الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
و"دعاء الكروان" لطه حسين و"نقطة ضوء"، و"لقيطة" لمحمد عبد الحليم عبد الله، والأشعار الوجدانية المجنحة التي يعكف فيها الأدباء على ذواتهم يجترّون أتراحهم وأفراحهم كما هو الحال بأشعار المازني وشكري وناجي والهمشري مثلا- أصبحنا نقرأ "عاصفة على مصر" لعصام الدين حفني ناصف و"مليم الأكبر" لعادل كامل و"بداية ونهاية" لمحمود محفوظ و"حواء بلا آدم" للاشين و"الشاعر الجديد" للسحّار و"وطني عكا" للشرقاوي، وأشعار فوزي العنتيل وصلاح عبد الصبور وعبد الرحمن الشرقاوي وغيرهم، ثم تنامي هذا الاتجاه إلى أقصاه في عهد عبد الناصر حين ولى وجهه نحو الكتلة الاشتراكية، فتحول كل شيء تقريبًا من فن وأدب إلى الشعب وقضاياه، وسار كل من يكتب على الطريقة الحالمة القديمة عُرضة للتهكم ويُسمى أدبه أدب البرج العاجي، وإن انقلبت الأمور بعد ذلك حين ركب الموجة كل من هبّ ودب، فأطلق النقاد على هذا اللون الدعائي الفاقع "الأدب الهاتف" بدلا من "الأدب الهادف" أي أدب الواقعية الذي يهدف إلى إيقاظ المظلومين والمطحونين واستفزازهم للثورة من أجل نيل حقوقهم المهدرة، وهذا في مصر وحدها، وقس عليها ألوانًا أو كثير ًا من الدول العربية الأخرى.
الرمزية
ونص ل ل لرمزية؛ والرمزية حركة أدبية بدأت بمجموعة من الشعراء الفرنسيين، في الفترة من 1885 إلى 1895 كان قائدها ستيفان مازر ميه، وتتضمن القائمة المنظّرين للرمزية كلٍّ من رينيه جِل وجوستاف كان وجيم موريس وتشارلز موليز، وتبعهم في تبني أسلوب الرمزية بعد ذلك الكثير من الشعراء الأوروبيين في بداية القرن التاسع عشر، واهتمت رمزية الجانب الروحي والأحاسيس المعنوية
الأخرى، وشعراء الرمزية يُعنون بالإيقاع الموسيقي للألفاظ ويعبرون عن أنفسهم بصورة مجازية، وقد رمى بعضٌ من النقاد هذه الحركة بالانحلال والانحطاط؛ نظرًا لتسلط فكرة الموت والتشاؤم بصورة عامة عليها.
والحق أن الأدب الرمزي إنما هو محاولة من الأديب للإفصاح عن العواطف المكبوتة في أعماق النفس البشرية، والإتيان بالصور من العقل الباطن إلى قارئه إلى مستعينا في ذلك بدرس الألفاظ وإيقاع الوزن وتراسل الحواس، وقد قام الشاعر الفرنسي بول فيرلين في سبعينيات القرن التاسع عشر الميلادي بجولة في مناطق متعددة من بريطانيا وهولندا وبلجيكا، بصحبة أرثر رامبو واصفًا المناظر الطبيعية هناك في إطار من التخيلات الواسعة الشبيهة بالأحلام تحت عنوان "أغان بدون كلمات" صدرت عام ألف وثمانمائة وأربعة وسبعين ميلادية، وعكست قصائده الشجية العفوية وما فيها من صور غريبة كالسموات الرمادية والقمر الشاحب والكمال الحزين- نوعًا من السمات الحزينة المتشائمة.
والمبادئ الرمزية: الابتعاد عن عالم الواقع وما فيه من مشكلات اجتماعية وسياسية، والجنوح إلى عالم الخيال؛ بحيث يكون الرمز هو المعبر عن المعاني العقلية والمشاعر العاطفية، والبحث عن عالم مثالي مجهول يسد الفراغ الروحي ويعوضهم عن غياب العقيدة الدينية، وقد وجد الرمزيون ضالتهم في عالم اللاشعور والأشباح والأرواح، واتخاذ أساليب تعبيرية جديدة واستخدام ألفاظ موحية مثل لفظ الغروب الذي يوحي بالزوال والانقباض، وكذلك تعمد الرمزية إلى تقليب الصفات المتباعدة رغبة في الإيحاء، مثل تعبيرات: الكون المقمر والضوء الباكي والشمس المرة المذاق وتحرير الشعر من الأوزان التقليدية.
