المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌مسرح عزيز أباظة الشعري، وآراء النقاد في مسرحياته - الأدب المقارن - جامعة المدينة (ماجستير)

[جامعة المدينة العالمية]

فهرس الكتاب

- ‌الدرس: 1 مفهوم الأدب المقارن من خلال المعالم التاريخية والرؤى النقدية

- ‌نشأة مفهوم الأدب المقارن، وما يشمله

- ‌مفهوم الأدب المقارن من خلال الرؤى النقدية

- ‌هل يعد نشوء علم الأدب المقارن في القرن التاسع عشر مفارقةً

- ‌الدرس: 2 بحوث الأدب المقارن ومجالاته

- ‌(بحوث الأدب المقارن

- ‌دراسة جوانب التأثر والتأثير في النماذج الاجتماعية والإنسانية

- ‌الشروط التي يجب توافرها فيمن يبحث في الأدب المقارن

- ‌موضوع الترجمة والمترجمين وكتب الرحلات في الأدب المقارن

- ‌الدرس: 3 العلاقات الأدبية العالمية ظاهرة تاريخية

- ‌معنى العالمية، وارتباطها بالأدب المقارن

- ‌ما ينبغي أن يصنعه المقارن الأدبي في ضوء الاعتبارات

- ‌خصوصية الأدب القومي، وعلاقة ذلك بالأدب المقارن

- ‌الشعر والقصص

- ‌الدرس: 4 مباحث ومشكلات في ساحة الأدب المقارن في العالم العربي

- ‌دراسة كتاب (الأدب المقارن من منظور الأدب العربي مقدمة وتطبيق)

- ‌طول القصائد وقصرها بين الشعر العربي ونظيره الفارسي

- ‌التأثر والتأثير الذي تشترطه المدرسة الفرنسية في الأدب المقارن

- ‌الدرس: 5 الأجناس الأدبية وتبادل التأثير والتأثر فيها عبر الآداب العالمية

- ‌تعريف الملحمة، وملحمة المهابهاراتا الهندية

- ‌ملحمة "الإلياذة" وملحمة "الأوديسا

- ‌ملحمة (الإنياذة) وملحمة (الكوميديا الإلهية) و (رسالة الغفران)

- ‌هل يوجد في الأدب العربي ما يسمى بالملاحم

- ‌الدرس: 6 الأجناس الأدبية وتبادل التأثير والتأثر فيها عبر الآداب العالمية

- ‌التعريف بأحمد شوقي، وبمسرحياته، وتحليلها

- ‌مآخذ النقاد على إبداعات شوقي

- ‌الدرس: 7 مسرحية كليوباترا بين شوقي والآداب العالمية

- ‌قصة مسرحية كيلوباترا، وظروف تأليف شوقي لها

- ‌(مسرحية كيلوباترا) بين شكسبير وأحمد شوقي

- ‌الدرس: 8 ليلى والمجنون بين الأدبين العربي والفارسي

- ‌ليلى والمجنون في الأدب العربي

- ‌ليلى والمجنون في الأدب الفارسي

- ‌ليلى والمجنون في الآداب الإسلامية الأخرى

- ‌الدرس: 9 عزيز أباظة ومسرحه الشعري

- ‌حياة عزيز أباظة، وما ألفه من مسرحيات

- ‌مسرح عزيز أباظة الشعري، وآراء النقاد في مسرحياته

- ‌المقارنة بين مسرحية أباظة وما يناظرها في المسرح الأوربي

- ‌الدرس: 10 قصص الحيوان

- ‌مفهوم قصة الحيوان

- ‌كتاب (كليلة ودمنة) وأثره في الأدب العربي والآداب العالمية

- ‌جهد لافونتين في فن الخرافة، وصياغة أحمد شوقي لقصص الخرافات

- ‌الدرس: 11 أجناس الأدب النثرية

- ‌القصة، والملحمة

- ‌المقامة، وتأثيرها في الأدب الأوربي

- ‌الدرس: 12 تأثير (رسالة الغفران) و (التوابع والزوابع) و (حي بن يقظان) في الأدب العالمي

- ‌تأثير (رسالة الغفران)، ورسالة (التوابع والزوابع)

- ‌قصة (حي بن يقظان) وتأثيرها في الأدب العالمي

- ‌أوجه الاتفاق والتباين بين قصة (حي بن يقظان)، و (روبنسون كروزو)

- ‌الدرس: 13 التاريخ ذو الطابع الأدبي

- ‌تعريف علم التاريخ، وأهم الأمور التي يهتم بها

- ‌منهج كتابة التاريخ الإسلامي

- ‌الدرس: 14 الصياغة الفنية التابعة للأجناس الأدبية

- ‌الصياغة الفنية للموشحات والأزجال

- ‌التأثيرات الأسلوبية بين الآداب العالمية وأهميتها في الدراسات الأدبية المقارنة

- ‌الدرس: 15 المواقف الأدبية

- ‌تعريف مصطلح "موقف" لغة واصطلاحًا

- ‌مثال في باب الموازنات الأدبية لا المقارنات، للتمييز بين الموقف والموضوع

- ‌الدكتور محمد غنيمي هلال يوضح معنى الموقف بصورة أوسع

- ‌خلاصة الموضوع عند غنيمي هلال في كتابه (الأدب المقارن)

