيفتها "شيرنيون" في الشعب أن الأسطول عاد منتصرًا خوفًا على الملكة من أعدائها الكثر.

ص: 553

ويظل الشعبُ يردد هذه الإشاعة مبتهجًا بالنصر، في وقت عصيب تطلب الحداد إذ إن جيش "أكتافيوس" يحاصر ال إ سكندرية و"أنطونيوس" مختبئ في سكنة رومانية يعبئ فيها للحرب فلول جيشه من الرومان لينتقم لشرفه من هزيمته في "أكتيوم"، وهذا طابع كلاسيكي في بدء الحديث في المسرحية لقرب نهايتها.

وهذا هو المنهج الذي سلكه "دريفن" في مسرحيته ذات الطابع الكلاسيكي كذلك فبدأ المسرحية حيث بدأ شوقي بل إن شوقي متأثر به كذلك في بدء المسرحية، إذ إن دريفن يجعل سرابيون كاهن إيزيس يظهر على المسرح بعد بدأ المسرحية بقليل؛ ليعلن للشعب أن عليه أن يبتهج ويعلن ابتهاجه بمواكب النصر لأن اليوم عيد ميلاد "أنطونيوس" السيد العظيم، ويعارضه شخص آخر بأن اللعنة على من يعلن البهجة في هذا اليوم العصيب.

على أن شوقي يجعل موقف كليوباترا فريدًا فهي تفر من "أكتيوم" وتأبى أن تشترك مع "أنطونيوس" ضد "أكتافيوس" في الحرب الدائرة في أرجاء الوطن، وعلى هذه الحرب يتوقف مصير البلاد، وغايتها أن تترك البطلين يضعف كلاهما الآخر حتى تكون هي قوية ضد المنتصر منهما إذ إنه سيخرج وقد أنهكته الحرب.

وقد خيل لشوقي بذلك أنه يبرر نظرة "كليوباترا" وهي نظرة طائشة، لا مظهر فيها للوطنية الرشيدة، على أنها تعلنها لخاصتها مستبدة برأيها لم تستشر أحدًا، زاعمة أنها بذلك تقدم حبها لوطنها على هيامها بحبيبها، وهو تفسير لفرارها من حرب "أكتيوم" يخالف ما قيل: من أنها فرت خوفًا أو غدرًا ولكنه تفسير لا يستند إلى حصافة رأي أو تدبير وطني كما تزعم هي في قولها على حسب ما جاء في مسرحية شوقي:

ص: 554

قلت: روما تصدعت، فترى شطرًا من القوم في عداوة شطري

بطلاها تقاسما الفلك والجيش، وشب الوغى ببحر وبري

وإذا فرق الرعاة اختلاف علَّموا هارب الذئاب التجري

فتأملت حالتي مليًّا وتدبرت أمر صحوي وسكري

فتبينت أن روما إذا زالت عن البحر يسد فيه غيري

كنت في عاصف سللت شراعي منه فانسلت البوارج إثري

فنسيت الهوى ونصرت "أنطونيوسا" حتى غدرته شر غدري

علم الله قد خذلت حبيبي وأبى صبيتي وعوني وذخري

موقف يعجب العلا كنت فيه بنت مصر وكنت ملكة مصر.

وهذه السياسة القاصرة المستبدة من جانب كليوباترا -كما صورها شوقي- لا يمكن أن تقنع أحدًا بوطنيتها.

هذا ما قاله الدكتور هلال، وأنا أشاطره الرأي، كما عبرت عنه بكل وضوح في درس من الدروس السابقة قبل قليل.

على أنّ الفكرة في ترك البطلين يقضي كلاهما على الآخر مأخوذة كذلك من "درايدون" إذ إنه يترك شخصية شخصيات مسرحيته يقول: لو كان لي ما أريد لوددت أن يُهلك هؤلاء الجبابرة المسيطرون على البشر من كل جنس بعضهم بعضًا بسيفه، ولكن ما دامت عزيمتنا تابعة لقوتنا العرجاء علينا أن تبع واحد منهم نعلوا معه أو نهبط.

ولكن شوقي يجعل هذه الفكرة محور سياسة كليوباترا في مسرحيته، في حين يذكرها "دريدون" فكرة عابرة على لسان شخصية ثانوية،

ص: 555

ولذا كانت مسرحية كيلوباترا مجموعة متناقضات إذا نرى في المسرحية عاطفتها نحو حبيبها قوية.