لقد دعا الرمزيون إلى الشعر الحر التي تساعد الموسيقى في دفقات الشعور غذ كانوا يعتقدون أن اللغة عاجزة عن التعبير عن تجربتهم الشعرية العميقة، فلم يبقَ إلا الرمز ليعبر فيه الأديب عن مكنونات صدره، والواقع أن هذا المذهب نتيجة من نتائج تمزق الإنسان الأوروبي وضياعه بسبب طغيان النزعة المادية وغيبة الحقيقة والتعلق بالعقل البشري وحده للوصول إليها من خلال علومٍ توهم بالخلاص؛ إنه ثمرة من ثمرات لفراغ الروحي والهروب من مواجهة المشكلات باستخدام الرمز في التعبير عنها فضلا عن الضيق من المذهب الواقعي الذي اتجه نحو الواقع المادي الملموس، وكذلك التقدم الذي أحرزه علم النفس على يد فلوريد وأتباعه الذين اتجهوا إلى قرار النفس الإنسانية.
فالرمزية كما نرى مذهب أدبي يعبر عن التجارب الأدبية الفلسفية من خلال الرمز والتلميح؛ نأيًا عن عالم الواقع إلى عالم الخيال، وبحثًا عن مثالية مجهولة تعوّض الشباب عن غياب العقيدة الدينية باستخدام الأساليب التعبيرية الجديدة والألفاظ الموحية وتحرير الشعر من كافة قيود الوزن التقليدية، كذلك لا تسمو الرمزية على الأقل في بعض الحالات بالمبالغة في الأسلوب ولغة الأداء، فتدون عناصرها بألفاظ وصور بعيدة عن المألوف حتى تكاد أن تلحق بالطلاسم.
ونلحظ في كثير من الأعمال الرمزية الغموض والتناقض وإرغام لغة الأديب على التقريب بين الأشياء المتباعدة، يقول ستيفن مازر ماي مثلًا عن الربيع:
لقد طرد الربيع الشاحب في حجر الشتاء الظامئ
وفي الجسمية الذي يسيطر عليه الدم القاتم
يتمطى الفجر في تثاؤب طويل
إن شفقًا أبيض يبرز تحت جمجمتي
التي تعضها حلقة من حديد وكأنها قبر قديم.
وهناك أيضًا تركيز الرمزيين على العنصر الموسيقي في شعرهم؛ إذ عدوه جزءًا من تكوين النص الرمزي فضلا على اعتمادهم إلى حد بعيد على تراسل الحواس في التعبير الأدبي، وإيمانهم الراسخ بمبدأ الفن للفن؛ أي أن يكون الأدب غاية في ذاته لا يوظف من أجل تحسين الواقع.
أما المقصود بتراسل الحواس فهو أن يوصل الشاعر دلالات مبتكرة من خلال تبادل معطيات الحاس؛ كأن يستخدم حاسة اللمس لما يقتضيه السمع، وهو ما يعني أن يشم الشاعر من خلال حاسة السمع أو يتذوق بحاسة البصر، أو يرى بحاسة اللمس؛ أي أن الشاعر يحطم المنطق العلمي المحسوس ويفرض منطق الحلم والوهم، بهدف نقل مشاعره وأحاسيسه إلى المتلقي.
وقيل عن الرمزية: إنها أدب الصفوة؛ فأصحابها لا يحفلون بسواد الشعب، بل يتوجون إلى الصفوة بحيث يغدو فهم الأدب الرمزي مقصورا على الذين تمكنوا من بعض العلوم الإنسانية كعلم النفس الجماعي الذي بيشرحه كل من يونج وأدلر، وعلم التحرير النفسي الذي اكتشفه وعرفه العالم النمساوي فرويد.
ومن مبادئهم أيضًا الإيمان بالصنعة دون الإلهام، وفي تقديري وفي ذلك يقول فاليري: إذا آمن الشاعر بالوحي قَتل الإبداع.
كذلك نراهم يلجئون إلى الأساطير وذلك عندما يصفون موضوعات إنسانية لها علاقة مباشرة بالفلسفة أو الأخلاق.
والرمزيون بالإضافة إلى هذا يمقتون في الصورة الأدبية اللهجة البيانية بأساليبها الواضحة المشرقة ذات المعنى الظاهر؛ لأنهم يريدون الغوص والتعمق في تصوير المعاني المستعصية
على التعبير القابعة في خفايا النفس وأعماق الضمير، ويرون أنه لابد من إضفاء شيء من الغموض والخفاء والإبهام على الصورة الشعرية؛ لتتوافر أمام القارئ فرصة التأمل والتفكير؛ كي تستوحي من الصورة معاني وخواطر جديدة؛ إذ الوضوح لا يترك للقارئ فرصة إعمال الذهن وكد العقل ويثير ما في الصورة من جمال ولذة وفائدة، بالإضافة إلى أن اللغة فيها شيء من القصور عن أن تنقل لنا المعاني المحددة والأجواء النفسية فيما لو أردنا إبرازها والتعبير عنها.