- ‌الدرس: 16 المواقف الأدبية في مسرحيات "عطيل" و"عدو الشعب" و"فاوس" و"أديب

- ‌المواقف الأدبية في مسرحيتي "عطيل" و"عدو الشعب

- ‌المواقف الأدبية في مسرحيتي "فوست" و"أوديب

- ‌الدرس: 17 النماذج الأدبية

- ‌تعريف النموذج لغةً واصطلاحًا

- ‌بعض النماذج الإنسانية المستمدة من الأدب العربي

- ‌الدرس: 18 بعض النماذج الإنسانية العربية

- ‌شخصية عنترة العبسي

- ‌شخصية مجنون ليلى

- ‌الدرس: 19 تصوير الآداب القومية للبلاد والشعوب

- ‌أمثلة تأثر الآداب المختلفة بعضها ببعض، مع توضيح عوامل التأتثر

- ‌دور الأدب في تسجيل مشاعر الأمة وآرائها

- ‌الدرس: 20 المصادر واتصالها بالأدب المقارن

- ‌النواحي الشخصية للكاتب، واكتشاف عناصر مقوماته وتكوينه

- ‌تتعدد أنواع البحوث في المصادر على حسب موضوعاتها

- ‌البحث عن مصادر الكاتب في الآداب المختلفة، وأمثلة على ذلك

- ‌تأثر أدب شعب ما بأدب آخر أو بالآداب الأخرى مجتمعة

- ‌الدرس: 21 المذاهب الأدبية بين الشرق والغرب - دراسة مقارنة

- ‌الكلاسيكية

- ‌الرومانسية

- ‌الواقعية

- ‌الرمزية

- ‌السريالية

- ‌الدرس: 22 الصلة بين الأدب العربي والآداب الأخرى

- ‌جنس الملحمة

- ‌فن المقامة

- ‌ألف ليلة وليلة والموشحات

- ‌الشعر الغنائي

- ‌بعض مظاهر التأثير والتأثر بين كل من الأدب العربي والآداب الأخرى

الفصل: ‌مسرح عزيز أباظة الشعري، وآراء النقاد في مسرحياته

ولأباظة كذلك من إشراقات السيرة الذكية، وهي شعر ملحمي ثم (تسابيح قلب) سنة ألف وتسعمائة وأربعة وسبعين، وهو ديوان شعري و (ديوان عزيز أباظة)، سنة ألف وتسعمائة وثمانية وسبعين، و (هكذا تكلم صفوان) وهو أيضًا ديوان شعر ولكن ليس معروفًا سنة إصداره، وأخيرًا (أشعار لم تنشر لعزيز أباظة)، الذي أصدرته ابنته عفاف بعد وفاته، ويضم أشعارًا لم تنشر في أي الدواوين أو المسرحيات السابقة.

‌مسرح عزيز أباظة الشعري، وآراء النقاد في مسرحياته

وقد تأثر عزيز أباظة كثيرًا بأمير الشعراء في كتابة المسرحية موضوعات وأسلوبًا، ففي مسرحياته ما في مسرحيات شوقي من غنائية واضحة، واحتفاء بالأسلوب، واختيار لموضوعاته من التاريخ العربي والإسلامي غالبًا، ويرى الدكتور عبد المحسن عاطف سلام أن أباظة قد التزم في مسرحياته الأولى نصوص التاريخ التزامًا يكاد يكون حرفيًّا، ولم يغير فيها إلا عندما وجد أنه لا يستطيع أن يضمن مسرحيته كل التفاصيل، التي يعطيها إيانا التاريخ، ويتضح هذا بجلاء في مسرحيته (قيس ولبنى) و (العباسة) و (شجرة الدر) و (الناصر)، ولكن اختياره كان اختيار ترك لا اختيار تفسير يعطي الأحداث مغزى جديدًا يتخيله هو، وتتقمصه الشخصيات التي تقوم بالأحداث.

وهو ما أدَّى في رأيه إلى وجود تفكك خطير في حبكة الرواية، وخاصة في شجرة الدر حيث نجد أن الرواية تكاد تنقسم إلى قسمين رئيسيين، أو بالأحرى إلى روايتين منفصلتين يؤدي كل منهما غرضًا آخر غير الغرض الذي من أجله كتبت الرواية.

ثم يعقب قائلًا: إن الناقد يحار أمام هذا التناقض عندما يحاول أن يتبين الهدف الأصيل للرواية والشخصيات الرئيسية التي تؤدي إليه وتشرحه، ويضيف: أن

ص: 223

الشاعر قد ظل أسير المادة التاريخية إلى أن بدأ يتحرر في مسرحيته (شهريار)، وكما تحول شوقي من قبل في مسرحيته (الست هدى) من سلطان المادة التاريخية، ومن سلطان الأهداف التعليمية والوطنية، واتجه اتجاهًا اجتماعيًّا بحتًا كذلك فعل عزيز أباظة، إذ تحول على وجل شديد إلى المجتمع يقتبس منه، ويأخذ بعض أحداثه وصوره، ويعرضه على المسرح ويتم هذا التحول بعد مران طويل في كتابة المسرحية، وصياغة الشعر المسرحي، فعندئذٍ تظهر الحبكة متساوية قوية، وتبدو صور المجتمع المصري البحت على حقيقتها في خلال الشاعر، وتبدو تجربته شخصية وواضحة، ولكن لا يلبث الشاعر مرة أخرى أن يعود إلى نفسه في مسرحيته (قافلة النور)، وتسيطر عليه نزعة دينية قوية، وترتد ذكرياته إلى ظهور الإسلام وانتشاره، فيحاول أن يصور هذا الموضوع في مسرحيته.