ونراها تستسلم للملذات، غافلة عما يتهددها هي ووطنها من أخطار وتزعم في الوقت نفسه أنها مخلصة لمصر فتقول في لغة المغرور المستبد متوجهة لأروس:"الحرب فك أروس وسياسة فني". كما تقول لحابي: "دع الذود عن مصر لي إنني أنا السيف والآخر العصا".

وخُطّتها السياسية لا تعدوا أن تكون أمنية حال في غفوة من نعاس لا سياسة ملكة رشيدة كما يُريد شوقي أن يلهمنا باقتباساته من المسرحيات الغربية، وفي مسرحية شوقي بعد ذلك تختلط المأساة بالملهاة، فشخصيةُ المُضحك "آنشو" وشخصية "زينون" أمين المكتبة، من العناصر اللاهية في المسرحية وهذا طابع "رومانتيكي" ولكن شوقي لم يتأثر فيه مباشرة بشكسبير في مسرحيته "أنطون" وكليوباترا.

والحدث في مسرحية شوقي غير بسيط فهو مزدوج ذو حلين، فحب جابي لـ"هلينا" يقابل حب البطلين أنطونيوس وكيلوباترا وينتهي الحب الأول نهاية سعيدة، في حين ينتهي الحب الثاني بانتحار البطلين، وازدواج الحدث مألوف في مسرحيات الرعاة، وفي بعض المسرحيات الكلاسيكية.

وقد عاب أرسطو المسرحيات التي تتعدد فيها الحلول، ودعا على من حببوها ورأى أن هذا النوع من المسرحيات لا يتلاءم إلا مع الجمهور ذي الذوق الفني الضعيف، لأنه لا يقوى على تحمل المأساة المحضة.

ص: 556

ويعتقد الدكتور محمد غينمي هلال أن شوقي بهذا الازدواج قد قصد إلى إرضاء جمهوره في عصره، ومنظر الوليمة يشمل معظم الفصل الثاني من مسرحية شوقي وهو متأثر "بشكسبير" فيما يسوده من طابع المرح من الشراب والرقص، وللمنظر أصل تاريخي في "بلوتارخ" في كتابه حياة العظماء، ويتبع شكسبير ما روي في التاريخ فيجعل منظر الوليمة يدور في سفينة في المياه الإيطالية قريب من سينا، ويكشف فيها عن قوة خلق "أكتافيوس" في امتناعه عن الشراب، وعن تحرق "أنطونيوس" شوقًا لرحيله إلى مصر لكي يرى كيلوباترا بعد زواجه من "أكتافيا".

على حين يجعل شوقي منظر الوليمة في مصر بعد الموقعة الأولى في حرب "أكتافيوس" مع "أنطونيوس" في الإسكندرية وهي الموقعة التي بدأ فيها شبح النصر الخادع "لأنطونيوس"، وشوقي يربط منظر الوليمة بمصير البطلين، ويكشف فيها عن جوانب استهتارهما وهزلهما في ساعات الجد، وفي المنظر تثير كليوباترا غضب جنود أنطونيوس فيظهرون سخطهم على حرب تجني "كليوباترا" ثمراتها، فنسمع جنديا منهم متأثرًا بما تفوه به الملكة من إهانة روما يقول زميله:

أتسمع ما ما تقول عدو روما قد اجترأت على روما البغي

أتحت لوائها وبجانبها يخوض الحرب من روما كمي

وقد أطال شوقي في منظر الغناء في الوليمة إرضاء للذوق الجمهور المصري آنذاك، الذي كان يُحب الغناء ويكلف به ولا يقبل على المسرحيات في كثير من الأحياء إلا إذا كان مسرحيات غنائية، لأنه شعب يحب الطرب.

وفي التاريخ طبقًا لما كتبه "بلوتارك": أن كليوباترا أرسلت إلى "أنطونيوس" بعد الهزيمة تخبره كذبًا بانتحارها فينتحر أنطونيوس على الأثر؛ ولكن شوقي يلقي

ص: 557

بالتبعة على هذا الخبر الكاذب على "ألنبوس" لأنه يجعله هو الذي يسوق "لأنطونيوس" هذا النعي الكاذب، ويطلب أنطونيوس من كليوباترا آنذاك قبلة يسلم على آثارها الروح، وهذا أثر من مسرحية "دريدن" الذي يجعل هذا النعي يساق على لسان "ألكساس".