على أنه لا بد أن يكون في هذا الغموض والخفاء شيء من الإيحاء وانسيال الخواطر لا أن يكون من نوع ألأحاجي والألغاز، ولعل هذا ما يعبر عنه الشاعر بول فيرلين بقوله: أحب شيء إلي هو الأغنية السكرى؛ حيث يجتمع المحدد الواضح بالمبهم اللامحدود، ويقول أيضًا تتمة لهذا المعنى: الأهمية الأولى للظلال لا للألوان كما تتراءى العيون السحابة من خلف النقاب، فعبر بالظلال عن الصور الشعرية الغامضة الموحية، وبالألوان عن الصور الشعرية الواضحة.
والملاحظ، أن الرمزيين يحرصون على اختيار الألفاظ المشعة، التي توحي بأجواء النفسية خاصة وانفعالات عاطفية رحيبة؛ مثلا لفظة الربيع توحي بمنظر المياه الدافقة والخضرة اليافعة والأشجار المورقة الباسقة، وتسمعك خرير الماء وزقزقت العصافير وتغريد البلابل وصدح العنادل وتشعرك بالمتعة والانبساط والارتياح وانشراح النفس ونقاوة الضمير؛ ولهذا لا يُسمى الشعر عند الرمزيين شعرًا إلا إذا كان غامضًا موحيًا مهمًّا شافًّا عن أجواء نفسية غريبة متنوعة.
ولعلنا نستطيع أن نلم بمنهج الرمزية إذا رددنا النظر في قصائد الرمزيين، وفيما يلي قصيدة للشاعر ستيفن منرميه سبق أن استشهدنا منها ببعض الأبيات وفيها يقول:
لقد طرد الربيع الشاحب في حزن
الشتاء فصل الفن الهادئ الشتاء الضاحي
وهو في جنبي الذي يسيطر عليه الدم القاتم
يتمطى العجز في تثاؤب طويل
إن شفقًا أبيض يبرز تحت جمجمتي
التي تعصبها حلقة من حديد وكأنها قبر قديم
وأهيم حزينا خلف حلم غامض جميل
خلال الحقول التي يزدهر فيها عصير لا نهاية له
ثم أمرح منهوك العصب بعدة أشجار
وأحفر برأسي قبرًا لحلمي
وأعض الأرض الساخنة التي تنبت النرجس
ومع ذلك فزقزقت السماء تبتسم فوق سياج الشجر المستيقظ
حيث ترفرف العصافير كالزهر في ضوء الشمس
ومنرميه في هذه القصيدة إنما يعبر عن الحالة النفسية التي يعيشها بسبب ما يرهقه -بل يخنقه- من ملل مقتنصًا من مظاهر الطبيعة صورا مزينة، وفي هذا الشأن شيء من غموض، لكنه الغموض الذي يوحي بإدراك المعنى والجو النفسي للشاعر، وليس بغموض أولئك الشعراء الناشئين المقلدين الذين يتنطعون ويتقعرون كما يقول الدكتور مندور، ويجعلون من ذلك الغموض شيئا أشبه بالألغاز، لا يدركون -حتى هم أنفسهم- معناه، وإنما يقصدونها سترا لعجزهم وإيهامًا للناس بشاعريتهم.
ويوضح مندور قائلًا: إنه قد يتبادر إلى ذهن القارئ: أن الرمزية لم تظهر إلا في الشعر، وأن الشعراء وحدهم هم الذين اهتموا بها نظرًا لما فيه من الغموض الذي بطبعه يناسب الشعر، لكنها في واقع الأمر لم تقتصر على الشعر الغنائي والنسوي، وإنما تعدته للأدب الموضوعي الذي يهتم بمشاكل الإنسانية والأخلاق الاجتماعية العامة تعالجها بوساطة الأخيلة والصور، ولكن يجب ألا يعزب عن البال أن الرمزية لا تأخذ في معالجة هذه المشاكل والأخلاق وتحليلها ونقدها كما في الكلاسيكية مثلًا، بل تأخذ في تقصير الأفكار النظرية المجردة وإلباسها شيئًا من الحوادث والأفعال، وتصبح ديناميكية متحركة، وتلمح من خلالها الحقائق الفلسفية والخفية.