ولكن الشاعر في هذه المرة لا يأخذ من التاريخ إلا بعض سماته العامة، ويترك لخياله العنان يخلق الأحداث والأحاديث، ويلون الشخصيات دون حرج أو تحفظ أو التماس للمطابقة التاريخية، كما فعل في روايته الأولى، وينكر الدكتور طه حسين على عزيز أباظة أن يكتب مسرحياته شعرًا، وحجته في هذا الإنكار أن المسرح في أوربا لم يعد ينظم في ثوب شعري، بل صار نثرًا إلا ما ندر؛ ولهذا فهو لا يطيق أن يقرأ أو يسمع مسرحية شعرية، قال: إني لست من الكلفين بالقصص التمثيلية التي تُعرض على الناس شعرًا هذه الأيام، وشعرًا عربيًّا بنوع خاص، وقد شب التمثيل عن طوق الشعر وتمرد على أوزانه وقوافيه، وآثر حرية النثر وطلاقته وإسماحه على قيود الشعر وتحرجه وصرامته منذ زمن غير قصير، وأصبحت القصص الشعرية في اللغات الأوروبية نادرة أشد الندرة، لا يكاد الناس يقبلون عليها إن وجدت، فإن فعلوا لم يتصل إقبالهم عليها، إلا ريثما

ص: 224

ينصرفون عنها إلى الحرية الحرة والطلاقة المطلقة في هذا التمثيل المنثور، الذي لا يكلفهم إلا أيسر الجهد وأقل العناء.

وقد صحب التمثيل في أثناء طفولته وحين بلغ شبابه الشعر؛ لأنه لم يكن يستطيع أن يتخفف من الغناء؛ ولأن النثر لم يكن قد استكمل قوته بعد، فلما تخفف التمثيل من الغناء ومرن النثر، واستطاع أن يتصرف في جميع فنون القول انصرف إليه أصحاب التمثيل، وتركوا الشعر بفنونه الخاصة، فإذا كانت آيات التمثيل في العصر القديم، وفي أوائل العصر الحديث شعرًا كلها، فإن القرن التاسع عشر قد شهد مزاحمة النثر للشعر على التمثيل؛ حتى استأثر به وكاد يصرف الشاعر عنه صرفًا، وهذا الكلام موجود في المقدمة التي كتبها الدكتور طه حسين لمسرحية (غروب الأندلس) لعزيز أباظة، حين صدرت لأول مرة عام ألف وتسعمائة واثنين وخمسين.

ويهمني ما دمنا في حقل الأدب المقارن أن نقف عند الحجة التي قدمها طه حسين مبررًا بها نفوره من المسرحيات الشعرية، تلك الحجة التي تقوم على أن الغرب سار ينفر من ذلك اللون من الإبداع، فكأن الدكتور طه يضبط ذوقه النقدي على ذوق الغربيين، ويقيم حكمه على أساس من أحكامهم بوصفهم القبلة، التي ينبغي أن نتجه إليها في نقدنا وأدبنا وفكرنا، وهذا أمر طبيعي منه، إذ قد سبق له قبل ذلك بنحو ستة عشر عامًا أن نادى في كتابه (مستقبل الثقافة في مصر)، بأن نحذو حذو أوربا في كل شيء، ونتبنى حضارتها تبنيًا كاملًا بحلوها ومرها وخيرها وشرها، كما قال بالنص تقريبًا، وليس بعد هذا ذوبان لشخصيتنا الإسلامية العربية، وعدوان عليها وتهديم لبنيانها، فالمفروض أن كل أمة تعمل على تماسك شخصيتها، والاعتزاز بخصوصيتها ما دامت تلك الخصوصية بريئة من العيوب والمؤاخذات، أما أن تتبرع الأمة تبرعًا بالتخلي عن ذاتيتها والجري وراء الآخرين، وتقليدهم في

ص: 225

كل شيء حتى فيما يضر ويؤذي كما تصنع القرود، فهذا تدمير للذات لا أدري كيف واتت طه حسين نفسه للقول به، والتحمس له والدعوة بكل قوة إليه كأنه يؤدي واجبًا مقدسًا، سوف يثاب عليه يوم القيامة.

وقد أضاف طه حسين أنه ينفر من الشعر المسرحي العربي بوجه خاص، ولكنه لشديد الأسف لم يسق لنا سبب هذا النفور الخاص من الشعر المسرحي العربي، ويبدو لي أنه امتداد لدعوته إلى اللحاق بحضارة أوربا جملة واحدة، بمعنى أنه إذا كانت أوربا قد تخلت تقريبًا عن الشعر المسرحي، فما هي كنية الشعر العربي؛ حتى يخرج على هذه السنة متصورًا أن من حقه العيش بعيدًا عن المظلة الأوربية، كلا وألف كلا وعليه أن يدخل الحظيرة الغربية لا يفكر في الخروج من بابها أبدًا، ذلك أن الشعر العربي هو شعر سلس مطواع، أما الكلام عن صعوبة التأليف الشعري، فمنذ متى والدكتور طه يتغيى التسهيل لمجرد التسهيل؟ ولقد وسع الشعر العربي القصص والحوار والوصف وتحليل الشخصيات في قصائده ومقطوعاته على مدار تاريخه الطويل، حتى في العصر الجاهلي نفسه، فكيف خطر للدكتور طه هذا الخاطر الذي لا يبرره تاريخ ذلك الشعر؟

صحيح أنه من الممكن القول: بأن مستوى المسرحيات عندنا في ذلك الوقت على الأقل كان أدنى من مستواه عند الغربيين، لكن هذا لا يختص بالمسرح الشعري وحده، بل يشمل المسرح كله شعريه ونثريه بوجه عام، إذ نحن إنما نقلنا عن الغرب هذا اللون من التأليف، ومن يدري فربما لم تكن الذائقة العربية تشغف شغفًا كبيرًا بهذا الضرب من الإبداع الأدبي والفني.