وتستنكر كليوباترا ما فعله "ألكساس"، ويطلب "أنطونيوس" منها قبلة هي أغلى عنده من كل ما سيتركه "لأكتافيوس"، ثم يسلم على أثرها الروح، وهذا مسلك كلاسيكي عام يتمثل في إظهار نبل أبطال المأساة، وإلقاء تبعة النقائص على الوصيفات أو الشخصيات الثانوية.

والكلاسيكيون يتبعون في ذلك قاعدة عامة وضعها لهم "أرسطو" وقد انتهج شوقي نفس الطريقة في إشاعة خبر انتصار كليوباترا في "أكتيوم" كذبًا؛ فقد جعل الخبر مسوقًا بتدبير وصيفة "شيمبيون"، وكذلك فعل شوقي في إلقاء التبعة الفشل السياسي لكليوباترا على العناصر الوطنية التي كانت لا تتجاوز في نقدها لتلك السياسة الحمقاء مجال الكلام، ولا تفكر في الاشتراك في توجيه الأحداث حتى إن حابي يرضى عن كليوباترا؛ لأنها صفحت عنه، ومنحته ضيعة يتمتع فيها مع حبيبته "هيلانة"، وهذا ما يتناوله أنوبيس في كلامه لحابي عقب الهزيمة الفاصلة في مصير البطلين:

وأين كنت يا فتى وأين فتيان الحمى

وأين فرسان المقال هل مضوا إلى الوغى

تركتمُ أنطونيوس وحده يلقى العدى

من أجلكم سل الحسام وإلى الحرب مشى

أبعد أن حل على النيل وواديه انقضى

ولم يجد من شيبه ولا شبانه الفدا

أتيت تدعوني كما تدعو العواجز السما

الرأي ليس نافعًا إذا أوامره مضى

وشوقي يُطيل فيما تقوله كليوباترا من أشعار قبيل انتحارها، تُبرر موقفها وتأسى على ماضيها، وتهيئ نفسها للإقدام على الانتحار، وهي أشعار طابعها غنائي،

ص: 558

وقد سبقه إلى ذلك "جودل" في مسرحيته سابقة الذكر فجعل الملكة أيضًا تُسهب كثيرًا في أشعارها في نفس للغاية ذاتها.

ومنظر توديع كليوباترا لأولادها له نظيره في مسرحية "روبير جارنيا" التي عنوانها: "مارك أنطوان" في الفصل الخامس منها، وشعر شوقي في هذا الموقف أروع من شعر جودل من ناحية الصياغة.

وفي مسرحية مدام "دي جيرلدا" تظهر كليوباترا في صورة المستهترة التي أخذت على نفسها عهدًا بحياة الملذات ثم الموت، وفي جسمها الأنثوي نفس كبيرة، يتراءى سلطانها من ثنايا ضعفها ويتقهقر من بحضرتها أمامها لروعة جمالها، ولكن يلذ له التقهقر وتطيب له الهزيمة؛ حتى إن عبدًا يتطلع إلى الظفر بها ساعة، على أن يتجرع السم عقب ذلك، وهي في استهتارها واستغراقها في صبواتها تستجيب له، ويتجرع العبد السم بعد أن ينشد نشيد الموت، يتغنى فيه بالبطولة وصدق العاطفة، وحين يشرف على الموت بعد تناول السم، يَسقيه "ديويت" و"فانتديوس" ترياقًا ينجو به من الهلاك ليتخذه أداة انتقامية ومثار غيرة، ولكن هذا العبد هو الذي ينقذ كليوباترا من ذل الأسر إذ هو الذي يحمل إليها الثعبان في سلة من زهر.

وواضح شبه إنقاذ العبد من الموت بعد تناول السم، بإنقاذ "هلامي" بترياق بعد تجرعها السم لتموت مع سيدتها في مسرحية كليوباترا لشوقي، ثم إن نشيد الموت في مسرحية شوقي له كذلك نظيره في مسرحية مدام "دي جيرلدا".