ويضيف قائلا: إن الرمزيين كثيرًا ما يلجئون في علاج هذه الموضوعات إلى الأساطير القديمة، بل إنهم لينحون نحوها في ابتكارهم للحوادث والأعمال عند عرضهم أو مناقشاتهم أية قضية إنسانية، كما هو الملاحظ في القصص والمسرحيات التي ابتكروها من أخيلتهم كمسرحية "الأشباح" لأبسن ومسرحية "صفقة الشيطان" لجيروم، وتعرض المسرحية الأولى من خلال الوقائع مشكلة توارث الخطيئة على نحو يكاد يكون عضويّا لا دخل للوعي ولا للإرادة فيه؛ إذ نرى في هذه المأساة أبا يفسق بخادمته ثم يرث ابنه منه هذه الخطيئة فيهمّ هو الآخر بأن يفسق بخادمته على الرغم من أنه لم يعش في جو أسرته ولم يعش في جو الخطيئة بل أرسلته أمه بعيدًا عن ذلك المحيط الملوث ليتعلم ويتثقف، ولكنه همّ بفعلته تلك بعد عودته، فكأنها غريزة فيه وصفة فطرية ورثها من والده لا يستطيع عنها فكاكًا، وتصور المسرحية الثانية قضية صفقة تجارية يجريها شيخٌ شرير مع شابٍّ خيّر فيتبادل كل من روح صاحبه، ولكن كلا من الروحيين لا يستقر في جسم الآخر، فكأن هناك تلازمًا بين الجسم والروح.
وقد اتصل أدباء العرب المحدَثون بالأدب الرمزي لدى الغربيين، مما أدى إلى تأثرهم بذلك الأدب بدرجات متفاوتة، إلا أن الرمزية لم تشكّل مذهبًا واضح المعالم عندنا، ومن أهم الأدباء الذين نجدُ لديهم سمات رمزية جبران خليل جبران وأمين الريحاني ومي زيادة ومصطفى صادق الرافعي. ويقول بعض الدارسين: إن أديب مظهر المتوفى عام ثمانية وعشرين في السادسة والعشرين من عمره هو أول شاعر عربي أدخل جذوة الرمزية إلى الشعر العربي في قصيدته "نشيد السكون" وكان مقدرا له أن يبرز لولا أن الموت عاجله وهو صغير السن، كما اشتهر في هذا الاتجاه الشاعر اللبناني سعيد عقل الذي كان من أوائل الأدباء العرب نقلا للرمزية الغربية، وكان يرى أن وظيفة الشعر هي أن لا يخبر بل يوحي ويلمِّح، وأصر على الإدراك اللامنطقي والحدسي للعالم، كما اعتبر أن الشعر موسيقى قبل أن يكون فنًّا فكريًّا.
ومن تأثروا بالرمزية أيضًا يوسف غصوب وجورج صيدح وإيليا أبو ماضي وبعد سنة ألف وتسعمائة وخمسين شاعت في الشعر العربي حركة جديدة تتسم ببعض الخصائص الرمزية، من أبرز أعلامها بدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي وسعد يوسف ونازك الملائكة وخليل الحاوي ويوسف الخال وصلاح عبد الصبور، وكان للترجمة التي قام بها عدد من الأدباء ولاسيما تلك التي قامت بنشرها مجلات عربية مشهورة مثل المقتطف والمكشوف والرسالة والأديب أثرٌ واضحٌ في نقل الآداب الغربية التي أخذت بأساليب المدرسة الرمزية.
لقد لقيت الرمزية في وقت ما اهتمامًا من الشعراء العرب، وانتشرت على أوسع نطاق
ولم يكن ظهور الرمزية في أدبنا خاضعًا لنفس الظروف التي نشأت في كنفها الرمزية في الأدب الغربي.
ومن مظاهر الرمزية عند جبران خليل جبران قصيدته "المواكب" التي اعتمدتفي بعض صورها على تراسل الحواس كما في قوله:
هل تحممت بعطر
وتنشفت بنور
وشربت الفجر خمرًا في كؤوس من أثير
وفيه أخذ الحس النفسي للاستحمام مكان الحس الشمي العطر، والحس البصري النور مكان الحس اللمسي التنشف، والحس الذوقي الشرب مكان الحس البصري.
ومن هذا القبيل أيضًا قول الشاعر الجارم:
أسوان تعرف إذا اختلط الدجى
بالنبرة السوداء في أناته
فقد وصف النبرة وهي صوت بالسواد وهو لون. ولا شك أن وصف النبرة بالسواد في هذا المقام أقدر عن الإيحاء بالجو النفسي الذي يحسه الشاعر ويريد أن ينقله إلينا، وفي تبادل الحواس لصفاتها ما قد يساعد كثيرا على نقل أثر نفسي. ومن ذلك أيضًا قصيدة مرسلة للأستاذ ألبير أديب بعنوان "حياتنا" يقول فيها:
حياتنا شباب وفكر أخضر
وعواطف من عمل الربيع
وقلوب من ندى الفجر
نجمعها ونغسل بها أرض الأزقة