ولنلاحظ أنه لا يروج عندنا الآن رغم معرفتنا للمسرح وممارستنا له منذ أكثر من قرن ونصف إلا المسرحيات السطحية التي تضج بالضحك والنكات، وما

ص: 226

إلى ذلك، أما المسرحيات الراقية ففي الغالب لا تجد جمهورًا كثيرًا يتعطش لحضورها فضلًا عن قراءتها، وليس هذا رأيًا شخصيًّا ولا انطباعًا غامضًا، فها هو ذا واحد من نقاد المسرح النشطين يقول ذات الشيء، ففي كتاب فؤاد دواره (النقد المسرحي) نجده يقول في ضيق صدر شديد: يخيل إليَّ أحيانًا أننا بدأنا نصنع مفهومًا جديد للمسرح في بلادنا، وأخذنا نتحول به من فن رفيع يخاطب العقل والعاطفة، ويُغني الذوق والإحساس إلى نوع من النشاط الرياضي والعضلي، يشترك فيه الممثلون والجمهور على السواء، فالغالبية العظمى مما تقدمه فرقنا المسرحية من النوع الهازل الذي تغلب فيه الحركة الصارخة المفتعلة، والحوار المملوء بالنكات المصطنعة، والشتائم المنتقاة والتوريات الجنسية المكشوفة، كل ذلك بهدف واحد هو إشراك الجمهور في المباراة فترتفع قهقهاته، ويخبط الأرجل بالأيدي، والأرض بالأرجل، وتزداد سرعته في قزقزة اللب.

إن هذا اللون من المسرحيات الهازلة موجود في كل بلاد العالم، ولكن ليس بهذه النسبة الكبيرة الموجودة لدينا، وليس على هذا المستوى الهابط من السخف والتفاهة.

ومثل المسرح في غربته عن بيئتنا بل أشد منه فن الأوبرا الذي لا يقبل عليه إلا القليلون، كما نعرف جميعًا، وأغلب الظن أن كثيرًا من أولئك القليلين يفعلون ذلك عن تقليد للأوربيين، لا اقتناعًا ذوقيًّا منهم، إن صح نسبة الاقتناع إلى الذوق، وإلا فهو تعبير مجازي، وكما أنكر طه حسين المسرحية الشعرية بوصفها شكلًا فنيًّا مضى أوانه، ولم يعد أحد يلجأ إليه إلا في الندرة نرى فؤاد دواره أيضًا يقول: إنه من المعروف أن أول المسرحيات التي عرفها العالم هي التراجيديات والكوميديات الإغريقية، وكانت كلها شعرًا، وظلت المسرحية الشعرية هي الشكل المألوف المنتشر في آداب العالم، حتى أوائل القرن التاسع عشر، حينما بدأ النثر يزاحم الشعر حتى أزاحه عن خشبة المسرح أو كاد، وأصبحت المسرحية الشعرية اليوم

ص: 227

عملًا أدبيًّا نادرًا قد تمر عدة أيام لا يظفر العالم خلالها بمسرحية شعرية لها قيمة، في حين يظفر كل عام بعشرات المسرحيات النثرية الممتازة.

ولنلاحظ هنا كذلك كيف أن دوارة مثل طه حسين يتخذ من المسرح الأوربي منوالًا ينبغي في نظره النسج عليه، مستشهدًا بوضع المسرح في أوربا، ومن طريف الأمر مع ذلك أن الدكتور طه حسبما لاحظ الدكتور محمد مندور قد أشاد بشعر تلك المسرحية، ناسيًا ما قاله عن نفوره من المسرحيات الشعرية، ثم أثنى بوجه خاص على شعرها؛ لأنه على حد تعبيره شعر جزل رصين لم نسمع مثله منذ وقت بعيد، ويعقب مندور بأن طه حسين لم يهتم أدنى اهتمام بمناقشة فن أباظة المسرحي، بل ركز اهتمامه على الشعر في ذاته، بل إنه قد أعلن إعلانًا أنه لن يتعرض للجانب المسرحي في ذلك العمل، إذ قال: وليس لي بالطبع أن أنقد القصة من هذه الناحية، فقد لا يكون من حقي أن أدخل فيما لا أحسن من صناعة التمثيل.

ويمضي مندور فيستغرب هذا الموقف من طه حسين قائلًا: إنه استهل حياته الجامعية بتدريس الأدب التمثيلي عند اليونان، وتأليف كتاب قيم فيه، ويضاف إلى ذلك أن الدكتور طه قد ترجم عددًا من المسرحيات الإغريقية، ونشرها قبل ذلك بزمن طويل سنة ألف وتسعمائة وتسعة عشرة على وجه التحديد، في كتاب يحمل عنوان (صحف مختارة من الشعر التمثيلي عند اليونان)، ومعنى ذلك أن طه حسين لم يكن عاجزًا عن تقويم مسرحية أباظة من حيث كونها عملًا مسرحيًّا لا مجرد شعرٍ جزيلًا كان أو غير جزيل لو أراد، فقد اهتم كما رأينا بترجمة طائفة غير قليلة من المسرح الإغريقي ودراستها، كما كان أول من قدم توفيق الحكيم إلى جمهور القراء، وأبدى إعجابه برائعة (أهل الكهف)، وكتب

ص: 228

عنها مقالًا طويلًا في ثلاثينيات القرن المنصرم إلى جانب ما ترجمه كذلك من مسرحيات فرنسية أصدرها في كتاب بعنوان (قصص تمثيلية من الفرنسية)، عام ألف وتسعمائة وأربعة وعشرين.