ولا سبيل هنا لمقابلة جميع الصور الجزئية في شعر شوقي بنظائرها من المسرحيات الغربية، فحسبنا أن نضرب أمثلة من ذلك

ص: 559

فما يخص تأثر شوقي بمسرحية "شكسبير"، ففي آخر الفصل الأول من مسرحية "شكسبير" تتخيل كليوباترا أن "أنطونيوس" يهمس إليها قائلًا: أين رقطائي ثعبانة النيل القديم، ثم تقول: إنه كان هكذا يدعوني.

وفي مسرحية شوقي تُدعى كليوباترا رقطاء على لسان "زينون" ثم إنها في آخر المسرحية تتحدث الأفعى هكذا:

تعالي عانقي أفعى قصور بها شوق إلى أفعى التلال

وفي المنظر السادس ثم السابع من مسرحية "شكسبير" نرى كليوباترا تدعى بغيًّا، ثم نرى "أنطونيوس" يعصي قائد جيشه العام "كانيديوس" ويُفضل عليه رأي كليوباترا بالاشتراك في حرب "أكتيوم" بحرًا لا برا، فيغضب القائد العام ويقول: إن قائدنا مقود، وجنودنا خاضعون لأوامر النساء. ثم يقول: الساعة حبلى بأحداث تتمخض كل آونة عن واحدة منها.

ويقرب هذا من قول القائد الروماني في آخر الفصل الثاني من مسرحية شوقي:

أنطونيوس سيدي أفي الخير أننا نبيت سكارى والعدو مبيت

ألا إنه يوم له ما وراءه غرامك حي فيه والمجد ميت

وفي المنظر الرابع عشر من الفصل الرابع من مسرحية "شكسبير" يطلب "أنطونيوس" من "إيروس" أن يقيه ذل العار بالضربة القاضية وبعد محاورة يقتل العبد نفسه، فيقول "أنطونيوس": إن "إيروس" أراه في بطولته أنه لا يستطيع أن يقوم بما عليه وأن يفعل، وأنه هو سيده، وأنه هو سيده بمثابة تلميذ له في هذه الميتة، فما سأفعله فقد تعلمته منك. وهي خواطر يجعلها شوقي تدور بين "أنطونيوس" و"إيروس"،

ص: 560

حين يطلب "أنطونيوس" منه أن يشفيه بضربة سيف أو بطعنة خنجر، فيقتل العدو نفسه على أثر، فيقول أنطونيوس:

أوروس عفوًا قد ذهبت ضحية

وجنى عليك تردد الممقوت

فعلمت مني كيف يجني قيصر

وعلمت منك العبد كيف يموت

وفي مسرحية شكسبير حين يدخل "أكتافيوس" على أنطونيوس بعد موته منتحرًا يأسى على أن ألجأه إلى هذا المأزق، ويقول: إن في الجسم بعض آفات تتطلب بعض الجراح. ثم يعبر عن آساه في شبه رثاء لرفيقه قائلًا: لكن دعني أنتحب بدموعي القدسية من كلام القلب أن يا أخي ويا شريكي، ويا ذا المكان الأول في كل ما شرعنا فيه، وندي في الإمبراطورية وصديقي ورفيقي في جبهة الحرب، والذراع لجسمي أنا، والقلب الذي تضيء أفكاره أفكاري.

وصدى هذه الخواطر يتراءى في شعر شوقي حين يودع "أكتافو" رفيقه المنتحر قبل دفنه متوجهًا إلى كليوباترا.

وأخيرًا يطلب "أكتافيوس" في أواخر مسرحية شكسبير فيرى كليوباترا ووصيفتها ميتتين على أثر لدغات الأفاعي التي انتحرتا بها، وكان مما قاله: ما طريقة موتهن، إني لا أراهن يدمين. يدع شوقي "أكتافيوس" يعبر عن نفس المعنى حين دخل حجرة كليوباترا عقب انتحارها متوجهًا إلى الطبيب قوله:

عجيب يا طيب أرى قتيلًا ولكن لا أرى أثر الجراح.

وقد أفاد شوقي من كل مصادره التي قد أشرنا إلى بعضها، وأخرج منها خلقًا فنيًّا مُتّسمًا بطابعه، فأراد أن يصور كليوباترا تصويرًا جديدًا خالف فيه كل من سبقوه؛ ليصحح جناية التاريخ عليها كما قال.

ص: 561