ومثل طه حسين في ثنائه على رقي لغة أباظة في مسرحياته الشعرية، نرى كاتب مقال المسرحية العربية في "الموسوعة العربية العالمية" يقول عن عزيز أباظة ودوره في الإبداع الشعري: إنه لما كان العرب قد أخذوا المسرح عن أوربا، فقد كتبوا المسرحية شعرًا كما كانت هنالك منذ تراجيديا اليونانية، حتى ظهور الدراما الواقعية في القرن التاسع عشر، ويعتبر النقاد الشاعر أحمد شوقي الرائد الذي أخرج المسرحية الشعرية من ركاكة أشعار الرواد الأوائل إلى مسرحية الشعر الرصين بما امتلكه من موهبة مهولة، وتأثر به وتبعه في ذلك الشاعر عزيز أباظة، ثم علي أحمد باكثير، ويقر هؤلاء النقاد بأن هذه المسرحيات قد وضعت اللبنة الأولى لاستخدام الشعر الرصين لغةً للمسرحية العربية، وبقيت منارًا اهتدى به جملة من الشعراء في التأليف المسرحي الشعري.

وأبرز هؤلاء الشعراء كان عزيز أباظة، ثم علي أحمد باكثير الشاعر الحضرمي الأصل المصري الجنسية.

ويقول مندور في معرض حديثه عن لغة الأداء المسرحي لدى عزيز أباظة منتقدًا ما سماه بالمعاظلة اللغوية التي تنتشر في مسرحياته المختلفة ما قدم منها وما حدث، يقول: لما كان كل مؤلف مسرحي يخاطب جمهورًا، فمن البديهي أن يخاطبه بلغة يفهمها ما استطاع إلى ذلك سبيلًا، وأن يطوع تلك اللغة بحيث تؤدي كل ما يستطيع أن يتسقطه من لسان الحال في دقة ووضوح، وتعبير مباشر، وإلا ظلت المعاني والأحاسيس مطمورة في نفوس شخصياته، أو عجزت عن أن تصل إلى

ص: 229

نفوس سامعيه أو قارئيه، وإذن فنحن لا نرى ضَيْرًا في أن يستخدم الأستاذ عزيز أباظة وأحمد شوقي أو غيرهما الشعر وسيلةً للأداء، كما استخدمه من قبل عمالقة أحسنوا استخدامه على نحو رائع، منذ أسكيروس اليوناني؛ حتى شكسبير الإنجليزي أو راسين الفرنسي.

ولكننا لا نرى داعيًا ولا مبررًا للمعاظلة وتعمد الغوص وراء الألفاظ الحوشية المهجورة لمجرد التظاهر بالبذخ اللغوي على نحو ما يتظاهر بعض الأثرياء بالبذخ في ملبسهم، دون أن ينم هذا البذخ عن أناقة خاصة أو ذوق متميز أو رفاهية أكيدة.

ثم يعطي مندور بعض الشواهد على ما يقول مثل: كلمة مصير بمعنى محبوس، ومكبول بمعنى مجنون، وجارة بمعنى زوجة والقناع بمعنى الأقوياء، والقِطر بمعنى النحاس المذاب، وهكذا. وهو يزيد الأمر توضيحًا بالتنبيه إلى أن الجمهور الذي يشاهد المسرحية لا يمكنه أن يرجع إلى ما أضافه الشاعر من حواش تمثيلية إلى النص المكتوب، بل لا بد أن تكون الألفاظ والتراكيب من السهولة بحيث يفهمها المشاهد دون عناء، وإلا عجز عن متابعة التمثيل الذي يجري أمامه، فلم يتمكن من استيعاب الهدف الذي يرمي إليه الشعر.

كذلك يعيب هذا النهج اللغوي في مسرحية (شجرة الدر) بأنه تكلف واضح يزيد المسرحية بعدًا عن مشاكلة الواقع، فضلًا عن وقوفه حائلًا بين الجمهور، وبين متابعة أحداث المسرحية والانفعال بها كما ينبغي، وهذا الكلام قاله الدكتور محمد مندور في كتيبه الذي يحمل عنوان (المسرح).

ويزيد فؤاد دوارة على ما قاله مندور: أنه لا يمكن إجبار رواد المسرح على حمل (معجم لسان العرب) معهم أو وضع شاشة سينمائية إلى جانب المسرح تعرض

ص: 230

شرح معاني الكلمات الصعبة، وفي نفس الخط يسير الدكتور خليل الموسى مدينًا لدى عزيز أباظة ما يسميه الإسرار على استعمال الأساليب القديمة في الشعر، ونقلها إلى عالم المسرح، فهم يستعيرون صورهم وأخيلتهم من القدماء، دون الالتفات إلى أن عالم المسرح هو عالم الفرجة لا عالم البيان والبلاغة، وهم يصدرون عن الماضي لا الحاضر، ومحاولة التكييف والتلاؤم والتوفيق بين فن الشعر الغنائي وفن المسرح، وهذا ما جنى على المسرحية الشعرية، وهو يفرق بين الشعر الغنائي والشعر المسرحي على أساس من اللغة، التي يستعملها كل من الإبداعين ذاكرًا عزيز أباظة بالاسم.

فيقول: إن الشاعر الغنائي شاعر لغة قبل كل شيء والشاعر المسرحي شاعر مسرح، وهذا يعني وجود اختلافات بين لغة الشعر الغنائي، وبين اللغة الشعرية في المسرحية أو بين اللغة الشعرية في كتاب، وبين اللغة الشعرية على الخشبة، فالشاعر الغنائي يفتق مضامين اللغة، ويعيد صنعها لتقول ما لم تكن تقوله، ولكن الشعر في المسرحية نقيض ذلك، فاللعب باللغة خطر على المسرحية، ومقتل المسرحية الشعرية التقليدية في لغتها المنمقة المزخرفة، كما في مسرحيات عزيز أباظة؛ ولذلك أدرك بعض شعراء المسرحية المعاصرة أن عليهم أن يبحثوا عن لغة المختلفات عن لغة القصيدة الغنائية، فالمتفرج في المسرح غير القارئ في كتاب، وإذا كانت اللغة في القصيدة الغنائية غاية في حد ذاتها، فإنها في المسرحية الشعرية وسيلة لغاية أخرى، ولا يعني هذا أنها نثرية، ففيها من الرشاقة والإيحاء ما في لغة الشعر الغنائي نفسه، ولكن ذلك يعني أنها لغة تتناسب والشخصيات التي تتكلم، وأنها لغة مسرح للفرجة قبل أي شيء آخر. قال الدكتور خليل موسى هذا الكلام في كتابه (المسرحية في الأدب العربي الحديث، تاريخ، تنظير، تحرير).

ص: 231

وبغض النظر عن موافقتنا إياه على رأيه في لغة أباظة المسرحية أو لا، فإنه لا يمكننا السكوت عن زعمه أن اللغة في الشعر الغنائي غاية في حد ذاتها، على حين أنها في الشعر المسرحي وسيلة لغاية أخرى، ذلك أن اللغة في الشعر الغنائي هي أيضًا وسيلة إلى غاية، وقد تكون هذه الغاية هي تعبير الشاعر عما يدور في نفسه، أو قد تكون تصويرًا للعالم الخارجي أو قد تكون استنفارًا وتحميسًا للجمهور إلى آخره، والأدب كله لا الشعر فقط هو سيلة إلى غاية، بل إن جمال اللغة نفسه وسيلة من الوسائل التي يستعين بها الأديب على بلوغ غايته تلك، ونحن وإن كنا نعرف أن جمهور مثل تلك المسرحيات هو عادة جمهور الراقي الثقافة، لا يجد في الغالب صعوبة في فهم مثل تلك الألفاظ ولو بمساعدة السياق، لا نختلف رغم هذا مع مندور كثيرًا، إذ إن أبواب المسرح مفتوحة أمام الجميع، وينبغي أن تظل دائمًا مفتوحة أمام الجميع مهما تكن مستوياتهم الثقافية واللغوية، ومن ثم كان لا بد إذن من وضع الجمهور المتواضع الثقافة، وبخاصة اللغوية منها في الحسبان، بيد أن الأمر في حالة أباظة ليست فيما أقدر بالصعب الذي يصوره مندور.

وإذا كان الشيء بالشيء يذكر كما يقال، فإني أرى أنه ينبغي الاستشهاد بما قاله فؤاد دوارة عن مسرحية (عنترة) لشوقي، وهي تسير في نفس الخط الأسلوبي، إذ قال عن تقديم تلك المسرحية في الإذاعة في أغسطس سنة ألف وتسعمائة وستين ما يلي: وشاركني في الاستماع إلى البرنامج بعض الأصدقاء من ذوي الثقافة المحدودة، وقد أخذوا جميعًا بجمال البرنامج وحسن تنفيذه، ولم ألحظ أن واحدًا منهم شكا من صعوبة اللغة العربية الفصحى أو عجز عن فهمها، بل أبدى

ص: 232

أحدهم دهشته بعد نهاية البرنامج من أن أحمد شوقي على مثل هذه السهولة والبساطة.

ولا يقع ما قاله كمال محمد إسماعيل بعيدًا عما قلناه هنا، إذ الوقت الذي يؤكد فيه أنه من أنصار تسهيل لغة المسرح؛ لأنه كما يقول يريد لهذه الأعمال التي تقبلها الجيل الماضي أن تؤتي أكلها لأجيال قادمة، نراه يؤكد أيضًا أن بعض الألفاظ المهجورة يمكن أن يفهمها الخاصة والمتأدبون من السياق، وبخاصة أن اللغة إذا سهلت تمام السهولة حَرِية أن تفقد ما ينبغي أن تتحلى به من جلال، وتصبح مبتذلة، ثم يضيف قائلًا: إن الشاعر يعمد إلى تضمين عمله مثل هذه الكلمات التي تبدو صعبة؛ حتى تكون إلى جانب متعة المشاهدة متعة التربية اللغوية، فضلًا عن أن أباظة في المسرحيتين المعاصرتين قد سهل لغته، ولكن دون ابتذال. وعلى سبيل ذكر الشيء بالشيء يضيف الكاتب أن بلاوتوس الكاتب المسرحي الروماني الهازل، قد انتقد من قبل لما في لغته من كلمات غير شائعة.

وهذا الكلام موجود في كتاب كمال محمد إسماعيل (الشعر المسرحي في الأدب المصري المعاصر).

هذا، ولمحمود تيمور في لغة أباظة رأي يتناقض ورأي مندور تمامًا، إذ يؤكد أن ديباجته في مسرحياته هي ديباجة ترقى إلى عليا طبقات البلاغة العربية لفظًا وأسلوبًا، إلى ذوق عربي مصفًّى في انتقاء المأنوس من الكلمة، والتنكب عن المجفول من التراكيب، مع انبثاقه بين الشعراء كما تنبثق عين الماء الجارية بالعذب الفرات، ففاجأ معاصريه بشعره رغم تجاوزه الأربعين.

كذلك يصف أحمد حسن الزيات لغة أباظة في مسرحية (الناصر) قائلًا: أما معظم الرواية فنمط من الشعر الرفيع البديع المحكم، أرسله الشاعر فيضًا من

ص: 233

قريحته على هَدْي من سيقته، فجاء صافي الديباجة واضح المنهج لا نجد فيه تكلفًا ولا قلقًا ولا غموضًا ولا حشوًا ولا ضرورةً، وبالمثل يصف عمر الدسوقي أسلوب أباظة في (العباسة) على سبيل المثال باللغة العذبة، والبيان الصافي، كما يرى محمد بهجت أن لغة أباظة كانت تناسب جمهور تلك الفترة، التي ظهرت فيها مسرحياته.

وقال ما نصه: يمثل الشاعر عزيز أباظة مرحلة مهمة في تاريخ المسرح الشعري العربي، تلت مرحلة البداية والريادة لأحمد شوقي، وأجاد فيها الاهتمام بالحدث الدرامي، والتنوع في الموضوعات المسرحية مع الحفاظ على قوة الشعر ورصانته، وأناقة الألفاظ المستخدمة التي تناسب ذوق الجمهور في تلك المرحلة، ومعنى ذلك طبقًا لبهجت أن مسرحيات عزيز أباظة لم تكن تمثل أية مشكلة بالنسبة إلى الجمهور آنذاك، لكن يمكن لمن يشاء الرد على ذلك بأن جمهور مسرحيات الشاعر ليس مقصورًا على من شاهدوها، حين تنفيذها لأول مرة، بل هو ممتد مع الزمن إلى ما لا نهاية على الأقل نظريًّا.

أما مسرحية (أوراق الخريف)، فإن مندرو يأخذ عليها عكس ذلك، إذ انتهج فيها أباظة سبيلًا بَعُدَ به عن رصانة الأسلوب؛ حتى تناسب العصر الحديث الذي جرت فيه أحداث المسرحية.

لكن مندور لم يعجبه ما يسمه بأنه تعابير مبتذلة بعيدة عن روح الشعر، كما في الحوار التالي:

أكرم متلطفًا:

ماذا أعددت لنا اليوم

من فاخر ألوان الطعام؟

ص: 234

وداد في مرح:

عندي الصنف الذي

تهواه رز بحمام

ودجاجات سمن

نظفت أمس أمامي

أكرم:

طيب فخم الغذاء اليوم

من غير كلام

هذا ما قاله مندور، ولكني لا أستطيع أن أوافقه على هذا الرأي الذي تبدو عليه علائم التعسف، وكأن صاحبه موكل بالزراية على الشاعر بكل سبيل، فالموقف موقف مرح ومداعبة، واللغة تلائم هذا الموقف ملاءمة تستحق الثناء لا الانتقاد والتقريع.

ومن الظلم انتقاد الشاعر على هذا الحور المِطواع الموافق لجو الظروف التي قيل فيها.

ومما يأخذه مندور أيضًا على مسرح أباظة ابتعاده عن مشاكلة الحياة والبيئة في بعض المواقف الهامة، كما هو الوضع مثلًا في مسرحيته مثلًا (قيس ولبنى)، حيث نرى أهل لبنى ينسحبون جميعًا تاركين الحبيبين في خلوة مطلقة، مع أنهما لم يكونا قد تزوجا بعد، فمثل تلك الخلوة لا تسمح بها التقاليد العربية، كما يقول مندور عن حق،

ص: 235

بل إن الحبيبين يتناشدان القصائد الغزلية في هذه الخلوة، ومثل ذلك تَدَخُّل الحسين بن علي رضي الله عنه لدى كُثَير زوج لبنى؛ كي يطلقها فيستطيع قيس الزواج بها. فمثل هذا التدخل لا يمكن أن يقع، وهو مما لا يشرف الحسين أن يقوم به، ثم كيف نصدق أن يقوم كثير بتطليق هذه السهولة والسرعة، وبخاصة إذا علمنا أنه كان يحبها حبًّا جمًّا، وأنها من جهتها لم تكن تنقم منه شيئًا وكانت ترعى له الود والوفاء؟

هذا الكلام موجود في كتاب مندور بعنوان (مسرحيات عزيز أباظة).

ومثل ذلك بل أشد منه ما ذكره الدكتور محمد مندور عن مسرحية (الناصر)، إذ تصور حياة ملوك المسلمين؛ حتى كبارهم كالناصر والحكم في أقبح صورة، فهم قوم شهوانيون أقرب إلى الحيوانات منهم إلى البشر المهذبين صغار العقول، طاغية شهواتهم، عبيد الملذات، وفي أخطر المواقف نرى أمراءهم لا يحسون بهذه الخطورة التي لا تصرفهم عن العبث ومغازلة الجواري، بل ومحاولة إغراء جاريات أبيهم، وانتزاعهن من بين أحضانه؛ حتى لكأن قصورهم قد استحالت إلى مواخير، وعلى العكس من ذلك نرى أعداءهم الموتورين حتى الجواري منهم، شخصيات إيجابية فعالة مسيطرة على نفسها، قوية الإرادة، واسعة الحيلة، عميقة الدهاء، على نحو ما نشاهد في شخصية "مُنى" بنوع خاص، تلك الشخصية التي صورها المؤلف جبارة، وَفَيَّة لوطنها وذويها، مسيطرة على الأحداث ومسيرة لها، حتى لا تحس بأن شخصيتها أقوى من شخصية الأمراء، بل ومن شخصية الخليفة نفسه، هذا ما قاله مندور.

ومكمن الابتعاد عن مشاكلة الواقع هنا هو أن خلفاء الأندلس كانوا بوجه عام خلفاء أقوياء مثقفين متحضرين أعظم التحضر والرقي، على العكس من الملوك

ص: 236

الأوربيين من حولهم، وكانت البلاد في عهدهم مهيبة الجانب، يفد إليها رسل الملوك المجاورين في رهبة وخشية، يؤدون واجب الإجلال والتعظيم، ولم يكونوا بتلك الصورة المزرية التي يحدثنا عنها محمد مندور.

وقد انتقد بعض النقاد ضعف الحبكة لدى أباظة، فها هو ذا دكتور عبد المحسن عاطف سلام يؤكد أنه لا يعطي الحبكة الأهمية الكبرى، كما فعل الكلاسيكيون، ولكنه ترك لخياله ولأشخاصه العنان ونوع في صور حياتهم، وفي ظلال الأحداث وانساب مع الأحداث مرة، ومع الشخصيات مرة أخرى دون اعتبار لمقتضيات الحبكة المسرحية، ومن ثم جاءت في كثير الأحيان مفككة أو منقطعة بحيث يقع الفعل المسرحي وقوفًا تامًّا، أو يتحول عن مجراه؛ لكي يعود مرة أخرى بعد رحلة طويلة إلى التقدم، وقد يجرف تيار الأحداث عزيزًا؛ حتى إنه ليدخل في أثناء الحبكة فصلًا كاملًا، كما فعل في مسرحية (غروب الأندلس) أو يقسم المسرحية قسمين، كما فعل في مسرحية (شجرة الدر)، أو يدخل منظرًا شعريًّا لا علاقة بينه وبين أحداث الرواية، كما فعل في مسرحية (قيس ولبنى).

والملاحظ أن أباظة مثل أستاذه شوقي لم يلتزم بأن تكون المساحة الزمنية لمسرحيته أربعًا وعشرين ساعة، ولا أن تكون المساحة المكانية التي يتحرك فيها الأشخاص، وتقع فيها الحوادث محصورة في منطقة يمكن أن يتحرك الإنسان خلالها أثناء ذلك الزمن، بل ترك أحداثه تنتقل من قطر إلى قطر، ومن مدينة إلى أخرى، مثلما

ص: 237

فصل زمن طويل في بعض الأحيان بين الفصل وتاليه، ومثل شوقي أيضًا نراه يضمن مسرحياته شعرًا غنائيًّا كالنص الذي نسمع فيه قيسًا يناجي لبنى دون أن تكون لبنى معه، بل يناجيها في الخيال، إن صح هذا التعبير، وذلك في الأبيات الجميلة، التي تبدأ بقوله:

أهذه ربى نجدٍ؟ نعم إنها نجد

فدل عليها البال والشيح والرند

ودل عليها من بعيد شمائل

مؤرجة تسري وعاطرة تغدو

والتي يصفها الدكتور مندور بأنها قصيدة غنية أكثر منها جزء من حوار، وقيس يلقيها وهو واقف وحده على المسرح، دون أن ندري إلى من يوجه الحديث، وهل هو يلقي بروجًا داخليًّا يفصح فيها عن مكنون نفسه، أم أنه يلقي خطبة على الجمهور؟ فتركيب القصيدة، وما تتضمنه من خواطر لا ينم عن النجوى، كما أنها تتضمن في نهايتها أخبارًا تنبئ بالحل الذي ستصير إليه عقدة المسرحية، وهو فصل زواج قيس من الفزارية، وزواج لبنى من كُثير بن الصلت، وإذا كان لي من تعقيب فهو أن مثل تلك القصيدة لا يمكن أن تكون خطبة، بل لا يمكن أن يخطر في بال أحد أنها خطبة، إذ هي شعر وشعر عاطفي آسيان هامس ورائع، والخطب إنما تكون مجلجلة يتلاعب فيها الخطيب بعواطر سامعيه على حين أن الشاعر هنا، إنما يناجي نفسه بنبرة خفيضة حزينة.

وعن المظهر الذي استقى منه عزيز أباظة مسرحيتي (قيصر) و (زهرة)، يقول محمد بهجت: وفي عام ألف وتسعمائة وثلاثة وستين يقدم عزيز أباظة مسرحية (قيصر) معتمدًا على رواية بلوتارك لتاريخ يوليوس قيصر، ويهتم فيها بالصراع الداخلي بين إيمانه بالجمهورية وولائه للقائد والمعلم،

ص: 238

والمسرحية العاشرة والأخيرة في أعمال عزيز أباظة هي (الزهرة)، التي كتبها في عام ألف وتسعمائة وثمانية وستين مستلهمًا قصتها من شخصية فيدرا الإغريقية، ولكن بأسلوب معاصر، ويلقي كمال محمد إسماعيل مزيدًا من الضوء على مسرحية قيصر، والمصدر الذي استقيت منه قائلًا: لفق عزيز أباظة على حد تعبيره مسرحية كتبها وليم شكسبير من التاريخ الروماني، وهي مسرحية قيصر، وأصدرها شاعرنا سنة ألف وتسعمائة وستين، ولقد استبعد صفة الترجمة عما فعله بشأنها، وكذلك الاقتباس إذ أجرى قريحته في الأصل، كما أخذ لها من ناقد عن شكسبير هو جبريل بوسيه.

وهناك أيضًا مسرحية (قافلة النور) التي يذكر شوقي بدر يوسف في مقاله قراءة ببلوجرافية، في الأعداد الخاصة بمجلة "الهلال" المنشور بالعدد السادس والعشرين من مجلة "أمواج" الإسكندرانية، أن أباظة قد استلهمها من مسرحية بليوكت للشاعر المسرحي الفرنسي كورني، إذ جاء في المقال المذكور يعرض الهلال في هذا العدد لآراء ثلاثة من رجال الأدب والقصة عن قصة أجنبية أعجبتني، وقد أجاب على هذا السؤال كل من الأساتذة: عزيز أباظة وفريد أبو حديد والدكتور رشاد رشدي، قال الشاعر عزيز أباظة: إن أحب مسرحية أجنبية إليه هي مسرحية (بليوكت لكورني)، وهي التي استمد منها مسرحيته (قافلة النور)، ويذكر عزيز أباظة في الكلمة التي كتبها على هامش المسرحية أن فتوح نشاطي كان قد أعطاه مسرحية الشاعر الفرنسي (كورني بليوكت)؛ ليستعين بها في تأليف مسرحية على منوالها، إلا أنها لم تعجبه، وإن كانت رغم هذا قد أشعلت في نفسه رغبته القديمة في كتابة شيء من ذلك اللون.

ص: 239